94
ومع ذلك فإن معنى هذه الصيغة التقليدية لا يفهم إلا من خلال التمهيد المطول، الذي يستغرق الكتاب كله، والذي أعد اسپينوزا ذهن القارئ له. وهو هنا في واقع الأمر يريد أن يقول: إن مذهبي بدوره، وهو المذهب الذي يخلو من جميع العناصر فوق الطبيعية أو التشبيهية أو اللاعلمية، يمكن أن يوصل - على أساس أفضل - إلى نفس الغاية التي تتخذها الأديان هدفا أسمى لها، ففيه أيضا خلاص (عن طريق إدراك النظام الكلي للأشياء) وفيه أيضا حرية (عن طريق فهم موقع كل شيء في السلسلة الضرورية الشاملة) وفيه أيضا طمأنينة وبركة (عن طريق إدراك وحدة الكون والذهن الذي هو مظهر جزئي له) وفيه أيضا حب (هو حب المعرفة والعلم).
إن في هذا الجزء عناصر تبدو صوفية ولا شك، ولكن الصوفية في هذه الحالة إنما هي صوفية العلم الذي لا تداخله أية مسحة من النزعة إلى ما فوق الطبيعة. والخطأ الذي وقع فيه المفسرون عندما صادفوا مثل هذه العبارات التي حلق فيها اسپينوزا بالفعل في آفاق لا يدانيها، في علو غايتها، إلا آفاق المذاهب الدينية التقليدية، هو أنهم تصوروا أنه لا بد لذلك أن يكون قد عاد آخر الأمر إلى المعاني التي رفضها كلها في البداية، ومع ذلك فليست كل العبارات ذات المظهر الصوفي، كما رأينا، إلا تتويجا للمذهب العلمي الدقيق الذي ظل يبنيه حجرا حجرا طوال الكتاب، وهو لم يتخل هنا عن أية فكرة من أفكاره السابقة، بل لقد استجمعها كلها، كمؤلف سيمفونية ضخمة، لينسج منها خيوط الخاتمة الجبارة. ومن المؤكد أنه كان سيعد مذهبه ناقصا لو لم يكن قد وجد فيه مجالا لجميع الغايات والأهداف التي تتخذها لنفسها العقائد المنافسة لمذهبه. ومهما أشاد بفضيلة العقل والمنطق، وبقيمة التخلص من الأوهام والخرافات، وبأهمية النظرة العلمية الدقيقة إلى الكون؛ فقد كان سيجد حتما أناسا يقولون له: ولكنا سنجد في عقائدنا خلاصا وراحة وطمأنينة للنفس لا نجدها في مذهبك الصارم! وهكذا كان الجزء الأخير من الكتاب - تبعا للتفسير الذي نقول به - هو الخاتمة الطبيعية الضرورية لكل ما سبقه، وليس على الإطلاق متناقضا أو متنافرا مع الأجزاء السابقة عليه، أو مقحما عليها دون انسجام.
ولعل السبب الأكبر في اشتداد تناقض التفسيرات حول هذا الجزء، ووقوع معظم شراح اسپينوزا في أخطاء واضحة بصدده، هو ذلك الاعتقاد الباطل، والشائع لسوء الحظ، بأن النظرة الشاملة الحدسية إلى الكون في مجموعه، وإدخال مقولات «الخلاص» وطمأنينة النفس وما إليها، مرتبطة ارتباطا حتميا بالموقف اللاهوتي التقليدي، ولكن هل هذا الارتباط ضروري بحق؟ وهل لا تستطيع أن تنظر إلى «الكون» وإلى «النظام الكلي للأشياء» باحترام وتبجيل وحب إلا من خلال موقف لاهوتي؟ وهل يتحتم أن تكون النظرة العلمية إلى العالم، التي لا تداخلها أية أوصاف «فوق الطبيعية»، جامدة غير مكترثة، لا تعرف الحب ولا الغبطة؟ وهل ينبغي القول بمبدأ فوق الطبيعي لكي يكون مثل هذا الحب ممكنا؟ وهل هذا الحب محرم على العالم الذي يستبعد كل فرض عال على الطبيعة؟ وهل يستحيل على المفكر أن يتعاطف ويندمج بكل كيانه في موضوع تفكيره إلا إذا تجاوز حدود هذا الموضوع وافترض كيانات خارجة عنه؟ لو رجعنا إلى تجربة العلماء لوجدنا الكثيرين منهم يردون على هذه الأسئلة كلها بالنفي القاطع؛ إذ إن أشدهم تمسكا بالتفسير الطبيعي الصارم لا يجد ذلك متعارضا مع شعوره بالحب نحو موضوع بحثه، وكلما تعمق العالم في بحثه ازداد نطاق هذا الموضوع اتساعا، حتى نصل إلى ذلك الحب الكامل للطبيعة وللمجموع الكلي للأشياء، الذي أحس به علماء كثيرون لم تدخل تفكيرهم أية عناصر خارجة على الطبيعة أو عالية عليها. •••
هذا هو تفسيرنا للجزء الأخير من كتاب «الأخلاق»، وهو تفسير قائم على الفهم الذي أوضحناه خلال هذا البحث لفكرة «الله» عند اسپينوزا. ويمتاز هذا التفسير بأنه يقضي تماما على التناقض المزعوم بين هذا الجزء وبين بقية أجزاء الكتاب، ويجعله خاتمة طبيعية لكل الأفكار التي عرضها اسپينوزا في كتابه بالتدريج.
وإنه ليكون أمرا غريبا بحق لو كان اسپينوزا قد هدف آخر الأمر، كما يقول شراحه، إلى تأكيد الخلود والحب الإلهي بمعناهما الحرفي، وإلى أن يعود، بشكل أو بآخر، إلى الموقف الديني التقليدي كما عرفه في حداثته، أو إلى نوع من التصوف الذي لا يأباه اللاهوتيون. ومبعث الغرابة في ذلك هو أنه، تبعا لهذا الفرض، يكون قد مهد لهذا الهدف أسوأ تمهيد بعرض آرائه المادية التي طالما جلبت عليه الاتهامات وأثارت حوله الشكوك؛ فالأمر يكون عجيبا حقا لو كان هذا الفيلسوف الذي كان الحذر حقيقة أساسية في حياته، والذي بذل جهدا جبارا لاتقاء شر خصومه ممن ينفرون من آرائه الجريئة، قد وضع كل هذه المقدمات الاستفزازية التي تجلب عليه المزيد من الشك ومن الاتهام والغضب والنقمة والخطر، من أجل الوصول إلى غاية هادئة خاضعة لا تغضب المتمسكين بالتقاليد! ولن يكون لذلك تعليل سوى أنه نوع من الرغبة المتعمدة في إيقاع الأذى بالنفس؛ أي «المازوكية» الفكرية، أو نوع من العناد والمشاكسة، ذلك الذي يدفعه إلى أن يجلب على نفسه مصائب كان يعمل لها ألف حساب، في الوقت الذي كانت فيه غاياته الحقيقية لا تختلف كثيرا عن غايات من يخشى أذاهم!
إن الاعتبارات «التاريخية» - أعني تلك المستمدة من ظروف حياة اسپينوزا - هي وحدها كفيلة برفض التفسير القائل بتناقض النهاية الصوفية لكتاب «الأخلاق» مع بقية أجزائه ذات الاتجاه المادي. أما الاعتبارات «المنطقية» فنحسب أننا أوضحناها في هذا الفصل بما فيه الكفاية.
الفصل الخامس
اسپينوزا والعقائد الشائعة
(1) كتاب «البحث اللاهوتي السياسي»
Shafi da ba'a sani ba