ورأى «ڨندلبنت» أن نظرية اسپينوزا في المعرفة الحدسية تسير في طريق الصوفية؛ إذ إن هذه النظرية عنده هي الفهم المباشر لظهور كل الأشياء منطقيا من الله، فتلك معرفة تعلو على الإدراك الحسي والنشاط العقلي، وترقى إلى مرتبة تأمل موضوعها «من منظور الخلود».
13
ومع ذلك ففي رأينا أن من أكبر الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها الباحث في فلسفة اسپينوزا أن يرى في فكرته عن المعرفة الحدسية أو النوع الثالث من المعرفة مظهرا لاتجاه إلى تجاوز العقل واقتحام ذلك الميدان فوق العقلي الذي لا تكون له من نتيجة إلا التصوف.
ذلك لأن النوع الثالث من المعرفة يرتبط ارتباطا وثيقا بالنوع الثاني؛ أي إن المعرفة الحدسية ترتبط بالعقلية وتنشأ منها،
14
بحيث تبدو في واقع الأمر تكملة وتتويجا لها. ولا يمل اسپينوزا من تأكيد ارتباط هذه المعرفة بالعقل؛ إذ يقول مثلا: «إن النوع الثالث من المعرفة يعتمد على العقل بوصفه علته الشكلية، بقدر ما يكون العقل ذاته أزليا.»
15
هذا الحديث عن العقل، وتأكيد أهميته بالنسبة إلى المعرفة الحدسية ذاتها، ليس حديث متصوف على الإطلاق. وإذا كان قد وصف العقل في هذه الحالة بأنه أزلي، فذلك لا يغير من طبيعة الأمر شيئا؛ ذلك لأن المعرفة الحدسية؛ أي النوع الثالث، هي معرفة «عن طريق العقل» لتلك الحقائق الأزلية التي تتكشف لنا في أعلى مراحل تأملنا الفلسفي. وأهم هذه الحقائق الأولية هي الوحدة الشاملة للطبيعة، وخضوعها كلها لنظم وقوانين واحدة. وعندما يصل إنسان إلى هذه الحقيقة الأزلية، تتملكه انفعالات إيجابية طاغية كالسرور الناجم عن الشعور بالمشاركة مع الطبيعة بأسرها. وهكذا يظهر الانفعال في اللحظة التي تصل فيها المعقولية إلى قمتها، ويترابط هذان العنصران اللذان يتنافران في كل فلسفة أخرى ترابطا تاما في فكرة «الحب العقلي لله
Amor Dei intellectualis » الذي لا يعدو، في ضوء فلسفة اسپينوزا، أن يكون تعبيرا عن مشاركة العقل في الطبيعة في مجموعها وشعوره بوحدته التي لا تنفصم معها حين يدرك ما فيها من قانونية ومعقولية ونظام لا ثغرة فيه.
16
Shafi da ba'a sani ba