تمهيد
سيرة الأميرين الجليلين الشريفين الفاضلين
القاسم ومحمد ابني جعفر ابن الإمام
القاسم بن علي العياني
ويلفريد مادلونغ
السيرة كمصدر تاريخي(1)
سيرة الأميرين القاسم ومحمد ابني جعفر بن القاسم العياني، عمل تاريخي، يصف حقبة متأخرة نسبيا من تاريخ الدولة العلوية باليمن، تلك الحقبة الناجمة عن حركة دينية تعود أصولها إلى أواخر القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي.
Shafi 1
وجد الأميرين، ومؤسس أسرتهما هو القاسم بن علي العياني. وهو حفيد محمد بن القاسم بن إبراهيم الرسي، عم الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين مؤسس الدولة الزيدية باليمن. وكان القاسم العياني قد دعا لنفسه لوقت قصير عام 383ه/993م(2) ، والمعروف أنه كان يقيم بترج من بلاد خثعم(1)، ثم عاد للثورة عام 388ه/988م، ففتح صعدة واستولى على صنعاء، وحكم متلقبا بالمنصور بالله. وقد اعترف به أكثر الزيدية باليمن باعتباره إمام الوقت وإن لقي معارضة من بعض أعقاب الهادي وعلويين آخرين. وفي السنتين الأخيرتين من حياته وحكمه فقد السيطرة على صنعاء وصعدة، وبقي بشكل مستمر في مقره ببلدة عيان(2). وهناك دفن بعد وفاته في 9 رمضان 393/ 11 يوليو 1003م.
Shafi 2
وقد أدعى وراثته وخلافته بداية أحد أبنائه الصغار المسمى بالحسين المهدي لدين الله(1). دعا الحسين لنفسه في صفر عام 401ه/ سبتمبر - أكتوبر 1010م، ووجد أنصارا بين قبائل وعشائر حمير وهمدان وأهل المغارب. واستطاع كوالده السيطرة على صعدة وصنعاء لفترة قصيرة. وما لبثت المعارضة له بين أعقاب الهادي والأشراف الآخرين أن تزايدت وخاصة بعد أن تجاوز دعوى الإمامة إلى ادعاء المهدية، وبذلك وضع نفسه فوق كل الأئمة السابقين. وانقلبت القبائل ضده فقتل في معركة عنيفة مع همدان، قاتل فيها مثل "أسد مغضب"(2)، بذي عرار على مقربة من ريدة في الرابع من صفر 404ه/ 15 أغسطس 1013م(3). لكن الاعتقاد بمهديته لم يمت مع موته في المعركة السالفة الذكر. إذ ظل كثيرون من أنصاره ينكرون موته(4) ، ويتوقعون رجعة سريعة له يملأ فيها الأرض عدلا كما ملئت جورا. ولهذا السبب فإن أقاربه الذين ثاروا من بعده لم يدعوا الإمامة بل ظلوا يعتبرون أنفسهم أمراء ووكلاء عن الإمام الغائب مستعدين للتنازل عن السلطة، وتسليمها للمهدي لدين الله بمجرد ظهوره. وقد عرف أتباعه والمتحزبون لمهديته بعد وفاته بالحسينية أو الشيعة الحسينية، وهو اسم كانوا يستعملونه هم أيضا علما عليهم كما تظهر السيرة التي بين أيدينا(1).
Shafi 4
تولى قيادة الحركة الحسينية بعد غياب الحسين المهدي أخوه جعفر بن القاسم(1). وكان جعفر أكبر من أخيه الحسين بثلاثة عشر عاما، وقد تولى على صنعاء في حكم والده عام 391ه/1001م(2). وفي إمامة أخيه الحسين ولي صنعاء وصعدة أيضا(3). ولا تذكر المصادر شيئا معتبرا عن نشاطه بعد مقتل أخيه. إذ يبدو أن المتحدثين عنه يستندون جميعا إلى أخبار في تاريخ لصنعاء لم يكن مؤلفه يهتم إلا لما يتصل بالمدينة مباشرة. لكنهم يذكرون أن جعفرا وصل إلى صنعاء حوالي نهاية العام 413ه/ مارس 1023م قادما من عيان - التي يبدو أنها كانت دار المقام الدائم للأسرة - واستطاع دخولها بمساعدة حمير وهمدان. ثم ما لبث أن غادر صنعاء بعد شهر متجها إلى صعدة التي دخلها وأمر بإحراق بعض المنازل فيها، ربما لبعض أعقاب الهادي لموقفهم السلبي من ادعاء الحسين للمهدية. ثم عاد من هناك إلى عيان. ثم ما لبث أن استولى على صنعاء من جديد في صفر 415ه/ إبريل - مايو 1024م(4) . وفي عام 416ه/1025م ثار عليه الهمدانيون والحميريون وسيد مسور، وحاصروه في بيت شعيب لكنه استطاع الصمود(1). وتذكر المصادر أنه عاد بعدها لدخول صنعاء بدعوة من همدان في شهر ربيع 429ه/ شتاء 1037 -1038م(2). وعاد إلى المدينة مرتين عام 431ه/1039- 1040م. لكن شريفا ثائرا آخر هو أبو الحسن بن عبدالرحمن ما لبث أن استولى على صنعاء أواخر ذلك العام(3). وتمر سنوات سبع ويأتي العام 438ه/1046 -1047م فيقدم جعفر إلى صنعاء من جديد معينا هذه المرة للإمام الزيدي أبي الفتح الناصر الديلمي، الذي ما لبث أن سماه أميرا للأمراء، ومنحه ربع خراج البلاد. ولم يطل عهد الوئام بين العلويين فبدآ يتشاجران، ونشبت بينهما "عدة معارك" في إقليم أثافت وعجيب(4). وما لبثت خصوماتهما أن انتهت بإعلان علي بن محمد الصليحي للدعوة الإسماعيلية بجبل مسار لصالح الخلافة الفاطمية بالقاهرة في جمادى الآخرة 439ه/ ديسمبر 1047م. وقد أدى ذلك إلى تغيير جذري في الساحة السياسية باليمن.
Shafi 6
تبدأ "سيرة الأميرين" موضوع الدراسة هنا بثورة الصليحيين الإسماعيلية. ذلك أن موضوعها الرئيس هو صراع الأميرين، ابني جعفر بن القاسم مع الصليحيين. أما مؤلف السيرة فيعلن أنه سيبدأ سيرة الأميرين من حيث انتهت سيرة الإمام المهدي لدين الله(1). ويبدو أن السيرة المكتوبة للمهدي لدين الله ضاعت دون أن تترك أثرا في أعمال المؤرخين اللاحقين لليمن. أما سيرة الأميرين ابني أخ المهدي فقد بقيت لحسن الحظ، دون أن تترك أيضا آثارا كثيرة في أعمال الدارسين. إذ لم يذكرها بروكلمان كما أن أيمن فؤاد سيد غفل عنهما في عمله الصادر حديثا عن مصادر تاريخ اليمن في العصر الإسلامي(2). ولم يشر يحيى بن الحسين بن القاسم (ت 1100ه/ 1689م) إلى السيرة حينما ذكر مصادره لعمله التاريخي أنباء الزمن في أخبار اليمن(3). لكن من المؤكد أنه استعملها في مختصره لأنباء الزمن المعروف بغاية الأماني بشكل مباشر أو غير مباشر، بل إنه أشار إلى السيرة مرة في أخباره باسم سيرة الشريف(4) . ولم يطلع على السيرة في حدود علمي من بين المؤرخين المحدثين غير محمد الأكوع الحوالي في سياق نشرته لتاريخ اليمن لعمارة(1)، إذ أشار إليها باسم سيرة ذي الشرفين منبها إلى أهميتها كمصدر لتاريخ مؤسس الدولة الصليحية من حيث إنها تكمل وتصحح المعلومات المأخذوة من المصادر المعروفة من قبل. ولم يشر الأكوع إلى ماهية المخطوطة التي استعملها للسيرة(2). ولست أعرف الآن إن كانت للسيرة مخطوطة أخرى غير الحاضرة في مكتبة الجامع الكبير بصنعاء، المصادرة بعد الثورة اليمنية عام 1962 وتقع ضمن مجموع متنوع.
وتحتفظ دار الكتب المصرية بصورة فلمية عن مخطوطة صنعاء تحت رقم 1077(3). وقد حصلت على صورة عن ذلك الفيلم(4).
Shafi 8
ويبدو لي أننا لا نعرف عن مؤلف السيرة مفرح بن أحمد الربعي غير ما ذكره هو نفسه في السيرة. أما نسبته: الربعي، فيبدوا أنها قبلية(1) وقد تشير إلى ربيعة خولان في ناحية صعدة. ويذكر هؤلاء مرارا في السيرة بين أنصار الأميرين. لكن هناك عدة بطون قبلية أخرى باسم ربيعة اليمن. ويظهر مفرح باعتباره شاهد عيان في كثير من الوقائع والأحداث التي يقصها ابتداء من العام 416ه/ 1069م(2). والمرجح أنه دخل في خدمة الأميرين قبل هذا التاريخ كخطيب وكشاعر رسمي. وتذكر في السيرة أشعار كثيرة له نظمها في الانتصارات ومناسبات أخرى. وقد كلفه الشريف الفاضل مرة بنظم شعر باسمه للأمير جياش بن نجاح، حاكم زبيد، يشكره فيه على مساعداته العسكرية والمالية، وقد أرسله من قبله لينشد جياشا تلك القصيدة، فعاد بهدايا كثيرة للأميرين من عند جياش(3). وعندما استولى الفاضل على صعدة عام 463ه/ 1071م طلب من مفرح إنشاء خطبة وإلقاءها بجامع الهادي بصعدة(4). وعندما قتل الفاضل قام مفرح بإلقاء مرثية الدفن بالحضن(5). وعندما نشب نزاع بين الأمير ذي الشرفين وأخيه سنان الدولة أحمد قام مفرح بالتوسط في النزاع بين الطرفين(6) . وفي رجب عام 485ه/ أغسطس عام 1092م كلفه الأمير عمدة الإسلام جعفر بن ذي الشرفين وخليفته بكتابة السيرة(1)، وأتاح له استعمال رسائل ووثائق تتصل بتاريخ الأميرين. وقد اقتبس مفرح فعلا من بعض الوثائق بشكل مطول في السيرة.
ويورد مفرح بالإضافة إلى تلك الوثائق والرسائل أقوالا وتقارير لشهود عيان يذكر أحيانا أسماءهم. كما أنه يستخدم في كثير من الأحيان تقارير ومعلومات أخذها من الأميرين نفسيهما. أما مصدراه الرئيسان للأحداث والوقائع السابقة على دخوله في خدمة الأميرين فهما نصيرا الشريف الفاضل وصاحباه: الفقيه أبو الحسن علي بن محمد بن عبدالملك بن أبي الجيش، وسلامة بن علي بن محمد المحلي(2). ويبدو أن هذين الرجلين رافقا الشريف الفاضل منذ بداية حياته السياسية، إذ كانا معه في الهرابة أثناء صموده الشجاع في وجه حصار الصليحيين عام 448ه/ 1056م، وظلا معه بعد احتجاز الصليحيين له. وكان سلامة مهتما بتأمين غذائه، وحاجاته الشخصية الأخرى(3). ورافقه سلامة في منفاه الاختياري بعد خروجه من الأسر، ومضيه من اليمن إلى ترج ومكة (451-459ه/1059-1067م).
Shafi 10
أما المخطوطة الباقية من السيرة فيبدو أنها عبارة عن مختصر للسيرة نفسها. ففي نهاية المخطوطة يذكر الناسخ أنها "مختصر من كتاب السيرة"(1). وفي الحديث عن الحملة على صنعاء يحيل المختصر المجهول على السيرة الكاملة أو كتاب السيرة من أجل تفصيل أكبر للأحداث(2). وفي بعض المواطن يشار إلى إغفال بعض التفاصيل دون أن نعرف إن كان الإغفال قد أتى من جانب المؤلف أو المختصر. ولا نستطيع أن نحدد مدى مسؤولية كل من المؤلف والمختصر في كثير من الأحيان، من حذف بعض جزئيات المعارك وحتى نهاية النص(3). ويمكن القول إن اختصارات النهاية حدثت بعد كتابة السيرة لكنها يمكن أن تكون قد أتت من جانب المختصر كما يمكن أن تكون قد أتت من جانب الناسخ. ويذكر مفرح نفسه في بداية السيرة أنه سيعرض عن تفاصيل كثيرة في عرضه(4). لكن من جهة ثانية، فإن الصيغة التي بين أيدينا للسيرة هي من التفصيل بحيث يصعب وصفها باعتبارها موجزا لها.
Shafi 11
سأحاول هنا أن أعرض موجزا لأحداث حيوات أشراف بني القاسم كما أوردتها السيرة. كان عبدالله أحد أبناء جعفر بن القاسم أول الثائرين على علي بن محمد الصليحي في ناحية الحيمة متزعما تحالفا قبليا(1). وقد أرسل الصليحي جيشا لمواجهته فهزم عبدالله وأسر واقتيد إلى مسار، مقر الصليحي. وبعد بعض الوقت أطلق الصليحي سراحه بعد أن استحلفه وواثقه ألا يثور عليه من جديد. ولا نسمع شيئا بعد ذلك عنه. ثم ثار الأب جعفر بن القاسم، بمساعدة وجهاء حمير وهمدان. لكنه ما لبث أن هزم وأسر في بيت برار(؟)(2). وقد اقتيد إلى مسار، وأطلق سراحه بعد حين على أثر تعهده بعدم الثورة ثانية(3). وغاد الشريف إلى الحجاز، وكان قد بلغ من العمر عتيا، فخرج من الحياة السياسية.
Shafi 12
وفي عام 444ه/1052 - 1053م هزم الصليحي أولا أبا حاشد بن الضحاك، زعيم همدان، وحاكم صنعاء، في معركة صوف(1)، ثم الإمام أبا الفتح الديلمي في نجد حاج(2). عندها تحولت أنظار التحالف القبلي المعادي للصليحيين إلى الشريف الفاضل وحمزة، ابن الإمام السالف الذكر أبي هاشم.
Shafi 13
وقد تنبه الصليحي إلى الاتجاهات الجديدة للرياح فأرسل رسالة تحذير إلى الشريف الفاضل من تهامة، فأجاب عليها الفاضل برفض قاس. وفي عام 447ه/ 1055م ثار الشريف الفاضل واحتل صعدة، لكنه سرعان ما انسحب منها إلى بلاد بني صريم عندما وصل إلى علمه زحف الصليحي من تهامة باتجاه صنعاء. وقد عانى الشريف الفاضل هزيمة قاسية أمام الصليحيين بقراتيل على مقربة من حاز، فتراجع مع أسرته بما في ذلك أخوه ذو الشرفين، وأعوانه، وألفا مقاتل مع أسرهم إلى حصن الهرابة ببلاد وادعة، حيث تحصن وعزم على المقاومة حتى النهاية. وهناك استطاع أن يصمد للحصار الصليحي سبعين يوما (منذ بداية جمادى الأولى وحتى العاشر من رجب 448ه/ من منتصف يوليو حتى 23 أكتوبر 1055م). وتورد السيرة وصفا حيا مؤثرا للقتال الشرس، والمصاعب والمجاعات التي نزلت بالمحاصرين(1). وفي النهاية ضمن لهم الصليحي انسحابا حرا، وصادر أسلحتهم ووزعها على جنده، ولم يحتفظ في يده بغير الشريف. وأرسل الفاضل إلى صنعاء حيث بقي هناك محتجزا زهاء عام ونيف. وقد وضع في البداية تحت حراسة مشددة، لكن عندما تبين للصليحي أن شبهة الائتمار من جانب الشريف للهرب غير صحيحة، سمح له بحرية حركة محدودة. واصطحبه الصليحي معه في المحرم من العام 450ه/ مارس 1058م في حملته على يعفر بن أحمد الكرندي خلال تهامة فالقحمة(1) فزبيد وعرد (؟)(2) طوال تسعة أشهر. وقد أرسل الشريف رسالة إلى والده جعفر من هناك عندما علم بمجيء الأخير إلى اليمن من الحجاز وبلوغه الجبجب لزيارة أسرته، راجيا أن يجيء إلى معسكر الصليحي ليعمل على إطلاق سراحه. وعند وصول جعفر إلى عرد في رمضان 450ه/ أكتوبر - نوفمبر 1058م استسلم الكرندي للصليحي، وسقط الشريف جعفر وابنه الفاضل مريضين، وعاد الجميع إلى صنعاء حيث أمر الصليحي طبيبه الخاص بمعالجة الشريفين. ومات جعفر بن القاسم في ذي الحجة 450ه/ يناير - فبراير 1059م عن عمر يناهز الخمسة والثمانين عاما. فانتهز الصليحي حدث الوفاة ليطلق سراح الشريف الفاضل من أجل تعزية أسرته عن وفاة الوالد، وزوده بما تحتاجه الرحلة، كما أعطاه مخصصا شهريا(3).
Shafi 15
ولم يمكث الشريف الفاضل طويلا مع أسرته بل آثر أن يغادر اليمن، ليس خوفا على نفسه، كما تؤكد السيرة، بل تورعا من أن يبقى تحت سيطرة الصليحيين، الذين كانوا ينتظرون منه أن يظهر في بلاطهم بين الحين والآخر، وأن يصاحبهم في غزواتهم، وهكذا خرج مع أخيه ذي الشرفين، وقلة من أتباعه سرا باتجاه مذاب بالجوف، ماضيا خلال بلاد بني بحر، متجاوزا صعدة، خائفا أن تؤذيه بعض القبائل أو تحتجزه تقربا للصليحي، متابعا مسيرته السريعة عبر بدر إلى بلاد عنز بن وائل حتى وصل إلى ترج ببلاد خثعم، وهي المقر القديم للأسرة منذ عهد جده. وكان بعض أفراد الأسرة لا يزالون يقيمون بترج، ولهم صلات حسنة بالبطون القبلية بالمنطقة. وهناك تزوج ذو الشرفين بابنة عمه سليمان بن القاسم بن علي، أما هو فتزوج امرأة من آل صهيب.
Shafi 16
وما أن استقر به المقام بترج حتى أرسل أخاه إلى مكة بهدية عبارة عن فرسين وبغلتين لشريفها السليماني شكر بن أبي الفتوح، أمير مكة. وكان شكر من أصدقاء الأسرة، لذا فقد كاتبه الشريف الفاضل أثناء الصراع مع الصليحي طالبا مساعدته لكنه لم يحظ بجواب(1). سار ذو الشرفين ومرافقوه قاصدين مكة عبر تربة وذات عرق في رجب 452ه/ أغسطس 1060م(2). ثم أدوا العمرة وانتظروا فلما حضر الحج أدوا الفريضة أيضا. وفي النهاية استقبلهم الأمير شكر بالترحاب، ومنحهم ذهبا وهدايا أخرى مقابل هديتهم. كما أرسل رسالة إلى الشريف الفاضل مع ذي الشرفين لم تذكر السيرة محتواها. لكن يبدو أن الشريف شكر أبدى في الرسالة رغبة في أن يزور الشريف الفاضل مكة في موسم الحج المقبل، لأن الفاضل عبر - عقب قراءته للرسالة - عن الأمل في تغيير الأمور حتى الموسم المقبل. وربما عني الفاضل بذلك ما كان الشريف شكر متورطا فيه، إذ نعلم من مصادر أخرى أن شكرا قام عام 453ه/ 1061م بقطع الخطبة للفاطميين بمكة، وتعرض من جراء ذلك لمضايقات وتهديدات من جانب الصليحي(3). لكن شكرا ما لبث أن توفي(4) قبل حلول موعد الحج المقبل، وعندما وصل الشريف إلى مكة للحج في العام التالي كانت الخطبة قد عادت للخليفة الفاطمي بالحرم(1). واعتزم الشريف الفاضل أن يمضي من مكة إلى الكوفة، واتفق مع أحد بني هلال أن يكون دليله عبر الصحراء. لكن الجمال التي كان ينبغي أن تحمل الشريف وصحبه تأخرت في الوصول من عرفات فمضى الهلالي وتركهم مما أدى إلى تحول عزم الشريف عن السفر إلى الكوفة واعتزامه العودة إلى ترج. وفي ترج انهمك الشريف في إقامة مشروع زراعي إذ كان مغرما بالعمل في الأرض، وهو ميل ربما ورثه عن جده القاسم بن علي(2). وقد عمد الشريف في البداية إلى إحياء الأرض التي كان قد مهدها جده. لكن سيد ترج خشي على الشريف من أهل الناحية التي كان قد ازدرعها فعرض عليه قطعة أرض أخرى وبئرا كان يملكهما، فانصرف الشريف وأتباعه إلى استغلال تلك القطعة الممنوحة.
Shafi 18
وفي عام 454ه/1062م وصلت إلى الشريف الفاضل معلومات عن اعتزام الصليحي القيام بحملة إلى الحجاز(1). ولأن الشريف لم يكن متأكدا من مقاصد الصليحي من وراء الحملة. فقد عزم على التحول إلى اليمامة تجنبا للقيا الصليحي، في حين عاد أخوه ذو الشرفين إلى أهله باليمن. ولا تذكر السيرة شيئا عن رحلة الفاضل إلى اليمامة، لكن يبدو أنه عاد إلى ترج فور عودة الصليحي لليمن. أما ذو الشرفين فقد ثارت حوله وحول أخيه الحسن بن جعفر شكوك من جانب الصليحيين في اعتزامهما الثورة مع الشيعة الحسينية بالظاهر فمضيا إلى صنعاء لتطمين السلطات هناك، والحصول على أمان مجدد منهم. وفي صنعاء استقبلهما الأمير أحمد بن مظفر لكنهما لم يستطيعا إقناعة ببراءتهما. وعندما رفع الأمر إلى علي بن محمد الصليحي رفض هو بدوره تجديد "الأمان" لهما، فاشتد الخوف بذي الشرفين، وخشي حدوث الأسوأ، فاختفى أياما بصنعاء ثم خرج منها على استخفاء بمعاونة بعض الأتباع الأمناء حتى وصل إلى عيان التي قضى فيها أسبوعا مختفيا حتى عن أعين أفراد أسرته. ثم غادر عيان عائدا إلى ترج التي وصل إليها دونما مزيد من الإزعاج(2).
Shafi 19
وعندما تجمع بترج آخرون من رجالات الشريف الفاضل، اقترح عليهم الانصراف الكامل والمنعزل لقراءة وتدارس "كتب الأئمة" لمدة عام. وقد بلغ من قسوة تلك العزلة الدراسية أن فقد سليمان ابن الشريف الفاضل عقله، وتوفي على أثر ذلك. وبعد فترة بلغت الشريف الفاضل أنباء جعلته يخاف على سلامته بترج فتجدد عزمه على المضي إلى العراق. وصل الشريف الفاضل إلى مكة في رجب 459ه/ مايو - يونيو 1067م وأدى العمرة. وكانت مكة وقتها قد عادت للسيطرة الصليحية فلم يعد الشريف آمنا على نفسه فيها، وبخاصة أن شريف مكة آنذاك (محمد بن جعفر) بن أبي هاشم اعتذر عن استقباله. وهكذا خرج الشريف الفاضل من مكة قاصدا المدينة ووصلها في شعبان/ يونيو/ يوليو وقد شارفت أزواده وأزواد مرافقيه على النفاد. فاتجه الشريف الفاضل إلى نائب أمير المدينة الحسين بن مهنا الحسيني طالبا المساعدة، ذلك أن الأمير نفسه محيط (؟)(1) بن أحمد الحسني كان غائبا بمصر. فاستجاب نائب الأمير لطلبهم وخصص لهم مسكنا ضيقا مجاورا لبيت تؤتى فيه المنكرات، ومنحهم أطعمة ضئيلة متواضعة. وانصرف الفاضل لمتابعة خطط بالسفر إلى الكوفة ومن هناك إلى بيت المقدس. ثم ما لبث الفاضل أن ترك تلك الخطط لظروف متعددة. فقد وصلت للمدينة قافلة من العراق سطا عليها الأعراب في الطريق. كما عاد أمير المدينة إليها وتبين أنه أكثر بخلا من نائبه، وأقل استعدادا لتأمين متطلبات الرحلة من الأزواد والرواحل. وأخيرا فإن اعتزام الشريف الفاضل زيارة بني حسن بالصفراء لم يصل به إلى شيء لأن أحد الذين وعدوا بمرافقته ما لبث أن اختفى دون أن يترك أثرا.
لهذه الأسباب كلها استقر رأي الشريف الفاضل على العودة إلى اليمن للاستتار بين أفراد أسرته وبدأ رحلة العودة بالمرور بمكة دون أن يدخلها لما بلغه من أن غريب بن البقاء وزير الصليحي وصل إليها برجال ومال إعدادا لزيارة سيده للبلد الحرام. وعندما مضى قدما في رحتله بدأت تصل إليه إشاعات عن مقتل علي بن محمد الصليحي (11 ذو القعدة 459ه/ 22 أكتوبر 1067م). وما لبثت تلك الإشاعات أن تأكدت عند بلوغه ترجا. وأراد الفاضل بداية أن يقيم لبعض الوقت بترج، لكن طول بعاده عن أسرته وأصدقائه وأتباعه، كل ذلك دفعه للإسراع بالعودة إلى اليمن. وأثناء حركته جنوبا مارا بجرش بلد بني حي من خولان والحقل، وصلته رسالة من أخيه ذي الشرفين، الذي كان قد سبقه في العودة لليمن، تخبره بثورة الشريف حمزة بن أبي هاشم وتدعوه لمساعدته. وقد وجدت مقترحات أخيه قبولا لديه فبدأ يجمع حوله الأنصار والأتباع من وادعة وخولان وبني مالك والربيعة. لكنه عندما وصل إلى البطنة لقيه أخوه ذوي الشرفين مع جماعات من أتباعه، وبعض أعقاب القاسم بن علي، وأخبره بهزيمة الشريف حمزة ومقتله في معركة الملوى (22 ذو الحجة 459ه/ 2 نوفمبر 1067م) (1). وأحدثت تلك الأخبار المؤسية خيبة أمل كبيرة لديه فترك كل خطط الثورة والخروج ومضى إلى عيان(2) .
Shafi 21
وفي عيان لم تتركه القبائل بسلام، فحوالي نهاية العام 459ه/ نوفمبر 1066م أتته بطون بني الدعام، وبني بحير(1)، ووجهاء نهم إلى عيان، وطلبت إليه الخروج والدعوة. وتردد الرجل لبعض الوقت، ثم خضع للضغوط وتبعهم إلى الجوف. قرابة هذا الوقت وصله رسولان من سعيد (الأحول) بن نجاح، حاكم زبيد، الذي كان المسؤول عن قتل الصليحي، ونقلا إليه دعوة سيدهما لحملة مشتركة على صنعاء. فأرسل الشريف الفاضل معهما أخاه سنان الدولة أحمد، والقاضي عيسى بن الحسين بن أحمد، لإنجاز التحالف مع ابن نجاح. لكن في الوقت نفسه تقريبا مضى الأمير ذو الشرفين بضغط من أخيهما حسن إلى صنعاء لمحاولة الاتفاق مع الصليحيين. وهناك استقبلهما إسماعيل بن أبي يعفر الصليحي استقبالا حسنا، ثم ما لبث حاكم صنعاء أحمد بن مظفر أن عاد إلى المدينة ودعاهما أيضا للقائه. كان الصليحيون وقتها يعدون لحملة ضخمة على زبيد للثأر لمقتل علي بن محمد الصليحي، ولتحرير زوجته الملكة أسماء من الأسر، ولذلك كانوا على استعداد لإعطاء تنازلات في العلاقة مع الأشراف. وهكذا أكد أحمد بن مظفر للشريفين أنه في حال فشل الصليحيين في حملتهم فإن البلاد كلها ستقع في يد الأشراف، أما إذا نجحوا فإن الفضل في ذلك سيعود للسادة أيضا. وهكذا أعاد الرسولين إلى عيان مع هدايا للشريف الفاضل، ورسول من جانبه أسمه دلهام بن عبدالله الحرازي يحمل رسالة للفاضل. لكن الفاضل - الذي كان لا يزال مع القبائل في الجوف يستعد للثورة - رفض محاولات التقارب مع الصليحيين أولا، ثم رضي بمقابلة رسولهم. وفي النهاية جرى التوقيع من جانب الشريف الفاضل على ثلاث وثائق، كان أخوه ذو الشرفين قد تفاوض عليها مع الصليحيين بصنعاء وأكد مضامينها إسماعيل بن أبي يعفر الصليحي ودلهام الحرازي(1). أما الوثيقة الأولى فتنص على التسليم بأرض وادعة وبكيل للشرفاء ويحدها نقيل عجيب. وأما الوثيقة الثانية فتؤمن حرية الحركة والإقامة للشيعة الحسينية حيث كانوا. وأما الثالثة فتؤكد ملكية الأشراف لبعض المدن والبلدان مثل حمودة وحاز وبيت شعيب وبيت سود. ولم يكن يسع الشريف الفاضل رفض تلك الوثائق التي وافق عليها أخوه فوافق عليها أيضا، وأرسل ابنه محمدا إلى صنعاء رهينة لدى الصليحيين حيث بقي هناك طوال حملتهم على زبيد (19 صفر - 26 ربيع الثاني 1460ه/ 28 ديسمبر 1067 - 2 مارس 1068).
Shafi 23
أما الداعي الإسماعيلي إدريس الموالي للصليحيين فيزعم في كتابه: العيون أن الشريف الفاضل هو الذي نقض العهد مع المكرم بتهديده لصنعاء خلال غياب الصلحيين عنها، وهو يعتبر ذلك من أسباب تخلي المكرم عن ملاحقة سعيد الأحول، وإسراعه في العودة إلى صنعاء(1). لكن مؤلف السيرة يصر على رعاية الفاضل لتعاقده مع الصليحيين، ويتهمهم بنقض العهد بمجرد فوزهم على الأحول وعودتهم من زبيد. والحق أن الاتهامات ضد الشريف الفاضل لها ما يسوغها في استمراره في الإعداد للإغارة على صنعاء كما سبق أن اتفق على ذلك مع سعيد الأحول، لكن لا شك أن ذلك كان من جانبه لاحتمال انتصار الأحول على الصليحيين. وكان رسولاه إلى سعيد الأحول قد عادا من زبيد بتفاصيل حول الحملة المشتركة وكان هو لا يزال مرابطا بخرفان(2)، وما كادا يصلان إليه حتى بلغته أخبار هزيمة سعيد وهربه(3). وسارع الشريف الفاضل بالانسحاب إلى عيان. ولذا كان بوسعه الادعاء أنه لم يخالف شروط التعاقد مع الصليحي، وأن الصليحيين هم الذين بدأوا بالهجوم. وكان الصليحيون من جانبهم عقب عودتهم من تهامة قد فقدوا الاهتمام بالحفاظ على العهد مع الفاضل أو تجديده وبخاصة أن ذلك العهد تضمن تنازلات عن أراض وبلاد للشرفاء اضطر إليها الصليحيون لكي لا يقاتلوا على جبهتين. سارع الصليحيون بمجرد عودتهم للإغارة على الجوف الأعلى فخربوا الحدائق والكروم، وقطعوا أشجار النخيل، وكتبوا رسالة إلى بني الدعام يتهددونهم فيها، ويحاولون صرفهم عن الاستمرار في الانتصار للشرفاء. ولم يتراجع بنو الدعام بل أعلموا الشريف الفاضل بما كان، ورفضوا عرض الصليحيين للتقارب معهم. ونجح المكرم الصليحي أكثر مع بني ذيبان الذين هزمهم وأرغمهم على عقد معه لمساعدته عسكريا، والامتناع عن مساعدة الأشراف أو إيوائهم(1).
Shafi 25
أمام تحديات الهجوم الصليحي، قرر الفاضل البحث عن قلعة جبلية يستطيع عند الضرورة الانسحاب إليها والصمود فيها مع أتباعه. فوقع اختياره على قرية شهارة الجبلية الواقعة في بلاد الأهنوم. وهكذا أرسل أولا أخاه ذا الشرفين للسيطرة على الجبل، لكنه لم يكن قادرا على القيام بتلك المهمة إذ لم تجر مشاورات مسبقة بينه وبين السكان المحليين. لذا أرسل الفاضل بعدها الفقيه علي بن أحمد بن أبي الجيش والشيخ يعقوب بن سليمان العبيدي مع جماعة من الأنصار، حيث استطاعوا الحصول على موافقة وتعاون بعض شيوخ الأهنوميين والظليميين. وتحرك الفاضل إلى حوث، وارسل أخاه سنان الدولة مع عشرة رجال لكي يصعدوا إلى قمة جبل شهارة فيوقدوا عليها النيران علامة على نجاح مهمتهم إن كان ذلك. وأخفى الرجال أنفسهم في بيت أحد المتعاونين معهم من الأهنوم. وفي ظلمة الليل تسلقوا الجبل وانصرف أحدهم لمشاغلة حراس باب سور القرية، وقرع الآخرون الباب فلما سارع بعض أهل القرية ليلا ورأوا خارجه الشريف وشيوخ الأهنوم الموافقين لهم خافوا وتفرقوا. ودخل الشريف وأتباعه القرية، وفي الليلة المقبلة أوقدوا النيران على قمة جبل شهارة. فعاد الشريف الفاضل بسرعة إلى الجوف الأسفل، ومضى بعد أيام بخيل ورجال من بني نهم وسفيان، والشيعة الحسينية، إلى شهارة. وصعد إلى الجبل ودخل القرية في آخر أيام رمضان عام 460ه/ 2 أغسطس 1068م. بذلك صارت شهارة حصن الشرفاء القاسميين، والمقر الدائم للأمير ذي الشرفين، بينما بقي الفاضل غالبا في الجوف الأسفل. وقد مكن جبل شهارة وحصنها الشرفاء من الثبات في وجه هجمات الصليحيين رغم تفوقهم العسكري الواضح. ويبدوا أن نقطة التحول في الحرب بين الطرفين كانت فشل الصليحيين في الاستيلاء على شهارة بعد حصارهم الكبير لها. قاد الحصار على شهارة كل من المكرم وأحمد بن مظفر مع صليحيين آخرين عام 462ه/1070م بعد عودة المكرم من حصاره الثاني لزبيد. وصمد ذو الشرفين للحصار الذي استمر زهاء الخمسة الأشهر(1)، والذي لم يستطع الفاضل الوقوف فيه إلى جانب أخيه لشغل الصليحيين له بميادين أخرى. لكنه تمكن من إيصال أموال لذي الشرفين كان قد تلقاها من جياش بن نجاح حاكم زبيد الجديد(2) الذي استمر في دفع مبالغ شهرية للشرفاء. وقد أوصلها مع وفد سمح له الصليحيون بالوصول عبر خطوطهم لأنه كان يحمل رسالة من الفاضل إلى ذي الشرفين ينصحه بالاستسلام(3). وانتهى الحصار بهجوم مباغت قام به المحاصرون على الصليحيين فقتلوا منهم ثمانمائة رجل، أو تسعمائة رجل حسب رواية أخرى، بمنطقة الرحبة بأسفل الجبل، ولم يفقد المحاصرون غير ثلاثة رجال. ومنذ ذلك الحين صار بوسع الشرفاء رفض عروض الصليحيين للتعاقد والتقارب(4) .
Shafi 27
وتورد السيرة بتفصيل كثير أخبارا وتقارير عن حملات ومعارك في حياة وحكم الشريف الفاضل قبل حصار شهارة وبعده. ولن أتتبع ذلك هنا إذ يحتاج الأمر لدراسة منفصلة(1). ويذكر صاحب غاية الأماني كثيرا من تلك الأحداث والمعارك، بين العامين 463و478ه بإيجاز معتمدا في ذلك على السيرة اعتمادا كاملا تقريبا(2).
Shafi 28
ولا شك أن ذروة انتصارات الشريفين كانت استيلاء الفاضل على صعدة في رمضان عام 463ه/ يونيو 1071م حيث أقيمت الخطبة باسمه في جامع الهادي هناك، وأخذ زعيم أنصار الصليحيين بالمدينة أسيرا(1). ثم الاستيلاء على جبل مسور في رمضان عام 464ه/ مايو - يونيو 1072م(2) - وهو الانتصار الذي خلده ذو الشرفين بإنشاء دار لسك النقود بمسور(3). لكن لم تكن كل الغارات التي ذكرتها السيرة غارات على الصليحيين . فمع مضي السنوات صار ضروريا في كثير من الأحيان إخماد تمردات كانت تنشب ضدهم بين القبائل الموالية لهم. وكانت الضرائب الثقيلة التي يستصفيها الأميران السبب الرئيس لأحداث التمرد بين رعاياهم. أما الشريفان فكانا يبرران تلك الضرائب بضرورات ونفقات الجهاد ضد "الكفرة" من الصليحيين، الذين كانوا ينبزونهم باسم القرامطة. وتورد السيرة بالتفصيل أقوالا واقتباسات للأميرين من تراث الأئمة في تسويغ تلك الضرائب الاستثنائية لمجاهدة أولئك الملحدين القدامى. ومن جهة ثانية، فإن هذه الحملات ضد القبائل الثائرة كانت أقل شعبية لدى الجيش من الحرب مع الصليحيين، إذ كانت الغارات على أولئك تعد بمغانم أكبر. ولا تخفي السيرة تذمر الجيش من قرار أتخذه الفاضل في المحرم عام 467ه/ سبتمبر 1074م بالقضاء أولا على تمرد في ناحية مسور بدلا من غارة كان قد خطط لها ضد الصليحيين. وقد أطاع الجيش أوامر الفاضل بعد تردد، وانتهت تلك الحملة بالفشل، وبخسائر كبيرة للشريفين(1).
Shafi 30
وفي مطلع العام 468ه/ أغسطس 1075م استولى على الشريف الفاضل من جديد غرامه القديم بالزراعة، وقرر أن يحول منطقة عمران بوادي الخارد(1) من جديد إلى بيئة رزاعية لصالح المسلمين والإسلام. وهكذا جمع عمالا ومتطوعين واستعدادت أخرى، ومضى إلى تلك المنطقة بحريمه وخيله ومتطوعيه، آخذا على بني الدعام أهل تلك المنطقة العهود والأيمان بحسن الجوار. وقسمت منطقة عمران إلى ثلاثة أقسام، الثلث الأول لبني نهم، والثلث الثاني لبني الدعام وبني نشق، الذين كانت لهم المنطقة في غابر الزمان(2)، والثلث الثالث للفاضل وذي الشرفين. وبقي ذو الشرفين بشهارة مع أتباعه ورفاقه. ولم يكن بعض بني نهم راضين عن الثلث الذي جعل لهم، وقد عبروا عن عدم رضاهم بإشعال النيران على جبل قريب. وتلقى الفاضل من جديد أيمانا وتأكيدات من بين الدعام بالحماية وحسن الجوار واستقر بعمران. ولم يكد الفاضل ينتهي من جر ساقية ماء، ودرب للمساكن بالناحية حتى هوجم من جانب بعض رجال القبائل وقتل في 23 صفر 468ه/ 5 أكتوبر 1075م(3). وعلى مقربة منه قتل الشريف القاسم بن إبراهيم بن سليمان، وسلبت أفراسهم وأسلحتهم. أما محمد ابن الشريف الذي كان حينها في السكن مع الحريم فقد أخذ مع الحريم من جانب رجال القبائل مع سلاحه وخيله. وتوبع القتلة السالبون تلك الليلة من جانب الجحاف بن مانع ونباتة بن ربيع الدعاميين، حيث نجحا في إطلاق سراح محمد والحريم. ودفن الشريفان المقتولان أولا بحوث لدى الحسن بن الدعام(1). وتذكر غاية الأماني أن المكرم الصليحي كان وراء حادث الاعتداء. أما مفرح فلا يذكر شيئا عن الصليحيين، ويعتبر نهما وبني الدعام المسؤولين الوحيدين عن ذلك.
Shafi 32