وهكذا تصبح المشكلة الكبرى عنده هي: كيف يوفق الإنسان الحر بين السلوك الأمين، وبين وقاية نفسه وسط الجهلاء، وهي الوقاية التي قد تكون، كما رأينا، مظهرا من مظاهر الشجاعة؟ إن الإجابة على هذا السؤال موجودة في كتابات اسپينوزا ذاتها؛ ففي أول قاعدة مؤقتة وضعها اسپينوزا في كتاب «إصلاح العقل» ليسترشد بها في سلوكه خلال بحثه عن الغاية القصوى للإنسان، يقول بالمبدأ التالي: «التحدث بلغة تقرب إلى أفهام عامة الناس، وعمل كل ما من شأنه ألا يعوقنا عن بلوغ غايتنا ... وعلى هذا النحو نكسب جمهورا يستقبل الحقيقة استقبالا وديا.»
34
على هذا النحو إذن يكون التوفيق بين الغايتين: نقل أفكاره إلى القراء، وعدم استفزاز مشاعرهم، ولا سيما العامة والجهلاء؛ فالمنهج الذي يتبعه هو من جهة، منهج، «التحدث بلغة قريبة من أفهام العامة» - وقد استخدم اسپينوزا من الاصطلاحات والعبارات التقليدية ما يفي بهذا الغرض، ولكنه، من جهة أخرى، يشترط «عمل كل ما من شأنه ألا يعوقنا عن بلوغ غايتنا»؛ أي إنه يقبل مثل هذا التحوط والإخفاء، على ألا يكون ذلك على حساب الحقيقة كما يفهمها؛ فهو يريد أن يعبر عن هذه الحقيقة كاملة، ولكن على النحو الذي يضمن عدم استفزاز العامة، وليس في هذا، بالنسبة إلى الظروف التي عاش فيها اسپينوزا، أي افتقار إلى الشجاعة.
ولقد وجد من المفسرين بالفعل من ينظر إلى مظاهر الحذر والتحوط هذه على أنها مظاهر للجبن، ولقي هذا التفسير ترحيبا شديدا في الأوساط النازية؛ إذ نجد في هذه الأوساط كاتبا مثل «جرونسكي» يعدد مظاهر «الجبن» عند اسپينوزا، وضمنها قاعدة التحوط السابقة، وكذلك امتناعه عن نشر مؤلفاته باسمه ... إلخ. ليجد في هذه كلها أدلة على نفاق اسپينوزا وجبنه،
35
ومثل هذا التفسير، بطبيعة الحال، يتغاضى تماما، من جهة، عن طبيعة العصر الذي عاش فيه اسپينوزا، وهو عصر لم تكن قد اختفت فيه تماما مظالم محاكم التفتيش وتعصب العصور الوسطى وضيق أفقها، ويغفل من جهة أخرى جرأة آراء اسپينوزا الحقيقية، التي بلغت حدا بجعلها لا تقارن حتى بأكثر الآراء تقدمية في ذلك العصر، وربما لم تبدأ نظائرها في الظهور إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفي أشد المجتمعات تحررا فحسب. وفضلا عن ذلك، فإن أصحاب هذا الرأي يغفلون الأمر الواقع، وهو أن اسپينوزا قد اتهم فعلا، رغم كل حرصه، بالمروق والخروج على الدين، ولطخت سمعته إلى أبعد حد، حتى أثناء حياته، ولو كان الجبن من خصاله لسحب آراءه هذه على التو. وأخيرا فإن صاحب هذا النقد يتجاهل تصرف مفكر «چرماني» أصيل، هو ليبنتس، حين حرص على إخفاء كل أثر لاتصاله باسپينوزا وتصرف معظم أعضاء المجامع العلمية الألمانية في ذلك الحين، حين كان كل منهم يجعل من تجريح اسپينوزا والطعن فيه وسيلة لتملق السلطات الحاكمة، أو لدفع الشبهات عن نفسه. (ب)
أما الاعتراض الثاني، وهو القائل بأن من المستحيل ألا يكون اسپينوزا مخادعا غير مخلص في عرضه لأفكاره. فالرد عليه، كما هي الحال في الرد على الاعتراض السابق، هو أن نؤكد أن استخدام اسپينوزا المنهج الهندسي وسيلة لإخفاء آرائه عن فئة معينة من الناس، لا يعني على الإطلاق أنه كان مخادعا أو غير مخلص.
ذلك لأن هناك طريقتين مختلفتين في إخفاء الآراء: إحداهما أن يكتب المفكر ليرضي سلطات أو جهات معينة، أو ليجني لنفسه نفعا خاصا، وفي هذه الحالة يحذف تماما ما هو جريء من أفكاره، أو يكتب فلسفتين، إحداهما ليعبر بها عن نفسه والأخرى ليتملق بها السلطات. وهذا هو النوع الذي ينطوي على خداع، وهو ينطبق، إلى حد ما، على ليبنتس.
والنوع الثاني، الذي يتمثل لدى اسپينوزا، هو ذلك الذي يحرص فيه المفكر على إخفاء آرائه عن فئة معينة من الناس، دون أن يضحي بأي من هذه الآراء أو يحذف شيئا منها وليس في هذا النوع أي خداع أو افتقار إلى الإخلاص. فرغم كل ما يتميز به اسپينوزا من حذر شديد، فإنه لم يخف أية فكرة من أفكاره، ولم يكتب إلا ما كان يؤمن به، ولكنه كان يكتب ذلك «بطريقة» حذرة. فجميع أفكاره الجريئة موجودة دون أن يحذف منها شيء، وكل ما على القارئ هو أن ينقب عنها.
ولم تقتصر أمانة اسپينوزا الفكرية على ذلك، بل إنه أعطى القارئ المفتاح الكفيل بإرشاده إلى آرائه الحقيقية؛ فقد قدم إلى هذا القارئ تعريفات لألفاظ وعبارات تقليدية - لا خطر منها - بمعان ثورية جديدة كل الجدة، وذكر له، من جهة أخرى، أن منهجه هندسي؛ أي إنه ينتظر من القارئ أن يتقيد بهذه التعريفات ويستبدل دائما بالرموز قيمها الفعلية كما حددها له. فإذا عاد بعض القراء فأرجعوا ألفاظه، مرة أخرى، إلى معانيها الشائعة، وإذا أهملوا استخدام تعريفات لأنها، مثلا، بعيدة عن الموضع الذي وردت فيه لأول مرة، أو لأنهم نسوا هذه التعريفات، أو لأن المعاني التقليدية الراسخة لهذه الألفاظ والتعبيرات قد فرضت نفسها عليهم وانزلقت إلى أذهانهم دون أن يشعروا، فلن يكون الخطأ في هذه الحالة خطأ اسپينوزا، وإنما خطأ هؤلاء القراء، ولا يحق لأي شخص، في هذه الحالة، أن يتهمه بالخداع والافتقار إلى الإخلاص.
Shafi da ba'a sani ba