السِّرُ المكتومُ
في الفرق بين المالين
المحمود والمذموم
ويليه
جواب في الجمع بين حديثين، هما: دعاؤه ﷺ لأنس بن مالك بكثرة المال والولد، وحديث دعائه بذلك على
من لم يؤمن به ويصدّقه
كلاهما تصنيف
الحافظ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السَّخاوي
(٨٣١ - ٩٠٢ هـ)
قدَّم لهما وعلّق عليهما ووثق نصوصهما وخرّج أحاديثهما وآثارهما
أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان
Shafi da ba'a sani ba
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التحقيق
إن الحمد لله، نحمده ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ باللَّهِ من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّهُ؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللَّه، وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
* المال وأحكامه:
فإن موضوع المال وما يتعلَّق به من أحكام وما له به من صلة، أمر متشعِّب جدًا، وخُصَّ بدواوين كثيرة شهيرة، وبقي: معرفة هل المال في ذاته محمود أم مذموم، وفي النصوص (الأحاديث والآثار) ما يفيد هذا وهذا، ولذا حمله العلماء على الحالتين على حسب ما يؤول إليه الأمر.
• متى يذم المال؟
فهو مذموم باعتبار (١):
- أن فيه إشغالًا عما هو الأهم في الدنيا من العمل بالخيرات، وقد يكون سببًا في الصدّ عن كثير من الطاعات.
- أنه سبب في الاشتغال عن الواجبات، ووسيلة إلى الغفلة والممنوعات، لأن التمتع بالدنيا بسببه له ضراوة كضراوة الخمر، وبعضها يجرُّ إلى بعض، إلى أن تهوي بصاحبها في المهلكة -والعياذ بالله-.
- أن الشرع قد جاء بذم الدنيا، وهو من زينتها، وسبب للتمتّع بلذّاتها، كقوله -تعالى-: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا﴾ [الأحقاف: ٢٠]، وقوله: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا﴾ [هود: ١٥] .
_________
(١) مأخوذ بتصرف كبير من مواطن من «الموافقات» (١/١٧٦ وما بعد، و٥/٣٥٤ وما بعد) .
1 / 7
وفي الحديث: «إنّ أخوف ما أخاف عليكم: أن تفتح عليكم الدنيا كما فُتحت على الذين من قبلكم ...»، وفيه: «إن مما يُنبتُ الربيع ما يقتل حَبَطًا أو يُلِمّ» (١) .
وذلك كثير شهير في الكتاب والسنَّة، وسيأتي بعضه عند المصنف.
- ما فيه من التعرض لطول الحساب في الآخرة، وقد جاء: «إن حلالها حساب، وحرامها عذاب» (٢)، والعاقل يعلم أن طول الحساب نوع من العذاب، وأن سرعة الانصراف من الموقف إلى الجنة من أعظم المقاصد، وإن المال صادٌّ عن ذلك.
• متى يمدح المال؟
ونازع آخرون في ذلك؛ وقالوا عن الوجوه المذمومة السابقة: إنها حق، وهذا النظر الذي نظرتم إليه إلى المال والدنيا هو نظر مجرد من الحكمة التي وضعت لها الدنيا، من كونها متعرفًا للحق، ومستحقًا للشكر الواضع لها، بل إنما يعتبر فيها كونها كيسًا ومقتنصًا للذات، ومآلًا للشهوات، انتظامًا في سلك البهائم، وهذا ظاهر للعيان من هذه الجهة، وهو على هذا الحال، قشرٌ بلا لبٍّ، ولعب بلا جد، وباطل بلا حق؛ لأن صاحب هذا النظر لم ينل منه إلا مأكولًا، ومشروبًا، وملبوسًا، ومنكوحًا، ومركوبًا، من غير زائد، ثم يزول عن قريب، فلا يبقى منه شيء، فذلك كأضغاث أحلام، وهذا هو نظر الكفار (٣) أصالة، وأما المؤمنون فهم
_________
(١) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الزكاة (باب الصدقة على اليتامى) (رقم ١٤٩٥)، وكتاب الرقاق (باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها) (٦٧٢٤) من حديث أبي سعيد الخدري.
(٢) سيأتي تخريجه في التعليق على رسالة المصنف.
(٣) أخبرنا النبي ﷺ أننا سنتبع سننهم -أعني: اليهود والنصارى-، وهم منغمسون بالملذات، وهذا واقع اليوم بلا دافع، وهذه المضاهاة هي أخطر ما تصيب الأمة على الإطلاق، وعدم معرفة (فقه المفاضلة) المذكورة يسبب ويلات على الأمة، سلبًا وإيجابًا، ولذا فعزة أمتنا ورفعتها بتعلّم أحكام دينها، والخطورة كل الخطورة في تناول الأحكام تناولًا أوليًا من نص واحد، وإهدار سائر النصوص، أو عدم اعتبار ما جاءت به الشريعة من تحقيق مقاصد معتبرة، وتأمل ما سيأتيك تجد مثالًا مهمًا على هذا الإجمال، والله المستعان.
1 / 8
يعلمون أن المال محمود من وجوه كثيرة، منها:
- إنه نعمة من الله ﷿ كسائر النعم، يجب شكرها، والواجب الانتداب إلى ذلك حسب القدرة والمكنة، وصار ذلك القشرُ محشوًا لُبًّا، بل صار القشر نفسه لبًا؛ لأن الجميع نعمٌ طالبة للعبد أن ينالها، فيشكر لله بها وعليها.
- إنه يستعان به على الطاعات، وهو ذريعة في بعض الأحايين إلى تحقيق بعض المأمورات والواجبات، كالمستعان به على أمر أخرويّ، ففي الحديث: «نِعْم المال الصالح للرجل الصالح» (١)، وفي الحديث الآخر: «ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلا والنعيم المقيم....»، إلى أن قال: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» (١)، فجعل المال فضلًا من الله يمتنّ به على بعض عباده.
- إن ما ذكر من الحساب على المال، وأنه يؤخر الأغنياء من دخول الجنة، يقال عليه: إنه راجع إلى أمر خارج عن نفس المال، فإنه - مثلًا- من خلاله: يقع أكل كذا، وله مقدمات وشروط ولواحق لا بد من مراعاتها، فإذا رُوعيت صار ذلك وسيلة إلى العبادات والطاعات، وإن لم تُراع كان التسبب والتناول فيه قصورًا أو خلافًا على حسبه وبقدره.
• المال كغيره من الشهوات:
- وعلى الجملة؛ فالمال كغيره من الشهوات والملذات، له أحكام، وضوابط، وشروط، وموانع، ولواحق تراعى، والترك (٢) في هذا كله كالفعل، فكما أنه إذا تسبب للفعل كان تسببه مسؤولًا عنه، كذلك إذا تسبب إلى الترك كان مسؤولًا عنه.
_________
(١) سيأتي تخريجه في التعليق على رسالة المصنف.
(٢) إذ هو عند المحققين الأصوليين (فعل)، ولذا من عمل الصالحات من أجل الناس فهو المرائي، ومن تركها من أجلهم فقد أشرك، فكان الترك شرعه من أجلهم، على ما ذكر الفضيل بن عياض، فتأمل!
1 / 9
وتأمل حادثة سلمان وأبي الدرداء، فيما أخرج البخاري (١٩٦٨، ٦١٣٩) ومسلم (١٨٢) عن أبي جحيفة قال: آخى النبي ﷺ بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء -وهي زوجه- متبذِّلة؛ فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا، فقال له: كل فإني صائم. فقال: ما أنا بآكل حتى تأكل؛ فأكل. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال: نم. فنام، ثم ذهب ليقوم؛ فقال: نم. فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن. فصلينا فقال له سلمان: «إن لربِّك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حقٍّ حقّه» (١) . فأتى النبي ﷺ فذكر له ذلك؛ فقال النبي ﷺ: «صَدَقَ سلمان» .
يتبين لنا من هذا أن الفعل والترك يتعلق بهما الحساب، وإذا كان كذلك، فلم يبق مجالًا لذم المال من هذا الوجه.
• فصل النزاع:
والصواب في هذا الباب: أن تناول المباح، وتحصيل المال من حلِّه؛ لا يصح أن يكون صاحبه محاسبًا عليه بإطلاق، وإنما يحاسب على التقصير في الشكر عليه، إما من جهة تناوله واكتسابه، وإما من جهة الاستعانة به على التكليفات، فمن حاسب نفسه في ذلك وعمل على ما أمر به، فقد شكر نعم الله، وفي ذلك قال الله -تعالى-: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ﴾ إلى قوله: ﴿خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الأعراف: ٣٢] (٢) .
_________
(١) أشدُّ واجب وأهمه في شرع الله تعالى -في نظري-: إعطاء كل ذي حق حقه، فالنفوس ترغب، والأهواء تميل، وقد يكون ذلك مع شيء يحبه الله -تعالى-، ولكن (إعطاء كل ذي حق حقه) يحتاج إلى إرادة تامة صحيحة، وتصوّر جملي سليم، والله الموفق.
(٢) يؤكد ذلك أن النبي ﷺ فسر (الحساب اليسير) في قوله -تعالى-: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ. فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾ [الانشقاق: ٧-٨] بأنه العرض، لا الحساب الذي فيه مناقشة =
1 / 10
وهذه النعم هدايا من الله للعبد، وهل يليق بالعبد عدم قبول هدية السيد؟ هذا غير لائق في محاسن العادات، ولا في مجاري الشرع، بل قصد المهدي أن تقبل هديته، وهدية الله إلى العبد ما أنعم به عليه، فليقبل، ثم ليشكر له عليها.
والخلاصة؛ إنَّ المال لا بدَّ أن يكون خادمًا لأصل ضروري أو حاجي أو تكميلي، ويراعى إمساكه وتحصيله من جهة ما هو خادم له، فيكون مطلوبًا ومحبوبًا فعله، وذلك أن التمتع بما أحل الله ﷿ من المأكل والمشرب ونحوهما: مباح في نفسه، وإباحته بمفرداته المتعددة، خادمة لأصل ضروري، وهو إقامة الحياة (١)، فهو معتبر ومحبوب بالنسبة إلى حقيقته الكلية، لا إلى اعتباره الجزئي، ومن هنا يصح كونه هدية يليق فيها القبول دون الرد، لا من حيث هو جزئي معين.
أما إن عاد المال لنقض أصلٍ من أصول الشرع، والاعتداء على المقاصد الكلية، بالاعتداء على العرض، أو العقل، أو البدن، أو النسل، أو الدين؛ فهذا هو المذموم، ويسمى أخذه: رغبة في الدنيا، وحبًا في العاجلة، وضده هو الزهد فيها، وهو تركها من هذه الجهة، ولا شك أن ذلك مطلوب.
ولذا فالفصل في المسألة: أن ذم المال بإطلاق لا يستقيم، كما أن مدحه بإطلاق لا يستقيم، يوضّحه: مسألة الحجر على السفيه، الذي يضع المال في غير موضعه (٢)،
ومسألة النفقات وأحكامها، فالقاعد عن العمل معرض نفسه للمسألة،
_________
= وعذاب. أخرجه البخاري (٤٩٣٩) ومسلم (٢٨٧٦) من حديث عائشة، وإلا؛ لم تكن النعم خالصة للمؤمنين يوم القيامة، وإليه يرجع قوله -تعالى-: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف: ٦] . أعني: سؤال المرسلين. ويحققه أحوال السلف، كما سيأتي التنويه عليه.
(١) قال ابن حزم في «الأخلاق والسير» (ص ١٧٥- ط. عبد الحق):
«ينبغي للكريم أن يصون جسمه بماله، ويصون نفسه بجسمه، ويصُونَ عرضه بنفسه، ويصون دينه بعرضه، ولا يصون بدينه شيئًا أصلًا» . فلله درُّه ما أدقّه! وأبعد غوره وفهمه!
(٢) من بديع ما يذكر في هذا الباب: ما قاله ابن حزم في «المحلى» (١٠/١٠٠):
«فإضاعة المال حرام، وإثم وعدوان بلا خلاف» . وقال عن إهمال (إصلاح المال): =
1 / 11
مضيِّع لمن يعول، وكفاه إثمًا (١) بذلك، ومن المتفق عليه أن تركه هذا ليس مرغبًا فيه، ولا هو زاهد فيه على الوجه المحمود، بل يسمى فعله سفهًا وكسلًا، وكذا مسألة التبذير والشح، فكلاهما مذموم، وهما طرفان، والعدل والخير بينهما.
• الصحابة والمال:
والذي يترجم ذلك كله على وجه فيه وسط، دون وكس ولا شطط: الصحابة خصوصًا، والسلف الصالح عمومًا، فإنهم -رضوان الله عليهم- كانوا حريصين على المال، ولهم فيه بتحصيله مهن معروفة، كاسبين له من جهة كونه عونًا على
_________
= «فمن لم يعن على إصلاحه؛ فقد أعان على الإثم والعدوان وعصى الله -تعالى-» .
(١) أخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الزكاة (باب النفقة على العيال والمملوك وإثم من ضيعهم أو حبس نفقتهم عنهم) (٢/٦٩٢ رقم ٩٩٦) من حديث عبد الله بن عمرو بلفظ: «كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملك قوته» .
وأخرجه بلفظ: «كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت»: النسائي في «السنن الكبرى» (٥/٣٧٤ رقم ٩١٧٦-ط. دار الكتب العلمية)، أو «عشرة النساء» (رقم٢٩٥)، وأبو داود في «السنن» (رقم ١٦٩٢)، وأحمد (٢/ ١٦٠، ١٩٣، ١٩٤، ١٩٥)، والطيالسي (٢٢٨١)؛ كلاهما في «المسند»، وابن حبان في «صحيحه» (٤٢٤٠- «الإحسان»)، والقضاعي في «مسند الشهاب» (١٤١١، ١٤١٢)، والحاكم في «المستدرك» (١/٤١٥)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٧/٤٦٧ و٩/٢٥)، وأبو نعيم في «الحلية» (٧/١٣٥) .
وأخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (٢٠٨١٠)، والنسائي في «الكبرى» (٥/٣٧٤ رقم ٩١٧٧-ط. دار الكتب العلمية)، أو «العشرة» (رقم٢٩٤)، والحميدي في «المسند» (رقم ٥٩٩)، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» (رقم ٦٣٥)، والحاكم في «المستدرك» (٤/٥٠٠)، والقضاعي في «مسند الشهاب» (رقم ١٤١٣) بلفظ: «يعول» بدل «يقوت»؛ جميعهم من طريق أبي إسحاق السبيعي، عن وهب بن جابر، عن عبد الله بن عمرو، به، ووهب بن جابر لم يرو عنه غير أبي إسحاق، ووثقه ابن معين، والعجلي، وابن حبان (٥/٤٨٩)، ونقل الذهبي في «الميزان» (٤/٣٥٠) جهالته عن ابن المديني، وقال: «لا يكاد يعرف» .
ومعنى الحديث: أنه لا ينبغي المساهلة على من تلزم الإنسان نفقته، ويلزم البداية بهم في الإنفاق، وليس له الإنفاق على غيرهم مع حاجتهم، والله أعلم.
1 / 12
شكر الله عليه، وعلى جهة اتخاذه مركبًا للآخرة، وهم كانوا أزهد الناس فيه، وأورع الناس في كسبه.
فربما سمع أخبارهم في طلبه من يتوهم أنهم طالبون له من جهة ملذاته وشهواته فحسب، وهذا جهل بالاعتبار الذي طلبوه، وحاش ÷ أن يطلبوه على علاته، إنما طلبوه من جملة عباداتهم -رضوان الله عليهم، وألحقنا بهم، وحشرنا معهم، ووفقنا لما وفقهم له بمنّه وكرمه-.
فلا نعرف أحدًا اجتمع له مال كما اجتمع لرسول الله ﷺ، فكل ما سيق إليه جعله لأصحابه، وإقامة الدين، فكأني به -بأبي وأمي ﷺ مع كونه المتسبِّب يرى أن ما وصل ليده من محض الفضل، وأنه كوكيل على تصريفه فقط، وليس له منه شيء، وهذه أعلى المراتب، وكان الواحد من أصحابه كالوكيل، يأخذ منه ما احتاج، وهو أقل مرتبة من هذا.
• مراتب الناس في حظوظهم في المال:
ولا شك أن الناس في أخذ حظوظهم على مراتب، وأن الأسوة لهم في ذلك الرسول ﷺ وأصحابه، وكانوا يهضمون نفوسهم، ويطرحون حظوظها، بفضل قوة يقينهم بالله؛ لأنهم عالمون بصفاته، وبيده -سبحانه- ملكوت السموات والأرض، وهو حسيبهم لا يخيبهم، فصارت الشهوة والنزوة والحظوة عندهم من قبيل ما قد ينسى، ويأنف الواحد منهم إلى الالتفات إليها على وجه ما فيها مزاحمة لحق الله -تعالى-، وهذه نماذج للتدليل على ذلك:
- صح عن عائشة ﵂ أن ابن الزبير بعث لها بمال في غرارتين - قال الراوي: أراه ثمانين ومئة ألف-، فدعت بطبق وهي يومئذ صائمة، فجعلت تقسمه بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهم، فلما أمست قالت: «يا جارية! هلُمّي أفطري»، فجاءتها بخبز وزيت. فقيل لها: أما استطعت فيما قسمت أن تشتري
1 / 13
بدرهم لحمًا تفطرين عليه؟ فقالت: لا تُعنِّيني، لو كنتِ ذكرتني لفعلت (١) .
- وخرَّج مالك أن مسكينًا سأل عائشة وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف؛ فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه. فقالت: ليس لك ما تُفطرين عليه. فقالت: أعطيه إياه. قالت: ففعلتُ. قالت: فلما أمسينا أهدى لنا أهلُ بيت أو إنسانٌ -ما كان يُهدي لنا- شاةً وكَفَنَها (٢)؛ فدعتني عائشة، فقالت: كُلي من هذا. هذا خير من قرْصِكِ (٣) .
- وروي عنها أنها قسمت سبعين ألفًا وهي ترقع ثوبها (٤)، وباعت ما لها بمئة ألف وقسمته، ثم أفطرت على خبز الشعير (٥)، وهذا يشبه الوالي على بعض المملكة؛ فلا يأخذ إلا من المَلِك؛ لأنه قام له اليقين بقسْم الله وتدبيره مقام تدبيره لنفسه (٦)، ولا اعتراض على هذا المقام بما تقدم؛ فإن صاحبه يرى تدبير الله له خيرًا
_________
(١) أخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (٨/٦٧)، والدارقطني في «المستجاد» (رقم ٣٦، ٣٧) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (١٦/ق ٧٣٨) -، والحاكم في «المستدرك» (٤/١٣)، وأبو نعيم في «الحلية» (٢/٤٧، ٤٩)، والبغوي في «الجعديات» (١٦٧٣) بإسناد صحيح، بألفاظ مقاربة.
ووقع في بعض طرقه أن معاوية هو الذي بعث إليها بالمال، اشترى به منها دارًا. ولا تعارض؛ فهو المرسِل، وابن الزبير المرسَل؛ إلا إذا حمل على تعدد القصة، والله أعلم. وانظر ما سيأتي عند المصنف (ص ١٥٨)، وتعليقنا عليه.
(٢) إن العرب- أو بعض وجوههم- كان هذا من طعامهم، يأتون إلى الشاة أو الخروف، فإذا سلخوه غطوه كلَّه بعجين دقيق البُرّ، وكفّنوه فيه، ثم علَّقوه في التنّور، فلا يخرج من ودكِه شيء إلا في ذلك الكفن، وذلك من طيِّب الطعام عندهم، قاله ابن عبد البر في «الاستذكار» (٢٧/٤٠٧) .
(٣) أخرجه مالك في «الموطأ» (٢/٩٩٧- رواية يحيى، ورقم ٢١٠٥- رواية أبي مصعب) بلاغًا عن عائشة.
(٤) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (٢/٤٧) .
(٥) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (٢/٤٧- ٤٨)، وفيه أيوب بن سويد، وهو ضعيف.
(٦) إنفاق الأموال في وجوه الخير عظيم، وهو عنوان الثقة بالله وتفويض الأمر إليه، وهذا ما كان السلف الصالح يفعله، وأما السعي في اكتساب الرزق من طرقه المشروعة؛ فهو ما يحث عليه الشرع ويستدعيه الاحتفاظ بعزة النفس وشرفها، ولا يحق للرجل أن ينكث يده من العمل وهو قادر =
1 / 14
من تدبيره لنفسه، فإذا دبّر لنفسه، انحط عن رتبته إلى ما هو دونها.
- ومنهم من يعد نفسه كالوكيل على مال اليتيم (١)؛ إن استغنى استعفَّ، وإن احتاج أكل بالمعروف، وما عدا ذلك صرفه كما يصرف مال اليتيم في منافعه؛ فقد يكون في الحال غنيًا عنه؛ فينفقه حيث يجب الإنفاق، ويمسكه حيث يجب الإمساك، وإن احتاج أخذ منه مقدار كفايته بحسب ما أذن له من غير إسراف ولا إقتار، وهذا -أيضًا- براءة من الحظوظ في ذلك الاكتساب؛ فإنه لو أخذ بحظه لحابى نفسه دون غيره، وهو لم يفعل، بل جعل نفسه كآحاد الخلق، فكأنه قسّام في الخلق يعدُّ نفسه واحدًا منهم.
وفي «الصحيح» عن أبي موسى قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الأشعَرِيِّين إذا أرمَلوا في الغَزوِ أو قلَّ طعامُ عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوبٍ واحدٍ ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد؛ فهم منِّي وأنا منهم» (٢) .
_________
= عليه بدعوى أن تدبير الله له خير من تدبيره، ومن يفعل ذلك؛ فليس من الفضيلة في شيء، وليست هذه الدعوى إلا من مظاهر الكسل والإخلاد إلى الرضا مما تجود به أنعم العاملين؛ فترجع في الحقيقة إلى معنى أن تدبير الخلق له خير من تدبير نفسه.
(١) أخرج ابن شبة في «تاريخ المدينة» (٢/٦٩٤-٦٩٥، ٧٠١)، وسعيد بن منصور في «السنن» (٤/١٥٣٨ رقم ٧٨٨ -ط. الصميعي)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (١٢/٣٢٤ رقم ١٢٩٦٠)، وابن جرير في «التفسير» (٧/٥٨٢ رقم ٨٥٩٧)، وابن سعد في «الطبقات» (٣/٢٧٦)، والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص ١١٢)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٦/ ٤-٥، ٣٥٤)، وابن الجوزي في «مناقب عمر» (ص ١٠٥) من طرق عن عمر؛ قال: «إني أنزلتُ نفسي من مال الله منزلة والي مال اليتيم، إن استغنيتُ استعففت، وإن افتقرتُ أكلتُ بالمعروف، ثم قضيتُ»، وهو صحيح بمجموع طرقه إن شاء الله تعالى. وفي رواية أنه قال ذلك لعمار وابن مسعود ﵃ حين ولاهما أعمال الكوفة، وفيها: «إني وإياكم في مال الله ...» وذكر نحوه.
(٢) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الأشعريين (باب الشركة في الطعام والنَّهد والعروض) (٥/١٢٨ رقم ٢٤٨٣)، ومسلم في «صحيحه» في كتاب فضائل الصحابة (باب من فضائل الأشعريين ﵃) (٤/١٩٤٤- ١٩٤٥ رقم ٢٥٠٠) من حديث أبي موسى الأشعري ﵁.
1 / 15
وفي حديث المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار هذا (١)، وقد كان ﵊ يفعل في مغازيه من هذا ما هو مشهور (٢)؛
فالإيثار بالحظوظ محمود غير مضاد لقوله ﵊: «ابدأ بنفسكَ ثم بمن تعُولُ» (٣)، بل يحمل على الاستقامة في حالتين.
فهؤلاء والذين قبلهم لم يقيدوا أنفسهم بالحظوظ العاجلة، وما أخذوا
_________
(١) أخرج البخاري في «صحيحه» في كتاب مناقب الأنصار (باب إخاء النبي ﷺ المهاجرين والأنصار) (رقم ٣٧٨٢) من حديث أبي هريرة ﵁ قال: «قالت الأنصار: اقسم بيننا وبينهم النخيل. قال: لا. قال: يكفوننا المئونة، ويشركوننا في الثمر. قالوا: سمعنا وأطعنا» .
وأخرج البخاري في «صحيحه» (رقم ٣٧٨١)، في الكتاب والباب السابقين، وفي (باب كيف آخى النبي ﷺ بين أصحابه) من الكتاب نفسه (رقم ٣٩٣٧)، ومسلم في «صحيحه» في كتاب النكاح (باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن ...) (رقم ١٤٢٧)، وغيرهما من حديث أنس؛ قال: «قدم عبد الرحمن بن عوف فآخى النبي ﷺ بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق؛ فربح شيئًا من إقط وسمن ...» .
(٢) قلت: أكتفي هنا بذكر مثالٍ واحدٍ وقع في غزوة تبوك؛ فقد أخرج مسلم في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا) (١/٥٥- ٥٦ رقم ٢٧) بسنده إلى أبي هريرة ﵁ قال: كنا مع النبي ﷺ في سير، قال: فنفدت أزواد القوم، قال: حتى همّ بنحر بعض حمائلهم، قال: فقال عمر: يا رسول الله! لو جمعت ما بقي من أزواد القوم فدعوت الله عليها، قال: ففعل، فجاء ذو البُرِّ ببُرِّه، وذو التمر بتمره. قال: وقال مجاهد: وذو النواة بنواه. قلت: وما كانوا يصنعون بالنوى؟ قال: كانوا يمصونه ويشربون عليه الماء، قال: فدعا عليها. قلت: حتى ملأ القوم أزودتهم، قال: فقال عند ذلك: «أشهد أن لا إله إلا الله، لا يلقى بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة» .
وأخرجه أحمد في «مسنده» (٣/١١)، وقد تكلم بعضهم في صحة هذا الحديث بكلامٍ متعقب. انظر: «شرح النووي على صحيح مسلم» (١/٢٢١-٢٢٣) .
(٣) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الزكاة (باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى) (٤/٢٩٤ رقم ١٤٢٧)، ومسلم في «صحيحه» في كتاب الزكاة (باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى) (٢/٧١٧ رقم ١٠٣٤) عن حكيم بن حزام، رفعه.
1 / 16
لأنفسهم لا يعد سعيًا في الحظ؛ إذ للقصد إليه أثر ظاهر، وهو أن يؤثر الإنسان نفسه على غيره، ولم يفعل هنا ذلك، بل آثر غيره على نفسه، أو سوَّى نفسه مع غيره، وإذا ثبت ذلك كان هؤلاء بُرءاء من الحظوظ، كأنهم عدُّوا أنفسهم بمنزلة من لم يجعل له حظ، وتجدهم في الإجارات والتجارات لا يأخذون إلا بأقل ما يكون من الربح والأجرة، حتى يكون ما حاول أحدهم من ذلك كسبًا لغيره لا له، ولذلك بالغوا في النصيحة فوق ما يلزمهم؛ لأنهم كانوا وكلاء للناس لا لأنفسهم؛ فأين الحظ هنا؟ بل كانوا يرون المحاباة لأنفسهم وإن جازت كالغش لغيرهم؛ فلا شك أن هؤلاء لاحقون حكمًا بالقسم الأول، بإلزامهم أنفسهم لا باللزوم الشرعي الواجب ابتداءً.
- ومنهم من لم يبلغ مبلغ هؤلاء، بل أخذوا ما أذن لهم فيه من حيث الإذن، وامتنعوا مما مُنعوا منه، واقتصروا على الإنفاق في كل ما لهم إليه حاجة؛ فمثل هؤلاء بالاعتبار المتقدم أهل حظوظ، لكن مأخوذة من حيث يصح أخذها، فإن قيل في مثل هذا: إنه تجرُّدٌ عن الحظ؛ فإنما يقال من جهة أنهم لم يأخذوها بمجرد أهوائهم تحرزًا ممن يأخذها غير ملاحظ للأمر والنهي، وهذا هو الحظ المذموم، إذ لم يقف دون ما حد له، بل تجرأ كالبهيمة لا تعرف غير المشي في شهواتها، ولا كلام في هذا، وإنما الكلام في الأول، وهو لم يتصرف إلا لنفسه؛ فلا يجعل في حكم الوالي على المصالح العامة للمسلمين، بل هو وال على مصلحة نفسه، وهو من هذا الوجه ليس بوال عام، والولاية العامة هي المبرأة من الحظوظ؛ فالصواب -والله أعلم-: أن أهل هذا القسم معاملون حكمًا بما قصدوا من استيفاء الحظوظ؛ فيجوز لهم ذلك بخلاف القسمين الأولين، وهما من لا يأخذ بتسبب أو يأخذ به، لكن على نسبة القسمة ونحوها.
• أهمية التفصيل في التفضيل وثمرته:
فتأمل هذا الفصل؛ فإن فيه رفع شبه كثيرة ترد على الناظر في الشريعة وفي
1 / 17
أحوال أهلها، وفيه رفع مغالط تعترض للسالكين لطريق الآخرة؛ فيفهمون الزهد وترك الدنيا على غير وجهه؛ كما يفهمون طلبها على غير وجهه؛ فيمدحون ما لا يمدح شرعًا، ويذمون ما لا يذم شرعًا.
وفيه -أيضًا- من الفوائد فصل القضية بين المختلفين في مسألة الفقر والغنى، وأن ليس الفقر أفضل من الغنى بإطلاق، ولا الغنى أفضل بإطلاق، بل الأمر في ذلك يتفصل (١)؛ فإن الغنى إذا أمال إلى إيثار العاجلة كان بالنسبة إلى صاحبه مذمومًا، وكان الفقر أفضل منه، وإن أمال إلى إيثار الآجلة؛ بإنفاقه في وجهه، والاستعانة به على التزود للمعاد؛ فهو أفضل من الفقر (٢)، والله الموفق بفضله.
* رسالة السَّخاوي «السِّر المكتوم»:
• تعريف عام (٣):
عمل السَّخاوي -رحمه الله تعالى- في رسالته هذه على إيراد النصوص المسندة -وساق بعضها بإسناده إلى رسول الله ﷺ، في مدح المال وذمه، وقصد
_________
(١) هذا الذي قرره السّخاوي في رسالته هذه «السر المكتوم»، وسيأتيك نقولات طويلة من وجوه وأدلة عديدة في نصرته وتأييده.
(٢) انظر في «المفاضلة بين الفقر والغنى»: «قواعد الأحكام» للعز بن عبد السلام (٢/٣٦٢-٣٦٥)، «فتاوى ابن الصلاح» (ص ٤٧-٥٠، ٥٢)، «تفسير القرطبي» (٣/٣٢٩ و٥/٣٤٣ و١٤/٣٠٦ و١٥/٢١٦ و١٩/٢١٣)، و«عدة الصابرين» (ص ١٩٣-١٩٥، ٢٠٣- ٢٠٤، ٢٠٨-٢٠٩، ٢١٧، ٢٨٤، ٣١٣-٣١٤، ٣١٧-٣٢٢)، «مجموع فتاوى ابن تيمية» (١١/٢١، ٦٩، ١١٩-١٢١، ١٩٥ و١٤/٣٠٥- ٣٠٦)، «الفتاوى الحديثية» (ص ٤٤- ٤٥)، ورسالة محمد البيركلي (ت ٩٨١هـ) «المفاضلة بين الغني الشاكر والفقير الصابر»، وهي مطبوعة عن دار ابن حزم - ببيروت، سنة ١٤١٤هـ، في (٦٤) صفحة.
(٣) ظفرت في موضوعها: بما ذكر ابن طولون في ترجمته لنفسه «الفلك المشحون» (٨٩): «تهذيب المقال في الفرق بين ما يحمد ويذم من المال»، وهو فيها -على غالب ظني على عادته- لم يخرج عما عند المصنف.
وفي «هدية العارفين» (١/٥٧٤): «كمال الآمال في بيان حال المال» لعبد الصمد الفارسي.
1 / 18
إلى التوفيق بينهما، بإيراد عبارات العلماء، مستأنسًا بفهومهم، معمّقا لشذرات كلامهم المتناثر في هذا الموضوع، على وجه فيه تأصيل مليح، واستدلال صحيح، وجمع رجيح، بعبارات وجيزة، ونقولات سلفية شهيرة، فجزاه الله عن الإسلام وأهله، والعلم وطلبته؛ خير الجزاء.
• صحة نسبة الرسالة للمصنف:
هذه الرسالة صحيحة النسبة لمؤلفها بيقين، دون أدنى ظن أو تخمين، فهو ذكرها في ترجمته المسماة «إرشاد الغاوي» (ق ٦٤/أ، و٨٠/أ، و١٥٧/ب، و١٩٤/أ، و٢٢٧/ب)، وكذا في مواطن من كتابه «الضوء اللامع» منها في ترجمته الشخصية عند سرد مؤلفاته (٨/ ١٨)، وذكرها في مواطن أخرى منه، هي:
- (١/ ٢٨٩) عند ترجمته (أحمد بن حسين بن علي الشهاب المرحومي الأصل، الأشموني المولد، القاهري، المديني، المالكي) قال: «ولازمني في أشياء، حتى قرأ علي من تصانيفي «السر المكتوم» ...»
- (٦/٢١١) في ترجمته (قايتباي الجركسي المحمودي الأشرفي ثم الظاهري) نعته بقوله: «... أحد ملوك الديار المصرية، والحادي والأربعون من ملوك الترك البهية، ويلقب بدون حصر بـ (الأشرف) أبي النضر» . وقال عنه: «وترجمته تحتمل مجلدات من الأمور الجليات والخفيات!!» . وقال بعده مباشرة: «وقد أشرتُ إليه في مقدمات عدة كتب وصلت إليه من تصانيفي ... كـ «رفع الشكوك بمفاخر الملوك»، ... وذكر كتابين آخرين وقال: «و«السر المكتوم في الفرق بين المالين المحمود والمذموم» ...»، وقال عن رسالتنا هذه بعد هذا بسطرين:
«وهو المرسل لي بالسؤال عما تضمنه الرابع (١) من المقال» .
قلت: أشار إلى ذلك في (ديباجة) الرسالة، بقوله: «فقد سئلت عما وقف
_________
(١) يريد رسالتنا: «السر المكتوم» .
1 / 19
عليه السلطان الملك الأشرف، أوحدُ الملوك، والمنفرد بما هو أدرى وأعرف، حفظه الله من جميع أركانه وجهاته، وبلّغه في الدارين النهاية من مسرّاته، ...» .
ونستفيد من هذا: أن رسالتنا هذه ألفها جوابًا على سؤال ورده من الملك الأشرف -رحمه الله تعالى-.
- (٩/٩٢) في ترجمة (محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن يوسف المحب بن الولوي ابن التقي بن الجمال بن هشام القاهري الشافعي)، قال في ترجمته:
«وكان قد قرأ عليّ «السر المكتوم في الفرق بين المالين المحمود والمذموم» وتردد إليّ في غير هذا» .
- (١١/٦٦) في ترجمة (أبي بكر بن أبي الفضل بن أبي البركات القسطلاني الأصل، المكي المولد والدار، الشافعي، وهو فخر الدين بن كمال الدين ابن كمال الدين محمد بن أحمد بن أبي الخير بن حسين بن الزين) (ت ٧٩٥هـ)، وقال عنه:
«وممن يكتسب بالشهادة بباب السلام وبالنساخة لعبد المعطي وغيره» قال:
«كتب للمشار إليه من تصانيفي عدة، وقرأ عليَّ منها: «الابتهاج»، و«السر المكتوم» ... وأجزت له» .
وذكر السَّخاوي رسالتنا هذه في كتب أخرى له، منها:
* «الأجوبة المرضية فيما سئل عنه من الأحاديث النبوية» (٢/٥٨٨) في جواب سؤال عن (عبد الرحمن بن عوف) وهل يدخل الجنة زحفًا؟ وبيَّن وهاء ذلك، وتعرض لمناقبه، واستطرد في سبب كثرة ماله، فقال ما نصّه:
«هذا مع أن كثرة ماله ﵁ إنما كانت ببركة دعائه ﷺ حيث قال له: «بارك الله لك» (١) بحيث كان يقول: «إنه لو رفع حجرًا لرجا أن يصيب تحته
_________
(١) أخرجه البخاري (٥١٦٧)، ومسلم (١٤٢٧) من حديث أنس.
1 / 20
ذهبًا» (١) . ولكون عامة ماله من التجارة، بل ثبت عن عائشة ﵂ وهي ممن أضيف إليها الحديث المسؤول عنه أنها قالت -وقد بعث إليها عبد الرحمن بمال-: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا يحنو عليكن بعدي إلا الصابرون»، سقى الله ابن عوف سلسبيل الجنة (٢) .
ونحوه عن أم سلمة ﵂ أنها سمعت النبي ﷺ يقول لأزواجه: «إن الذي يحنو عليكن من بعدي هو الصادق البار، اللهم اسق عبد الرحمن بن عوف من سبيل الجنة» (٣) .
أخرجهما الحاكم في «مستدركه»، وعنده -أيضًا- عن أبي هريرة رفعه: «خيركم خيركم لأهلي من بعدي» (٤) .
_________
(١) سيأتي تخريجه.
(٢) أخرجه أحمد (٦/٧٦-٧٧، ١٠٣-١٠٤، ١٢١، ١٣٥)، وفي «فضائل الصحابة» (١٢٤٩، ١٢٥٨)، والترمذي (٣٧٤٩)، وإسحاق بن راهويه (١٧٥٥)، والطحاوي في «المشكل» (٣٥٦٦)، وابن حبان (٦٩٩٥)، وابن سعد (٣/١٣٢-١٣٣)، والحاكم (٣/٣١٠-٣١١، ٣١٢)، والطبراني في «الأوسط» (٣٢٣٥، ٩١١١)، وأبو نعيم في «الحلية» (١/٩٨)، وابن عساكر (١٠/١٣١-١٣٢)، وهو حسن.
وفي الباب عن ابن عوف نفسه عند البزار (٢٥٩٠ -زوائد)، وأبي نعيم (١/٩٩) .
(٣) أخرجه أحمد (٦/٩٩، ٣٠٠-٣٠٢)، وابن سعد (٣/١٣٢)، وابن أبي عاصم في «السنة» (١٤١٢، ١٤١٣)، والحاكم (٣/٣١١)، والطبراني في «الكبير» (٢٣ رقم ٦٣٦، ٨٩٦)، وأبو نعيم في «المعرفة» (١ رقم ٤٧٧)، وابن عساكر (١٠/١٣٢-١٣٣) .
و«سبيل» ويقال «سليل» وهو ماء في الجنة، قاله ابن قتيبة في «غريب الحديث»، وتعقبه العسكري في «تصحيفات المحدثين» (١/٣٢٥) بقوله: «ولا أعلم أحدًا رواه «من سليل الجنة»، وإنما الرواية: «من سلسبيل الجنة»» .
قلت: هذا القسم من المفقود من «غريب ابن قتيبة» .
(٤) أخرجه الحاكم (٣/٣١١-٣١٢)، وأبو يعلى (١٠ رقم ٥٩٢٤)، وابن أبي عاصم في «السنة» (رقم ١٤١٤)، وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» (٢/٢٩٤)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (٧/٢٧٦- ٢٧٧)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (١٠/١٣١) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وإسناده حسن.
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وله شاهد صحيح على شرط الشيخين» . وأقره الذهبي. =
1 / 21
وكذا مع ما كان يصل به أمهات المؤمنين: «أوصى لهن بحديقة بيعت بأربع مئة ألف» (١)، إلى غير ذلك من صدقاته الفاشية وعوارفه العظيمة، حتى إنه أعتق في يوم ثلاثين عبدًا، وفي عمره ثلاثين ألف نسمة، وتصدق مرة بِعِيرٍ فيها سبع مئة بَعِير، وردت عليه تحمل من كل شيء، فتصدق بها وبما عليها، وبأقتابها، وأحلاسها.
وعن معمر عن الزهري قال: تصدق ابن عوف على عهد رسول الله ﷺ بشطر ماله أربعة آلاف، ثم تصدق بعد بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمس مئة فرس في سبيل الله وخمس مئة راحلة، وأوصى بعد موته بخمسين ألف دينار، وبألف فرس في سبيل الله، ولمن بقى من البدريين كل رجل بأربع مئة دينار، وكانوا مئة فأخذوها، وكان عثمان ﵁ فيمن أخذ (٢) .
ومن تكون الدنيا في يديه ويؤدي الحقوق منها ويتطوع بالأمور المستحبة فيها ولم تكن عائقة له عن الوصول إلى الله -تعالى-، ولا لها في قلبه مزية، ولا يفخر بها؛ خصوصًا على من دونه (٣)، ولا يكون بما في يديه منها أوثق منه بما عند الله، بحيث يحبسها عما شرع له صرفها فيه، مع التقتير على نفسه وعياله، وعدم إظهار نعمة الله ﷿، ولا ينفقها في وجوه الباطل التي لم تشرع، ولا يبذر يكون
_________
= وقال الهيثمي في «المجمع» (٩/١٧٤): «رواه أبو يعلى، ورجاله ثقات» .
وعند ابن أبي عاصم والحاكم: أن أبا سلمة بن عمرو بن عبد الرحمن بن عوف قال: «فباع عبد الرحمن حديقة بأربع مئة ألف، فقسمها في أزواج النبي ﷺ» . وانظر «السلسلة الصحيحة» (١٨٤٥) .
(١) انظر التخريج السابق.
(٢) انظر هذا الأثر عند: ابن عساكر (١٠/١٣٩)، والذهبي في «السير» (١/٩٠)، وما سيأتي في التعليق على (ص ٩٦-٩٧) .
(٣) الفخر والعجب بالمال، أسوأ مراتب العُجب، ودواءه: انظر في كلِّ ساقط خسيس، وهو أغنى منك، فلا تغتبط بحالةٍ يفوقك فيها من ذكرت، واعلم أن عجبك بالمال حُمقٌ لأنّه أحجارٌ لا تنتفع بها إلا بأن تُخرجها عن مُلكك بنفقتها في وجهها فقط، والمال -أيضًا- غادٍ ورائحٌ، وربّما زال عنك، ورأيته بعينه في يد غيرك، ولعلّ ذلك يكون في يدِ عدوّك، فالعُجب بمثلِ هذا؛ سُخفٌ، والثقة به غرورٌ وضعفٌ.
1 / 22
ذلك زيادة له في الخير، قال ﷺ: «نعم المال الصالح للمرء الصالح» (١) .
وقيل فيما للطبراني في «الأوسط» عن ابن عباس: يا رسول الله! من السيد؟ قال: «يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ﵈» قالوا: فما في أمتك من سيد؟ قال: «بلى: رجل أعطي مالًا حلالًا، ورزق سماحة، وأدنى الفقير، وقلَّتْ شكاته من الناس» (٢) .
وفي حديث مرفوع لأحمد وغيره: «لا بأس بالغنى لمن اتقى، ...» (٣) .
وفي آخر: «من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة؛ مات والله عنه راض» (٤) .
وقال ابن عمر ﵄: «لو كان عندي أُحد ذهبًا أعلم عدده وأخرج زكاته، ما كرهت ذلك وما خشيت أن يضرني» (٥) .
وقال ﷺ: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» (٦)، وقال: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» (٧) . إلى غيرها مما بيَّنتُه في «السر المكتوم»، وكم في الصحابة ممن اتصف بجميع صفات الخير التي ترغب في الإكثار لها كعثمان بن عفان، وطلحة الفياض، والزبير بن العوام، وثلاثتهم من العشرة المشهود لهم بالجنة
-أيضًا-، وسعد بن الربيع، وغيرهم من سادات المسلمين، وترك ابن مسعود سبعين ألف درهم، فيتعين استثناء هؤلاء من عموم: «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل
_________
(١) سيأتي تخريجه في صلب رسالة السخاوي (ص ٨٤) .
(٢) سيأتي تخريجه في التعليق على رسالة المصنف (ص ٨٦) .
(٣) سيأتي تخريجه في التعليق على رسالة المصنف (ص ٨٨) .
(٤) سيأتي تخريجه في التعليق على رسالة المصنف (ص ٨٧) .
(٥) سيأتي تخريجه في التعليق على رسالة المصنف (ص ٨٧) .
(٦) سيأتي تخريجه في التعليق على رسالة المصنف (ص ١٦٩) .
(٧) سيأتي تخريجه في التعليق على رسالة المصنف (ص ٨٦) .
1 / 23
أغنيائهم بخمس مئة عام» (١)، أو يخصّ بفقراء طبقتهم وهو أظهر» .
ونقلتُ هذا النَّصَّ بطوله للتنبيه على عناية المصنف في هذه المسألة، وله فيها أجوبة متعددة، ظفرتُ بواحد منها بخطِّه، وسأعمل على إثباته على إثر رسالتنا هذه، والله الموفق.
* وذكره في موطن آخر من «الأجوبة المرضية» (٣/١٠٠٢) مختصرًا
-أيضًا-، مقتصرًا على «السر المكتوم» دون تتمة العنوان.
* وذكره -أيضًا- في كتاب آخر له، هو «استجلاب ارتقاء الغرف بحب أقرباء الرسول ﷺ وذوي الشرف» (٢/ ٦٠٥) . قال بعد أن أورد حديث علي: «اللهم ارزق من أبغضني وأهل بيتي كثرة المال والعيال» (٢) قال: «وقد بيّنتُ -على تقدير ثبوته، مع إيراد نحوه من الأحاديث- الجمع بينهما وبين دعائه ﷺ لخادمه سيدنا أنس ﵁ بكثرة المال والولد (٢) في كتابي: «السر المكتوم في الفرق بين المالين المحمود والمذموم» ...» .
* وذكره السخاوي كذلك في «إجازته لتلميذه شرف الدين أبي بكر بن محمد بن سلطان الحيشي» المرفقة في آخر نسخة تشستربتي من كتاب «الجواهر المكللة» ضمن (أسماء مصنفاته) التي سمعها عليه.
_________
(١) أخرجه الترمذي (٢٣٥٣، ٢٣٥٤)، والنسائي في «الكبرى» في كتاب التفسير (٢/٩٢ رقم ٣٦٨)، وابن ماجه (٤١٢٢)، وأحمد (٢/٢٩٦، ٣٤٣، ٤٥١، ٥١٣، ٥١٩)، وابن أبي شيبة (١٣/ ٢٤٦)، وهناد في «الزهد» (٥٨٩)، وأبو يعلى (٦٠١٨)، وأبو زكريا المطرز في «فوائده» (رقم ٨٨، ٨٩)، وابن حبان (٦٧٦)، وأبو نعيم في «الحلية» (٧/ ٩١، ٩٩، ١٠٠ و٨/٢١٢، ٢٥٠)، و«ذكر أخبار أصبهان» (٢/٥٩)، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (٢/٧٣٦ رقم ١٣٥٢)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (٥/٣٤ و٧/٢٢٥)، والبيهقي في «البعث والنشور» (ص ٢٤١ رقم ٤٠٨) عن أبي هريرة مرفوعًا. والحديث له شواهد، وهو صحيح.
(٢) سيأتي عند المصنف، وتخريجه هناك.
1 / 24
وذكر إسماعيل باشا البغدادي في «إيضاح المكنون» (٤/١٢) كتابنا هذا بإسقاط كلمة (المالين)، بينما أثبتها في «هدية العارفين» (٢/٢٢٠) -وعنه صاحب «معجم الموضوعات المطروقة» (٢/١٠٧٥) -، بالإفراد هكذا «المال» !.
• وصف النسخة الخطية المعتمدة في التحقيق:
اعتمدتُ على نسخة خطية نفيسة وجيدة ووحيدة (١) -فيما أعلم- للكتاب، محفوظة في مكتبة أيا صوفيا، تحت رقم (١٨٤٩)، في (٦٤) ورقة، وفيها ورقة مكررة وفي كل ورقة لوحتان، في كل لوحة تسعة أسطر، منسوخة في حياة المصنف، وذلك في سنة (٨٨٠هـ)، جاء في آخرها:
«تم الكتاب بحمد الله وعونه، وحسن توفيقه، وذلك على يد الفقير المعترف بالتقصير أبو الفضل الأعرج - غفر الله له، ولمن دعا له بالمغفرة، ولجميع المسلمين-، وكان الفراغ منه عام ثمانين وثماني مئة، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وعترته الطيبين الطاهرين، وسلم تسليمًا أبدًا» .
* ترجمة الناسخ:
ترجم المصنف في «الضوء اللامع» (١١/١٢٩ رقم ٤١٦) للناسخ فقال:
«أبو الفضل بن عبد الوهاب بن عبد اللطيف بن علي بن عبد الكافي السنباطي القاهري الشافعي الكاتب الأعرج ويسمَّى محمدًا، نشأ فقرأ القرآن، وجوَّد الخَطّ على يس، وبرع وتكسَّب بالنساخة مع التصدي للتكتيب في أيام، بل ينوب في الأشرفية وغيرها في ذلك، وربما اشتغل يسيرًا عند بلديه عبد الحق وغيره، وبعد أبيه جلس في دكانه بالشرب قليلًا ثم ترك، ويجتمع مع محمد بن محمد بن عبد الرحمن السنباطي الكتبي في علي» .
_________
(١) ذكر لها في «الجامعة الإسلامية» نسخة أخرى في (٦) ورقات، ولما طلبتها وجدتها «الجوهر النفيس» وهو منظومة في «المدلسين» ولا صلة لها بكتابنا هذا.
1 / 25