أما الجنرال الكونت شرميلوف، فقد كان حاكما لبعض مدن روسيا الشهيرة، ولبث في هذه الوظيفة إلى أن استقدمه القيصر بول الأول إليه بمدينة سان بطرسبرج وقربه منه وخصه برعايته، وكان الجنرال أرمل قد تركت له زوجته ابنة تدعى فاننكا، ورثت عن أمها مالها وجمالها وكبرياءها، وكانت تزعم الأم أنها من سلاسة بعض قواد التتر الشهيرين الذين غزوا الروسيا في القرن الثالث عشر تحت قيادة جنكيز خان، وقد خلفت البنت أمها في هذا الاعتقاد، وزادها تكبرا وإعجابا بنفسها وجودها في وسط رفيع، حيث كان أبوها من ذوي الحكم، ولم تجد حولها إلا كل مسرع في خدمتها وتنفيذ أوامرها، ولا يخفى تأثير مثل هذه التربية على نفس الإنسان، خصوصا إذا كانت النفس قد جبلت على الأنفة وحب التعالي، ولعدم تمكن والد فاننكا من مباشرة تهذيب ابنته عهد بتربيتها إلى معلمات إنكليزيات، فبدلا عن أن يدمثن أخلاقها ويلن عريكتها ساعدن طبيعتها الفطرية الميالة إلى العظمة والكبرياء على النمو، بفضل ما جبلن عليه من حب الذات المعروف في قومهن.
وقد كانت فاننكا ميالة بحكم الطبع إلى معرفة ما تمتاز به الأشراف من المعارف، وطرق المعاشرة العالية؛ فلم يغب عنها حفظ أنساب العائلات الشهيرة في قومها والألقاب الرسمية التي يمتاز بها كل شريف وعظيم، وهو علم ليس من السهل الإحاطة به في بلاد استبدادية مثل الروسيا، تكثر فيها المميزات ولا تحصى الألقاب والامتيازات، فلم تهمل فاننكا يوما أن تنادي شخصا بغير اللقب الممنوح له رسميا في الهيئة الاجتماعية الروسية، وكانت تحتقر كل من كانت ألقابه أقل من «السمو» و«السعادة»، أما الخدمة والعبيد فأظن أن القارئ لا يغيب عنه أنها كانت لا تشعر بأنهم من العالم في شيء، فغاية ما كانت تعتبرهم أنهم حيوانات بلحى (أغلب الروسيين لا يحلقون لحاهم)، بل هم أحط عندها من فرسها وكلبها العزيزين لديها. وقد كانت فاننكا - كباقي سيدات بلادها رفيعات المقام - متقنة لفن الموسيقى، وتتكلم أغلب لغات أوروبا الشهيرة كلغة أجدادها.
أما ملامح وجهها فكانت أبلغ ما يمثل عواطفها؛ فهي جميلة جمالا يخالطه هيبة وكبرياء، ذات عيون واسعة سوداء، وأنف مستقيم، وفم دقيق مرفوع الشفتين يمثل العظمة مجسمة، ولم تكن فاننكا في عين قريناتها والكبيرات عنها مقاما سوى فتاة عادية الجمال لا تختلف عنهن شيئا مذكورا، أما في عيون من دونها؛ فكانت كدمية من دمى آلهة اليونان القدماء، ترتد عنها الأبصار خاشعة، وهي في عظمتها لا تكاد توليهم منها التفاتة.
ولما بلغت فاننكا السابعة عشرة طلبت معلمتها الإنكليزية الاستقالة؛ لتأثير برد روسيا على صحتها، فمنحتها مزودة بالشكر والمنة، وبقيت فاننكا وحيدة ليس لها في العالم إلا حب والدها وحنوه الأعمى؛ إذ يراها خلاصة الكمال البشري خلقا وخلقا.
وفي ذات يوم ورد للجنرال شرميلوف كتاب من صديق له من الصبا يدعى الكونت روميلوف، كتبه إليه وهو على سرير وفاته، وكان ذلك الصديق قد اعتزل خدمة الحكومة إثر خلاف وقع بينه وبين بوتمكين رجل روسيا الشهير، ثم انقطع في منزله بعيدا عن بطرسبرج ومشاغبها بمئات من الفراسخ، حيث قضى بقية أيامه حزينا على حظه، وعلى الأخص لتركه ولده الوحيد فيدور في العالم بلا معين ولا نصير، فكتب وهو في مرضه الأخير إلى صديقه الجنرال شرميلوف يوصيه بابنه فيدور خيرا، ويرجوه باسم الصداقة القديمة العهد أن يسعى لدى القيصر لما له عنده من المكانة في تعيين ابنه ضابطا ببعض الفرق حفظا لمستقبله من الضياع، فأسرع الجنرال شرميلوف بإرسال جوابه إلى صديقه يبلغه فيه أنه مستعد لخدمته جهد طاقته، وأن ابنه سيجد منه أبا ثانيا حريصا على سعادته.
ولم يقدر لروميلوف أن يقرأ الجواب؛ إذ ودع العالم قبل وصوله، فاستلمه ابنه فيدور، ولما علم ما فيه قصد بطرسبرج يحمل نعي أبيه لصديقه، ويلتمس منه إنجاز وعده المبرور، وكان الكونت قبل وصول فيدور إلى المدينة قد سعى لدى القيصر، وتحصل له على رتبة ملازم ثان بفرقة سيمونوسكي، بحيث استلم فيدور مهام وظيفته في اليوم التالي لوصوله.
ولم يلبث فيدور في منزل الجنرال إلا ريثما قضى ليلته، وتأهب لمهمته الجديدة، ولكنه رأى فاننكا فحل حبها من قلبه محلا وجده خاليا فتمكن منه، وقد ساعد على تمكن هذا الحب من قلب الفتى ما حباه به الجنرال من المنن، ثم ما صادفه من هيبة الفتاة التي استقبلته عندما قدم لها استقبال ملكة لبعض رعاياها، ولم يكن الفتور الذي قابلته به إلا ليزيد في قدرها لديه، فكان أول وآخر تذكار بقي أثره في قلب فيدور من بطرسبرج صورة ملائكية أوحت إليه الحب من سماء الجمال، فصار من المؤمنين برسول الغرام، ومن أخلص الأنصار له والمجاهدين فيه.
أما فاننكا فلم تكد تشعر بوجود فيدور، وبالتالي فماذا يهمها من ملازم ثان في بعض الفرق لا اسم له يمجد كاسم أبيها، ولا مستقبل ينتظر فتنفتح له الآمال ولا ثروة تحل محل هذا وذاك؟ ففاننكا من سماء كبريائها كانت تؤمل إذا ألقت بنظرها إلى العالم أن تصير زوجة لأمير من أمراء المملكة يجعلها سيدة من سيدات روسيا، إن لم يتح لها حظها تحقيق أمل أسمى من ذلك نترك لقصص ألف ليلة وليلة وأمثالها عهدة وصفه وبيانه.
وبعد أن مضت على المقابلة الأولى بضعة أيام رجع فيدور من المعسكر؛ ليودع الجنرال قبل الرحيل إلى الحرب؛ لانضمام فرقته إلى الجيوش المسافرة إلى إيتاليا تحت إمرة سوفاروف القائد العام لجيوش الروسيا. وقد قال فيدور للجنرال ساعة وداعه: إنني راحل يا مولاي، فإما موت في سبيل الشرف، وإما بلوغ لأمل يجعلني جديرا بالعناية والحماية التي أوليتني إياهما.
ولما تمثل فيدور أمام فاننكا هذه المرة ساءلت نفسها عما إذا كان هذا الفتى هو الذي قدم لها من أيام ولم تمنن عليه بالتفاتة، أم هو غيره وقد تجلى أمامها الآن في ملبسه الحربي كأحد أبطال القدماء وقد أثر فيها جمال منظره وفصاحة لسانه، وقد كانت نتيجة إعجابها به هذه المرة أن تنازلت فقدمت له يدها للوداع لما دعاها والدها للسلام عليه، وكان ذلك فوق ما يؤمل فيدور، فجثا على ركبته خاشعا أمامها كخشوعه لملكة ذات ملك وتاج، وأخذ يدها بين يديه المرتجفتين فرفعها إلى شفتيه، ولم يكد يقبلها إلا لمسا، فأحست الفتاة بحر أنفاسه فاعتراها لقبلته هزة انتفض لها جسمها وخفق قلبها وتوردت وجنتاها، فلما أدركت حرج موقفها سحبت يدها من يدي الفتى فجأة؛ حتى خشي أن يكون وداعه قد جرح إحساسها، فلبث في مكانه صامتا وعيناه مرفوعتان إليها ترجوان العفو والسماح، فطمنت خاطره بابتسامة أحيت ميت آماله؛ فهب واقفا وقد استولى عليه فرح عظيم لا يدري من أين أتى وكيف أتى، إنما أدرك أمرا واحدا؛ وهو أنه سعيد ولو كان على وشك أن يفارق مالكة فؤاده.
Shafi da ba'a sani ba