وهكذا فإن علاقة «الاستتباع» الرياضية بين الله والعالم هي التي تجعل استخدام المنهج الهندسي - في رأي ڨندلبنت - أمرا لا مفر منه في فلسفة كفلسفة اسپينوزا.
وهذا الرأي، كما هو واضح، يفترض مقدما قضايا معينة سوف نثبت، خلال البحث، خطأ البعض منها؛ فهو يفترض أن اسپينوزا في تحديده للعلاقة بين الله والعالم، متأثر بالأفكار الدينية، وفي هذا فهم غير صحيح لفكرة الله عند اسپينوزا. هذا فضلا عن أن القول إن علاقة الله بالأشياء أشبه بالعلاقة بين تعريف المثلث وبين خصائصه المختلفة، لا يستتبع بالضرورة أن «تعرض» هذه الأفكار ذاتها بالطريقة الهندسية، بل إن من الممكن أن تتخذ عملية «العرض» أي شكل آخر. (2) المنهج الهندسي بوصفه طريقة مصطنعة للتعبير
كان أصحاب الآراء السابقة جميعهم يؤكدون أن المنهج الهندسي أمر تحتمه فلسفة اسپينوزا، وأنه بوصفه شكلا للتعبير، يرتبط أوثق الارتباط بمحتوى الأفكار التي يعبر عنها.
وسنبحث الآن في التفسير الثاني، الذي ينظر فيه إلى المنهج الهندسي على أنه طريقة مصطنعة في التعبير، وبالتالي على أنه يستخدم، لا لإيضاح آراء اسپينوزا وإلقاء ضوء عليها، وإنما لإخفاء جوانب معينة، أو لإظهارها، في أعين فئة معينة من الناس، بمظهر مخالف لحقيقتها.
وأول ما ينبغي أن نبحثه في هذا الصدد، هو السؤال: هل كانت طريقة اسپينوزا في تدوين أفكاره تتفق مع طريقة ظهور هذه الأفكار؟ أعني هل تكونت أفكار اسپينوزا ذاتها على شكل قضايا وبراهين ونتائج، أم أنها تكونت بطريقة مسترسلة متصلة، ثم نظمها هو فيما بعد بالمنهج الهندسي، واتخذ من هذا المنهج طريقة لعرض هذه الأفكار؟ لا شك أن الاحتمال الثاني هو الصحيح؛ فلا بد أن الأفكار قد ظهرت أولا بالطريقة التي تظهر بها في جميع الأذهان، وبعد ذلك صاغها اسپينوزا في قالب هندسي، فالمنهج إذن يمثل خطة متعمدة في عرض الأفكار بتسلسل خاص قد يكون مخالفا تماما للتسلسل الذي ظهرت به في ذهن صاحبها، وبأسلوب مخالف للأسلوب الذي كان يمكن أن يعرضها به لو تركها تعبر عن ذاتها دون تغيير لمجراها الطبيعي.
هذه الحقيقة تؤدي بنا مباشرة إلى التفكير في الأسباب التي ربما كانت قد دفعته إلى اصطناع هذا المنهج وتعمده. أما القول بأن اسپينوزا قد استخدم هذا المنهج لتأكيد النظرة الرياضية إلى الأشياء، فهو، كما يقول ولفسون، قول غير دقيق؛ ذلك لأن النظرة الرياضية إلى موضوعات الفلسفة لا ترتبط بالضرورة بطريقة هندسية في التعبير أو العرض الأدبي. وكل ما تؤدي إليه النظرة الرياضية في الفلسفة هو إنكار غائية الطبيعة وحرية الإنسان. غير أن هذه أفكار لا تقتضي التعبير عنها بالصورة الهندسية وحدها، فليس من الصحيح أن الشكل الهندسي في التعبير هو وحده الملائم للمحتوى الرياضي في التفكير.
10
ومن الواجب أن نتذكر في هذا الصدد أن ما يصح على الهندسة لا ينبغي أن يصح على الفلسفة بالضرورة، فعندما يتبع ذلك المنهج في الرياضيات، يعرف كل رمز بدقة، ويستطيع الرياضي أن يتحكم في استدلاله بحيث لا يحدث أي تحريف في معاني الرموز أثناء عملياته الاستدلالية، أما عندما يستخدم في الفلسفة، فإن خطر التحريف يكون قائما على الدوام؛ إذ إن أداة الفلسفة هي اللغة المعتادة، ومن المحال أن تتصف عملية الاستنباط فيها - ولا سيما إذا سارت مراحل طويلة - بنفس الدقة التي تتصف بها في الرياضة. ولو حدث في إحدى حلقات هذه العملية أقل انحراف عن المعنى الدقيق للفظ ما، لازداد هذا الانحراف اتساعا كلما مضى الاستنباط شوطا أبعد، ولأصبحت النتائج النهائية غير موثوق بها على الإطلاق.
ولقد أخذ هيجل على اسپينوزا أنه لا يثبت، في البداية، الحقيقة المطلقة لأفكاره الأولى، وإنما يسلم بها فحسب. وهذا أمر إذا جاز في الهندسة فإنه لا يجوز في الفلسفة، «إذ ينبغي أن يعرف المضمون في الفلسفة على أنه ذو صحة مطلقة.»
11
Shafi da ba'a sani ba