محمدٌ ﷺ حليمًا
ما دام أنه رسول الله فلا بد أن يكون أحلم الناس، وأوسعهم صدرًا، وألينهم عريكة، وأدمثهم خلقًا، وألطفهم عشرة، فقد كان يكظم غيظه، ويعفو ويصفح، ويغفر لمن زل، ويتنازل لحقوقه الخاصة، ما لم تكن حقوقًا لله، وقد عفا عمن ظلمه وطرده من وطنه وآذاه وسبه وشتمه وحاربه فقال لهم يوم الفتح، اذهبوا فأنتم الطلقاء، وعفا عن أبي سفيان بن الحارث يوم الفتح، لما وقف أمامه وقال: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، فقال ﵊: ﴿لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين﴾.
وقد واجهه الأعراب بالجفاء وسوء الأدب، فحلم وصفح، وقد امتثل أمر ربه في قوله: ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ [الحجر:٨٥] فكان لا يكافئ على السيئة بالسيئة، بل يعفو ويصفح، وكان لا ينفذ غضبًا إذا كان لنفسه، ولا ينتقم لشخصه، بل إذا أُغضب ازداد حلما، وربما تبسم في وجه من أغضبه، ونصح أحد أصحابه فقال: ﴿لا تغضب، لا تغضب، لا تغضب﴾ وكان يبلغه الكلام السيء ﷺ فلا يبحث عمن قاله، ولا يعاتبه، ولا يعاقبه، وورد عنه أنه قال: ﴿لا يبلغني أحدٌ منكم ما قيل في، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر﴾ وبلّغه ابن مسعود كلامًا قيل فيه؛ فتغير وجهه وقال: ﴿رحم الله موسى، أوذي بأكثر من هذا فصبر﴾ وقد أوذي من خصومه في رسالته، وعرضه، وسمعته، وأهله، فلما قدر عليهم عفا عنهم، وحلم عليهم، وقال: ﴿من كفَّ غضبه؛ كفَّ الله عنه عذابه﴾ وقال له رجلٌ: ﴿اعدل، فقال: خبت وخسرت إن لم أعدل﴾ ولم يعاقبه بل صفح عنه.
وواجهه بعض اليهود بما يكره فعفا وصفح، وقد وسع بخلقه وتسامحه الناس، وأطفأ بحلمه نار العداوات، ممتثلًا قول ربه: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾ [المؤمنون:٩٦].
وكان مع أهله أحلم الناس، يمازحهم، ويلاطفهم، ويعفو عنهم فيما يصدر عنهم، ويدخل عليهم بسامًا ضحاكا، يملأ قلوبهم وبيوتهم أنسًا وسعادة، يقول خادمه أنس بن مالك: ﴿خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين، ما قال في شيء فعلته: لم فعلت هذا؟ ولا لشيء لم أفعله لِمَ لم تفعل هذا؟﴾ وهذا غاية الحلم، ونهاية حسن الخلق، وقمة جميل السجايا ولطيف العشرة، بل كان كل من رافقه أو صاحبه أو بايعه يجد من لطفه ووده وحلمه ما يفوق الوصف، حتى تمكن حبه من القلوب، فتعلقت به الأرواح، ومالت له النفوس:
وإذا رحمت فأنت أمٌ أو أبٌ هذان في الدنيا هما الرحماءُ
وإذا صحبت رأى الوفاء مجسمًا في بردك الأصحاب والخلطاءُ
2 / 9