وفي موضع آخر يعرض هذه الثنائية بتشبيه طريف قائلا: «من الممكن تشبيه فلسفة اسپينوزا بشكل وأرضية، على طريقة الجشطلت، وليكن شكلا مؤلفا من مكعبات بيضاء ثم سوداء متراصة كل لون فيها إلى جوار الآخر، بحيث يبدو تارة أن إحدى مجموعتي المكعبات هي البارزة وأن الأخرى هي الأرضية أو القاعدة، ثم ينقلب الشكل فجأة إلى عكس ذلك. هذه هي الحال في اسپينوزا.»
4
وهكذا كنا نجد كلا من الفريقين يؤكد انتساب اسپينوزا إليه بنفس القوة؛ فالمثاليون والرومانتيكيون، مثل هيجل ونوڨالس، لا يتصورون فلسفة اسپينوزا دون تفسيراتها اللاهوتية أو الصوفية، والماديون، مثل «لامتري
La Mettrie »، ودولباخ
D’Holbach ، بل مثل إنجلز
Engels ، وپليخانوف
، يؤكدون أن اسپينوزا قد استبق فلسفاتهم المادية وكان من روادها العظام.
والأمر المؤكد، الذي سنعمل على إثباته في هذا الفصل، هو أن اسپينوزا كان، قبل كل شيء، متشبعا بالروح العلمية إلى أقصى حد، وأن مذهبه بعيد كل البعد عن الاتجاهات اللاهوتية والصوفية التي نسبت إليه. فإذا فسرت المادية بأنها هي تأكيد الحتمية وقانونية الطبيعة والقضاء على الغائية وجميع التفسيرات الغيبية، فلا جدال، عندنا، في أن اسپينوزا كان ماديا بهذا المعنى. أما إذا نظرت إلى المادية على أنها هي التفسير الآلي أو الميكانيكي للظواهر، فلا شك في أن اسپينوزا يكون قد تجاوز تلك النظرة إلى الأمور بكثير؛ لأنه لم يقل أبدا إن المادة جامدة آلية صلبة، بل لم يخصص أي جزء من كتبه للبحث عن الطبيعة النهائية للمادة التي يتكون منها العالم، ولكن الحقيقة المؤكدة، من وراء كل تفسير لاسم هذا المذهب الفلسفي أو ذاك، هي أن اسپينوزا قد تشبع بالروح العلمية في نظرته الفلسفية إلى العالم، وأنه لم يقبل مهادنة أو حلولا وسطى في أي موضع بحث فيه مدى قدرة العقل على فهم العالم وتفسير ظواهره.
وسوف يتسلسل بحثنا في هذا الفصل على الوجه الآتي:
فالقائلون بوجود عناصر صوفية غير علمية في نظرة اسپينوزا العامة إلى العالم يرتكزون على أسس معينة من أهمها: (أ) رأيه في المعرفة الحدسية. (ب) ونظرته الواحدية الشاملة إلى العالم؛ ولذا سنبحث كلا من هذين الموضوعين على حدة، لنثبت استحالة تفسير آراء اسپينوزا فيهما تفسيرا صوفيا. وبعد ذلك ننتقل إلى الأدلة الإيجابية على موقفه العلمي السليم، الذي يتضح من خلال رأيه في (ج) العلاقة بين النفس والجسم و(د) فكرة سيادة الضرورة. وينتهي الفصل بملاحظات على موقفه من العلم بوجه عام. (1) فكرة الحقيقة والمعرفة الحدسية
Shafi da ba'a sani ba