سيرة أحمد بن طولون
الحمد لله وبه أستعين، الحمد لله خالق السموات والأرض وما بينهما من الآيات الدالات على حكمته، الشاهدات على قدرته، المنبهات على وحدانيته، حسن نظم فطرته
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا
فسبحانه من مليك قدير وإله خبير، وصلى الله على محمد رسوله الأمين وخيرته من العالمين، المبشر بالجنة عباده المؤمنين، وبالنار أعداءه الكافرين، وعلى من تقدمه من النبيين، وعلى آله الطاهرين.
فهمت ما ذكرت، جعلني الله فداك، في سيرة آل طولون، وأنك قرأت كتاب أحمد بن يوسف ذلك، فلم يكن موقعه منك الغرض الذي إليه ذهبت، ولا المعنى الذي له نحوت، وأنك تريد ما هو أكبر منه شرحا وأكمل وصفا، وأن أحمد بن يوسف كان يمر في شرح قصة ثم يرجع إلى ما هو قبلها، وأنه كان يخلط أخباره
1
فيأتي بقصة من قصصه التي تدل على ذكاء عقله وفطنته ولطيف حسه، ثم يأتي بضدها، وأنه لم يأت بجميع أخباره ولا أخبار أبي الجيش ابنه، وما كان من جميل أفعاله، وحسن آثاره، ولا أخبار سائر إخوته بعده.
وقلت ما هكذا أرخ الناس الأخبار، ولا عليه نظم العلماء الآثار، وأردت أن يكون ذلك مستقصى جميعه وعلى ترتيب في شرحه، ولا يذكر آخرا قبل أول ولا يقدم سالفا على آنف، وقد امتثلت أمرك فيما أردت وسلكت فيه الذي اخترت. ولم أدع من أخبار جماعتهم شيئا مثله يؤرخ وبه يتأدب وله يستحسن إلا ذكرته، وجعلت ذلك أبوابا [ولم أذكر في] الباب ما ليس منه شكله، ولا خلطت به ما خرج [عن أصله، وإن] ابن آدم لا يخلو من نقص وتقصير، ولم يعر من ذلك العلماء الواصفون لشرائط الدين، والمبلغون سنن المرسلين، وكيف ما إن قصر عنه مقصر لم يوزر، وإن بالغ فيه مجتهد لم يؤجر.
فأول ذلك، أعزك الله، أن المعتصم بالله لما اختص الأتراك ووضع من العرب، فجعل الأتراك أنصار دولته، وأعلام دعوته، وبذلك احتج عليهم العلوي البصري فقال:
واستفتحوا بالترك أمرهم
لم يستفتحوا بالأوس ولا بالخزرج
2
فكان من عظمت عندهم منزلته، وحمدت طريقته، ألزموه خدمتهم، وجعلوه الذاب عن بيضتهم، وقلد الأعمال الجليلة الخارجة عن الحضرة،
3
واستخلفوا له عليها الخلفاء، وحمل إليه مالها، ودعي له على منابرها.
فكانت سبيل مصر عندهم أن يحبى بها من صحت فيه هذه الصفة التي قدمنا ذكرها، كما فعل هارون الرشيد بعبد الملك بن صالح، والمأمون بطاهر بن الحسين، والمعتصم بأشناس، والواثق بإيتاخ، والمتوكل ببغا ووصيف، والمهتدي بيارجوخ، وكما قدم بغا وأتامش وغيرهما فقلدت مصر باكباك والتمس له خليفة فوجه به إليها.
وكان أحمد بن طولون قد مات أبوه في سنة أربعين ومائتين ولأحمد عشرون سنة، من جارية كانت لأبيه تعرف بقاسم، ولدت أحمد في سنة عشرين ومائتين، وولدت بعده أخاه موسى وحبسية وسمانة، وكان طولون من طغرغر، حمله نوح بن أسد عامل بخاراى وخراسان إلى المأمون فيما كان موظفا عليه من المال والرقيق والبراذين وغير ذلك في كل سنة، وذلك في سنة مائتين.
وسألت أبا العباس أحمد بن محمد الكوفي،
4
وكان خبيرا بأمر الأتراك عارفا بأحوالهم، عن أحمد بن طولون وقلت له: إن الناس في أمره فريقان؛ أحدهما يقول إنه أحمد بن طولون وإن يلبخا كان زوج أمه قاسم، والآخر يقول إنه أحمد بن طولون وإن يلبخا ابن قاسم جارية طولون، فأكذب ذلك وضحك منه، وقال لي: يلبخ هذا تركي سبي مع طولون، وكان خفيف الروح يغني بالتركية مستحلى الكلام، فلما مات طولون ألزمه الوفاء له القيام بأمر ولده والمحافظة عليه، فكان يركب معه حتى يوصله إلى المواضع التي لم يكن أحمد يصل إليها لحداثة سنه وصغره عن ذلك، وكان كل من يراه معه يقول له: هذا ابنك؟ فيقول: نعم، هو ابني وابن سيدي، رحمه الله.
وتوفي يلبخ بعد وفاة طولون بعشر سنين ولم يخلف إلا طفلة، فكان أحمد بن طولون يجري على أمها وعليها ما يسعهما من الرزق حتى ماتتا.
وقال لي: ومما يدل على صحة ذلك أن الموفق لما لعن أحمد بن طولون أسنده إلى طولون ولم يسنده إلى يلبخ ، ولو كان ابن يلبخ لما زوجه يارجوخ ابنته؛ لأن يلبخا كان عندهم مغنيا وطولون معروف بالستر والصيانة.
فنشأ أحمد بن طولون نشوءا جميلا غير نشوء أولاد العجم، من بعد الهمة وحسن الدين والذهاب بنفسه عما كانت تسف إليه طبقته، وطلب الحديث وأحب الغزو،
5
وخرج إلى طرسوس مرات، ولقي شيوخ المحدثين، وسمع منهم، وكتب العلم وحصل له من ذلك قطعة كبيرة.
وألف بطرسوس جماعة من الزهاد، وأهل الدين والورع، فأدبوه بآدابهم، فحسنت طريقته وظهر فضله؛ فتمكن له في قلوب الأولياء ما ارتفع به عن طبقته، وبان فضله على وجوه الأتراك، وصار محله عندهم محل من يوثق به على الأموال والأسرار والفروج، ومثل هذا عند العجم محله عظيم في نفوسهم لو تصنع به متصنع فكيف من مبتدئ غير متصنع؟ فخطب إلى يارجوخ ابنته فزوجه، وكانت أم ابنه العباس [وابنته] فاطمة.
فلما كان في نفسه من محبة الخير ورغبته فيه، سأل الوزير
6
أن يكتب له برزقه إلى الثغر،
7
وعرفه رغبته في المقام به، فأجابه الوزير عبيد الله بن يحيى إلى ذلك، وكتب له به، وخرج فأقام بطرسوس مدة، وشق على أمه مفارقته لها فكاتبته بما أقلقه، فلما قفل الناس إلى سر من رأى
8
قفل معهم بسبب أمه، وكان جملة القافلين نحوا من خمسمائة رجل، والخليفة يومئذ المستعين بالله.
وكان قد اتفق أن المستعين بالله استحسن شيئا يعمل ببلاد الروم من بزيون
9
وكراسي حديد منقوشة بأحسن نقش يجري فيها الذهب، وأشياء يضن بها الملك أن تخرج إلى أرض العرب، فأنفذ خادما من خدمه يتكلم بالرومية إلى ملك الروم، برسالة جعلها سببا لما يريده، وأمر الخادم أن يتلطف في ابتياع ما تهيأ له مما قدمنا ذكره وقدر عليه، وخرج الخادم ووصل إلى ملك الروم وأدى الرسالة، وأنزل في دار فرشت له وبلغ في إكرامه كل مبلغ، وجعل يلتمس شراء كل ما يمكنه بضعف ثمنه المبيع منه، فاشترى ما حصل له منه وقر بغل لم يمكنه أكثر منه.
فأجاب ملك الروم المستعين عن رسالته، وحمل إليه هدايا حسانا، وخلص الخادم ذلك البغل المحمل ذلك المتاع بالحيلة، على محله من أمير المؤمنين في حمله ما حمل معه، وخرج حتى حصل بطرسوس
10
وخرج مع القافلين وفيهم أحمد بن طولون.
ومن رسم الغزاة أن يسيروا متفرقين مثل العقبان، فنظرت الأعراب شيئا من سوادهم
11
في بعض المواضع فأخذوه، ووقعت الصيحة، وجاء النذير إلى الطائفة التي فيها أحمد بن طولون .. فكان أول من انتدب، وحض على القتال والذهاب خلف الأعراب إلى حيث قصدوا، وسار يريدهم، فلما رآه الباقون اتبعوه، فكان أول من لحق بالأعراب، ووضع فيهم السيف ورمى بنفسه عليهم وحذفهم بالنشاب، وكان حسن الرمي لا يخطئ شيئا، فخلى الأعراب عن جميع ما أخذوه ونجوا بأنفسهم على خيولهم.
وكان فيما أخذه الأعراب البغل المحمل ذلك المتاع الذي لم يوصل إليه إلا بالحيلة، وكانت نفس الخادم قد كادت أن تخرج لذلك؛ خوفا على فوت ما أمله من جائزة أمير المؤمنين، ولما لحقه من التعب والمخاطرة قبل أن وصل إليه، ولما سلم سكن روعه ورجع إليه عقله بعد أن كاد يزول.
وعظم أحمد بن طولون في عينه وقلبه، وصار له كالعبد، وكبر في قلوب أهل القافلة، فلما وصلوا إلى العراق أحضر الخادم ذلك المتاع إلى المستعين، فاستحسنه وسر به كل السرور، فذكر له الخادم ما عاناه في أمره قبل الوصول إليه، وقال له: وأعظم ما جرى يا مولاي أنه لما حصل وسلم إلى طرسوس، وقفلت مع الناس، خرج علينا الأعراب فأخذوه، فلولا أن الله، جل اسمه، من علي بغلام من غلمان مولاي أمير المؤمنين يعرف بأحمد بن طولون؛ فإنه أول من انتدب وخرج إليهم، وحصله وجميع ما أخذوه، لقتلت نفسي أسفا على فواته.
فازداد به المستعين سرورا، وأمر في الوقت لأحمد بن طولون بألف دينار، وقال للخادم: امض أنت بها إليه سرا، وأقرئه مني السلام، وقل له عني: لولا خوفي من أن يعلم محله من قلبي فيحسد ويقتل لبلغته أفضل مراتب أمثاله، وإذا هو دخل إلي في المسلمين فأرنيه.
فأوصل إليه الخادم المال ، وعرفه الرسالة، فحمد الله، عز وجل، على ذلك.
فلما كان يوم السلام، ودخل مع الأولياء، غمز الخادم المستعين عليه حتى رآه، فأشار إليه المستعين بالسلام، ولم يزل يفعل ذلك كلما دخل إليه في المسلمين، ويوجه إليه بالصلة الوافرة في كل وقت، دفعة بعد دفعة، حتى حسنت حاله بذلك، ووهب له جارية اسمها مياس، فولدت له أبا الجيش في النصف من المحرم سنة خمسين ومائتين.
ولما كان من أمر المستعين ما كان من تنكر الأتراك عليه، واستقر الأمر بعد ذلك على أن يصير المعتز على الخلافة وينفى المستعين إلى واسط
12
مع رجل يختار له، يوثق بدينه وأمانته، وترضى به الأتراك، ويأمنه على نفسه، وقع اختيارهم على أحمد بن طولون، فسلم إليه ومضى به إلى واسط، وأحسن عشرة المستعين وشكر له ذلك الجميل في أمره، فأطلق له التنزه والصيد. وكره أحمد بن طولون أن يلحقه منه احتشام، فألزمه أحمد بن محمد الواسطي كاتبه، وكان يومئذ غلاما جريئا، حسن الشاهد، حاضر النادرة، فأنس به المستعين غاية الأنس، وشكر لأحمد بن طولون ما يأتيه في أمره، ولم يأل أحمد بن طولون حرصا في خدمة المستعين وتوفية حقه.
فلما تمت البيعة للمعتز وخلع المستعين أنفذ إليه أهله وولده، فأقام بواسط مدة، واجتمع غلمان المتوكل، وقالوا: نخاف من كيد يلحق المعتز من المستعين، فصاروا إلى قبيحة أمه، فعرفوها ذلك وخوفوها منه، وقوي الخوف في نفسها فاضطربت له، فعزمت على قتله، فحضر الأولياء وتشاوروا في ذلك فأشاروا به، فكتبت قبيحة أم المعتز إلى أحمد بن طولون: «إذا قرأت كتابي فجئني برأس المستعين وقد قلدتك واسط.» فلما وصل الكتاب إليه اغتم غما عظيما، وكتب إليها يقول: «والله لا يراني الله، عز وجل، أقتل خليفة له في رقبتي بيعة وأيمان مغلظة أبدا.»
فلما ورد كتابه بذلك زاد به في قلوب الأتراك محلا كبيرا، ووسموه بحسن التوقف وجميل المذهب، وأحسن أحمد بن طولون في ذلك وأجمل، رحمه الله. كما أمر الحجاج بن يوسف رجلا من التابعين بقتل رجل اتهم بما أراد قتله بسببه فامتنع وقال:
ولست بقاتل رجلا يصلي
على سلطان آخر من قريش
له سلطانه وعلي إثمي
معاذ الله من جهل وطيش
إذا طاوعته وعصيت ربي
فما فضلي هناك على قميش
وكان قميش هذا رجلا خليعا ماجنا ماردا.
ووجهوا إلى أحمد بن طولون لما امتنع من قتله بسعيد الحاجب، وكتبوا إليه ليسلم المستعين إليه، وينصرف عن واسط إلى سر من رأى، ففعل ذلك، وأحمد الناس كلهم فعل أحمد بن طولون، وشكره عليه الخاص والعام.
حدث أحمد بن محمد الواسطي وقال: وكنت مع المستعين بالله على الرسم، فرأينا غبرة خيل قد أقبلت، فأنفذ غلاما له يركض ليعرف له خبرها، فعاد وقال: هو سعيد الحاجب. فاصفر لونه ووجم،
13
فقال لي: يا أبا عبد الله، أنا أستودعك الله، هذا جزار بني هاشم قد جاءني، فحرت وجزعت، وعدنا جميعا.
ووافى سعيد في أثرنا، فأوصل إلى أحمد بن طولون الكتاب، فأحضر قاضي واسط والشهود، فأشهدهم على تسليمه إياه سليما، فتسلمه وأخرجه من وقته إلى الصحراء، وضرب له خيمة فأدخله إليها، فأقام سويعة وخرج، وألقى الخيمة عليه، وركب من وقته دابته، وسار راجعا.
فلما بعد أتينا الخيمة فرفعناها، وأحمد بن طولون معي، فإذا بجثة المستعين مطروحة على الأرض، وقد صرعه وأخذ رأسه ومضى، فأقبل أحمد بن طولون يبكي وينتحب عليه، كما تبكي الثكلى، وأنا معه كذلك؛ لما ورد على قلبه منه، ولم يزل قائما على رجليه حتى غسل وكفن وصلينا عليه وواريناه، ورحل إلى سر من رأى.
ووافق دخوله سر من رأى تقليد باكباك مصر، والتماسه من يخلفه عليها، فقيل له أحمد بن طولون؛ الثقة، الأمين، الحبر، الدين، الخير، فقلده خلافته، وضم إليه الجيش.
ورحل إلى مصر فدخلها يوم الأربعاء لسبع بقين من شهر رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين مقلدا للقصبة دون غيرها من الأعمال الخارجة عنها، مثل الإسكندرية وغيرها، ودخل معه أحمد بن محمد الواسطي، وكان خليطا به جدا، وأبو يوسف يعقوب بن إسحاق، كان الوزير قد قرنه به.
فحدثني شيخ من شيوخنا قال : جلست في بعض الدكاكين الشارعة
14
مع الناس، لننظر دخول أحمد بن طولون البلد وترتيبه، وكان معي في الدكان رجل مكفوف يعرف بأبي قبيل
15
صاحب الملاحم، فسأله رجل كان معنا عما يجده في كتبهم، فقال: هذا رجل نجد صفته كذا وكذا، ويتقلد البلد هو وولده قريبا من أربعين سنة، فما تم كلامه حتى أقبل أحمد بن طولون، فكانت صفته كما وصف في صورته وشمائله، لم يغادر منها شيئا، وكانت مدة الطولونية ثماني وثلاثين سنة.
ودخل أحمد بن طولون مصر، وكان على خراجها أحمد بن محمد بن مدبر، وكان من دهاة الناس، وشياطين الكتاب والعمال الأجلاد؛ فحسبك أنه ابتدع بمصر بدعا صارت سننا إلى اليوم لا تنقض. ولقد حرص أبو الحسن علي بن عيسى بن الجراح عند دخوله مصر أن ينقض شيئا منها فما تهيأ له، على صناعته ودهائه بين الوزراء الذي كان هو باركهم،
16
فمما ابتدعه بمصر: النطرون، وكان مباحا لجميع الناس بمصر، فصير لهم ديوانا مفردا، وعاملا جلدا يحظر على الناس أن يبيعوه أو يشتروه إلا من جهته. والمراعي، وهي الكلأ المباح المطلق التي أنبتها الله، عز وجل، لعباده ترعاها بهائمهم. والمصايد، وهي ما أطعم الله، جل اسمه، من صيد البحر.
فلما احتشم ابن مدبر من ذكر المصايد وشناعة القول فيها، أمر بأن يكتب في الديوان: خراج مضارب الأوتاد ومفارش الشباك وغير ذلك بمصر، وله بالشامات
17
أمثال هذا.
فحين دخل أحمد بن طولون أهدى إليه ابن مدبر هدايا حسنة، قيمتها عشرة آلاف دينار. وكان ابن مدبر خرج لتلقيه عند دخوله ومعه شقير الخادم
18
وكان صاحب البريد
19
يومئذ بمصر، وهو غلام قبيحة أم المعتز المعروف بأبي صحبة، فلما تلقياه وسلما عليه بش بهما، وأحسن مخاطبتهما.
ونظر بين يدي أحمد بن مدبر مائة غلام من مولدي الغور
20
قد انتخبهم وجعلهم عدة وجمالا، وكان لهم خلق حسن وطول أجسام وبأس يعرفون به شديد، وعليهم الخفاتين
21
والأقبية والمناطق الثقال العراض، وبأيديهم مقارع تامة غلاظ، على كل طرف من أطرافها فضة مقمعة بها، وكانوا يقفون في حافتي مجلس ابن مدبر إذا جلس، وإذا ركب كانوا بين يديه، فكانت له بهم هيبة عظيمة في صدور الناس إذا رأوهم.
فلما أهدى إلى أحمد بن طولون الهدية التي قدمنا ذكرها ردها ولم يقبلها، فقال ابن مدبر:
22
إن هذه لهمة عظيمة، ومن كانت هذه همته فغير مأمون على طرف من الأطراف، وكان في ابن مدبر دهاء عظيم ورياء كبير، فخافه
23
وكره مقامه معه في البلد، فاجتمع مع شقير صاحب البريد على أن يكتب فيه إلى أمير المؤمنين بما يقدران به إزالته.
فلما كان بعد أيام كتب أحمد بن طولون إلى ابن مدبر: «قد كنت، أعزك الله، أهديت لنا هدية وقع الاستغناء عنها، فلم نجز تغنم
24
مالك، كثره الله، فرددناها توفيرا عليك، وأحب أن تجعل العوض منها الغلمان الذين رأيتهم بين يديك؛ فأنا إليهم أحوج منك.» فقال ابن مدبر: هذه أخرى أعظم مما تقدم قد ظهرت من هذا الرجل، كيف آمنه إذا كان يرد الأعراض والأموال ويستهدي الرجال ويستأثر عليهم؟ ولم يجد ابن مدبر بدا من أن يبعثهم إليه، فتحولت هيبته إليه، ونقصت هيبته هو بمفارقتهم مجلسه، وزال جمالهم له بين يديه في ركوبه، وكتب بخبره إلى الحضرة. ونمى الخبر إلى أحمد بن طولون، فأسره في نفسه ولم يبده، فأقام أحمد بن طولون أيام المعتز، فلما مات وجلس المهتدي بالله كان في نفسه على باكباك ما بعثه على قتله إياه، ورد جميع ما كان له وفي يده إلى يارجوخ التركي. وكان بين يارجوخ وبين أحمد بن طولون أجمل مما كان بينه وبين صاحبه باكباك، لما قدمنا ذكره من تزويجه ابنته من زوجته التي كان المتوكل أزوجه إياها، وكانت من جواريه، وكان لها محل وجلالة خطر، فكان يارجوخ من أكبر عدد أحمد بن طولون.
فلما حصلت مصر ليارجوخ في جملة ما حصل له من أمور باكباك، كتب إلى أحمد بن طولون يعرفه ما جرى ويقول: تسلم من نفسك لنفسك. وزاده جميع الأعمال الخارجة كانت عن مصر. وكتب إلى إسحاق بن دينار
25
وهو متقلد الإسكندرية بتسليمها إلى أحمد بن طولون، وعظمت منزلته وورد على ابن مدبر ما زاد في قلقه وغمه، ودعته الضرورة والخوف منه إلى ملاطفته والتقرب من قلبه.
كان موسى أخو أحمد بن طولون رجلا فيه خير، فلما حصلت الإسكندرية لأخيه، وهي بلد ثغر، أحب المقام بها، فسأل يعقوب أبا يوسف الكاتب، الذي كان ضمه الوزير إلى أحمد بن طولون عند رحيله إلى مصر أن يسأل أخاه في تقليده إياها، وكانت بينه وبينه مودة، فقال له: ابتدئ أنت بالقول وأنا أكفيك إذا خلوت به، فخاطب أخاه على مضض منه؛ لأنه كان لما قدما البلد أمر فيه ونهى كما
26
يفعل الأخ الشقيق [مع الشقيق] فثقل ذلك على أخيه، حتى إنه قصد قوما كان أخوه يعتني بهم بالأذية.
وأمسك موسى عما كان يعمله ويحمل مسألته، فيخرج من البلد ولا يكون معه فيه لما بينته، فلما سأله رد عليه ردا ضعيفا فأغضبه ذلك، فقال له: تالله لقد أيست منك ومن مرتبة أنالها بك في الدنيا، وإنما طلبت هذا البلد؛ لأنه ثغر من الثغور، اخترت المقام فيه والتعبد، فوعده بتقليده إياه.
وكان أحمد بن طولون يتوقع من يارجوخ إنفاذه إليه الكتب بولاية الثغور الشامية، وقد رشح أخاه موسى لتقليده إياه طرسوس؛ فإنها أجل مما طلب منه، وأسر ذلك إلى أن ترد الكتب به عليه، وأراد أحمد بن طولون بولاية أخيه طرسوس إحياء ذكره بالثغر؛ لأنه كان أغلب البلدان على قلبه محبة وآثرها عنده.
وعزم أحمد بن طولون على الخروج إلى الإسكندرية لمشاهدتها وتسلمها، فسأل موسى أبا يوسف الكاتب معاودة أخيه في أمرها له حسب ما وعده، فخاطبه في ذلك فوعده أيضا. وخرج أحمد بن طولون إليها مرابطا فرحا بما حصل له منها؛ لمحبته الثغور لا غير، وكان ذلك في سنة ست وخمسين ومائتين.
فحدث الواسطي أحمد بن محمد كاتبه عنه أنه قال لما وردت عليه الكتب برد الأعمال الخارجة إليه: الحمد لله كثيرا. وقال: تركنا لله، عز وجل، شيئا واحدا عوضنا منه أشياء أعظم منه وأجود وأحمد عاقبة، كانت نهاية ما وعدنا به على قتل المستعين بالله تقليد واسط، فخفنا الله، عز وجل، في قتله فلم نقتله، فعوضنا، جل اسمه، مصر وغيرها.
فلما قرب من الإسكندرية تلقاه إسحاق بن دينار، وقد كان وقف على ما جرى، وتوقع صرفه عنها، فخرج إليه حتى لقيه بأبعد المواضع، فلما رآه ترجل له، وأعطاه بحق الرياسة عليه، فأحشم
27
ذلك منه أحمد بن طولون وكان حييا رقيق الوجه، فاستحيا منه أن يصرفه عن البلد، فأقره عليه.
وجعل موسى يترقب من أخيه إنجاز وعده له، فلما طال ذلك سأل أبا يوسف أيضا المسألة، وقال له أبو يوسف: أيد الله الأمير، أخوك منتظر لوعدك، فقال له: ويحك قد كان ما وعدت به، وتالله إني لآمل له ما هو أجل منه، وقد ترى ما صنعه هذا الرجل معنا من الجميل، على محله أيضا في نفسه، ولا والله ما يحملني وجهي أصرفه عن عمله، فتلطف لي في أن تصرف رأي أخي عن هذا الأمر، وقل له: إن أخاك يرشحك إلى ما هو أجل من هذه المدينة، واحذر أن تطلعه على شيء مما ذكرته لك من أمر ابن دينار. فلما سأله موسى عن الجواب عرفه أن أخاه يرشحه لما هو أجل مما طلبه فلم يثنه ذلك وقال: ما أريد سوى هذه المدينة، وهي أحب إلي من كل ناحية جليلة. فلما رآه أبو يوسف لا ينتهي عنها كشف له الخبر، لما كان بينه وبينه من المودة، ولأنهما كانا يجتمعان على التعجب من مصادر أمور أحمد بن طولون ومواردها، وأن الحظ قد عمل له ما لم يقدره، حتى إنه قد حسن قبيحه، وأصلح رديئه.
فاغتاظ موسى مما حكاه له أبو يوسف، وصار إلى أخيه وقال له: بخلت علي بما لا مشقة عليك فيه. وخاطبه بدالة الأخوة بكلام فيه غلظ بحضرة الناس إلى أن قال له: ما أحسبك تخرج من الدنيا سالما؛ لقطعك لرحمك وسوء نيتك وتفضيلك غلمانك ومن تختاره بسوء رأيك على أقرب الناس منك، فلعن الله جوارك وأراحني منه. فأمر به فبطح، وضربه بيده مقارع يسيرة. فعاتب الناس موسى على ما خاطب به أخاه، وقالوا له: ليس أخوك اليوم هو الذي تعهده وتعرفه، فوفه حق الرياسة، واطرح دالة الأخوة. فلم يقبل، وكان فيه لجاج وكبر نفس، فراسله في أن يكتب له جوازا ليخرج عن البلد، فتغنم ذلك أحمد بن طولون منه ليربح قلبه منه ومن دالته عليه، فكتب له الجواز وأمر له بمال كثير فلم يقبله، وخرج غضبان إلى طرسوس، فقبض أحمد بن طولون على أبي يوسف وقال له: أظهرت لأخي ما أمرتك بستره عنه، فأوحشت بذلك ما بيني وبينه. وأنفذه من الإسكندرية إلى المطبق
28
بمصر.
وكان أحمد بن عيسى بن شيخ الشيباني يتقلد جندي فلسطين والأردن، فلما مات توثب ابن شيخ عليهما، وقال: هي من عملي. وحمل أحمد بن مدبر مالا إلى السلطان من مصر مبلغه سبعمائة وخمسون ألف دينار، فقبض أيضا عليه ابن شيخ، وقال: إنا نحتاج إليه للرجال. ففرقه في أصحابه. وبلغه اضطراب الأمور بالحضرة فقويت شوكته، فجمع الجموع، وقوي طمعه في التغلب على الشامات بأسرها. وشيع الناس، لما رأوا من قوة أمره أنه على أن يتغلب أيضا على مصر، وأنه مجد في ذلك.
فأنفذ المهتدي بالله حسينا الخادم المعروف بعرق الموت
29
ومعه الكريزي وأبو نصر المروزي
30
الفقيهان، ومعهما عهد على أنه إن رد ابن شيخ المال الذي أخذه وحمل ما وجب عليه عما كان يتقلده، وانصرف عن الشامات سلما العهد إليه وانصرفا عنه، فإن لم يفعل لم يسلما العهد إليه وكاتبا بخبره ليدبر أمره بما يجب.
فلما وردا عليه وخاطباه في ذلك، احتج في المال بأنه قد استهلك على الرجال، ثم لم يجبهما إلى شيء مما يحبونه، وورد الخبر بقتل المهتدي وجلوس المعتمد فلم يدع له ابن شيخ، ولا أخذ له بيعة على أصحابه، وأراد أن يوهمهما بذلك منه، فبلغ منهما فعله، واستعمل حسين الخادم مداراته، بأن دفع إليه عهده على أرمينية حتى أقام الدعوة للمعتمد وأخذ له البيعة، وعمل ابن شيخ على أن يستخلف على أرمينية ولا ينصرف عن أعماله، وتخلص حسين الخادم والكريزي والمروزي منه بما فعلوه، وعادوا إلى بغداد فعرفوا المعتمد ما كان من ابن شيخ.
وكتب إلى أحمد بن طولون يأمره بأن يتأهب للخروج إلى ابن شيخ، وأمره أن يزيد في عدته، وكتب إلى ابن مدبر أن يطلق له من المال ما أراد لذلك، فتبعهما أحمد بن طولون فعرض الرجال، وأثبت من يصلح إثباته، واشترى العبيد روما وسودانا، وجدد آلته وكل ما يحتاج إليه، وخرج وراسل ابن شيخ بقيس بن حفص كاتب بكار بن قتيبة وبأحمد بن يحيى السراج، وجعلهما معذرة بينه وبينهم قبل إيقاع الحرب، [وأوعز] إليهما بأن يدعواه إلى طاعة السلطان ورد ما أخذه من ماله المحمول كان من مصر، فأجابه بجواب قبيح، فلقياه بالجواب وقد نزل بالعباسة
31
فورد الخبر عليه بأن المعتمد قد أنفذ أيضا إلى ابن شيخ بغلام من غلمانه يعرف بماجور الإفرنجي.
32
وأقام أحمد بن طولون بموضعه إلى أن يعلم ما يكون من ماجور مع ابن شيخ، فلما قرب ماجور من دمشق أنفذ [عيسى بن شيخ] إلى ماجور ابنه منصور، وكان من الشجعان الفرسان، وبخليفته، وبجماعة من فرسان عسكره، فوافياه في جيش كثيف، وأمرهما أن يمنعاه دخوله دمشق وأن يحارباه، فالتقى العسكران فأول من قتل منصور بن شيخ وجماعة من وجوه أصحابه وأسر خليفته، فضرب ماجور عنقه وصلبه مع منصور، وانهزم سائر عسكرهم ولم ينج منهم إلا ذو فرس جواد عتيق.
ودخل ماجور دمشق عزيزا مظفرا، فلما اتصل الخبر بابن شيخ وقتل ولده وخليفته وصناديد عسكره، انخزل وفت ذلك في عضده،
33
وانكسرت نفسه، وضاقت به الشامات، فرحل عنها على طريق الساحل يريد أرمينية، وبلغ خبره ماجور فوجه بمن قبض على أعماله كلها، واستخلف عليها خلفاء من قبله، وتقلد أعمال الشامات كلها، وذلك في سنة سبع وخمسين ومائتين.
وعاد أحمد بن طولون إلى مصر وقد استكثر من العبيد والرجال
34
والآلات، فضاقت به داره، وكان هو والأمراء من قبله يسكنون في الدار التي تعرف إلى اليوم ببلد الإمارة التي لها بابان؛ أحدهما بالحارة المعروفة بحوض أبي قديرة، والمعروف إلى اليوم بباب الخاصة، وبابها الآخر الملاصق للشرطة الفوقانية، وكان باب الشرطة أيضا أحد أبوابها، وكانت كلها دارا واحدة ولها باب إلى المسجد الملاصق للشرطة، وكان يجمع فيه الجمعة، وفيه منبره ومقصورته إلى اليوم، وإنما فرقت هذه الدار حجرا بعد دخول محمد بن سليمان البلد، وبعد انحلال أمر آل طولون، وكانت في أيام هارون بن خمارويه قد صيرت ديوانا للخراج.
فركب أحمد بن طولون إلى سفح الجبل فاختط فيه قصرا، وأمر أصحابه وغلمانه وتباعه أن يختطوا لأنفسهم حوله وما قرب منه؛ فاختط الناس وبنوا حتى اتصل البناء بعمارة البلد، وهي هذه الدور الشارعة من حد قيسارية بدر إلى سوق الدواب.
واتصل البناء والعمارة من الجانب الآخر إلى أن جاوز المدينة ثم قطعت القطائع، وسميت كل قطيعة باسم من يسكنها، فكانت للنوبة قطيعة مفردة تعرف بهم، وللروم قطيعة أخرى وللفراشين قطيعة مفردة، ولغيرهم من كل صنف من الغلمان، وبنى القواد مواضع متعددة، فعمرت عمارة حسنة تفرقت فيها السكك والأزقة، وبنيت فيها المساجد الحسان والطواحين والحمامات والأفران، وسميت أسواقها فسمي منها سوق العيارين
35
يجمع فيه البزازين والعطارين وسوق الفاميين
36 [يجمع] فيه الجزازين والبقالين والشوائين، وكان في دكاكين الفاميين جميع ما في دكاكين نظرائهم في المدينة وأكثر وأحسن، وسوق الطباخين [يجمع] فيه الصيارفة والخبازين وأصحاب الحلواء، ثم لكل صنف من جميع الصنائع أفرد له سوقا حسنا عامرا نبيلا صينا.
فكانت هذه المدينة أعمر من مدينة كبيرة من مدن الشام وأكبر وأحسن.
وبنى قصره ووسعه وحسنه وبنى فيه ميدانا حسنا يضرب فيه بالصوالجة،
37
فسمي القصر كله الميدان من أجل الميدان، فكان كل من أراد الخروج من صغير أو كبير سئل عن ذهابه فيقول: إلى الميدان. وعمل له أبوابا وسمي كل باب منها باسم؛ فمنها باب الميدان ومنه كان يدخل ويخرج معظم الجيش، وسمي باب الصوالجة، وباب الخاصة لا يدخل منه إلا خاصته، و[ما] كان مما يلي المقطم سمي باب الجبل، وباب للحرم ولا يدخل منه إلا خادم أو حرمة، وباب سمي باسم حاجب كان يجلس عليه يقال له: الدرمون؛
38
لأنه كان رجلا أسود عظيم الخلق، وقلد النظر في جنايات الغلمان السودان والرجالة خاصة فسمي باب الدرمون، وباب آخر سمي باسم حاجب كان عليه يقال له دعناج، وباب عمل من خشب الساج سمي باب الساج، وباب في الشارع الأعظم كان يخرج منه إلى الجامع الذي بناه فسمي باب الصلاة، وصور عليه سبعين من جبس. وهذا الباب قائم بحاله إلى اليوم وهو يعرف بباب السباع أيضا في أول سوق الدواب. وكان الطريق الذي يعرج منه الفاصل إلى قصره طريقا واسعا، ولم يكن يكتنفه باب واحد ولا بابان فقطعه بحائط وعمل فيه ثلاثة أبواب كأكبر ما يكون من الأبواب، [وكانت] الدروب متصلة كلها واحد إلى جانب واحد، يفرق بين الناس الركن الذي ينصفق إليه الدرب.
فكان إذا ركب أحمد بن طولون لعيد أو لغيره يخرج عسكره منه متكاثف الخروج، على حسن ترتيب بغير زحمة، ويخرج هو من الباب الأوسط منها، لا يختلط به أحد، فتلك السكة إلى اليوم تسمى ثلاثة أبواب. ومن هذه الأبواب واحد قائم إلى اليوم، ودخل البابان الآخران بعدهما في بناء الناس لما انقضت أيامهم وخربت القطائع.
وكانت أبواب قصره، التي سمينا قبل هذا، تفتح بعد عرض الجيش أو يوم صدقة، وسائر الأيام تفتح على ترتيب في وقت وتغلق في وقت، وكان له في قصره مجلس يشرف منه يوم العرض ويوم المساكين، فينفذ منه من يدخل إلى جنب الخارج، فكانوا يردون من باب الصوالجة ويصدرون من باب السباع.
وبنى على باب السباع مجلسا يشرف منه ليلة العيد على القطائع، فيرى اضطراب الغلمان في تأهبهم وتصرفهم في حوائجهم، على مقدار كل واحد منهم، فإذا شاهد من واحد منهم يسيرا من الاختلال أمر له في الوقت بما يتسع به ويزيد في جماله، وكان يشرف منه أيضا على البحر وعلى باب المدينة وما والاهما، وكان متنزها حسنا.
وكان يصلي الجمعة في المسجد القديم الملاصق للشرطة، فلما ضاق عنه بنى الجامع الجديد بما أفاء الله عليه من المال الذي وجده فوق الجبل في الموضع المعروف بتنور فرعون، ومنه بنى العين المعروفة بعين أبي بن خليد، وتولى بناء العين والجامع رجل نصراني حاذق بالهندسة. ونحن نأتي بخبره إن شاء الله.
واتسعت أحواله بعد فراغه من بناء الجامع، وكثرت إصطبلاته لكثرة كراعه، وعظم صوته، فلما بلغ ماجور خبره خافه وهابه وكتب إلى الحضرة يقول: «أما بعد، فإنه قد اجتمع لأحمد بن طولون أكثر مما كان يجتمع لأحمد بن عيسى بن شيخ، والخوف منه أكثر؛ إذ كان فيه من الفضل ما ليس في أحمد بن شيخ.» وكتب أيضا أحمد بن مدبر وشقير الخادم صاحب البريد بمثل ذلك، فكتب [الخليفة] إلى أحمد بن طولون: «أما بعد، فإنا رأينا أن نرد إليك أمر دارنا بالحضرة وتدبير مملكتنا، فإذا قرأت كتابنا هذا فاستخلف على قصرك
39
من أحببت، والبلد لك وباسمك، واشخص إلينا لما ندبناك إليه، ورأيناك أهلا له، والسلام.»
فلما قرأ أحمد بن طولون الكتاب علم، بما فيه من الدهاء والذكاء والعقل وحزم الرأي، أنها حيلة توقع عليه، فأنفذ كاتبه أحمد بن محمد الواسطي إلى الحضرة، وحمل معه مالا كثيرا إلى الوزير، وكان يومئذ الحسن بن مخلد، وحمل إليه مع المال كل شيء حسن غريب، من دق
40
تنيس ودمياط، ومن الخيل والبغال وغير ذلك ما يجوز الوصف حسنا ومقدارا، وسأله أن تشمله عنايته في أن يطلق له ولده وحرمه، وكتب إلى يارجوخ صاحبه بما كتب به إليه، وعرفه ما كاتب به الوزير وسأله مسألته في أمره، وحمل أيضا إلى يارجوخ مالا ومتاعا، فلما وصل كتابه إلى الوزير وما حمله معه، قال لكاتبه: «لن نزعجه عن عمله، ولا يقبل فيه قول ساع سعى فيه.» وركب إليه يارجوخ فسأله فأجابه إلى إنفاذ ولده وحرمه، وأقر ولده في عمله وركبا إلى أمير المؤمنين فأحسنا القول فيه، وصغرا ما كتب به ماجور وابن مدبر وصاحب البريد، فأمر بتثبيت يده في عمله، فكتب إليه الوزير ويارجوخ بذلك، وأطلق له حرمه وولده فحملهما كاتبه إليه، ووافاه وقد بلغ له ما يحبه.
فلما ورد كتاب الوزير بذلك عليه سره غاية السرور، وتصدق من وقته بصدقات جليلة كثيرة، وحمل إليه الوزير أيضا هدايا حسانا ومالا كثيرا، وكتب إليه يشكر ما كان من تطوله عليه، واستدعى منه أن ينفذ إليه كتب من يكتب فيه من العمال بمصر وأهل البلد، فلما ملك به قلب الوزير وملأ به عينه بعثه على أن أنفذ إليه ما استدعاه، فأنفذ إليه كتاب شقير صاحب البريد بمصر يقول له: «إن أحمد بن طولون على التغلب على مصر والعصيان بها.» ثم أنفذ إليه كتبا من ابن مدبر بمثل ذلك.
فأحضر أحمد بن طولون شقيرا الخادم راجلا من داره وتقدم بأن يتعتع
41
ويكد في عدوه من داره بمصر إلى الميدان، وكان شقير الخادم مبدنا مرفها، وقصد أحمد بن طولون لعلمه بذلك منه أن يقتله التعب، فلم يصل إليه إلا وقد كادت نفسه تخرج، فلما مثل بين يديه أمر بأن تحضر السياط والعقابان
42
فأحضرا، وأمر بشده في العقابين وغفل عنه، فاستغاث ساعة، وسقطت قوته ووقع، وتبين فيه الموت فلم يضرب، وأمر برده إلى داره راكبا، فلما حصل فيها مات آخر نهار يومه.
وأنفذ أحمد بن طولون إليه العدول حتى شاهدوه عريانا، وأنه مات من غير ضرب ولا سبب غير فناء أجله، فكان علم أحمد بن طولون بأن ما عمله يبلغ به ما يحب من أمره من غير مكروه ضرب ولا غيره حسنا.
وكان ابن هلال قد تقرب من قلب أحمد بن طولون وتعبد
43
له، وكان له بمصر محل ونبل، فسأله أن يكتب إلى الحضرة يطلب له الخراج، فلموضعه منه ولما في نفسه من ابن مدبر سارع إلى ذلك، وأكد القول فيه إلى يارجوخ وإلى الوزير، فوردت عليه الكتب بتقليد ابن هلال عمل ابن مدبر، فقويت يد أحمد بن طولون على الاستخفاف بابن مدبر، والسعي فيه، وقبض عليه وحبسه في داره بحال سيئة.
وولي المعتمد فرد الخراج، باضطراب أخيه في أمره ببغداد، إلى ابن مدبر، ووردت الكتب بذلك على أحمد بن طولون، فأطلقه وتسلم الخراج، ولم يمكنه الإساءة لابن هلال لموضعه من أحمد بن طولون وانحرافه عنه هو، لما في نفسه منه، فتأمل ابن مدبر أمره، فإذا به يخاف من أحمد بن طولون خوفا لا يأمنه أن يأتي عليه، فكتب إلى أخيه يقول: تلطف لي في التخلص من أحمد بن طولون والخروج عنه، فأورد أخوه عليه الكتاب بتقليده جندي فلسطين والأردن ودمشق، وقلد أبو تراب أحمد بن شجاع
44
ابن أخت الوزير الخراج بمصر، وذلك في سنة ثمان وخمسين ومائتين.
فاستعمل أحمد بن مدبر مع أحمد بن طولون التلطف والحيلة في الخلاص منه، ووهب له ضياعا كان يملكها بمصر جليلة المقدار، وعقد نكاحا بين أبي الجيش ابنه وبين ابنته فحلة،
45
وخرج، فخرج أحمد بن طولون معه مشيعا له.
واستمال أحمد بن طولون معمر الجوهري، وكان له محل جليل بمصر وببغداد، وأخذ كتبه إلى أخيه ببغداد وإلى حدرى وجباب
46
الجوهريين، وكانا أجل أهل سر من رأى، وإلى جماعة من وجوه التجار بها، بأن يدفعوا إلى خليفته بالحضرة كل ما أحب من المال، وإن احتاج إلى ضمانهم عنه في شيء يحتاج إليه من المصانعة ضمنوا وكتبوا له بذلك، ليأخذ العوض منه بمصر.
فكان خليفة أحمد بن طولون بالحضرة طيفور التركي، وكان جلدا شهما ثقة، فكان كلما بلغه عن واحد من القواد أنه قد طلب عمل مصر وندب لها؛ لأن الموفق كان إذا تعذر عليه الرجال أو أكدوه،
47
قال: مصر خزانة السلطان وفيها أمواله فليخرج إليها أحدكم. فمن هم بذلك من القواد أخذ طيفور خليفته من التجار ما يريد من المال، على قدر محل الرجل، وركب إليه وقال له: أخوك أبو العباس أحمد بن طولون كتب إلي يقرأ عليك السلام، ويشكو شوقه إليك، ووحشته منك، ويقول لك: يا أخي وسيدي؛ لبعد الطريق وخوف العوائق امتنعت أن أحمل إليك من هدايا مصر، فتطول ببسط عذري في ذلك، واصرف هذه الدنانير فيما تحتاج إليه ، ولا تخلني من مكاتبتك وأخبارك وأحوالك وحوائجك فإني أسر بذلك، ويدفع إليه المال من ثلاثة آلاف دينار إلى ألفي دينار إلى ألف دينار على مقدار الرجل، فيلحق الرجل من ذلك احتشام ويمتنع من أخذه، حتى يسأله طيفور ويخاطبه عليه بما يزيل احتشامه فيأخذه، وقد كبر أحمد بن طولون في قلبه، وعظم في صدره، وملكه جميل فعله، وإذا ذكرت له مصر استبعد طريقها، وتثاقل عن قبول تقلدها، وإن كان هو الخاطب لها أضرب عن ذكرها. ولا يخلو أيضا من أن يكون بينه وبين التجار الذين قد كاتبهم معمر في أمر أحمد بن طولون معاملة فيصيرون إليه ويطالبونه بما لهم عليه من المال، ويقولون له: أنت قد عزمت على الخروج إلى مصر وهو بلد لا ترجى فيه سلامة من يخرج إليه؛ لأن من قصده إنما يقصده مائة ألف عنان، فمن سمع هذا ولو لم يكن حصل له مال يجب قلبه
48
ويقوى امتناعه، فكيف وقد انضاف إلى ذلك ما صار إليه، فإذا حلف لهم أنه لا يخرج، قيل له: جوزيت، ليس تحصل إلا على فساد ما بينك وبين أحمد بن طولون، وقتل أصحابك وذهاب مالك، إن سلمت نفسك، فيزداد بذلك امتناعا، ولما فعل في أمره خوفا واحتشاما، فكانت هذه الأحوال تقوي أمره، ويزول عنه ما يتخوفه؛ لأنه علم أن بلده مذموم مظلوم.
ولما دخلت سنة خمس وخمسين ومائتين خرج رجل علوي لقب نفسه ببغا الكبير، وذكر أنه أحمد بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن طباطبا بين برقة والإسكندرية بموضع يعرف بالبدريين [؟]، ثم صار إلى صعيد مصر، فوجه إليه أحمد بن طولون قائدا يعرف ببهم بن الحسين، فكانت بينهما وقعة قتل العلوي في معركتها، فأخذ رأسه وانهزم أصحابه وتمزقوا.
ثم خرج بعده في سنة ست وخمسين ومائتين رجل ذكر أنه
49
إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن علي بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، صلوات الله عليهم أجمعين، وكان يعرف بابن الصوفي أيضا. وجاءت الأخبار أنه دخل إسنا
50
وعاث وأفسد في نواحيها،
51
فوجه إليه أحمد بن طولون بقائد من قواده يعرف بابن يزداد، فظفر به العلوي فقطع يده ورجله وصلبه، فبلغ ذلك أحمد بن طولون، فأنفذ إليه بهم بن الحسين، فالتقيا بنواحي إخميم
52
فهزم العلوي ونهب سواده، وقتل خلقا كثيرا من رجاله وانفل أمره،
53
وعاد بهم بن الحسين إلى أحمد بن طولون فعرفه بما جرى من أمرهم، فخلع عليه خلعا حسانا، وطوقه بطوق ثقيل من ذهب صامت، وأجازه وقاد بين يديه خيلا حسانا، فكان بهم إذا ركب في الأعياد يركب بذلك الطوق.
ودخل ابن الصوفي
54
إلى نواحي الواحات
55
وأقام مدة، ثم ظهر في نواحي الأشمونين،
56
فأنفذ إليه قائدا يعرف بابن أبي المغيث،
57
فوجده قد صاعد إلى الصعيد، لقتال رجل ظهر بالصعيد، زعم أنه عبد الحميد بن عبد الله بن عبد العزيز بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب، رحمه الله، يكنى أبا عبد الرحمن.
58
وكان السبب في خروجه أن البجة
59
أقبلت في يوم عيد يقدمهم رجل أعور مارد، كلهم ركبان على النجب، حتى كبسوا الناس في مصلاهم، وقتلوا فيهم ونهبوا ورجعوا من حيث جاءوا سالمين، وكان لهم قبل ذلك مقدمات كذلك، فخرج هذا العمري غضبا لله، عز وجل، وللمسلمين، فكمن لهم في طريقهم حتى أقبلوا كعادتهم فكبسهم، وقتل رئيسهم الأعور ومن معه؛ ولهذا السبب كانت الطولونية وغيرهم من الأمراء وإلى اليوم يوقفون من سفح الجبل مما يلي الموضع المعروف بالحبش جيشا كثيفا، مراعيا للناس، حتى ينصرفوا من عيدهم في كل عيد.
ثم دخل هذا العمري إلى بلاد البجة، فقتل فيهم مقتلة عظيمة، وضيق عليهم بلادهم، وصار شجا في حلوقهم حتى أدوا إليه الجزية استكفافا له، وما أدوها لأحد قبله، فكان لا يعرض لأحد من الناس بأذية لا ذمي ولا ملي، وكان مسالما للنوبة للعهد الذي لهم حتى بدا له النوبي الأول الذي بالموضع المعروف بمريس
60
فعطف عليه العمري، وأجلاه عن دياره، وحرق مدائنه، وسبى منهم سبيا كثيرا، حتى إنه كان الرجل من أصحابه يشتري الحاجة من البياع أو من البقال بنوبي أو بنوبية؛ لكثرتهم كانوا في أيدي أصحابه.
فلما التقى هو والعلوي كانت بينهما وقعة انهزم فيها العلوي وصار إلى ناحية أسوان؛
61
فعاث بها وأفسد، وكتب بخبره إلى أحمد بن طولون فكتب إلى بهم بن الحسين يأمره بأن يصاعد في طلبه حيث قصد.
فلما اتصل الخبر بالعلوي مضى هاربا إلى عيذاب
62
وركب البحر إلى مكة وتفرق عنه أصحابه، فلما حصل بمكة بلغ خبره صاحب مكة، فقبض عليه وحبسه عنده، ثم حمله إلى أحمد بن طولون، فلما وصل إلى مصر طيف به وشهر للناس على جمل، واعتقله عنده مدة، ثم أظهر توبة، فأطلقه وأحسن إليه، وخرج إلى المدينة ومات فيها.
ولما وقف أحمد بن طولون على خبر العمري وشدة شوكته على البجة وغيرهم، خاف من سوء العاقبة في أمره إن أغفله فأنفذ جيشا عليه قائد من قواده يعرف بشعبة بن خركام البابكي، فلما قرب منه خرج إليه العمري وقال لأصحابه: لا تعجلوا فإن هذا رجل أعجمي، وأنا أخاطبه بنفسي وأنظر ما عنده.
فخرج من عسكره وقال لمن قرب من عسكر شعبة: إني أريد أخاطب الأمير قبل وقوع الحرب بيننا. فعرف شعبة ذلك فخرج إليه، فلما قرب منه خرج إليه العمري بحيث يسمع بعضهم كلام بعض، فقال له العمري: إن الأمير أحمد بن طولون لم يبلغه خبري على حقيقته، وقد موه عليه في أمري، إني لم أخرج أبغي فسادا، ويدلك على ذلك أني لم أوذ مسلما [ولا] معاهدا، وإنما خرجت في طلب أعداء المسلمين حتى كفانا الله أمرهم، فاكفف يدك عن القتال حتى أكتب إلى الأمير، أعزه الله، وأكشف له خبري، وتكتب أنت أيضا، فإن قبل عذري ولم تثقل عليه وطأتي وأمن جانبي، كتب إليك بالكف والانصراف عني، فانصرفت معذورا مشكورا، وإن أمرك غير ذلك امتثلت أمره غير ملوم، فقال له شعبة: لست أنا فيجا
63
لك أحمل كتابك، ما بيني وبينك إلا السيف. فقال له العمري: ما أنت بحمد الله شعبة الرجال، بل أنت بلعبة النساء أشبه، وما هذا الفعل السيئ والخلق القبيح إلا لمن هو كذلك.
ورجع إلى أصحابه وقال: هذا رجل جاهل أحمق فدونكم، فعطفوا به وحملوا عليه، فانهزم أقبح هزيمة، وعادة [شعبة] إلى أحمد بن طولون فعرفه ما كان، فقال: أخطأت وأسأت، كنت قد أمهلته، وكتبت إلينا بخبره على صحته، لنرى فيه رأينا، لكنك بغيت عليه فنصر عليك.
وأهمل أحمد بن طولون أمره مدة، فلما كان بعد شهور يسيرة وافى إلى أحمد بن طولون غلامان
64
زعما أنهما من غلمان العمري وأنهما أتياه برأسه، فاستحضرهما الرأس فأحضراه، فدعا بجماعة من أهل الصعيد ممن يعرف العمري فأراهم الرأس، فعرفوه وشهدوا أنه رأس العمري لا يشكون فيه، فقال للغلامين: كان صاحبكما مسيئا إليكما؟ قالا: لا. قال: فكان يمنعكما رزقكما؟ قالا: لا. قال: فركب بحضرتكما إثما استحللتما به قتله؟ قالا: لا. قال: فلم قتلتماه؟ قالا: لأنا أردنا بذلك الحظوة عند الأمير والقرب منه. فقال: ذاك والله أبعد لكما مني ومن الله، عز وجل. وأمر بضرب عنقهما فضربت وصلبت جثتاهما، وأمر برأس العمري فغسل وكفن وطيب ودفن.
ثم ورد عليه الخبر بخروج رجل في الصعيد أيضا يكنى أبا روح، واسمه سكن، من بوادي بحيرة الإسكندرية، ذكر له أنه من بقايا أصحاب ابن الصوفي، والتفت به طائفة كبيرة، فقطع الطريق وأخاف السبيل؛ فوجه إليه قائدا من قواده يعرف بيلبق الطرسوسي وكان جل أصحابه طرسوسيين، وكان أبو روح هذا غلاما عيارا قد ربي بالريف وعرف طرقاتها والحرب فيها، فلما اجتمعا للقتال أوقف أصحابه في أرض كثيرة الشقوق، حصيدة قمح، قد بقي من تبنه ما يستر شقوقه، وأهل الريف قد ألفوا المشي في هذه الأماكن ولا عهد لأهل طرسوس بها، فلما التقوا تطارد أصحاب أبي روح لهم، وطلبتهم خيل يلبق وفرسانه، فوقعت حوافر الخيل في تلك الشقوق فكبت بفرسانها، وسقط بعضهم على بعض، فتراجع أصحاب أبي روح عليهم، فقتل كل من سقط، وانهزم من سلم أقبح هزيمة، فعاد يلبق إلى مصر، فكان الذي لقي هو وأصحابه من غوغاء البلد وعطعطتهم
65
أعظم مما لقوه من الهزيمة.
وأهمل أحمد بن طولون أمره هنيهة إلى أن وافاه خبره من نواحي الفيوم، فأنفذ إليه قائدا من قواده يعرف بابن جيغويه، وأمره أن يأخذ على طريق الواحات من ناحية الصحراء، ليملك عليه فم البرية من هناك ففعل، ثم أمر شعبة بن خركام بالخروج إليه فخرج، وظن أصحاب أبي روح أن هذا كالأول فلم يهربوا منهم وصافوه
66
بالإبليز
67
الكثير الشقوق، فأقبل أصحاب شعبة ينادون: خذوا حذركم من الشقوق فحذروها وهم عليها، وأخذوا عليهم نواحي طرقهم، فلما علموا أنهم قد فطنوا لهم وأن مكيدتهم قد بطلت ولوا منهزمين، فلم يذهب منهم أحد إلا أخذه النشاب فقتل منهم خلق، ومن استسلم أسر، وانهزم أبو روح وولى يريد طريق الواح ولا ملجأ له غيره، فلما أشرف على ابن جيغويه رآه قد ملك فم البرية والطريق، وقف وراسله في الأمان، فظن ابن جيغويه أن شعبة لم يلقه، وأنه وافاه قاصدا يطلب الأمان راغبا فيه فأمنه.
ولما بلغ أحمد بن طولون ذلك اغتاظ على ابن جيغويه غيظا عظيما، ومنعه من الرجوع إلى البلد، وألزمه سكنى الريف شهورا كثيرة؛ عقوبة له على إعطائه الأمان، وكان قد تم له هلاك العدو بأخذه الطريق.
وبعث شعبة بالأسارى وفيهم رجل مخزومي، وكان، فيما زعموا، سيئ المقدرة رديء الظفر، فضربه أحمد بن طولون بالسوط، وحمله على جمل فمات في الطريق، فمكث زمانا مطروحا على رأس الجسر. وكان فيهم رجل يهودي منجم، فقال له أحمد بن طولون: أرأيت هذا في نجومك؟
68
فقال: نعم قد رأيته ونصحت له فلم يقبل نصيحتي، فأمر به فقطعت يداه ورجلاه وصلب حيا مقابلا للمخزومي حتى مات.
ثم هاج بعد أبي روح أهل برقة ووثبوا بأميرهم محمد بن فروخ
69
الفرغاني، وأخرجوه عن البلد، فأنفذ إليهم أحمد بن طولون أبا الأسود الغطريف ويزبك الفرغاني وكان من حجابه، وهو صاحب الرحبة المجاورة لدور الماذرائيين المسماة به، في جيش عظيم، وبعث إليهم أيضا مراكب مشحونة رجالا وسلاحا وبمنجنيق، وأتبعهم بجيش آخر عليه لؤلؤ غلامه، فلما فصل لؤلؤ أتبعه أيضا جيشا آخر عليه شعبة بن خركام، وأمر رئيس كل جيش منهم بالتوقف والتساند وبذل السلامة والأمان، إن قبل، وتقديم المعذرة وترك العجلة، فإن أجابوه وإلا السيف.
ولبرقة حصن منيع، فترك الغطريف يزبك على أحد أبوابه، وترك لؤلؤا على باب آخر، واستعملوا الرفق كما أمروا فأمنوا بذلك، وأطمعهم
70
اللين، ففتحوا الباب الذي عليه الغطريف ليلا وأوقعوا بعسكره، فلما وقعت الصيحة تسرع الغطريف وقائد معه يعرف بدعباش وابن لفروخ يعرف بإسرائيل، فقتلوا جميعا في المعركة، وأصبح عسكر أبي الأسود بلا رئيس، فانضم أهله إلى عسكر لؤلؤ، فكان تسرع الغطريف تسرع باسل لزمه فرض وطمع في الظفر وعجل، ولو تثبت وكان في أجله تأخير لم يقتل. كما روي عن هشام بن عبد الملك أنه قال لأخيه مسلمة: أذهلك ذعر قط لحرب أو عدو؟ فقال: ما سلمت في ذلك من ذعر بيته على حيلة تكون معها السلامة، وما غشيني قط فيهما ذعر سلبني رأيي، فقال له هشام: هذه المقالة.
وروي أن عمر بن الخطاب أمر الأحنف بن قيس على جيش وجه به نحو خراسان، فلما قربوا منهم فرقوا جيشهم ثلاث فرق، وأقبلوا تدلهم طبولهم على السبيل، ففزع الناس، فأول من ركب الأحنف فخرج وهو يقول:
إن على كل رئيس حقا
أن يخضب الصعدة أو تندقا
وحمل على صاحب الطبل فقتله، فلما فقد أصحابه ضرب الطبل ولوا منهزمين، وفعل في الفريقين كفعله في الأول فتكامل ركوب الناس، وقد فرغ لهم الأحنف مما أرادوا فتتبعوهم، فكانوا بين قتلى وأسرى.
وأراد الغطريف أن يصنع هكذا فخانه المقدار، ولكل ميتة سبب، فقال أصحاب الغطريف: ما ننتظر؟ إن لم نناهضهم وإلا عملوا كل ليلة مثل هذا.
فكتب لؤلؤ إلى مولاه بجملة الخبر وما يعمل وما فعلوه، فكتب إليه يأمرهم بقتالهم ويقول: قد أحسنتم في توقفكم، وأنتم الآن تنصرون بمشيئة الله وعونه، فباكرهم لؤلؤ طالبا لثأر صاحبه كما قال الشاعر:
إذا ما وترنا
71
لم ننم عن تراتنا
ولم نك أوغالا نقيم البواكيا
72
ولكننا نزجي الجياد شوازبا
73
فنرمي بها نحو الترات المراميا
وعبأ عسكره ونصب منجنيقاته، وزحف إلى الحصن، فلما جد بهم القتال وأخذتهم الحجارة والنشاب، صاح بعضهم وطلب الأمان، وفتحوا له الباب، ودخلوا عليهم، وقبضوا على جماعة من رؤسائهم فضربهم بالسوط، وقطع أيدي جماعة منهم، وصلب منهم طائفة، وكتب إلى مولاه بالفتح.
ووصل شعبة إلى لؤلؤ بعد الفتح، فاستخلفه لؤلؤ على البلد، ودخل إلى الفسطاط، وحمل معه جماعة من الأسرى ليرى مولاه فيهم رأيه، فلما وصل إلى الجيزة بعث إليه مولاه بالخلع وبطوقين حسنين ثقيلين، فلبس الخلع والطوقين وحمل الأسرى بين يديه، وطاف بهم البلد، فسكنت رهبة أحمد بن طولون في صدور الناس حتى كان يفزع الصبيان [و]الأطفال.
ومن إقباله أن المعتمد لما أنفذ أبا أيوب على الخراج، وكتب إلى أحمد بن طولون في استحثاثه على حمل الأموال، وإدرار الحمل إليه، أجاب المعتمد يقول: إنه لا يستتر ما أحمله من الأموال عن الأولياء، ولا يخفى عن الموالي والمطالبين به، وفيه تأخير كبير من أرزاقهم، ولا يتهيأ أيضا إدرار الحمل والمتابعة به والخراج إلى غيرهم، فأنفذ المعتمد نفيسا الخادم إليه بتقليده الخراج مع المعونة بمصر والثغور الشامية، ووجه مع نفيس بصالح بن أحمد [بن حنبل]
74
وكان على قضاء الثغور، وبمحمد بن محمد الجذوعي
75
وكان على قضاء واسط، على أن يحمل ما جرى الرسم بحمله من المال والطراز
76
وغير ذلك.
فأخرج أحمد بن طولون شيوخ مصر ووجوهها إلى العراق يشكرون سيرته فيهم، وضبطه لبلدهم، وأنفذ معهم أصحاب أخبار من حيث لا يعلمون بهم، يحصون عليهم ما يكون من واحد واحد، وينهونه إليه عند عودتهم، فعادوا ولم يعرف سيئ منهم، فشكر لهم ذلك وأحسن برهم، وزادت محبته لهم.
وأقر أحمد بن طولون أبا أيوب على الخراج من قبله، وجعل عبد الله بن دشومة أمينا عليه، وجعل نعيما المعروف بأبي الذؤيب عينا عليهما، وقلد الأملاك لسليمان بن ثابت المعروف بأبي ريشة، وكان عبد الله بن دشومة منهم واسع الحيلة، بخيل الكف، لم يكن يعيبه غير بخله وزهده في شكر الشاكرين، ويرى بجهله وما حرمه الله عز وجل من اصطناع الجميل، أن الثناء حيلة من حيل القاصد على المقصود، ولا يهش إلى شيء من أعمال البر فمقته الناس على ذلك، وكثر به الدعاء عليه، وكان فيه مع هذا الشر سعاية.
وكان أحمد بن طولون رقيبا على نفسه يتصدق في أثر الإساءة، إذا جرت منه إلى إنسان، بالصدقات الجزيلة، ويتضرع إلى الله جل اسمه في تمحيص ما جناه، فكان بذلك يوفى ويكفى وينصر.
77
ولما ورد عليه كتاب المعتمد بما استدعاه من رد الخراج بمصر إليه، وزاده المعتمد مع ما طلب خراج الثغور الشامية، رغب بنفسه عن أدناس المعاون ومرافقها، فرفضها وأمر بتركها، وكتب بإسقاطها في سائر الأعمال، ومنع المتقبلين
78
من الفسخ على المزارعين، وحظر الارتفاق
79
على العمال.
وكان قبل إسقاط المرافق بمصر قد شاور عبد الله بن دشومة في ذلك، فقال له: إن أمنني الأمير تكلمت بما عندي. فقال له: قد أمنك الله، عز وجل، مني فقل. فقال: أيها الأمير إن الدنيا والآخر ضرتان، فالحازم من لم يخلط إحداهما مع الأخرى، والمفرط من خلط بينهما؛ فيتلف أعماله ويبطل سعيه. وأفعال الأمير، أيده الله، أفعال الخيرة، وتوكله توكل الزهاد، وليس مثله ركب خطة لم يحكمها، ولو كنا نثق بالنصر دائما طول العمر لما كان شيء آثر عندنا من التضييق على أنفسنا في العاجل بعمارة الآجل، ولكن الإنسان قصير العمر، كثير المصائب، مدفوع إلى الآفات
80
فترك الإنسان ما قد أمكنه وحصل في يده تضييع. ولعل الذي حماه نفسه يكون سعادة لمن يأتي بعده، فيفوز ذلك بما قد حرمه هو.
ويجتمع للأمير، أيده الله، مما قد عزم على إسقاطه من المرافق في السنة بمصر دون غيرها مائة ألف دينار، وإن فسخ ضياع الأمراء والمتقبلين في هذه السنة؛ لأنها سنة ظمأ توجب الفسخ، وألزمت القصبة
81
الاثنين زاد مال البلد وتوفر توفرا عظيما ينضاف إلى مال المرافق، فضبط به الأمير، أيده الله، أمر دنياه، وهذه طريقة خدمة الدنيا وإحكام أمور الرياسة والسياسة فيها، وكل ما عدل إليه الأمير، أيده الله، من غير هذا فهو مفسد لدنياه، وهذا رأيي، والأمير، أيده الله، أعلى عينا وما يراه.
82
فقال له: ننظر في هذا إن شاء الله. وشغل قلبه كلامه، فبات من تلك الليلة بعد أن مضى أكثر الليل يفكر في كلام ابن دشومة، فرأى في منامه رجلا من إخوانه الزهاد بطرسوس وهو يقول له: ليس ما أشار به عليك من استشرته في أمر الارتفاق والفسخ برأي تحمد عاقبته فلا تقبله، ومن ترك شيئا لله، عز وجل، عوضه الله عنه، فأمض ما كنت عزمت عليه.
ولما أصبح ابن طولون أنفذ الكتب إلى الأعمال بذلك، وتقدم به في سائر الدواوين وأمضاه ودعا بابن دشومة فعرفه ذلك فقال له: قد أشار عليك رجلان؛ أحدهما في اليقظة، والآخر ميت في النوم، وأنت للحي [أوجد] وبضمانه أوثق، فقال: دعنا من هذا فلست أقبل منك، وركب في غد ذلك اليوم إلى الصيد.
فلما أمعن في الصحراء ساخت في الأرض يد فرس بعض غلمانه، وهو رمل، فسقط الغلام لنزول يد الفرس كلها في الرمل، فوقف عليه أحمد بن طولون وأخرجت يد الفرس، فنظر فإذا بفتق ففتح، وأصاب فيه من المال [ما] كان مقداره ألف ألف دينار، وهو المطلب
83
الذي شاع خبره، وكتب به إلى العراق، وكتب أحمد بن طولون بخبره إلى المعتمد يستأذنه فيما يصرفه فيه من وجوه البر أو غيرها مما يأمره به، فكتب إليه المعتمد يأمره بأن يصرفه في وجوه البر، فبنى منه البيمارستان، ثم أصاب بعده في الجبل مالا عظيما فبنى منه الجامع، وأوقف جميع ما بقي من المال في الصدقات، فكانت صدقاته ومعروفه لا تحصى كثرة، بنية قوية وشهوة شديدة.
ولما انصرف أحمد بن طولون من الصحراء وحمل المال أحضر ابن دشومة وأراه المال وقال له: بئس الصاحب والمستشار أنت، هذا أول بركة مشورة الميت في النوم، ولولا أنني أمنتك لضربت عنقك. وتغير عليه أحمد بن طولون وسقط محله عنده، ورفع إليه بعد ذلك أنه قد أجحف بالناس، وألزمهم أشياء ضجوا منها، فقبض عليه وأخذ ماله وحبسه فمات في حبسه.
ومن أفعاله خبره مع موسى بن بغا، وذلك أنه لما زاد أمر صاحب البصرة واستفحل وكان ابتداء خروجه في سنة أربع وخمسين ومائتين أنفذ المعتمد رسولا في حمل أخيه المسمى بالموفق من مكة إليه، وكان المهتدي قد نفاه إليها، فلما وصل إليه عقد العهد بعده لابنه المفوض وله من بعده ولقبه بالموفق، وقسم المملكة بينه وبين ابنه المفوض كما فعل الرشيد في أمر ابنيه، فجعل غرب المملكة لابنه المفوض وشرقها لأخيه الموفق، وكتب بينهما بذلك كتابا ارتهن فيه أيمانهما بالوفاء بما وقعت عليه الشروط على كل واحد منهما وله، وضمن ذلك العهد الثابت في الشرط كل ما يخاف من مثله العاقبة. والمعتمد ما يعلم [ما] في طوية الموفق ولا في سره، وكان يحسد أخاه على الخلافة فلا يراه أهلا لها، ويطعن عليه، وينقص من أمره جدا.
ولما جعل العهد لابنه، ولقبه المفوض، وجعله هو بعده، اشتد ذلك عليه
84
وقوي بغضه لابنه، وزاد حقده على أخيه المعتمد، واعتقد فيه، متى ظفر بالأمر، التشفي منه، وبلوغ كل مكروه به، وكان، لعمري، المعتمد بالله منحل الأمر جدا؛ لأنه كان رجلا متشاغلا بملاذ نفسه وطيبة عيشه بالصيد واللعب، والتفرد مع الجواري، فكانت الأمور ضائعة والتدبير فاسدا، وكل متقلد لعمل قد فاز بما يتقلده، ففعل كفعلة [الرشيد] بابنيه المأمون ومحمد بن زبيدة احتياطا وإشفاقا عليهما، ولم يعلم أن ذلك كان منه لثقته بابنيه على نفسه وحاله، فقدر ذلك في أخيه وولده، ولم يعلم ما في ضميره له، وأنه يخرج عن طاعته ولا يشكر جميله عنده.
وإنما وقع الخلاف بين محمد بن زبيدة وبين المأمون؛ لنقص محمد عن محل المأمون في نفسه وشجاعته وفضله في كل فن من سائر العلوم.
ولقد عاتبت زبيدة الرشيد على تفضيله المأمون على ابنها فقال لها: الساعة أبين لك فضل كل واحد، فوجه إلى ابنها، وقد مضى من الليل وقت، يدعوه إليه، فوافاه وعليه ثياب المنادمة مبخرا مطيبا، فقال له: اشتقت إلى رؤيتك. فسقاه بيده قدحا، ووهب له من جوهر كان بين يديه جوهرة واحدة حسنة وصرفه. ووجه إلى المأمون يدعوه فأبطأ، ثم سمع بعد ذلك للدار ضجة عظيمة وجلبة هائلة، ثم دخل إليه وعليه صدرة السلاح بجوشنه وخوذته
85
وآلة الحرب، وعرف الرشيد بأن الجيش قيام له في السلاح فقال له: ما هذا؟ فقال: خفت أن يكون قد حدث حادث احتاج أمير المؤمنين إلى إنفاذي فيه فجئت مستعدا، فقال له: بارك الله عليك، إنما اشتقت إليك، انصرف مصاحبا. ووهب له جميع الجوهر. وقال لها: كيف رأيت؟ فأمسكت عن المأمون.
وكان في الشرط الذي كتبه المعتمد بين الموفق وابنه أنه ما حدث في عمل كل واحد منهما من حدث كانت النفقة عليه من مال خراج قسمه، واستخلف المفوض على قسمه موسى بن بغا، فاستكتب موسى عبيد الله بن سليمان بن وهب، وانفرد الموفق بقسمه، وتقدم إلى كل واحد منهما ألا ينظر في عمل صاحبه، وخلد كتاب الشرط للكعبة، وأفرد الموفق لمحاربة العلوي البصري، وأخرجه إليه وقواه، وضم إليه الجيوش، فلما كبر عليهم أمر العلوي البصري، وطالت محاربته، انقطعت مواد خراج الشرق عن أبي أحمد الموفق، وتقاعد الناس عن حمل المال الذي كان يحمل، واحتجوا في ذلك بأشياء؛ منها خروج العلوي وما لحقهم منه، وأخذه من أموالهم، ومنها خوفهم من أن يؤخذ ما يحملونه في الطريق، لكثرة أصحاب العلوي وانتشارهم في الطرق، ومنهم من يتربص بالحمل لينظر كيف تكون الأمور، ولمن يصح الأمر.
فدعت أبا أحمد الموفق الضرورة إلى أن كتب إلى أحمد بن طولون في حمل ما يستعين به على أمره، وليتثبت من صدق عمله، إلا أنه شكا في كتابه شدة حاجته إلى المال لما هو بسبيله، وأنفذ إليه لحمل المال نحريرا خادم المتوكل، وورد في عقب الكتاب إليه كتاب من المعتمد يأمره بحمل المال إليه على رسمه، مع ما جرى الرسم بحمله مع المال في كل سنة من الطراز والرقيق والخيل والشمع والخيش وغير ذلك.
وكتب إليه [المعتمد] سرا أن الموفق إنما أنفذ نحريرا الخادم إليك عينا عليك ، ومستقصيا على أخبارك، وأراه أنه قد كاتب بعض أصحابك فاحترس منه، واحمل المال إلينا معه، لئلا تقوى يد الموفق به، وعجل إنفاذه من حضرتك.
ولما وافى نحرير أنزله أحمد بن طولون في دار معه في الميدان، ومنعه من الركوب إلى موضع من المواضع، ولم يمكنه الخروج من الدار التي أنزله فيها، إلى أن أخرجه من البلد، وتلطف في الكتب التي كانت معه فأخذها، وحمل معه ألف ألف ومائتي ألف دينار،
86
وحمل جميع ما جرى الرسم بحمله، وخرج بنفسه، وأخرج معه العدول حتى شيعه إلى العريش، ووجه إلى صاحب ماجور بالعريش فأحضره وسلمه والمال إليه، وأشهد عليه بذلك العدول، وعاد إلى مصر ينظر في الكتب، فإذا هي إلى جماعة من قواده، يضريهم عليه، ويستميل قلوبهم إليه، لما كان في نفسه عليه من قوة موالاته للمعتمد، وصحة طاعته له.
وكانت قد قويت شوكة الموفق بمن ضمه إليه المعتمد من الجيوش والعدة لمناوأة العلوي البصري،
87
فممن كان كتابه إليه جوابا عن كتابه كان إليه بدر الحفيفي، وهو صاحب القيسارية الوفائية التي تعرف بقيسارية بدر، وإليه كانت ضياع أبي أحمد بن المتوكل والطراز والخيم وصناعتهما، وكان من وجوه غلمانه وكبارهم فضربه بالسوط حتى مات. ومنهم أحمد بن عيسى الصغدي، وكان رجلا من أجلاء أصحابه، فضربه أيضا بالسوط، وحلق رأسه ولحيته وطاف به البلد، وحبسه في المطبق وكان إحسانه إليه وعليه فما شكر ذلك وكفره.
ولما وصل المال كتب أبو أحمد الموفق إلى أحمد بن طولون كتابا يستصغر فيه المال، ويقول: إن الحساب يوجب أضعافه. وبسط لسانه فيه، والتمس من أصحابه من يخرج متقلدا عمله فأعوزه ذلك، لما كنا قد ذكرناه من ملاطفة أحمد بن طولون لوجوه أهل الدولة الذين يندب أحدهم لمثله، وكتب بذلك إلى أحمد بن طولون أصحاب أخباره، فلما قرأ أحمد بن طولون كتاب الموفق قال: وأي حساب بيني وبينه أو حال توجب مكاتبتي بمثل هذا وغيره؟ وأجابه جوابا نسخته:
88
بسم الله الرحمن الرحيم، وصل كتاب الأمير، أيده الله، وفهمته، وكان، أسعده الله، حقيقا بحسن التخير له في اختياره مثلي، وتصييره إياي عمدته التي يعتمد عليها، وسيفه الذي يصول به، وسنانه الذي يتقي الأعداء بحده؛ لأني دأبت في ذلك، وجعلته وكدي، فاحتملت الكلف العظام، والمؤن الثقال، باجتلاب كل موصوف بشجاعة، واستدعاء كل منعوت بغناء وكفاية، بالتوسعة عليهم، وتواصل الصلات والمعاون لهم؛ صيانة لهذه الدولة، وذبا عنها، وحسما لأطماع الشانئين لها، والمنحرفين عنها. وكان من هذه سبيله في الموالاة، ومحله في المناصحة، حريا أن يعرف له حقه، ويوفر من الإعظام قدره،
89
ومن كل حال جليلة حظه ومنزلته، فعوملت بضد ذلك من المطالبة بحمل المال مرة، والجفاء في المخاطبة أخرى، بغير حال توجب ذلك، ثم أكلف على الطاعة جعلا، وألزم للمناصحة ثمنا، وعهدي بمن استدعى ما استدعاه الأمير من طاعته يستدعي ذلك بالبذل والإعطاء والإرغاب
90
والإرضاء والإكرام، لا أن يكلف ويحمل من أطاعه مئونة وثقلا. على أني لا أعرف السبب الذي ينتج الوحشة، ويوقعها بيني وبين الأمير، أيده الله، ولا ثم معاملة توقع مشاجرة، أو تحدث منافرة؛ لأن العمل الذي أنا بسبيله لغيره، والمكاتبة في أموره إلى سواه [وتقليدي ليس من قبله ولا ولايته]
91
فإنه والأمير جعفر المفوض، أيدهما الله، قد اقتسما الأعمال، وصار لكل واحد منهما قسم قد انفرد به دون صاحبه، وأخذت عليه البيعة فيه، أن من نقض عهده أو خفر ذمته ولم يف لصاحبه بما أكد على نفسه، فالأمة بريئة من بيعته، وفي حل وسعة من خلعه، والذي عاملني به الأمير من محاولة صرفي مرة، وإسقاط رسمي أخرى، وما يأتيه ويسومنيه، ناقض لشرطه، مفسد لعهده، وقد التمس أوليائي، وأكثروا علي الطلب، في إسقاط اسمه، وإزالة رسمه،
92
فآثرت الإبقاء وإن لم يؤثره، واستعملت الأناة إذ لم تستعمل معي، ورأيت الاحتمال والكظم أشبه بذوي المعرفة والفهم، وأدنى إلى الظفر والنصر، فصبرت نفسي على أحر من الجمر، وأمر من الصبر، وما لا يتسع له الصدر. والأمير، أيده الله، أولى من أعانني على ما أوثره من لزوم عهده، وأتوخاه من تأكيد عقده، بحسن العشرة والإنصاف ، وكشف الأذى والمضرة، ولا يضطرني إلى ما يعلم الله، عز وجل، كرهي له، وإلى أن أجعل ما قد أعددته لحياطة الدولة من الجيوش المتكاثفة، والعساكر المتضاعفة، التي قد ضرست رجالها من الحروب، وجرت عليهم محن الخطوب، مصروفا إلى نقضها، فعندنا وفي حيزنا من يرى أنه أحق بهذا الأمر وأولى من الأمير.
ولو أمنوني على أنفسهم فضلا عن أن يرجعوا مني إلى ميل لهم أو قيام بنصرتهم، لاشتدت شوكتهم، ولصعب على السلطان معاركتهم، والأمير يعلم أن بإزائه منهم واحدا قد أبر عليه، وفض كل جيش أنهض إليه، على أنه لا ناصر له إلا لفيف البصرة
93
وأوباش عامتها، فكيف بمن يجد ركنا منيعا وناصرا مطيعا؟ وما مثل الأمير في أصالة رأيه قصد لمائة ألف عنان عدة له فجعلها عدة عليه
94
بغير ما سبب أوجب ذلك، فإن يكن من الأمير إعتاب أو رجوع إلى ما هو أشبه به
95
وأولى، وإلا رجوت من الله، عز وجل، كفاية أمره، وحسم مادة شره، وإجراءنا في الحياطة على أجمل عاداته عندنا، والسلام.
فلما وصل الكتاب إلى الموفق أقلقه، وبلغ منه مبلغا عظيما، وأغاظه غيظا شديدا، فأحضر موسى بن بغا، وكان موسى هذا عول الدولة وأشد أهلها بأسا وإقداما، فتقدم إليه في صرف أحمد بن طولون عن مصر وتقليدها ماجورا فامتثل ذلك، وكتب لماجور كتاب التقليد وأنفذه إليه، فلما وصل إليه الكتاب توقف عن إيصاله إلى أحمد بن طولون؛ لعجزه عن مناهضته.
وخرج موسى بن بغا عن الحضرة مقدرا أنه يدوس عمل المفوض الذي فيه نقض الشرط؛ لما قويت به يد الموفق باستيلائه على الأمر وطاعة الجيوش بأسرها له، فلم يكن له مخالف غير أحمد بن طولون، وقصد بمشارفته الأعمال حمل الأموال منها، وكتب إلى ماجور وإلى أحمد بن طولون، لما علم توقف ماجور عنه في حمل مال أعمالها، وعزم على أن يقصد مصر، لما علمه من قصور حال ماجور عنها، ليتسلمها ويستخلف ماجورا عليها، ويعود إلى الحضرة. وخرج حتى بلغ الرقة، واتصل ذلك بأحمد بن طولون فأقلقه وغمه وبلغ منه، لا لأنه يقصر عن موسى، لكن لتحمله هتك الدولة، وأن يأتي ما يكون سبيله فيه سبيل من قاوم السلطان وكسر جيشه، فعمل على محاربة موسى، وتأمل البلد فعلم أنه لا يفتح إلا من جهة نيله، فأراد لكبر همته و[كثرة] فكره في العواقب أن يبني حصنا
96
على الجزيرة التي بين الفسطاط والجيزة؛ ليكون معقلا لحرمه لكثرتهم كانوا ولذخائره، ويستعمل بعد ذلك لحرب من يأتيه. وقد زال فكره فيما سواه مما يشغل قلبه، وأمر ببناء الحصن على الجزيرة، واتخذ مائة مركب عربية كبارا ومائة مركب حربية سوى ما ينضاف إليها من العلابيات والحمائم والعشاريات والسناديل وقوارب الخدمة، وعمل على سد وجه البحر الكبير و[أن] يمنع ما يجيء إليه من مراكب طرسوس وغيرها بنقض مراكبه، ويكون ما فيها يذب عن هذه الجزيرة، وعمل على أن ينفذ إلى الصعيد وأسفل الأرض
97
فيمنع من حمل الغلات إلى البلد، ليمنع من يأتي من البر بالميرة.
فأقام موسى بن بغا بالرقة عشرة أشهر، فاضطرب عليه أمر الأتراك، وطالبوا بأرزاقهم مطالبة عظيمة، استتر منها كاتبه عبيد الله بن سليمان؛ لتعذر المال عليه، وخوفه على نفسه منهم، فلما تبين موسى بن بغا عظيم ما جرى ويجري دعته الضرورة إلى الرجوع إلى الحضرة، فرجع وأقام بها شهرين واعتل ومات في صفر سنة أربع وستين ومائتين. ومات عبيد الله بن خاقان في هذه السنة.
وكان أحمد بن طولون مجدا في بناء الحصن على الجزيرة، وقد ألزم قواده وثقاته أمره وفرقه قطعا، وألزم كلا منهم قطعة يكد نفسه بالفراغ منها، ويتعاهدهم هو بنفسه في كل يوم يشرف عليهم، ولا يعلم أن الله، عز وجل، قد كفاه وأغناه ما يعانيه، وما يشك أحد أن كل طوبة بنيت فيه تقوم على أحمد بن طولون بدرهم صحيح.
ولما تتابعت الأخبار بموت موسى بن بغا كف عن البناء وتصدق بمال كثير، لما وهبه الله، جل اسمه، له من صيانته عما تقبح فيه عنه الأحدوثة، وما رأى الناس شيئا كان أعجب من ذلك الجد العظيم في البناء، ومباكرة الصناع في السحر، حين يخرجون من منازلهم في كل يوم، حتى انقطع ذلك فلم ير أحد من الصناع أحدا يطلبه، فكان كأنه نار صب عليه ماء فخمد من وقته،
98
ووهب للصناع كل ما كان سلفا عليهم.
وقبض أحمد بن طولون من وقته على أحمد
99
المدائني، صاحب موسى بن بغا، وكان بمصر يتقلد ضياع صاحبه بها التي أقطعه السلطان إياها، وكان رجلا ترفا غذي نعمة، وكان مبدنا
100
فمشى راجلا إليه، كما مشى شقير صاحب البريد، وكان يوم شديد الحر وكان أحمد بن طولون يحقد عليه خلافا كان له كبيرا فيما كان يحاوله، ولأنه كان صاحب موسى بن بغا، وكان لثقته بصاحبه وعظم منزلته، يبسط لسانه في أحمد بن طولون بأشياء تبلغه عنه فيغيظه عليه ويحقده له، فلما أحضر أحضر له السياط والعقابين فاستجاب إلى ما طالبه به من المال، وبادر بكتب خطه به خوفا من مكروه يلحقه، إلا أنه لحقه من التعتعة والمشي ما كان أغلظ عليه من الضرب أو مثله، فلما أخذ خطه بالمال رده إلى داره فمات في تلك الجمعة، فاحتاز أحمد بن طولون الضياع بما كان كتب به خطه، وقبض على جميع نعمته، وقبض على أندونة كاتبه، فأخذ منه خمسون ألف دينار.
ولما مات موسى بن بغا كتب الموفق إلى المتعمد يقول: إن الثغور الشامية ضائعة، وإنها تحتاج إلى من يقيم فيها ويغزو بأهلها، وإن أحمد بن طولون مهمل لأمرها وإنما يبعث إليها من لا يستقل بها، فاستقر الأمر على أن ينفذ إليها محمد بن هارون التغلبي، وكان يتولى الموصل فكتب إليه في الحضور لينفذ إلى الثغور، فركب في دجلة لعلة نالته منعته عن ركوب الظهر،
101
وهاجت ريح شديدة فألقته إلى موضع من الشط فيه قوم من أصحاب مساور الشاري
102
فقتلوه، وأخذوا كل ما كان معه، وبلغ ذلك الموفق فبقي متحيرا في أمر أحمد بن طولون، وما يأتيه به الإقبال، ووقع اختياره على إنفاذ محمد بن علي بن يحيى
103
الأرمني إليها، فأنفذه متقلدا لها ولأنطاكية، وحاول سيما الطويل دخول أنطاكية، فمنعه محمد بن علي بن يحيى منها ومن الثغر، فكتب إلى أهل طرسوس فألبهم ووثبهم عليه، وخوفهم منه فقبضوا يده، ووقعت بينه وبينهم حال غليظة، وقتل في داره ودفن فيها.
وبلغ ذلك الموفق؛ فاشتد غيظه أيضا وحنقه وتعجبه، وقلد الثغور أرخوز بن يولغ بن طرخان التركي، وأمره أن يقبض على سيما الطويل، فلما وصل إلى الثغور تشاغل بالأكل والشرب، وأخذ كل ما لاح له، واستولى على كل ما كان للمرتبين بلؤلؤة،
104
مما كان يحمل إليهم من الميرة؛ فضجوا من تأخر ذلك عنهم، وكتبوا إلى أهل طرسوس يعرفونهم أنهم إن لم ينفذوا إليهم بما يحتاجون إليه على رسمهم، سلموا القلعة إلى الروم، فأعظم أهل طرسوس ذلك وخافوه، وجمعوا لهم من البلد خمسة عشر ألف دينار، وعملوا على حملها إليهم، فقال لهم أرخوز: أنا أحمل إليهم المال من قبلي لنصلح بينهم. فأجابوه إلى ذلك فكتب إليهم واعتذر من تأخير ما أخره، فلأنه أميرهم وصاحب الثغور قبلوا عذره، ورجوا استصلاحه، ولما سلم المال شرهت نفسه إليه، وقال: متى يجتمع لي مثل هذا؟ فاستولى عليه وعرفهم أنه قد أنفذه، فلما تأخر عن القوم المال انصرفوا عن لؤلؤة وسلموها، فاضطرب أهل الثغور بأسرهم من ذلك غاية الاضطراب وضجوا في الطرقات.
وبلغ المعتمد ذلك فأنكره، فدعت الضرورة إلى أن كتب إلى أحمد بن طولون في تدبير أمر الثغور وضبطها كما يرى، فلم يكن للموفق بعد ذلك حيلة في منعه منها، وكتب أحمد بن طولون إلى أخيه موسى وكان مقيما بطرسوس منذ وقعت بينهما تلك الوحشة بتقليده إياه لها فأبى ذلك، لما كان في نفسه منه، فكتب إلى إبراهيم بن عبد الوهاب وكان أيضا مقيما بها فامتنع تصاونا، فأنفذ إليها طخشي بن بلبرده
105
ووصاه بحسن العشرة لهم، وجميل السيرة فيهم، واحتمال هفواتهم ففعل، وحسنت سيرته بطرسوس، فأقام بها إلى أن مات، فاغتم عليه أهل طرسوس وسائر الثغور.
ومن إقبال أحمد بن طولون أيضا موت ماجور، وكان أحد من يعرب
106
عليه، ويسعى في أذيته فلا تمكنه، فلما بلغه موته حمد الله، عز وجل، على ذلك، واستخلف ابنه العباس على مصر وخرج من وقته، وأيد ابنه بكاتبه أحمد بن محمد الواسطي، ووصى العباس بالاقتداء برأيه، والامتثال لأمره، وألا يجاوز شيئا يرسمه، أو يشير به، وسار في شوال من سنة أربع وستين ومائتين، وقد خلا قلبه من عبيد الله بن خاقان وموسى بن بغا وماجور أعدائه، الذين كانوا يعملون الحيل في أمره وطلب هلاكه. وجد في السير واستكتب أبا الضحاك محبوب بن رجاء، وقدم كتابه إلى ابن ماجور يعزيه بأبيه، وكان صبيا إلا أن أصحاب أبيه قد أقاموه مقام أبيه في الرياسة، وتولى الأمر وتدبيره أحمد بن دعباش
107
التركي، وجه أصحاب ماجور والمقدم فيهم، وكان رجلا شهما جلدا عاقلا، سمحا بالمال، سخيا على الطعام، حسن الخلق، حازم التدبير.
ويذكر أحمد بن طولون في كتابه إليه أن أمير المؤمنين قد قلده الشام كله، مضافا إلى الثغور الشامية، وأنه في
108
أثر كتابه، ويقول فيه: وينبغي أن تتقدم فيما نحتاج إليه من الميرة والعلف للعساكر وما تحتاج إليه. فأجابه ابن ماجور أحسن جواب، فلما قرب من الرملة تلقاه خليفة أبيه كان بها، وهو محمد بن رافع بالميرة والعلف، وكان قد أقام له الدعوة، لما بلغه خبر رحيله إلى الشام، فلما وقعت عينه عليه ترجل له، وتقدم إليه فباس يده، فلقيه أحمد بن طولون بجميل، وبش به وساءله عن حاله، فقال له: سلامة، ما أبقي لنا الأمير، أيده الله، فعزاه بصاحبه وأظهر له غما به، وشكر ذلك منه، فأقره أحمد بن طولون على عمله ولم يصرفه، وشخص إلى دمشق فتلقاه علي بن ماجور وأحمد بن دعباش
109
وجميع قواد ماجور وأصحابه، فوفوه حق الرياسة، وقد أعدوا له الميرة والعلف وكل ما يحتاج إليه بها.
110
واستخلف على دمشق أحمد بن دعباش وأقره عليها.
وكان أحمد بن وصيف مقيما بدمشق على سبيل النفي، نفاه إليها المهتدي، وهو وصيف الكبير التركي الذي يقول فيه الشاعر وفي بغا أبي موسى الذي مضى لنا ذكره فيما تقدم:
خليفة في قفص
بين وصيف وبغا
يقول ما قالا له
كما تقول الببغا
والخليفة الذي قيل هذا فيه هو المستعين بالله؛ لأنه كان يؤثرهما جدا ويقدمهما ويفضلهما ويقول برأيهما.
فلما دخل أحمد بن طولون دمشق انضم إليه ابن وصيف هو وجماعة قواد ماجور، ولما صار أحمد بن طولون إلى حمص تلقاه عيسى الكرخي وكان يتقلدها، وترجل له، وعمل على أن يقره أيضا على عمله، فضج أهل حمص منه، وشكوا سوء سيرته فيهم، فصرفه عنهم وولاها يمن التركي.
وكاتب سيما الطويل، وكان بأنطاكية على جهة التغلب وعصيان السلطان، يدعوه إلى الطاعة للسلطان والسلم، ويقول في كتابه إليه: لست أسومك شيئا غير إقامتك الدعوة، وأنصرف عنك، ويكون البلد لك، تدبره كما ترى، فامتنع سيما من ذلك، ولج فيه لأسباب المنية، وكان قد تحصن بأنطاكية؛ لأن حصنها ما فتح عنوة قط، فسار إليه أحمد بن طولون وعاوده المكاتبة، وراجعه القول الأول ولطف به، وراسله برسل معهم عقل ورأي وتلطف، فأقام على رأيه، وهذا الفعل منه على ما كان بينه وبين أحمد بن طولون من المحبة والمصادقة والموافقة، فلم يثنه ذلك ولا راعاه، فركب إليه أحمد بن طولون ليخاطبه بنفسه ووجه إليه: قد جئتك لتسمع خطابي مشافهة. فأشرف عليه سيما من برج من أبراج الحصن فجرت بينهما مخاطبات
111
كثيرة، بعضها بالتركية وبعضها بالعربية، ولاطفه بكل لطف وكل حيلة، وحلف له بكل يمين، فلم يجبه إلى ما دعاه إليه، وكان آخر قول سيما له: امض واعمل ما شئت؛ فلأن يلعب الصبيان برأسي فأحمد آثر عندي وأحب إلى قلبي من أن تلعب أنت بروحي. وأخطأ سيما الطويل في هذا القول وجهل فيه؛ لأن أحمد بن طولون كان من طبعه أن من لاينه واستسلم إليه، رأى منه كل ما يحبه، وبلغ منه كل ما يريده، ومن خاشنه أو قاومه لم يطقه وكافأه بما يستحق، كما قال الشاعر:
وكالسيف إن لاينته لان متنه
وحداه إن خاشنته خشنان
وكما وصف دعبل بن علي الخزاعي رئيسا كان في زمنه، فقال:
وإذا جالسته صدرته
وتنحيت له [في] الحاشية
وإذا سايرته قدمته
وتأخرت مع المستأنية
وإذا لاينته صادفته
سلس الخلق سليم الناحية
وإذا خاشنته ألفيته
شرس الرأي أبيا داهية
فاحمد الله على صحبته
وسل الرحمن منه العافية
وكانت هذه الأفعال كلها في أحمد بن طولون قد تبينها الناس في علي بن إسحاق وعلي بن ماجور وغيرهما.
فانصرف أحمد بن طولون عن سيما لما سمع ذلك القول منه من وقته، وكان عسكره فيما يلي الباب المعروف بباب فارس، فأقام بقية يومه، وباكره من غد فنصب المنجنيقات، ورمى الحصن بالحجارة وبالنفط، وكان سيما قد أساء العشرة لأهل أنطاكية فكرهوه وأبغضوه، فلما حاصرهم أحمد بن طولون ورمى حصنهم بما لا يأمنون منه المكروه، وعلموا أنهم لا يقاومونه، بعثوا إليه فدلوه على الموضع الذي منه المدخل إليهم، فلما كان الليل دخل أحمد بن طولون وأصحابه الحصن منه، ونصب أعلامه عليه، وركب سيما الطويل فأحرق باب فارس ليشغلهم بالنار فتمكنه النجاة بنفسه، وسقط الباب الحديد ودخل منه إلى بقية أصحاب أحمد بن طولون وهو لا يعلم ذلك، وطلبه أحمد بن طولون وأصحابه والتقوا، فحارب بنفسه ساعة حربا
112
شديدا بانت فيه رجلته وجزالته. وقد تقدم أحمد بن طولون إلى جميع من معه ألا يقتل وإن أمكن قتله، ولا يرمى وإن أخذ أخذ سليما، فلبغض أهل أنطاكية له رمي بالطوب والحجارة من المنازل والمواضع فتحير ولحقه سهم فصرعه، فقتل في المعركة ولم يعلم به، وبقي مطروحا واستأمن أصحابه وغلمانه، وأحمد بن طولون يسأل عنه ويبحث عن خبره، فما وقف عليه حتى اجتاز به آخر النهار وصيف اللاني مولى القصيصيين
113
فعرفه، فنزل وأخذ رأسه وأتى به إلى أحمد بن طولون، فنصبه على رمح، فلما رآه من كان بقي من أصحابه منهم من هرب، ومنهم من استأمن.
ولما رأى أحمد بن طولون رأس سيما قال: قد علم الله، جل اسمه، أني كنت أحب لك غير هذا فأبيت، فأنا بريء من دمك. والله ما أمرت بقتلك ولقد نهيت عنه، فأحب الله، جل ذكره، فيك ما أحب فأمضاه. وكان ذلك في المحرم سنة خمس وستين ومائتين، وقبض أحمد بن طولون على جميع ما كان لسيما من مال وعدة وكراع وغير ذلك، وكل شيء عظيم جليل خطير.
ودخل إلى طرسوس في جمع عظيم، وعز منيع، فضاق السعر بها، وضاقت بأصحابه وسواده طرقاتها، فاضطرب أهلها وتأذوا بأصحابه فصاروا إليه، وفيهم غلظة أهل الثغر، ونسوا أنهم في وجه عدو عظيم قد قاوموه فقالوا: عافاك الله، قد ضاق بأصحابك بلدنا، وتعذرت بك معيشتنا، ونقص سعرنا، فإما أقمت في عدة يسيرة تحملها بلدنا وإلا رحلت عنا. وكان كلامهم له كالشغب، فقال لهم برفق وتأن: نرحل عنكم، حفظكم الله. وركب من وقته.
وأطلقوا ألسنتهم في أصحابه، فقال لهم أحمد بن طولون: احذروا أن تنابذوهم. فقالوا له: قد حملوا السلاح يريدوننا. فقال لهم: انهزموا عنهم، وأظهروا الخوف منهم، واخرجوا عن بلدهم؛ فقد ضيقناه عليهم، فشق على أصحابه ما أمرهم به من انهزامهم عنهم، وقالوا له: أيها الأمير، تكسرنا عنهم، وليس عدتهم كعدتنا، ولا حالهم كحالنا، ولا هم وغيرهم ممن يقاومنا. وخاطبه وجوه قواده بمثل هذا، وقالوا له: علينا في هذا مكسرة، ووضع منا عندهم وعند غيرهم. فقال: ويحكم كل ما تقولونه أنا أعلمه، ولي فيه ما قد علمه الله، جل اسمه، وأنا أتحمل فيه وأحملكم كل مكروه ومشقة مما ذكرتموه تقربا إلى الله، عز وجل، فقالوا له: فيعرفنا الأمير لنسكن إليه، فقال: إنه لم يخف عن متملك الروم العدة التي دخلت هذا البلد، والعدة وما نحن عليه من القوة والنجدة، فأحببت أن يستقر في قلبه وعنده وعند عساكره وجنوده أنا على ما نحن عليه قد ضعفنا عن أهل طرسوس، ولم يمكنا مقاومتهم، فانهزمنا عنهم، وعزهم فهو لله، عز وجل، وعزكم فهو لي، والله، جل اسمه، أولى أن يؤثر. فقالوا: صدق الأمير، الآن طابت نفوسنا. وضرب مضاربه خارجها، حتى فرغ مما احتاج إليه، ومنع أن يدخل إليها أحد من أصحابه حتى رحل عنها.
وركب يوم الجمعة ، وقبل رحيله دخل إلى الجامع ليصلي راجلا برداء ونعل ومعه ثلاثة غلمان، فصلى الجمعة وجلس في الجامع فقضى حوائج أهل البلد، في كل ما سألوه فيه وأرادوه، وبلغ لهم كل ما أحبوه، وتصدق بجملة من المال، وكثر الدعاء له والضجيج بذلك في الجامع والطرقات، وخرج إلى مضربه، وخرج أهل البلد كلهم معه يشيعونه ويدعون له، ورحل عنهم، فبلغ ذلك متملك الروم، وما كان من أهل طرسوس معه، فعظمت هيبة الثغر في قلبه.
حدث أبو العباس [الطرسوسي] المتولي كان لغسل أحمد بن طولون عند وفاته، وكان رجلا خيرا فاضلا زاهدا يتقوت من المباح، قال: كان بطرسوس رجل من خشن الصوفية خير فاضل، قد خرج من طعمة جليلة، ونعمة حسنة إلى الله، عز وجل، يتقوت من عمل الخوص، وكان لا يقطع الخروج إلى الثغور راجلا، وكان أحمد بن طولون، بمقامه في ابتداء أمره بطرسوس، مواصلا له [ومتعجبا من حسن ألفاظه] فحدث قال: لما أراد أحمد بن طولون الانصراف عن طرسوس أحضرني فجئته فساءلني عن حالي، فشكرت الله، جل اسمه، عليها، فقال: قد سررت بنظري إليك، وأنا أريد أن تتقدمني مع العشاء إلى منزل فلان صديقنا، يريد الرجل الذي قدمت ذكره، فتجلس عنده ولا تعرفه مصيري إليه، فإن سألك عني فلا تره في كلامك هيبة لي، وكن في جوابك له مستكينا خاضعا لذكري، وأقرئه مني السلام، وعرفه أني استدعيت مجيئك لتعرف خبره، وذكرت لك شدة شوقي إليه، وقل له آخر كلامك: وأحسبه يصير إليك ليسلم عليك قبل رحيله، وودعه واخرج فتلقاني وتعرفني ما جرى بينكما.
وكانت قد حصلت بيني وبين أحمد بن طولون، بطول مقامه بالثغر، مودة وعشرة وصحبة على الخير، وكان يطوي أياما ويحيي الليل بالصلاة إلى الصبح، فأحبه قلبي وقلب كل من شاهد ذلك منه، فلم أحب مخالفته، ومضيت فعملت كما رسم لي، فقال لي بانكسار منه وكثرة حياء: يجيء متى شاء. وانصرفت عنه فلقيت أحمد بن طولون في الطريق، وهو يريد المجيء راجلا، وليس معه غلام واحد كان خصيصا به ، فأخبرته بما جرى فردني معه إليه، فلما دخلت إليه قلت: لقيني فردني إليك، فلما قرب منه أحمد قام إليه وقال: هذا ما توجبه الطاعة لأولي الأمر وتاركه يخطئ. فبكى أحمد بن طولون، فقال له لما استقر به المجلس: يا أخي، ما الذي أنكرته من ربك حتى شردت عنه، وأنت مع تباعدك عنه لا تخرج من قبضته، فارحم نفسك من تحميلها ما لا تحتمل، واعلم أن جده يمحص هزلك وطاعته تزيل اجترامك، ولا تستكثر من الدنيا مالا يخف معك حمله، ولا ينفعك إذا دعا بك ربك، وتيقن أنك مردود إليه بعملك وحده، وما سواه متخلف عنك. وأحمد بن طولون لا يزيد على البكاء الكثير شيئا.
قال أبو العباس: فالتفت إلي الشيخ وقال: يا أخي ما ترى الناس كيف يبطرون تحت الأقدار؟ ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم بصره رشده، وارحمه من سخطك عليه، ثم قال له: انصرف في حفظ الله [فإني أخاف أن تعديني بحب الدنيا وطاعة الائتمار]، ولست أنساك عند ذكري إن شاء الله.
فقيل لأبي العباس: كيف حفظت هذا الكلام؟ فقال: كان الغلام الذي كان مع أحمد بن طولون هو الذي كان كاتب السر، الذي كان يكتب كل ما يجري من أحمد بن طولون مع من يخاطبه وما يجري من مخاطبه له، ولا يسقط من ذلك شيئا، فإذا خلا عرض الغلام عليه مجملا
114
بما يجري يوما يوما وليلة ليلة، فكتب الغلام جميع ذلك على الرسم، فلما انصرفت مشيعا له إلى مضربه سألته أن يأمر الغلام أن يطلق لي نسخة فأمره بذلك فنسخته.
قال مؤلف هذا الكتاب: وكذا كان أحمد بن طولون إذا أنفذ رسولا في حاجة برسالة، قال له: أعد علي ما قلت. فإن أعاده ولم يخرم منه حرفا أنفذه، وإن قصر عن ذلك استبدل به وأمر بحبسه.
قال: وكان أحمد بن طولون قد عمل على أن يغزو قبل أن ينصرف من الثغر حتى ورد عليه الخبر بخلاف ابنه العباس عليه، وأخذه كل ما تهيأ له من المال والكراع والسلاح، وذهابه إلى الغرب، وحمله معه أحمد بن محمد الواسطي، كاتب أبيه، مكرها، وأيمن الأسود مقيدين، فانكفأ راجعا إلى مصر قد حيره ما دهاه من مأمنه.
فمن دهائه وجودة رأيه وحزمه، أنه لما عمل على المبادرة إلى مصر، لم يكن الرأي عنده أن يترك أطراف عمله منتشرة، غير مضبوطة ولا محروسة، فتوقف وفي قلبه أحر من الجمر، حتى بعث بأحمد بن جيغويه في جيش كثيف إلى حران
115
وما والاها، وبعث بلؤلؤ غلامه في مثل ذلك إلى نواحي الرقة
116
والدنارين
117
ليضبط ذلك. وهو آخر عمله مما يلي الشرق.
قال مؤلف هذا الكتاب: ومثل هذا بعينه رأيناه مع مؤنس الخادم الذي كان يعرف بالأستاذ لما وجه
118
به المقتدر لقتال عبد الرحمن صاحب الغرب، وقد حصل عبد الرحمن هذا بالفيوم، وملك أكثر أعمال مصر، فأقام مؤنس الخادم بالجيزة حتى استتم ما أراد من العدة، وسار إلى الفيوم في جيش لم ير مثله قط، وأخذ أول عرضه الجبل والأهرام، وأخذ آخر عرضه شط النيل، وأخرج في البحر مراكب حربية والعلابيات والعشاريات والسناديل العمالة والقوارب، وكل صنف من السفن مما لا يحصى كثرة، مملوءة رجالا وسلاحا وعلوفة وزادا، حتى كأن البحر كله قد فرش سفنا، وكانت تسير في البحر مسير الجيش في البر، فلما اتصل خبره بعبد الرحمن ولى هاربا راجعا من حيث جاء، ولحق سرعان مقدمة مؤنس أطراف أصحاب عبد الرحمن، فأسروهم وقتلوا منهم خلقا عظيما، فلما اتصل بمؤنس خبر عبد الرحمن وهربه، أتاح له الفكر والتيقظ أن يكون أظهر ذلك، لما صح عنده خلو البلد من الجيش، فخالف إليه ليملك القصبة عليهم، وأمر تكين
119
الخاصة، وكان أمير مصر يومئذ، أن يلحق الجيزة ويضرب مضاربه بها ومصافه، فأقبل تكين ركضا من الفيوم حتى ضرب مضاربه بالجيزة، حيث كانت قبل الرحيل، فساءت ظنون الناس لذلك ولم يعلموا ما السبب فيه حتى انكشف لهم، وهذا التيقظ في سياسة العساكر ومن حزم الرأي وجودة التحفظ، وإنما استدرك مؤنس الرأي بعد، ولأحمد بن طولون فضل السبق؛ لأنه استقبل أمره بحسن التدبير، وضبط الأعمال، قبل دخول آفة عليها وعليه فيها، فكان هذا من إقباله.
ولما وصل ابن جيغويه إلى حران وجد بها محمد بن أتامش
120
فطرده عنها وهزمه أقبح هزيمة، فاتصل خبره بأخيه موسى بن أتامش، وكان موسى بن أتامش هذا من الفرسان المعدودين، والشجعان المذكورين، فأغاظه ذلك وخرج تعصبا لأخيه وطالبا له ولثأره، يريد ابن جيغويه، فلما اتصل خبره بابن جيغويه سقط
121
في يده، وخاف أن يضعف عنه ووقع بين شرين، كما قال الشاعر: [فقال] غدر وثكل أنت بينهما
فاختر وما فيهما حظ لمختار
مقارعة موسى بن أتامش وليس هو من أنداده، ثم النكوص عنه والرجوع إلى أحمد بن طولون فيلقى منه التلف والبوار، فأحزنه ذلك وحيره، فتأمله بعض أصحابه من الأعراب المضمومين إليه يكنى أبا الأغر، وليس بصاحب ابن الخليج، فقال له: أيها الأمير، ما لي أراك مقطبا مغموما ساهما مفكرا منذ أيام فما الخبر؟ فقال له: لخبر موسى بن أتامش. فقال له: فما هذا وزن ابن أتامش ولا مقداره أن يبلغ منك مبلغه هذا المبلغ العظيم؟ والله إنه لطياش قلق، ولو شاء الأمير أن أمضي فآتي به إليه أسيرا لفعلت، فبقي ابن جيغويه متعجبا من قوله، وقد أغاظه منه ذلك، فلغيظه قال له: نعم، قد شئت أن تأتيني به أسيرا، ولك السبق الوافر. فقال له: فضم إلي عشرة
122
رجال أختارهم، قال: أفعل. فاختار عشرة كما أحب وأمرهم ابن جيغويه بالسمع والطاعة له.
وخرج فكمن أربعة منهم بموضع وثلاثة في موضع آخر وجعل بينه وبين الثلاثة علامة وشعارا، وسار في الثلاثة الباقية معه في زي الأعراب، حتى خالطوا عسكر موسى بن أتامش ليلا، فقصد مضربه فلما قرب منه تعاثر بآري
123
فيه خيل مربوطة قريبة من المضرب، فخلع الآري
124
فنفرت الخيل وصيح بها فمرت نافرة تعدو بين المضارب وصاح هو ومن معه: الأعراب الأعراب. وأصحاب موسى متفرقون منهم من قد مضى يلتمس علفا لدوابه، وآخرون في حوائجهم ومن في الخيم، فمنهم من يشرب، ومنهم من يضرب بطنبوره ويغني لنفسه، ومنهم من قد سكر ونام. قد أمنوا أنهم لا يقدم عليهم أعراب ولا غيرهم.
فأول من خرج لما سمع الصوت موسى بن أتامش وحده ثقة منه بنفسه وشجاعته وإقدامه، وقد كان كذلك، وما كان يعبيه غير عجلة الإقدام، وهي التي تنسب إليه الطيش، فلما رآه أبو الأغر مر منهزما بين يديه فقصده موسى، وأقبل أبو الأغر يطمعه في نفسه، ويريه أنه قد خافه وهابه، وهو بين يديه يتطارد، ولج موسى في طلبه حتى قرب من موضع الكمناء، فناداهم بالعلامة بينهم، فخرجوا إليه من ها هنا ومن ها هنا، فعطف هو ومن اجتمع معه على موسى بن أتامش، فأخذوه أسيرا، وأقبلوا به يقودونه قودا إلى ابن جيغويه، فورد عليه وعلى الناس من ذلك ما تعجبوا منه وتحيروا له، وقالوا: ليس هذا بتدبير الأعرابي ولا برجلة
125
ابن جيغويه، ولكنه بإقبال أحمد بن طولون، تهيأ أخذ مثل هذا الأسد ما لم يطمع في مثله، فحيره إقباله حتى خرج بنفسه مبادرا ولم يعلم به أحد من غلمانه، ولا طلبه ولا استدعاه. وكان لما أن ركب موسى وعلم به بعض غلمانه وأصحابه ركبوا خلفه، فلم يدروا كيف ذهب، وكانت ليلة ظلماء فتفرقوا يمينا وشمالا، ولم يقدر لواحد منهم أن يسلك طريقه التي قصدها، ليتم القضاء المقدر لأحمد بن طولون، فلما وصل إليه اعتقله في حجرة فرشها له في داره، وفك قيده، وخلع عليه، وبلغ في إكرامه ما يستحق مثله، وخلع على أبي الأغر وأجازه، وزاد في رزقه ونوه باسمه، وقد كان جيغويه أجازه أيضا، وحمله وخلع عليه، قبل إنفاذه موسى بن أتامش إلى أحمد بن طولون.
قال: وعدنا إلى أخباره المشهورة في دهائه وعقله وحزمه، وجعلنا لخبر ابنه العباس بابا مفردا كما شرطنا، فمن ذلك أنه لما وجه بالواسطي إلى العراق كما ذكرنا في أول أخباره، واستكتب جعفر بن عبد الغفار، اضطرب بما حمله من الأمر ولم يكمل له، فقال له حمدان
126
بن خاقان: الأمير، أيده الله، يحتاج إلى كاتب أوفى وزنا من هذا الكاتب. فقال له: أنا أحتمله وأقنع به لأنه مصري. فقال له: والأمير، أيده الله، يرى أن الكاتب المصري أكتب من العراقي وأنهض بما يتولاه. قال له: اعلم أن أصلح الأشياء لمن ملك بلدا أن يكون كاتبه منه؛ فإنه يجمع بذلك أشياء تحمد عاقبتها؛ منها أن عيال الكاتب وشمله وكل ما يملكه معه في بلده. ومنها أن جميع ما يكسبه فيه، وإن كان ممن يرغب في تجارة كانت تجارته فيه، أو في شراء عقار أو بناء كان فيه. ومنها أن جميع ما يتجمل به ولده وعياله ويقتصده لهم من قليل وكثير ففي بلده، وما يعتقده
127
من ضيعة أو ربع
128
أو ماشية فكله عمارة لبلده، وضمنه الجناية إن كانت منه أو جناية أحد من جهته، و[هو] مع هذا وأهله ظاهرون لي، متصرفون في خدمتي.
والكاتب الغريب ليس كذلك؛ لأنه يعتقد المستغلات في البلد النائي عني، وكده عمارة بلده بتخريب بلدي، وهو كذلك في كل حال متطلع إلى بلده، فإن اجتمع علي منه أن يكون رئيس بلده من أميرها أو وزيرها عولى [؟] وهو أحد أهله المقيمين معه في بلده خلطة أو خدمة فاختصار الحبه [؟] أمن الاشتمال عليه، فهذا الذي زهدني في كتاب العراق، مع علمي بما فيهم من الصناعة وتقدمهم في الكتابة، فقال له: قد أصاب الأمير الرأي، وفقه الله.
ومن ذلك أن طيفور خليفته بالحضرة كتب إليه أن رجلا من الموالي قد أشجاني وضيق علي، وشغل قلبي مما لا يجري ذكرك، أيها الأمير، بحضرته في مجلس الموفق أو غيره إلا بسط لسانه فيك، وحرض عليك، فكتب إليه يقول: قد وجهت إليك كتابا يصل من يدك إليه، فأوصله سرا عن جميع الناس، مع ما قد حملته إليك لتوصله إليه أيضا ليلا، فلا يقف عليه أحد بوجه ولا سبب.
قال: وكان الكتاب يصف فيه شوقه إليه، وتطلعه إلى معرفة خبره، وأنه قد كان منذ مدة طويلة يطلب رجلا يعتمد عليه بالحضرة لمهماته، فعسر عليه ذلك؛ خوفا أن ينكشف أمره، فيتعذر عليه ما يحتاج إلى معرفته من جهته، فلما بلغني مقالاتك في، وبسط لسانك بذكري، بما يسر العدو ويغم الصديق، علمت أن بهذه الحال يتم لي بها منك ما أحبه، وتيقنت أن بمودتك برجوعك إلي يحصل لي ما أستميل به قلبك، وأرغب فيه من مؤاخاتك ومسالمتك، وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «تهادوا تحابوا.» وقال أمير المؤمنين علي، عليه السلام: «الهدية عطفة القلوب.» وقد وجهت إليك بما جعلته هدية إليك ألفي دينار تصرفها في بعض مهماتك، ولن أقطع مواصلتك بحسب ما أقف عليه من خلوص طويتك، وصحة نيتك، فلا تخلني يا أخي، أعزك الله، من ذكر أحوالك، حسنها الله، وتكاتبني بجميع ما أحتاج إلى علمه، فإن الذي تأتيه من ذلك يغيب ويستتر عن الخلق كلهم، لما يعرفونك به من الانحراف عني، ولا تقطع ذكري بما جرى رسمك بذكره، بل فزد في ثلبي والطعن علي، فإنك تبلغ لي بذلك ما تحبه لي، وتسرني فيما تأتيه في ذلك إن شاء الله.
فلما وصل الكتاب إلى طيفور ركب به كما أمره، وأوصله إليه والمال، فدعا له وشكره، ووعد طيفورا بأنه يبلغ له في ذلك فوق ما يحبه، وصار من أخص أصحاب أحمد بن طولون على الأخبار، فكان يكاتبه بجميع ما يجري في دار الموفق ودار المعتمد وسائر البلد، مما يحتاج إلى علمه، واستتر أمره مدة طويلة عن أصحاب أخبار الموفق، ثم انكشف أمره للموفق، فأحضره وضربه بالسوط ورماه [في] المطبق، وأقام فيه أياما ومات، فانتفع به أحمد بن طولون مدة على الضرورة، ثم استراح منه دفعة واحدة بأهون سعي، وذلك الذي قصده فيه.
ومنه ما رواه أبو جعفر بن عبد كان أنه ورد عليه كتاب متملك الروم
129
يسأله الهدنة، فأجابه إلى ذلك وقال له: اكتب إلى طخشي بطرسوس أن متملك الروم سألنا الهدنة مدة كذا وكذا، وقد أجبناه إلى ذلك على علم منا أنه لم يدعه إلى ما سأل إشفاق من سفك الدماء، ولا تحوز لطلب السلامة، بل أظن، وهو كذلك، أنه قد خربت له قصور أو استرمت
130
أو لحقه من بعض أعدائه اضطراب اضطره إلى الهدنة هذه المدة، ومن الخسران المبين أن يكون بما التمس من ذلك أسعد منا، وإذا قرأت كتابي فتعاهد جميع الحصون التي بقربك، فرم منها ما استرم، واعمر منها ما خرب وجدد منها ما أخلق، وأنفق على ذلك من مالي الذي في أيدي وكلائي في ضياعي التي تقرب منك، وفرق في صعاليك أهل الثغر ممن تضر به هذه الهدنة ما يقيم أودهم ويكفيهم، وأوسع عليهم في ذلك، وطالعني بما يكون منك فيه فإني أراعيه إن شاء الله.
قال ابن عبد كان وكان مضطلعا بالكتابة: فوالله العظيم ما حضرني لهذا الكتاب أحسن من معاني ألفاظه كلها فلم أتجاوزها. وأنفذ الكتاب وعمل به.
ومن ذلك ما حدثت به نعت
131
أم ولده قالت: كان عندي له جوار أهدين إلى مولاي، ما رأيت أحسن منهن ولا أجمل، فأقمن عندي مدة لم يطلبهن، فشوقته إليهن بحسن الصفة لهن؛ فذكر لي شغل قلبه عن ذلك، ثم دخل إلي بعد ليال، فتبينت منه انشراح صدر وطيبة نفس، فذكرتهن له فقال لي: اعرضيهن علي واحدة واحدة ففعلت، فنظر إلى الأولة وقال: حسنة والله، ثم أحضر بعض الخدم ودفعها إليه، وقال له: امض بها إلى غلامي فلان، وقل له: بحياتي عليك، اطلب من هذه الولد [سرك الله وكثرك]، ثم لم يزل يفعل ذلك بواحدة واحدة حتى استوفى عدتهن مني.
فتبين الغيظ في فضحك، وقال: أراك مغيظة؟ فقلت: يا مولاي، آثرت مثل هؤلاء المتعذر مثلهن غلمانك على نفسك، فقال لي: يا ويحك، قد ارتفعت رغبتي في النكاح وما ناسبه، وإنما رغبتي الآن وغرضي ورأيي في حراسة دولتي وضبط نعمتي، ومن اضطر إلى من يضافره على أمره سلك هذا المسلك وآثر هذا الإيثار، وهؤلاء الغلمان فهم عدتي، وينتسبون إلي انتساب الأبناء إلى الآباء وشهواتهم مقصورة على الأكل والشرب والنكاح، فأنا أوثرهم بما يحبون وأرتفع أنا عنه كما أنهم يؤثرونني في أوقات التضايق على نفوسهم؛ فيبذلون في مهجهم دون مهجتي، فقلت: وفق الله الأمير. فقال لي: اعلمي أني أجد في فهم الرجل عني وإفهامه إياي من الالتذاذ أكثر مما يجده مجامع الحسان من لذة جماعها، وحسبك. فدعوت له.
وحدث نسيم الخادم قال: جرى ذكر أخلاق قوم بين يدي مولاي فقال: أما أنا فأرى أن أدفع بمالي عن رجالي، وبرجالي عن نفسي، وما في الأرض عندي أبغض إلي من رجل يزيد ماله على فعاله، وحالته على كفايته.
واستكتب كاتبا فقال له: إني جعلتك صاحب خبر على ألفاظي، فانظر كل ما يجري بيني وبين من يخاطبني، من كان من الناس من صغير وكبير، فاكتب خطابه وجوابي، وخطابي إياه وجوابه لي، واعرضه علي بالعشي، فكان يراعي هذا أشد مراعاة.
وحدث عنه ابن عبد كان قال: كنا ننشئ الكتب إلى السلطان وغيره من أصحاب أعماله، فيرد في الأجوبة غير ما صدرت به الكتب إليهم، فذكرت له ذلك لما كثر، فضحك فقال: هذه أجوبة عن أشياء أضمنها أنا الكتب، لا أطلعكم عليها.
ومن ذلك أن كتابه
132
لم يكونوا يختمون كتابا ولا يحررون نسخته حتى يعرضوه عليه، فإن استصابه
133
أمضاه وإلا غيره. وكان لما استكتب في خرجته إلى الشام أبا الضحاك محبوب بن رجاء ولم يكن بالكامل إلا أنه كان حاضر الذهن حلو الألفاظ، فعرض عليه يوما كتابا فلم يقل فيه شيئا، فأنفذه محبوب، فسأله عنه أحمد بن طولون بعد أيام فقال له: قد أنفذته. فحرد واغتاظ، وقال له: ويلك، حق الكتب أن تراجع فيها الأفكار، وقد كان ينبغي أن تؤخر إنفاذه وتراجعني فيه. فكانت كتبه بعد ذلك تؤخر لمراجعة النظر، والتصفح بعد الإنشاء، وجعل لها ديوانا.
فقال له يوما في كتاب قد كان عرضه عليه: أظن ذلك الكتاب قد شارف دمشق. فقال له محبوب: لا والله أيها الأمير، هو مؤخر في ديوان التصفح،
134
فقال له: ويل لك، أتشك في رأيي حتى تطلب مراجعة بعد مراجعة؟ وإنما قصدنا مراجعة مرة لا مرتين، كأنك تراني بعين من لا يوثق بخاطره ونظره فكيف مراجعة مرة؟ فحمل محبوب بن رجاء الغيظ والدالة عليه إلى أن قال له: أيها الأمير، ما أدري أي شيء أنت؟ إن قدمنا قلت: أخروا. فإن أخرنا قلت لنا: قدموا. فأمر به فبطح وضربه خمس مقارع، فكانت المقارع تأخذه وهو يقول: اقتلني وقل لي أي شيء أنت؟ فضحك منه وأطلقه.
وهذا كله فإنما كان منه دهاء ولم يكن في كتابه أحد أعرف بخدمته ولا أصبر عليها من أحمد بن محمد الواسطي. لقد عتب عليه يوما فضربه بيده ضربا لا يحتمله المملوك. ومن حسن أفعاله أنه كان لا يضرب أحدا من كتابه إلا هو بيده، كما كان يضرب من يخطئ من ولده بيده.
ولما ضرب الواسطي ضربا بلغ منه أمره بالانصراف عنه، فلما خرج من بين يديه طرح نفسه في دهليز من دهاليزه، فأقام فيه ثلاثة أيام ينام على حصير الدهليز ودواته تحت رأسه، صائما نهاره، فإذا صليت العشاء أفطر على خبز وملح لا غير ذلك، ولم يتهيأ لأحد من حاشيته [أن] يفعل في أمره ما يستحقه ويلزمهم له خوفا منه، وأخبار تنقل إلى أحمد بن طولون في كل ساعة.
ولما مضت له ثلاثة أيام أحضره وخلع عليه، وأجازه وعاتبه على ما كان منه، حتى أخرجه إلى ما جرى إليه، وأنه جعل ذلك تأديبا له كما يؤدب أحد ولده، فشكر ودعا وزادت حاله عنده.
وحدث الواسطي هذا قال: انصرفت ليلة إلى داري، وكان عندي من آنس به وأتفرج إليه، وأثق بمودته ممن يصحبني، قد خالطني
135
بنفسي؛ لأن الإنسان الكامل يتفرج إلى صاحبه بما لا يتفرج به إلى أخيه ولا ولده ولا خاصته وإن كانت حظية عنده.
وكنت قد ألزمته المبيت عندي، وكان انصرفي وقد مضى هزيع من الليل، فدخلت وأنا مقطب مشغول القلب، فتأمل ذلك مني، وقال لي: أطلت عند الأمير الليلة جدا، وأراك قد جئت وعلى قلبك هم، فما الخبر؟ فلم يكن بي فضل لجوابه، وبقيت بثيابي وخفي جالسا، فقال لي: استخر الله يا سيدي، وادخل إلى الحرم، واخلع ثيابك، ونم تهدأ أعضاؤك بما تعطيه نفسك من الراحة . فقلت له: دعني من هذا فقد حيرني أمر هذا الرجل الذي أخدمه وأدهشني، وما أشبه موارد أموره ومصادرها إلا بالآخرة، فلي والله في الفكر فيها ما يشغلني عن الراحة والمطعم والمشرب التي لا بد منها.
فقال لي: قد استعجلت أنا الساعة الحيرة فخبرني ما السبب؟ فقلت له: كنت بين يدي الأمير واقفا أعرض عليه الأعمال، فلم أزل كذلك إلى أن جاء نصف الليل، فرأيته وقد تشاغل عني بشيء آثر الانفراد به، فتأخرت وملت تعبا إلى طرف الزقاق، فطرحت نفسي أغتنم استراحة، وكان موضعا مظلما لا يبين من فيه لكثرة ضوء الشمع، فرأيت غلامي فلانا، وهو كما تعلم أكبرهم وأوثقهم عندي، وهو عدتي وعليه معولي، وقد وقف بإزائه لما لم يرني، وظن الأمير أني قد خرجت من الدار، فاستدناه فدنا منه، فلم يزالا في سرار متصل أكثر من ساعة، ثم خرج من عنده مبتسما، لما لقيه به من محبوبه، فما ظنك بمن أبر غلمانه عنده صاحب خبر عليه؟ أي عيش يطيب له؟ أو أي راحة تنفعه؟
ومن ذلك ما حدث به أحمد بن أيمن قال: قال لي أحمد بن طولون يوما: اطلب لي رجلا زكي الروح، صادق اللهجة، صحيح التمييز، لمهم لي أريده، فوعدته بذلك، وقد كان في جواري فتى من أولاد الكتاب فيه ما وصفه لي، فعرضت عليه ما ذكره لي الأمير فقبله، فأدخلته إليه، وقلت له: هذا الرجل الذي طلبه مني الأمير. فتأمله ثم استدناه فدنا منه، وأسر إليه ما لم أقف عليه، فدعا بالسياط والعقابين، فشق عن الفتى وضرب عشرين سوطا، وأمر به للمطبق فلم أستجز أسأله عن أمره، فانصرفت مهموما مغموما، وسألني بعض أسبابه
136
عن حاله فقلت: أنفذه الأمير في مهم له من وقته، وأمر له بصلة، وقد أنفذ إليكم هذا منها، ودفعت إليهم من عندي خمسين دينارا، واستتر عني خبره شهرا، فلما انقضى رأيته يوما قد دخل وأنا بين يديه، وقد اتسخت ثيابه وطال شعره، فاستبشرت لرؤيته، وعجبت من حاله.
فدنا من الأمير فخاطبه ساعة، ثم استدعى أيضا السياط فضربه عشرين سوطا، وأمر به إلى المطبق، فازددت حيرة وتعجبا وغما، فلما كان بعد شهر قال لي أحمد بن طولون: يا أحمد. فقمت قائما فقلت: لبيك أيها الأمير. قال لي: قد وافى ذلك الفتى من الموضع الذي كنا أنفذناه إليه، والساعة يدخل فاخرج للقائه، فبادرت مسرورا بذلك، فلقيته بعين شمس وهو راكب على بغل فاره بسرج ثقيل، وجنيبة
137
تجنب له، ومعه ثلاثة أبغل تقل محمله إليه، فسلمت عليه، وبدأني فقال: إني لأعلم تعلق قلبك بأمري. فقلت له: ما أحسن أصف ذلك فعرفني حالك، فقال لي: لما نظر إلي عند دخولي إليه واستدناني قال لي: إن قلبي متعلق بما يجري من المعتقلين في المطبق، وقد ندبتك لذلك، وقد عملت على أني أظهر سخطا عليك وآمر بك إلى المطبق، فإذا حصلت فيه فأثبت ما يجري من واحد واحد ساعة بساعة، فإني أنفذ إليك رجلا خفي الشخص يجلس إليك تنفذ إلي معه ما يجري يوما بيوم. فقلت له لما توجبه هذه الحال: فإن ضربني الأمير ولو ضربا يسيرا كان أصح لخبري، فقال: لله درك! فما أخطأت فراستي فيك. فأمر بضربي كما شاهدت، وأقمت في المطبق شهرا أنفذ إليه كل يوم مجملا بما يجري مع شيخ يأتي كالمسلم علي، وأهل المطبق يسألونني عن حالي فأقول: لا أدري من سعى بي بما لا أعلمه.
ثم أخرجت من المطبق فقال لي: قد قبضت على قوم أخر، وأنا أريد إنفاذهم إلى المطبق، فتعود إليه على رسمك، وتثبت ما يكون منهم أيضا، وتطالعني به. ففعلت، فأنفذ عشرة أنفس ما بين قائد وعامل وكاتب، فجريت على شاكلتي فيهم، وأخرجت أمس إليه، فقال لي: بارك الله عليك وفيك. وأمر لي بألفي دينار وعشرة آلاف درهم، وما ترى من الحملان
138
وثياب كثيرة، وتقدم إلى نسيم بأن يسفرني هذا السفر وينفذني إلى عين شمس، لأعود منها كالمسافر، فركبت معه فصرت معه إلى منزله وقد سررت بسلامته، وكثر تعجبي من أفعال أحمد بن طولون، وازداد خوفي ووجلي منه.
ومن ذلك ما رواه رهبان دير القصير
139
قالوا: كان كثيرا ما يطرقنا الأمير أحمد بن طولون ويخلو في بعض قلالينا
140
يفكر، وكان يأنس براهب منا يقال له أندونة، فشكونا إليه يوما أمر ابن مدبر صاحب الخراج بمصر، وقلنا له: إنه يطالبنا بجزية رءوسنا وقد أسقطت عن أمثالنا على مر السنين. فوقع إليه بخطه توقيعا وقال لنا: احذروا أن تجعلوا توقيعي هذا كالسيف الذي يصول به صاحبه، ولكن استعملوا الاستكانة عند إيصالكم إياه إليه، والمسألة وحسن التلطف. فعجبنا من قوله، وصرنا إلى ابن مدبر وإذا به قد بلغه خبر التوقيع، واستعملنا ما أمرنا به الأمير، فأخذ التوقيع منا وبلغ لنا فوق ما نحبه.
ومن ذلك ما حدث به الفارسي، وكان من ثقات أصحاب أخباره، وخصيصا به جدا قال: دعاني أحمد بن طولون يوما فقال لي: ويحك! قد خفي عني أمر فلان، رجل كان من أصحابه الأتراك، وقال لي: من العجب أن يضبط نفسه، ولا يظهر شيئا من أمره، فابحث لي عن حاله، والطف في ذلك. فمضيت إلى داره، فجلست ناحية، وسألت من قرب من جواره عنه، فعرفت أنه يركب في كل يوم، ويغلق باب داره فلا يفتح، ولا يقربه أحد إلى موافاته، فإذا وافى ونزل أغلق فلم يخرج منه أحد ولم يدخل إليه أحد إلى غد يومه، فإذا ركب كانت تلك سبيله على هذا دائما.
فاكتريت دارا رأيتها مشرفة على داره وانصرفت، فلما كان غد يومي صرت إليها ومعي حمال، معه ما أجلس عليه وآكله وأشربه ليومي، فدخلت الدار وغلقت علي بابها، وصعدت إلى سطحها فتأملته وإذا فيه موضع أشرف منه فأرى قاعة التركي وبعض مجلسه، ولم أسمع له حسا فعلمت ركوبه، فلم أزل أتوقع عودته حتى عاد من ركوبه، فلما سمعت حركته أشرفت، فرأيته وقد دخل مجلسه، وأقبلت أراعي أمره حتى رأيت الطعام ينقل إليه إلى أن فرغ من أكله، وأدخل إليه الطست والغسل، ولم أسمع بعد ذلك له حركة، فعلمت أنه لما أكل نام، فلم أزل أنتظر ما يكون، وكان ذلك الوقت صيفا.
فرأيت الفراش بعد العصر، وقد كنس القاعة ورشها، وأخرج حصرا حسانا ففرشها، وجعل له مطرحا
141
طبريا ومسورتين
142
وأربع مخاد ومقعد سامان [؟] مبطن عن يمينه ومخاد بلا مساور، وخرج الفراش فخرجت جارية فعلقت باب القاعة بينهم وبين الغلمان، وخرج التركي فجلس على المطرح وخرجت معه جارية في نهاية الحسن والجمال فجلست على المقعد السامان [؟] وجاءتها جاريتها بعودها فوضعته بين يديها.
وقدم بين يديه صينية فيها ثلاث خرداديات
143
وكوز ماء، وقدح نصف، وجعل بين يدي الجارية صينية فيها خردادي وقدح لطيف وكوز ماء ومغسل، وأخذت العود فغنت أحسن غناء وأطيبه وأحذقه، وشرب حتى استوفى الثلاث خرداديات، وشربت الجارية الخردادي الذي بين يديها، فأتي بثلاثة أخر وملئ خردادي الجارية، وغنت وشرب وشربت واستوفاهما، وفي كل واحد منهما نحو الرطلين؛ لأني رأيتهما كبارا وملئوا له، وقد خلط في كلامه، فاستدعى الرطل فملأه، وغنت وشرب، فلما شربه قال لها: ويحك الساعة حصلنا على أن يملك أحمد بن طولون لعاصي لمولاه أمير المؤمنين الموفق هذا البلد الذي ليس في الدنيا أجمل منه، ونحن بين يديه يديرنا كما يشاء، ويأمر فينا بما يحب، والله لا صبرت له على هذا. فقالت له الجارية: أيضا قد عدت إلى هذا؟ دع عنك ما لا نحتاج إلى ذكره واشرب حتى أغنيك صوتا ما سمعت مني مثله قط. فقال لها: هاتي. فغنت صوتا جودت فيه وأحسنت كل الإحسان، وشرب فما ضبط نفسه فقال لها: ما أدري أي قتلة أقتل هذا العاصي الملعون؟ فقالت له: املأ قدحك حتى أغنيك صوتا أحسن من كل ما غنيته. فلما غنت وشرب زاد الأمر عليه، فقال لها: ويحك والله لا صبرت عن هذا العاصي، ولأدخلن إليه غدا وآخذ سيفي هذا. ثم جرد سيفه ووقف واقفا وقال: ولا أزال أضربه هكذا وهكذا. وأقبل يضرب به المسورة، ويقول: أشتفي منه قلبي هكذا. حتى قطعها قطعة قطعة، فلم تزل ترفق به حتى أخذت السيف منه، وأقبلت تغنيه وتسقيه حتى سكر ونام ونمت موضعي.
ولما كان في السحر بكرت إلى أحمد بن طولون وعرفته ما جرى، وتبينت الغيظ في وجهه، وقال لي: امض، وأمسك حتى دخل إليه في جملة المسلمين من غد، فلما أراد الانصراف أمره بالجلوس، فلما لم يبق أحد من المسلمين استدناه إليه ثم قال: يا هذا أسأت إليك قط؟ قال: لا، أيها الأمير. قال: أليس أنا أدر عليك أرزاقك وجراياتك وأرزاق من معك؟ قال: بلى، أيها الأمير، قال: ولا أخليك في الأوقات من صلة وجائزة؟ قال: بلى. قال: فبأي حال استوجبت منك أن تفعل كذا وكذا. وعرفه بما عرفته، فقام التركي قائما، ورفع رأسه إلى السماء، وقال: رفعته علينا فصبرنا، وملكته رقابنا وأرزاقنا فأطعنا، وأعطيته الدنيا كلها فلم نبال، ما قنعت له بهذا كله حتى صرت له صاحب خير علينا، فرفعت إليه ما تخرجه حماقة النبيذ من الناس إذا هم شربوا؛ كل هذا تتقرب من قلبه. فضحك أحمد بن طولون حتى استلقى على شدة تزمته،
144
ثم أمره بالانصراف، وأتبعه بخادم معه خمسمائة دينار، وأمره أن يدفعها إلى الجارية ويقول لها: قد أحسنت في تأديبه فالزمي ذلك. ثم أخرجه بعد شهر إلى طرسوس، وكتب له بأرزاقه هناك، ووصله بخمسمائة دينار، ولم يحتمل أن يكون معه في بلده وبحيث تراه عينه ويحمل منه ما شق عليه تحمله، ولم ير في مروءته أن يسيء إليه لجميل فعل جاريته وما أصلحته من خطابه، ورميه بطرفه إلى السماء.
وأما فراسته وصحة إزكانه،
145
فما رواه أبو العباس المعروف بالطرسوسي صاحب خبره، قال: ما رأيت أصح إزكانا من أحمد بن طولون ولا أقوى فراسة منه، نظر يوما شيخا في جملة من ينظر إليه، وهو راكب سائر في جيشه، فقال لبعض حجابه: دونك ذلك الشيخ. فقبض عليه، فلما صار في داره أحضره، فإذا به رجل خراساني شديد العجمة، فسأله عن أمره فاعترف أنه صاحب خبر عليه للموفق، وأن معه كتبا إلى جماعة من قواده وأصحابه، وأحضر الكتب فأخذها، وأمر به إلى المطبق، فقال له: أيها الأمير، أما وقد أخذتني بحسن فراستك، فقد لزمني نصحك ؛ لما ملك قلبي من ذكاء عقلك واقتصارك بي على الحبس، وعفوك عن عقوبة كنت أتوقع التلف معها، فقال له: قل يا مبارك. قال: معي صاحب خبر آخر، فإن أردت أن تحتاط فاحبسنا جميعا إن رأيت ذاك، أيها الأمير، صوابا. فقال له: بارك الله عليك، وأين يكون؟ قال: في موضع نجتمع فيه من ليل إلى ليل. قال: فخذ معك من تريه إياه حتى يأتيني به. قال: أفعل. فأنفذ معه بعض حجابه ومضى معه، ولم يزل يترقب موافاة صاحبه حتى وافى في آخر النهار، فعرفه معرفة أحمد بن طولون به وقبضه عليه، فسمعه الحاجب وهو يقول: فما الذي قلت له؟ فقال: اعترفت بالصدق، فقال له: جودت، الصدق أحمد عاقبة وإن سألني صدقته، وأحسبك ذكرت له مكاني معك، فوجه هذا الرجل معك ليحضرني إليه، قال: نعم. قال: سمعا وطاعة، امض بنا. ووافيا والحاجب معهما إلى أحمد بن طولون، فعرفه الحاجب بما سمعه منه فأعجبه ذلك، وسأله عن خبره فصدقه، فقال لهما: قد نجوتما مني وتخلصتما بصدقكما، فارجعا الآن إليه وعرفاه بمعرفتنا بكما، وأخذنا الكتب التي كانت معكما، وإطلاقي لكما. ووصلهما ووجه معهما من يقيهما.
قال أبو العباس: فتحيرنا مما شاهدنا منه، وقلنا: هذا وحي. وفطن لما خامر قلوبنا من ذلك، فقال لنا: قد علمت ما اختلج بأسراركم، ما هو وحي ولكنه إزكان صحيح وذكاء قوي بحمد الله ومنه. إني رأيت هذا الرجل في وسط الناس وهو مشغول بالنظر إلي والتأمل لي، لا يطرف عني بنظر إلى جليس ولا غيره؛ فارتبت به فكان كما ظننت. فقلت له: وفق الله الأمير وكفاه.
قال: وانصرف يوما من الصيد فاجتاز على شارع الحمراء، فتأمل دارا تبنى هناك، فوقعت عينه على بعض الرقاصين،
146
فأمر بأخذه فقبض عليه، ووافوا به إلى الميدان، فلما جلس أمر بإحضاره، فلما حضر أمر بإحضار السياط والعقابين، فلما شد صاح: أيها الأمير، لا تعجل علي من قبل أن تسألني وتعلم ما عندي. فقال: صدق، حلوه. فلما حل؟ قال له: ادن. فلما دنا، قال له : عرفني خبرك واصدقني تنج مني. قال: نعم، أيها الأمير، أنا جاسوس للموفق، وكانت معي كتب ففرقتها على أصحابها، فوعدوني بكتب الجواب عنها، فعملت رقاصا ليستتر أمري، وأسمع وأنا في أوساط الناس من أحوال البلد وأخبار الأمير ما أحفظه، حتى أذكره عند عودتي لمن أنفذني، كما يلزم من نصب لهذا المنصب. فقال له: صدقت فعرفني من أصحاب الكتب. فعرفه بهم واحدا واحدا، ووكل به من أخرجه عن البلد من وقته، وقال له: قل له قد أطلعنا الله، عز وجل، على ما سترته وأردت أذيتنا به وأظفرنا ونصرنا، ولم يضرنا فعلك، والحمد لله على ذلك. فلما كان في الليل قبض على أولئك القوم أصحاب الكتب كلهم؛ فمنهم من غرقه، ومنهم من طم عليه الحفر.
فقال له موسى بن طونيق وكان خصيصا به: أيها الأمير، كيف علمت أن هذا الرقاص جاسوس؟ قال: لمحته على الإسقالة
147
وعلى كتفه قصرية
148
الطين، ورأيت تكة أرمني، فأنكرت ذلك وقلت: رقاص لا تكون تكته إلا خيطا أو كتانا. فقبضت عليه وكان ما شاهدت منه. قال له: أحسن الله توفيق الأمير.
وحدث موسى بن طونيق قال: رأيت أحمد بن طولون يوما وقد أمر بالقبض على رجل دخل إليه في جملة الأولياء للسلام، ثم أحضر له السياط والعقابين وقال له: اصدقني ويلك من أرسلك إلي، فخبرك عندي منذ البارحة؟ فقال له: صدق الأمير، أيده الله، أنا صاحب خبر لأبي أحمد الموفق فأمر به إلى المطبق.
قال موسى فقلت له: أيها الأمير، هذا وحي لا شك فيه. فضحك وقال لي: ويحك لا تكفر بالله، مات رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وارتفع الوحي، ولكن اعلم أنه إذا كان العقل صحيحا قل ما يخطئ وإلا فما منزلتي منزلة من يوحى إليه ولكني أزكن وأستدل فقل ما أخطئ، ومع هذا فإني رأيت البارحة في النوم هذا الشخص بعينه وكأنه يروم الدخول إلي فيمنع من ذلك، فكأنه يتسلق إلى طاق
149
في مجلسي ليرى ما أعمل. فكانت عبارة هذه الرؤيا تدل على أنه صاحب خبر لتسلقه علي وتجسسه، وكان ما قدرته.
ومن ذلك ما رواه تركان بن عبد الله بن الإمام، قال: جلس أحمد بن طولون يوما في مستشرف له على بعض بساتينه، وأحضر الطعام ومن يؤاكله من خاصته، فرأى من بعيد سائلا في ثوب خلق وحال سيئة، وهو جالس يتأمل المستشرف ومن فيه، فأخذ رغيفا وكان خبز الطولونية في الرغيف رطلين زائدين، فجعل عليه دجاجة وفرخا وفروجا وشواء لحم وقطع فالوذج كبيرة، ومن جميع ما كان بين يديه، وغطاه برغيف آخر، وجعل فوقه لوزينجا مع الفالوذج وغطاه برقاقتين، ودفع إلى بعض الغلمان، وأراه إياه، وقال له: امض سلمه إليه، وأقبل يراعي الغلام في دفعه إياه إليه وما يكون منه، إلى أن دفعه إليه، وعاد فعرفه ذلك، فلم يزل يتأمل السائل ساعة ثم أمر بإحضاره، فلما مثل بين يديه استنطقه فأحسن الجواب ولم يضطرب من هيبته، فقال له: الكتب التي معك هاتها، واصدقني صدقا ينجيك من ضرب السوط؛ فقد توسمت فيك بحسن عبارتك وثبوت قلبك وصحة عقلك. فاعترف له أنه صاحب خبر، وأن الكتب معه ما أوصلها ليدبر أمره في إيصالها، فوكل به حتى مضى وأحضرت الكتب.
قال تركان الإمام: فقال له طبارجي [وكان ذا دالة عليه وذا موقع منه]: أيها الأمير، إن لم يكن هذا وحيا فهو سحر، فقال له: لا والله يا هذا، ما هو وحي ولا سحر، ولكنه قياس صحيح، وتوفيق من الله، جل اسمه، وتفضل منه علي؛ رأيت هذا الرجل على ما هو عليه من سوء الحال فأشفقت
150
عليه، وعلمت أن مثله لا يصل إلى مثل ما بين أيدينا من الطعام، وأنه يرى في الأسواق ويشم من الروائح ما لا يصل إليه وتتعلق نفسه به، فأردت أن أسره بما أنفذته إليه، فوجهت إليه بما تشره إليه نفس الشبعان الواجد فكيف الفقير؟ فما هش له ولا مد يدا إليه، ولا رأيت من حسن القبول له والشهوة ما قدرته، فنفر قلبي منه، وقلت: هذا عينه ملأى وفي غنى عن هذا، هذا جاسوس لا شك فيه. فأحضرته فكان من أمره ما قد شاهدتموه من صحة خطابه واستيفاء جوابه، فازداد إنكاري لأمره لقوة قلبه واجتماع لبه، وأنه ليس عليه من شواهد الفقر ما يدل على فقره، وبعثه عقله على أن اعترف بأنه صاحب خبر، وصدقني عن أمره، ولا أسيء إليه وأثأثره وأطلقه، ففعل ذلك بعد ثلاثة أيام.
151
وحدث تركان بن الإمام عن أبيه قال: قال لي أبي: ركبت مع الأمير أحمد بن طولون يوما في السحر، وكان من عادته أن يركب سحرا في نفر من أصحابه، ويجتاز بالمواضع الشعثة يطالع منها جنايات أهل الشر في الليل، فمن ظفر به منهم أمر بضرب عنقه، فلقينا في الطريق صوائح، فوجه معهن من يخفرهن إلى حيث يقصدن، إلى أن لقينا صوائح أخر، فقال لصندل المزاحمي: انزل إلى هؤلاء الصوائح ففتشهن واحدة واحدة، فأخرج من وسطهن رجلين، وأمر بهما إلى المطبق وكانا ممن قد جد في طلبهما فلم يقدر عليهما، فقال له طبارجي: كيف تبينت، أيها الأمير، هذا من هؤلاء، خاصة وقد لقينا غيرهن ولم تفعل هذا بهن؟ فقال له: نعم، أولئك اللائي لقيناهن كان صياحهن بجد وحرقة وعلى غير تصنع، وكان صياح هؤلاء بتشاج وتصنع فعلمت أن معهن رجلا؛ لأن من شأن النساء التصنع للرجل، فكان ما ظننت.
وحدث شعيب بن صالح قال: كان لأحمد بن طولون رجل يثق به على كثير من أسراره،
152
يطالعه بها وما غاب عنه منها، فعرفه جماعة من الناس بذلك، فكانوا يهادونه استكفافا لشره وبسط يده للارتفاق
153
إلى أن كسب مالا عظيما، وانكشف أمره لأحمد بن طولون، وعلم أن قصده الارتفاق في النصيحة، فلما وقف الرجل على علم أحمد بن طولون به هرب منه خوفا على نفسه، فشق ذلك على أحمد بن طولون جدا، لاشتماله على ما عنده من أسراره، فرأى أحمد بن طولون في منامه كأنه حفر قبرا واستخرج منه ثعبانا عظيما، فقبض عليه بعنقه، وأخرجه من القبر، وجعله في جرة عظيمة، وسد رأسها، ثم أصبح فركب على رسمه مغلسا إلى العين التي بناها بالمعافر، فرأى جنازة امرأة وخلفها نحو من عشرة أنفس، وقد أخرجت في ذلك الوقت، فاستراب بها، فقال لمن يحملها: أين حفرتم لهذه الامرأة؟ فاضطرب الجماعة، وحطها وكشف الغطاء، فوجد الرجل الهارب منه، وقد رام الخروج عن البلد فأعجزه ذلك وضاقت به الحيل، فصنع هذا حتى يصل إلى الصحراء، فيذهب متنكرا في زي العباد، ويأخذ طريق الجبل، الصحراء الصحراء، إلى أن يتخلص، فأمر به إلى المطبق، واستصفى جميع ماله، وصحت رؤياه التي رآها، وزال غمه بها.
وحدث شعيب بن صالح قال: كنت مع أحمد بن طولون يوما في الصحراء فرأى حمالا وهو يحمل شيئا قد أثقله، وهو تحته يضطرب اضطرابا شديدا، فقال: لو كان اضطراب هذا الحمال من ثقل الحملة، مع ما أرى فيه، لغاص رأسه في عنقه، وما هذا منه إلا من رعب مما يحمله، فأوقفه وأمر بحط الحملة عنه، فحطت وفتشت، فإذا معه جارية قد قتلت وفصلت، فاستخبر الحمال عن القصة فقال له: أربعة نفر في دار دفعوا إلي هذه الحملة، وأعطوني دينارا فشرهت نفسي، لسوء حالي، إلى الدينار، فتحملت من حملها ما لا أطيقه. فقال له: فحضرت قتلها؟ قال: لا والله. قال له: أرني الموضع. وعاد مع الحمال إلى أن أراه الموضع الذي حمل منه، ووجد القوم بحالهم لم يهربوا بعد، فقبض عليهم وأمر بضرب أعناقهم، وضرب الحمال مائة مقرعة وأطلقه، وقال له: لو كنت حضرت قتلها لقتلتك.
وحدث حماد بن علي الأزدي، وكان أحمد بن طولون قد جعل إليه منع من هرب منه والتفتيش عنه، قال: تغير أحمد بن طولون على نعيم المعروف بأبي الذيب، فهرب منه، فأمر بطلبه وقال لي: لا تطلبه في داره بالفسطاط ولا في ضيعته سبراساط،
154
ولا عند أحد من إخوانه؛ فإنه أضعف قلبا ودينا من أن يقيم في هذه الأماكن، ولكن اطلبه في الديارات وعند النصارى فإنك تجده في زي راهب وقد دخل في جملتهم؛ لأنه حاذق بالقبطية فصيح بها. قال حماد: وطلبته هناك فوجدته كما وصف، فقبضت عليه، وجئته به على هيئته، فلما رآه قال له: إيش هذا الزي؟ أرتداد عن الإسلام؟ السيف والنطع. فقال: لا والله، أيها الأمير، ما ارتددت عن الإسلام وإنما تسترت بهذا الزي لأخفى، ولكن أين يتهيأ لي استتار منك ولغيري؟ وأنت كما قال النابغة الذبياني:
فإنك كالليل الذي هو مدركي
وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
فأوقفه هذا القول من أن يجري عليه من المكروه ما كان معتقدا له فيه، لما كان فيه من الكرم والحياء لمن صدقه واستكان بين يديه، وأخذ خطه بمائة ألف دينار، وسلم الخط إلى محبوب بن رجاء كاتبه، وكان [في] محبوب شره ومحبة لأخذ المرافق، فوعده بخمسة آلاف دينار، وكتب له خطه بها، فسأله أن ينجم
155
عليه المال ليؤديه قليلا قليلا على حسب ما يتهيأ له وتتسع به حيلته، فكان كلما أحضر ما يؤديه لم يأخذ به براءة، واستدعى خطه فحط منه وكتب بباقيه، وكلما كتب خطه بالباقي صغر الخط ولطفه إلى أن حصل له من الأداء ثلاثون ألف دينار، وكتب الخط بسبعين في رقعة صغيرة، وأقام أياما وهو يذكر اضطرابه واحتياله بما يؤديه، ثم ذكر أنه أحضر ما يؤديه، واستدعى من محبوب خطه ليحط منه على الرسم، فدفعه إليه محبوب على الاسترسال والثقة والعادة التي قد جرت، ولارتفاقه منه بخمسة آلاف دينار، فلما حصل الخط في يده أكله وقال: ما بقي علي من مصادرتي درهم واحد إلا الخمسة آلاف المرفق التي خطي معك بها. فقامت على محبوب القيامة. ورفع الخبر إلى أحمد بن طولون فأمر بإحضارهما، فلما حضرا قال نعيم: قد أديت، أيد الله الأمير، جميع المال الذي أخذ به خطي إلا خمسة آلاف دينار. فذكر له محبوب حيلته وأكله للخط، فقال أحمد بن طولون لنعيم: احلف برأسي أنك قد أديت المال، ولم يبق عليك منه إلا ما ذكرت، وأن الذي ادعاه محبوب باطل ونحن نصدقك ونزيل المطالبة عنك. فقال: قد أديت جميع ما أخذ به خطي وسلم إلي خطي وحرقته، وإنما لما طولبت بخمسة آلاف دينار مرفقا خطي بها مع محبوب ولم يتهيأ لي أداؤها، ادعى علي بما ادعاه. فقال له أحمد بن طولون: يمكن أن يكون الأمر كما ذكرت، ولكن احلف برأسي على ما حكيت وقد برئت من المال، فقال: يعفيني الأمير، أيده الله، من هذه اليمين؛ فإني لست أحلف بها بوجه ولا بسبب، فقال له: لست أعفيك منها إلا بالصدق. فقال: إذا لم يعفني الأمير، أيده الله، فأنا أجل رأسه أن أحلف به إلا صادقا، والأمر كما حكاه محبوب، وما فعلت ما فعلت وحملت نفسي عليه إلا من إضافة شديدة غليظة، وأنه لم يبق لي شيء أرجع إليه فيما أديته، وقد كشفت حالي للأمير، أيده الله، فيرى في عبده ما يشبه كرمه ورياسته، فثناه هذا الفعل عنه، ورق قلبه له؛ لأنه كان إذا صدق لان وانعطف وأنعم، وبلغ منه فوق المحبوب، فأمر بإطلاقه، وحط ما كان بقي عليه، ورد ما أخذ منه، ورد إليه عملا يتصرف فيه.
وحدث شعيب بن صالح قال: ركب أحمد بن طولون يوما فسلك شارع الحمراء يريد الجيزة، فلما توسطه وقف ودعا بطخشي فأراه دارا هناك، وقال له: قف على هذه الدار توكل بها، واحذر أن يفوتك أحد ممن فيها، حتى تتصفح وجوههم واحدا واحدا، فإنك تجد شيخا صفته كذا وكذا، رأيته الساعة يتطلع من طاق في عقر
156
هذه الدار، فلما رآني أغلق الطاق فخذه وامض به إلى الدار إلى أن أعود إن شاء الله.
قال طخشي: وسار الأمير ووقفت على الدار، وأطفت بها الخيل والرجال، وأنزل إلى جميع من فيها وأتصفح وجوههم واحدا واحدا، فوجدت الشيخ على الصفة التي وصفها لي، فقبضت عليه، وصرت به إلى الميدان، ورجع الأمير فحين نزل دعا بالشيخ، فلما مثل بين يديه قال له: من أين الرجل؟ قال: من بغداد، قال: وما جاء بك إلى ها هنا؟ قال: صاحب خبر عليك، قال له: علي، قال: نعم، عليك. قال: ومن أنفذك متخبرا
157
علي؟ قال: الأمير أبو أحمد الموفق. قال: وبمن تعرف يا شيخ؟ قال: بالقطان الطالقاني . قال: فضحك أحمد بن طولون، لما أعجبه من صدقه، وقلة جزعه، وانحل غيظه، وقال له: اجلس. فجلس، فقال له: أبو من؟ قال: أبو جعفر، فقال له: قد سمعت بك يا أيا جعفر وكتب إلي بخبرك، وقد سررتني بصدقك إياي، وحرست نفسك بذلك مني، فمذ كم وردت البلد؟ قال: منذ سنة. قال له: ويحك! ولك هذه المدة منذ دخلت البلد وأمرك مستتر عني؟ قال: نعم. قال: فكيف تقف على أخباري وهذه حالك في الاستتار؟ فقال: معي عشرة يدورون في البلد، ويرفعون إلي أخبارك، وأكتب بها. فقال له: وكيف قدرت على الدخول إلى البلد مع ضبطي طرقه؟ فقال: ركبت البحر من أنطاكية إلى تنيس
158
ومنها إلى مصر. فقال: صدقت، أما هذا فما ضبطناه ولكن من الآن.
ثم قال له: يا أبا جعفر، إنك هو ذا تحسن وتجمل إلي وإلى نفسك في صدقك إياي، وقد أمنك الله، عز وجل، وأزال خوفك، فاصدقني أيضا عما أسألك عنه ولا تنافقني متقربا إلي، هل ترى في سيرتي شيئا تنكره أو في تدبيري سياستي ما تذم؟ مع تأملك لذلك منذ سنة، قال: لا، والله الذي لا إله إلا هو، وبالله إني لأكتب بذلك وبما هو لك لا عليك، وإني لأعلم أنه يسوء من أكاتبه به، ولكن الصدق يبعثني عليه رضي به من رضي، أو سخط من سخط؛ لأني ما أقول فيما أكتب به إلا حقا؛ لأن أفعالك كلها حسنة جميلة، مضبوطة محفوظة مستقيمة، فإن الذي أكتب به من ذلك لمما يزيد به حالك في قلوبهم خوفا وهيبتك في نفوسهم عظما وجزعا وذعرا. فقال له: حسبي يا أبا جعفر، أحسن الله إليك.
ولكن يا أبا جعفر، كتب إلي عنك بستر ودين وصدق لهجة وغنى عما حملت نفسك عليه، فلم رضيت لنفسك بخدمتهم في هذه الحال العظيمة التي يركب صاحبها فيها خطة لا يدري ما عقباها؟ وهذا أيضا مع بعد الطريق وتكلف المشقة العظيمة فيها وعظم المخاطرة. فقال: أيها الأمير، أجبرت وخوفت، فسمعت وأطعت، ولم يمكني الخلاف؛ لأن لي في بلدهم عقارا وعيالا وأهلا وتجارات، ولولا ذلك لاخترت، لما ندبت له، الهرب من بلدهم، ولما استجبت، إلا أني اشترطت عليهم أني إن وقعت في يدك، وسألتني عن شيء، صدقتك فيه، وقدرت أني أدفع بذلك عني ما دعيت له، فلم يثنهم ذلك، وأذنوا لي فيما شرطته عليهم من صدقك عما تسألني عنه من قليل وكثير، فحمدت الله، عز وجل، على ما ابتلاني به من ذلك، وصبرت عليه، وعملت على أنها مصيبة من المصائب التي تلحق الناس لا يمكنهم دفعها عنهم، وعملت على أنك، أيها الأمير، إذا وجدتني لم تستبقني، فما خرجت حتى أوصيت كما يوصي من تحضره الوفاة؛ إذ كنت لم أجد بدا من ذلك، وقد أخلف الله، جل اسمه، ظني، وأزال خوفي، بكرم طباع الأمير، أيده الله، ورأفته؛ فلولا ذكاء الأمير، أيده الله، وحدة خاطره، وقوة حسه، وصحة ذكائه، بما وهبه الله الكريم له من ذلك، لما فطن لي وقد رآني أتطلع من طاق، وما أنكر عند ردي باب الطاق حين رأيته، فكان ما ظنه ووقع له في حقا. فقال له الأمير: والله يا أبا جعفر كذاك، ما أنكرت غير ردك باب الطاق حين رأيتني، وإن فطنتك يا أبا جعفر لحسنة، ولولا ما فيك من الفضل والذكاء والعقل لما علمت بذلك، فهل لك إلى ما أدعوك إليه؟ فقال: يأمر الأمير، أيده الله، بما أمتثله، إن شاء الله. فقال له: أدعوك إلى خدمتي كما خدمتهم مع مجانبة الخلاف علي. فقال له: قبيح أيها الأمير أن أدع قوما سبقوك إلي وخلطوني بأنفسهم ووثقوا بي، فلا يجوز أن أكون عليهم بعد أن كنت لهم ومعهم، وإذا لم أصلح لصاحبي الأول لم أصلح للثاني.
فاجتهد به أحمد بن طولون فلم تجد فيه في ذلك حيلة، مع ما فيه من البذل والعطاء، وقال له: لأن يقتلني الوفاء أيها الأمير أحب إلي من أن يحييني الغدر، فزاد بذلك في محله عنده، فقال له: إذا كنت يا أبا جعفر قد أبيت فاختر، إن أحببت المقام عندي من غير خدمة تكرهها ولا تختار التصرف فيها فبالرحب والسعة، وإن أحببت الرجوع إلى صاحبك أطلقتك. فقال له: إذا كان الأمير، أيده الله، قد خيرني بكرمه فالرجوع إلى الأهل والوطن آثر عندي مما أوثره من التصرف بين أمره ونهيه، وإن كانت المروءة هي أوجبت علي حسن الوفاء لمن وثق بي فلن أكون بعد منصرفي عن الأمير، أيده الله، إلا متصرفا بين أمره ونهيه هناك، مجازاة لجميله، أيده الله، الذي شملني، وإحسانه الذي قد عمني. فقال له: أحسن الله جزاءك يا أبا جعفر، وكثر في الناس مثلك.
وأمر سوارا الخادم فأخذه إليه على حال تكرمة، فأقام في داره ثلاثة أيام، تقام له في كل يوم مائدة حسنة، ولا يزال أحمد بن طولون يتبعض
159
له وهو يأكل من كل ما يستطيبه، مما يقدم إليه من طعام وحلواء وفاكهة، ويستدعيه ليلا، فلا يزال يحادثه ويسائله عن أخبار الموفق، وما يحتاج إلى علمه، ويؤانسه إلى أن يمضي الليل إلا أقله، فلما كان في اليوم الرابع أحضره فقال له: يا أبا جعفر، الضيافة ثلاثة، ولا أشك في تعلق قلبك بمخلفيك، ويعز علي والله مفارقتك إلا أني لا أحب أذيتك، وأختار مساعدتك، وأمر له بعشرة آلاف دينار وعشرة أسفاط ثيابا، وخمسة أرؤس من الدواب، وثلاثة غلمان وطيب كثير، فكن مقدار ذلك عشرة آلاف دينار أخر، فلم يقبل شيئا من ذلك إلا سفطا واحدا من الثياب، وبغلا واحدا، ودينارا واحدا من المال، وقال: أيد الله الأمير، أنا والله من وراء نعمة عظيمة واسعة، ولي مع ما كنت وصفته للأمير، أيده الله، ضيعة ترد علي في كل سنة عشرين ألف درهم، وفي أخذي من الأمير، أيده الله، ما أمر لي به تغنم لا أستحسن فعله، ويقبح بي وصفه. وقد أخذت مما أمر به الأمير، أيده الله، ما أتشرف بلبسي له، وأتجمل بركوبي بغلا من بغاله، وأنفق يوم أدخل بلدي هذا الدينار، والله لا أنفقت يومي غيره تشرفا به، فإن رأى الأمير، أيده الله، أن يتمم سرور عبده ويدعه وما اختاره، ولا ينقض علي حمله فعل وأحسن بها إلي. فازداد بذلك أيضا في قلب الأمير أحمد بن طولون جلالة ورفعة، ووصاه بما احتاج إليه وودعه، وأنفذ معه من يشيعه، وكتب له جوازا وكتبا إلى سائر أعماله يأمر أصحابه بها بتلقيه وتشييعه وخدمته، وخرج وأحمد بن طولون يتأسف ألا يكون مثله في خدمته، وقد ملأ قلبه وصدره بحسن وفائه لصاحبه.
فلما وصل القطان إلى الحضرة لم يدع جميلا ولا حالا تصلح ما بين الموفق وأحمد بن طولون إلا بلغها، من حسن طاعته، وحسن سيرته، وضبط أمره، وحزمه، وجودة تدبيره، وقوة أمره، فثنى ذلك الموفق إلى الرجوع له، ووقف طيفور خليفة أحمد بن طولون هناك على ذلك وعلى انثناء الموفق له، فكتب إلى أحمد بن طولون بذلك ويقول: أحسن الله جزاء القطان، وكثر في الناس مثله؛ فلقد قويت يدي به منذ ورد إلى الحضرة وبما جرى منه مع الموفق، ويقول في كتابه: ومن العجب أن يحضر مثل هذا الرجل بحضرة الأمير فيغفل إلزامه قبول بره بكل حال. ولم يعلم طيفور بما عمله أحمد بن طولون معه، فلم تجد فيه حيلة. ويذكر عظم محله عند الموفق، ونبل منزلته منه، فكان أحمد بن طولون يقول: ما أسفت على شيء كتأسفي ألا أكون ألزمت القطان قبول خمسين ألف دينار ومثلها أعراضا ويقول: رزقي الله صاحبا مثله.
ولم يزل أحمد بن طولون يكاتبه في مهماته وحوائجه وما يحتاج إليه من مخاطبة الموفق، فيبلغ له في جميعه ما يحبه إلى أن مات أحمد بن طولون، فلما مات بلغ القطان موته فحزن عليه واغتم غما عظيما، وبلغ الموفق ذلك عنه فلم ينكره عليه، وكان يحضره في كل وقت ويسأله إعادة أخباره عليه، فيذكر كل ما كان يشاهده منه ومن سيرته، وحسن سياسته في داره وحاشيته، وحسن مملكته، وعظيم هيبته، وكثرة صدقاته ومعروفه، وتفقده المستورين وأولاد النعم، وإجرائه عليهم الرزق، وما يعمل من الأطعمة في كل يوم جمعة، وحضور الضعفاء وغير الضعفاء من المستورين، وإشرافه على ذلك بنفسه حتى يأكلوا، ويؤمرون ألا يخرج أحد أو يزل
160
معه ما يقدر على حمله، ينصرف به إلى عياله، وما كان يجد في ذلك من اللذة والسرور والفرح، وأنه جعل ذلك عوضا من القصف والشراب وسماع الغناء وما يستعمله مثله من ذلك. وكلما سمعه الموفق يذكر من هذا شيئا يبكي ويترحم عليه، ويبكيان جميعا؛ فلم يكن للموفق أحد يعاضده على الغم بأحمد بن طولون إلا القطان، ويستر ذلك الموفق عن الناس كلهم إلا القطان، فكان هذا الفعل من الموفق للفضل الذي كان في الموفق، فعرف به فضل أحمد بن طولون؛ فإنه ليس لهم في مملكتهم أنصح منه ولا أوثق، ولا أضبط ولا آمن، وإنما كان ذلك الفعل من الموفق من الانحراف عنه، غيرة عليه ألا يكون ما يفعله للمعتمد له.
ولما تواترت الأخبار بموت أحمد بن طولون وصح ذلك عند سائر الناس؛ لأن الذي كان قبل كان بين مصدق ومكذب، كان من الموفق حينئذ ما نأتي به مشروحا مبينا إن شاء الله.
ومن إنصافه وحسن تأتيه، وبطلان كثير مما يشنع عليه، وإقامته له العذر فيما يأتيه، أن وكيلا له يعرف بابن مفضل صحبه ولا شيء له، ففوض أمره كله إليه، فاستولى عليه، وكان من بين الوكلاء حازما ذكي القلب شهما باذلا كافيا يحسن الخدمة، ولم يكن يقعد به إلا بخل كان فيه، ولجاج في الشيء إذا خوطب فيه يملكه فلا ينحل عنه، حتى إنه كان يتبع ما تضره اللجاجة فكان هذا عيبه، فوصل إليه من الارتفاق ما لم يصل إلى أحد من حاشية أحمد بن طولون ولا أهدي إليه، وكبرت أحوال أحمد بن طولون، فكبرت مرافق ابن مفضل واتسعت أحواله.
وكانت نفقات مطابخ أحمد بن طولون وراتبه من ضياع إقطاعه، فتقدم إلى ابن مفضل في وقت اختاره ألا يضع يده على شيء من مال هذه الضياع، وذكر له أنه يريد مالها لطرسوس، فلما انقضى الشهر وافى نفيس الطباخ إلى ابن مفضل يستدعي منه إطلاق النفقات على الرسم للمطابخ، فقال له: قد حظر الأمير علي الجهة التي كنت أطلق لك مالها، فقال له نفيس: فتحتال لي بما ننفقه اليوم، وتستأذن الأمير الليلة فيما يستأنف. فقال له: ما عندي حيلة. فقال له: إن النهار يمضي. وقال: حدثنا في شيء مما نحتاج إليه مما لا بد للأمير منه. فقال له: كذا اختار إيش في يدي؟ قال: فأعطل؟ قال: ذلك إليك. قال: فأذكر هذا للأمير؟ قال: ذاك إليك، افعل.
فدخل نفيس إلى أحمد بن طولون فعرفه الخبر، فأحضر ابن مفضل فقال له: ويحك ما كانت لك حيلة في إقامة نفقات المطابخ يوما واحدا، إلى أن نطلق لك من جهة نختارها ما تحتاج إليه؟ فقال له: لو تهيأ لي ذلك لما توقفت عنه، وإنه لمتعذر علي. ثم قال له: احلف بالله ثم برأسي أنك ما تملك ذلك. فحلف فدعا سوارا الخادم، وكان خادما جريئا، صفيق الوجه، قاسي القلب، فقال له: امض الساعة واقبض على كل ماله، واحمل إلي الساعة ما تجده من العين، واختم على ما سواه. فمضى سوار وقبض على كل ما وجده له في داره، فوجد له من العين ثمانين ألف دينار
161
فحملها إليه، وختم على ما بقي، وعاد إليه فعرفه بجميعه، فأمره ببيعه كله، فبيع بعشرين ألف دينار سوى ما استهلك وتمزق وتفرق، وسلم ابن مفضل إلى سوار فكان آخر العهد به.
وحدث شعيب بن صالح قال: شنئت نفس أحمد بن طولون استخدام الكتاب، لما وقف على حال ابن مفضل وقبح فعله، وجرأته على اليمين الكاذبة، وكان ذلك يشتد عليه جدا، واحتاج إلى من ينوب منابه، فسنح له ذكر كاتب كان يكتب لحسين الخادم المعروف بعرق الموت، كان لما قدم معه إلى مصر شاهده فخف على قلبه وافترس فيه خيرا فتتبعته نفسه. وكان هذا الخادم حسن العقل، راجح الوزن، يتقلد البريد بمصر، وكان أحمد بن طولون يعرفه من الحضرة، ويعلم منه حسن اختيار فيما هو بسبيله، فتيقن أنه لم يختر من كتابه إلا مختارا، وهو رجل يعرف بحسن بن مهاجر فمال إليه وسأل عنه ، فأحضره وساءله عن بلده وسبب تعلقه بحسين الخادم فقال: ولدت بالرقة وكان والدي يتوكل لحسين هذا في ضياع هناك، فاجتاز به في مسيره إلى مصر، فطالع ما جرى على يديه فأحمد أمره فيه، وتأملني وأنا بين يديه أكتب فمال إلي، فقال لوالدي: خرجت من الحضرة ولم أستصحب منها كاتبا لما أعلمه منهم من الجرأة ولطف الحيلة، وأنهم للعامل الخائن أوفق منهم للناصح، وأحب أن تصحبني ولدك هذا وتؤثرني به فإني أقنع به وأرجو إن يحسن تأديبي له أن يبلغ ما تقعده عنه الحداثة، ويتخرج معي فأبره وأكرمه عن غيره،
162
فشق ذلك على والدي لمفارقتي له، ولم يتهيأ له مخالفته، فسلمني إليه، وألزم نفسه تأديبي وتقويمي، كما يتولاه الوالد من ولده، حتى إذا هو تبين اضطلاعي بما يسنده إلي سلم إلي ديوان البريد، وقال لي: يا بني احفظ ما أوصيك به، احذر أن أراك في دار غير داري، ولا تسكن إلى أحد سكونك إلي؛ فإن تفويضي إليك يوجب لي ذلك عليك، وليكن إيثارك لحسن الذكر أكثر منه لكسب المال، وطلبتك للصواب أكثر منه لحسن الذكر، وإن شق عليك تحمله فإنه أحمد عاقبة فيما تأتيه من غيره، مما لا مشقة عليك فيه، ولا تنزعن إلى إنفاق ما تكتسبه بابتياع الأعراض النفيسة والملابس الرائعة؛ فإنك لا تزيد بذلك إلا في عين ناقص الفهم والحال؛ لأن من قوي تمييزه إنما يطالع ما صدر عنك من فضل، واستعرضه فيك من طبع، فإذا غلب عليك إيثار شيء يحسن به ظاهرك فطالع يمنه في حاصلك، واعلم أنه في يدك متى شئت من غير أن تغري بك كل حاسد أو باغ، ولا تذكرن لأحد من حديثي ما يسهل عليك إذاعته، فيجترئ بذلك على إذاعة ما يقف عليه من سري، واطو ما تستعرضه مني طي الصحيفة، واحذر أن يسبقك أحد إلى مطالعتي بما أتوكفه،
163
وقد أمرت لك بكذا وكذا دينارا، لتتأمل بها زيادة عطيتي على عطية خيانتي واشتمل على أمري، وقابل ما ابتدأتك به بما يقصي عنك سوء الفيء لديك، وفقك الله وسددك.
فقال له أحمد بن طولون: فمن خدمت بعده؟ فقال: ما استرحت إلى سواه، ومعولي فيما يقيمني على جزء مما أفادنيه غنيت به عن سواه، فأنا أستغله مع قوم أثق بهم وبموداتهم وحسن معاملاتهم، فأصرف الفضل فيما ينوبني وأرد الأصل إلى موضعه. فقال له: وكم صرف إليك حسين الخادم؟ فقال: أربعة آلاف دينار وهي كانت أكثر ما كان في حاصله في ذلك الوقت، فقال له: فما أحب من كاتبي إلا ما وصاك به صاحبك لا زيادة عليه، وقد أمرت لك بمائة ألف دينار، فإذا جريت على ما وصاك به صاحبك، فهذا المال قليل من كثير لك عندي. وخلع عليه وحمله، وألزمه خدمته، فلم ينكر منه أحمد بن طولون إلا تحامله على الناس له ليحظى بذلك عنده.
فقال له يوما: قد صحت عندي نصيحتك، وأنت غير محتاج أن تتحامل على أحد لتزيد عندي، وأنت تجني على نفسك بذلك من الآثام واستيحاش الناس مني أكثر مما تحوزه لي من الحظ، واعلم أنك تزرع في قلوب الناس بما تأتيه حقدا لا تفنيه الأيام، بل تتوارثه الأعقاب، فاطلب الشكر من الناس؛ فليس يكرهه إلا ناقص المعرفة، جاهل بما يوجبه حسن السياسة، غير عالم بما في باطن النصيحة، فميز الناس تمييز عادل؛ تلق شرارهم بغلظتك، وخيارهم برأفتك.
قال: فسألت نسيما الخادم عن المائة ألف دينار التي دفعها إليه أحمد بن طولون، فقال: هي المائة ألف من المائة ألف التي أخذها من ابن مفضل، تركها معزولة بحالها ناحية حتى يرى فيها رأيه، فلما استكتب ابن مهاجر أمرني بدفعها إليه.
قال صالح بن علي: جرى في مجلس لابن عبد كان ذكر محبوب بن رجاء وحسن بن مهاجر، فطعن عليهما أكثر الحاضرين، فقال ابن عبد كان: الصدق أجمل ما يؤثر، في كل واحد منهما فضل بين، وإنهما لعلى أفضل طريقة؛ أما محبوب فسريع الجواب، حسن الانتزاع
164
حلو المكاتبة، وأما ابن مهاجر فوقور [النفس] مستصغر لنصيحة من ينصحه، بعيد الغور، لا يؤثر على توفير مال صاحبه ، وعلى ما زين حاله عنده شيئا من أعراض الدنيا، ولقد اجتمعا وقت المناظر وكل واحد منهما مغيظ على صاحبه، فقال حسن لمحبوب: أمرني الأمير أن أجلس في حلقك حتى تفصل ما أثبته من الحساب الذي رفعته، فقال له محبوب من وقته: لو جلست في حلقي قذفتك في المخرج، فأضحك جميع من حضر وانقطع ابن مهاجر ساعة ثم تناظرا، فقال محبوب لحسن: أنت شاب حدث غر، والصواب لك أن تستشعر خوف الأمير. فقال له حسن: والله ما أخافه. فقام بها محبوب وقعد، ورفعها أصحاب الأخبار إلى أحمد بن طولون، فدعا بهما وقال: ما هذا الكلام الذي جرى بينكما؟ فقال له محبوب: ذكر حسن أنه لا يخاف الأمير. فقال له أحمد: هو ذا تسمع يا حسن، فقال: كذا قلت أيها الأمير؛ لأني قد استغرقت جهدي في نصيحتك، وقد أمنت جورك وليس مع هذين ما يخيفني منك. فقال له: صدقت، الأمر كما وصفت، بارك الله عليك وفيك. وذهب حسن بن مهاجر إلى قول الأحوص في عمر بن عبد العزيز:
وأرى المدينة منذ صرت أميرها
أمن البريء بها ونام الأعزل
ولقد أحسن ابن مهاجر في ذلك.
وشبيه بهذا ما روي عن عمر بن الخطاب، رحمه الله، أنه اجتاز ببعض سكك المدينة فرأى صبيانا يلعبون، فيهم عبد الله بن الزبير، فهربوا جميعا غير ابن الزبير، فقال له عمر: ما لك أنت لم تهرب كما هرب أصحابك؟ فقال: لم آت جرما فأخافك، وما بالطريق من ضيق فأوسع لك. فأعجب عمر قوله، ومضى وهو يقول: لله درك! وبارك الله عليك.
قال: وذكر أيضا محبوب بن رجاء في مجلس ابن عبد كان فقال قائل: إنما كان مقبلا بإقبال صاحبه، فلما مات أدبر، فقال ابن عبد كان: دعونا من هذا القول. لقد كان بين الفضل. لقد أمرني أحمد بن طولون يوما بإنشاء كتاب يقرأ على المنبر فأنشأته، ودفعته إلى محبوب ليقرأه وكان فصيحا، فدفعه محبوب إلى غلامه صاحب دواته ليحمله إلى الجامع، وتركه الغلام في منديل العمل،
165
وركب الأمير إلى الجامع، وحمل الغلام ثلثا نقيا، وهو يقدر أنه الكتاب، فلما صعد محبوب المنبر ناوله الغلام الثلث النقي، فلما نشره محبوب علم أن الغلام غلط ونسي، فاندفع ومضى به يقرأ، وينشر الثلث ويطوي ليوهم من يراه أنه يقرأ منه، مثل ما كان في الثلث، وما شذ عنه منه شيء، بألفاظ عذبة حسنة المعنى في الذي قصده، وأتى على ما كان نفسه، فلولا أنني الذي أنشأته لشككت فيه، وما فطن به أحد غيري، بل تبين منه الأمير بعض الاضطراب لذكائه وحدة خاطره وقوة حسه.
فلما نزل عن المنبر أمر أن يؤخذ منه الغلام فأخذ، وما خاطبه حتى صار إلى الدار فأحضره وقال له: ويحك! إنك قد أتيت بمثل ما كان في الكتاب، ولولا ما فيك من الفضل لافتضحت، فكيف جرى هذا؟ فعرفه غلط الغلام فقال له: إن لم تؤدبه على هذا أدبا يمنعه من تركه مراعاة أمرك جرى عليك بعده أعظم منه، وأمر بإحضار الغلام فأحضر، فضرب بين يديه مائة مقرعة، وقال لمحبوب: إن اخترت أن تستبدل به فافعل، وإن علمت هذا الأدب قد أصلحه فدعه على رسمه. ثم قال ابن عبد كان: وإن كان الرجل يقبل بإقبال صاحبه كان، فله فضل طبيعة وحسن صناعة.
وعدنا إلى أخباره الموجبة له العذر فيما يأتيه من العقوبة؛ فمنها خبر ابن شعرة، وكان ابن شعرة
166
هذا يضحك المتوكل على الله، وكان يغني أيضا، وكان قد انضوى إلى ابن مدبر لصبابة خراجيات
167
كانت له بمصر، فكان لما يعلم من كره أحمد بن طولون لابن مدبر يذكره عنده، فأحضره ونهاه عن ذلك، فكأنه إنما أغراه بنفسه ولم ينته، فأقبل على حملته يتقرب إلى ابن مدبر بذكره كل ما سمعه، يذكر ثقل وطأته عليه، ويتبرم بمكانه معه في البلد، فبلغه أيضا ذلك، فوجه إليه من نهاه فلم ينته، وبلغه عنه ما ينفره مثل ذلك، فأحضره وقال له: ويحك! انته عما يبلغني واحذر مني ويلك، فلن يبلغني عنك بعد هذا شيء أنكره إلا أتيت على نفسك، فعاد إلى ابن مدبر بعد أن حلف له أن جميع ما يبلغه تحيف عليه، فلما عاد إلى ابن مدبر دخل خزانة الكسوة، وليس منها مثل ما كان على أحمد بن طولون، وخرج إلى ابن مدبر فجلس مثل جلوس أحمد بن طولون وحاكاه، وأعاد ما خاطبه به، وأقبل ابن مدبر يضحك منه ويعجبه ذلك، وبلغ ذلك أحمد بن طولون. واتفق في الوقت أن السعر بلغ، واضطرب البلد لذلك. على أن السعر كان إذا تحرك في أيامه كان خمسة أرادب بدينار وأربعة، وإلا فكان من العشرة إلى ما دونها مما ذكرناه، فركب أحمد بن طولون ليهدئ الناس، ويعاقب قوما من القماحين والدقاقين، وينظر فيما يصلح أمر الناس في البلد، فلما بلغ إلى مسجد عبد الله ازدحم النساء من السطوح ينظرن إليه، وأشرفن من كل دار، فاطلعت امرأة من دار ابن شعر من أعلى سطحها من بين مركني
168
ريحان، وجاءت أخرى لتنظر معها، فازدحمتا، فرمت إحداهما أحد المركنين الريحان، فسقط للمقدور على كفل دابة أحمد بن طولون ولم يشعر به، فوثب الفرس ونتره من سرجه، ولولا ثبوته في ظهره لرماه الأرض.
فسأل عن الدار لمن هي؟ فقيل: لحسن بن شعرة، فأحضره في الوقت، وشق عنه، وضربه في موضعه خمسمائة
169
سوط، وهدمت داره، وطيف به البلد على جمل، فبلغ ما كان في نفسه منه، مكافأة على قبيح أفعاله به مرة بعد مرة، وهو يحذره فلا يحذر.
وعاد وقد بلغ في أمر السعر ما أحب وأحب أهل البلد، وكثر الضجيج له بالدعاء على ذلك، وتصدق في ذلك اليوم بجملة عظيمة شكرا لله على كفايته.
ومن ذلك أنه كان له بسر من رأى صديق من أولاد الموالي قد برع في الكتابة والأدب، وحسن الافتنان في العلوم، وحلاوة الشاهد، فلما استقلت أحواله بمصر وعظمت، كتب إليه يستزيره ويذكر له أن الحال التي قد هيأها الله، جل ذكره، لا تهنئه إلا بمشاركته فيها، وأتى في ذلك ما يأتيه الكرام مع إخوانهم إذا رزقوا حالا استبدوا بها دونهم، فأجابه أن السفر يشق عليه والبلد بلد شاسع، لا يكاد يعهد السفر إليه، ويذكر من شوقه إليه أضعاف ما ذكره في كتابه، وأن اليسير الذي في يده يقنعه ويغنيه عما سواه، ويشكر له فعله، فغم ذلك أحمد بن طولون وساءه تأخره عنه، لما كان بينه وبينه من المودة والعشرة والأخوة، فأراد الإفضال عليه والأنس به.
فلما سرفت الحال بينه وبين الموفق ورد كتابه عليه يذكر فيه أن شوقه إليه قد تزايد، وأنه ل يطيق الصبر عن زيارته، وأنه قد سهل عليه تحمل مشقة السفر، لما قد استولى على قلبه من محبة النظر إليه ويستأذنه في الرحيل إليه.
فاستبشر أحمد بن طولون بذلك، وأذن له فيه، إلا أن نفسه لقوة ذكائه نفرت بعض النفور. وكتب إلى خليفته طيفور يأمره أن يستكشف له خبره، ويشرح له صورة أمره بالحضرة، وإلى من ينقطع بها، فكتب إليه أن حاله حسنت في دار السلطان، ومنزلته قد ظهرت، وأن بينه وبين الموفق صلة قوية، وله منه منزلة كبيرة.
ولم يمض إلا مديدة يسيرة حتى وافاه خبره أنه قد قرب من البلد، فأخرج إليه وجوه أصحابه وقواده وتلقوه بالعباسة،
170
فلما وصل بلغ منية مال الله
171
أقام له الجيش سماطين
172
في أحسن زي إلى الميدان، ومن الميدان إلى داره، وأوقف من باب قصره إلى مجلسه الروم والترك والمستوقدات والعمد الحديد، ودخل الرجل يشق هؤلاء كلهم حتى وصل إليه، فكاد عقله يطير مما رأى وشاهد، مما لم يظنه ولا قدره.
فلما قرب منه قام إليه أحمد بن طولون فتلقاه، وأجلسه معه، وأكب عليه يسائله عن أحواله، وقد أعد له حجرة في قصره وفرش له فيها، وأعد له جميع ما يحتاج إلى من كل شيء حسن جليل له خطر وحسن من قليل وكثير، فلما خليا ساعة وتحدثا دعا بالمائدة فأكلا، ولم يزالا في حديث ومؤانسة إلى وقت العشاء الآخرة، فقال له أحمد بن طولون: أنت قد تعبت وتحتاج إلى راحة، فإن نشطت إلى أن تخلو لذلك في دارك فعلت. فقام الرجل إلى تلك الدار، وأتبعه غلمانه وحجبه يسبقونه إليها، فلم يمض من الليل إلا أيسره حتى أمر خاقان الطرسوسي بالقبض عليه، والاحتياط على جميع ما معه، حتى لا يفوته منه شيء.
وكان إذا جرى منه شيء في هذا الباب كشف لأصحابه عن وجه الخبر فيه، ليزول عن قلوبهم التعلق بما يجري منه، فلما انقضى أمر الرجل ومضت له ثلاثة أيام أقبل على جماعة من وجوه أصحابه وقواده، فقال: اسمعوا خبري مع هذا الرجل الذي استدعيته لأقضي حقه وحق الصحبة التي كانت بيني وبينه والمودة، ولما أعلمه من حاله ليشركني في نعمة الله عندنا، فأبى وامتنع علي، واستبعد الطريق إلينا، فغمني ذلك.
ولما كان في هذا الوقت كتب يستدعي ويذكر شوقه إلينا، ويسأل الإذن له في مصيره إلينا، فأذنت له في ذلك، وآثرت مشاهدته، وكتبت إلى خليفتي بالحضرة ليستكشف لي حاله هناك، فكتب يذكر أن حاله قد حسنت في دار السلطان، ومنزلته قد عظمت عنده، وخلطته بالموفق قد ظهرت، فما قدرت إلا أن الموفق لما بلغه ما بيني وبينه من الإخاء والمودة دسه إلي ليحسن التسديد بيني وبينه حتى يصلح ما تشعث بيننا.
فلما وافى واجتمعنا لم يدع للموفق مثلبة إلا نبشها، ولا قبيحا إلا ذكره، ورأيت صورته قد انقلبت عما كنت أعهده عليه، فتلطفت بأن استحضرت غلامين له رأيتهما مشتملين على أمره، فوعدتهما ورغبتهما، فأحضراني سفطا فيه ثمانون كتابا من الموفق إلى وجوه قوادي وخواص غلماني، يعدهم فيها بأن من فتك بي منهم قلده البلدان الخطيرة، وأسنى له العطية الجزيلة، أفألام على ما فعلته في أمره؟ فقالوا: لا والله، أيد الله الأمير، والحمد لله على ما وفق الأمير له في أمره، والعذر للأمير، أيده الله، والذنب لمن جنى على الأمير، ولم يحفظ المودة ويرع الإخاء، وقد جازاه الله بما يستوجبه.
ولما مات يارجوخ في سنة ثمان وخمسين خلف ستة بنين وبنتا، كان يارجوخ قد زوجها من موسى بن بغا، وبنو يارجوخ؛ عيسى وهو الأكبر، وجعفر طريده، والفتح طريده، وثلاثة صغار؛ صالح ورجاء ونصر لم يبلغوا الحلم، وكان عيسى بن يارجوخ كثير الهبة شرس الأخلاق كبير الهمة، فلما مات أبوه لم يلزم الركوب إلى دار السلطان، ولا واظب على الخدمة، وقدر أن الأمر يجيئه على ما يحبه وهو جالس في داره، فلما ترك الخدمة ولزم منزله اقتصر على رزقه ولم يقلد عملا، ولا ارتفق بزيادة ولا جراية، فأغاظه ذلك، فحمل إخوته وأخته، وخرج بهم على طريق مكة. ووافى إلى أحمد بن طولون من الحضرة فقبله بأحسن قبول، ووفر عليه الرزق، وأجرى على إخوته كلهم وأخته الأرزاق السنية، وأقام لهم الوظائف، وزوج جعفر بن يارجوخ من ابنته الكبرى فاطمة؛ لأن عيسى كانت له امرأة. ولم يزالوا عنده في أجل حال حتى دعت عيسى شراسة أخلاقه إلى السكر، وبلغه عنه مقالات قبيحة، ذكر أنه صنيعة أبيه، فوجه إليه يعذله على ما يبلغه عنه.
فلما علم عيسى أنه قد علم بمقالاته فيه سأله أن يطلقه إلى طرسوس خوفا منه وحياء من خطئه عليه، ففعل ووصله بمال جزيل، وكتب له جوازا، وحفظ فيه فعل أبيه، ولم يؤاخذه، ومنعه أن يأخذ معه إخوته، وأقرهم عنده على حالهم، حتى دعت جعفرا أيضا حماقته التي كانت فيه، ولأنه كان بينه وبين العباس منادمة لمصاهرة بينهما إلى أن خرج معه إلى برقة، فلما كان من أمره ما كان عاقب الناس جميعا، وقتل من قتل، وأعفى جعفرا من ذلك، غير أنه أمره بالخروج عن البلد.
وحدث محمد بن عبد الله الخراساني الدهان قال: نزل عندنا بحارة الخراسانيين شاب حسن الوجه، فصيح اللسان، حافظ للقرآن وسنة النبي
صلى الله عليه وسلم
من أهل بلخ، فجل في قلوبنا، وحل منا محلا لطيفا، فأمنا في مسجدنا في حارتنا، وتوزعنا ما يكفيه من أموالنا، فكنا نجلس عنده في المسجد كل عشية، ونأنس بحديثه، وحسن فصاحته، وكثرة فوائده، فإنا لجلوس معه يوما في عشية من العشايا، حتى طلع علينا كهل من الخراسانية عليه لباد، وفي يده خنجر مشهور، فلما رآه إمامنا قام مبادرا هاربا، فعدا صاحب اللباد خلفه فلحقه، فلم يزل يتوجؤه
173
بخنجره حتى قتله، فقبضنا عليه وسقناه إلى الشرطة وهو مقتاد معنا غير متعاص ولا منكر.
فأوقفنا صاحب الشرطة على أمره، فرفعنا بأجمعنا إلى أحمد بن طولون، فلما حضرنا بين يديه ووقف على صورة القضية، قال له: ما الذي حملك على ما أتيت؟ فقال: أعز الله الأمير، كان هذا الرجل جاري ببخارى، وكان حسن المجاورة، ظاهر الستر، لا نعلم ما في باطنه، فألفته وملت إلى عشرته، فدخلت يوما من الأيام إلى منزلي على غفلة من أهلي، فوجدته مفترشا زوجتي، ففزعت إلى السيف، وإلى أن آخذه فهرب مني، فعدت إلى الامرأة فقتلتها، واشتهر أمري في الجوار، فأحضرني أهل الامرأة إلى السلطان فعرفته قصتي فأطلقني، وأمرني بطلب هذا الفاجر، وأباحني قتله، فطلبته فلم أجده، وأخبرت بخروجه عن بخارى، فتركت شغلي ومعاشي وما أنا بسبيله ببلدي من تجارة وأهل، وخرجت خلفه.
وكنت لا أدخل بلدا إلا قيل لي إذا سألت عنه إنه قد دخل إلينا ورحل، إلى أن بلغت مصر، ولي ها هنا مدة أسأل عنه في كل يوم، وأدور عليه، وأصف صفته، إلى أن عرفت بالصفة، فعرفت أنه يصلي بقوم في المسجد الذي وافيته فيه، فأخذت بطائلتي
174
وشفيت ما في نفسي، فاصنع بي أيها الأمير الآن ما شئت، فقد سهل علي القتل بعدما وصلت إليه.
فسألنا أحمد بن طولون عن المقتول لما رآه ما الذي عمل؟ فقلنا: لما نظر إليه قام يعدو هاربا منه. فقال له أحمد بن طولون: كثر الله في الناس مثلك، انصرف مكلوءا. فأقام عندنا تلك العشية وودعنا من غد وخرج إلى بلده.
ومن ذلك أن صاحب الخبر رفع إلى أحمد بن طولون أن رجلا دعا صديقا له إلى منزله فقتله، فأمر به فأحضر إليه مع أولياء الميت، فسأل أولياء الميت عنه، فقالوا: دعاه هذا الرجل إليه للصداقة بينهما، وجاءونا به مقتولا من منزله، فلا نعلم كيف كانت حاله. فسأله عن القصة، فقال: والله، أيد الله الأمير، ما عندي علم من أمره، وإنه عندي لمثل ناظري ، وعزيز علي بما فجعت به منه، وإني عليه لثكلان موجع. ولقد كان أخص خلق الله عندي، وأحبهم إلى قلبي، وبحسب الأمير، أيده الله، أني أصلحت نبيذا منذ سنتين، وأعوزتني الظروف فقيرت
175
ظروفا كبارا، وجعلتها فيها، وتركت الجرار في الشمس، ولي في السطح برج حمام فتهدم منه موضع، ولم يحضرني في الوقت طوب، وخشيت على الفراخ من دخول شيء إليها، فأخذت جرة من تلك الجرار الكبار فسددت بها ما انهدم من البرج وطينتها، وعملت على أن أطلب طوبا فأجعله مكانها وأخذتها، ومضت الأيام ونسيتها بالشغل والعوارض فما ذكرتها، وانقضى النبيذ وفرغ، واعتللت علة قطعتني عن إصلاح غيره، فلما وهب الله، جل اسمه، العافية في هذا الوقت صعدت أفتقد الحمام، فرأيت بعض الطين قد انكشف عن الجرة النبيذ، فذكرتها فأخرجتها وجعلت عوضها طوبا، وسررت بها كل السرور لأجتمع أنا وأخي هذا على شربها، فخرجت واشتريت لحما وما أحتاج إليه، وصفيتها في [إنا]ئي، فرأيت منظرا ما رأيت أحسن منه، وعبيت
176
مجلسي كما يجب، ومضيت إلى أخي فحدثته حديث الجرة، ففرح بها أيضا، وسألته الحضور وأن يحضر معه ثلاثة من إخواننا، وعدت إلى منزلي، وتشاغلت بالطبخ وما أحتاج إليه.
فكان صديقي هذا وأخي أول من وافاني من إخواني وأنا مشغول ما فرغت، فنظر إلى النبيذ فاستحسنه جدا وأعجب به، وحلف أنه ما رأى قط مثله، وشرب منه قدحا واحدا، ووضع رأسه فنام، فلما فرغت من شغلي وحضر إخواني أصلحت المائدة، وتقدمت إليه لأنبهه فوجدته ميتا، فورد علي، أيد الله الأمير، من الأمر ما خشيت معه أن أجن، وحرت وحار القوم، وبقينا لا ندري ما نعمل، ولم أجد بدا من حمله إلى منزله، فحملناه إليهم وعرفناهم خبره.
فقال أحمد بن طولون لأولياء الميت: تشكون في مودته كانت لميتكم؟ فقالوا: لا والله، أيد الله الأمير، لقد كان به عليه من الإشفاق والمحبة مثل ما نحن له عليه وأفضل، وما نتهمه في أمره بوجه ولا سبب.
فقال له أحمد بن طولون: ما فعل النبيذ؟ فقال: هو بحاله، أيد الله الأمير، شغلتنا هذه المصيبة عنه وعن كل حال. فقال له: أحضرني منه شيئا. فوجه معه من أتاه منه بقنينة، فنظر أحمد بن طولون إلى لونه وقال: حسن. فاستحضر كبد خروف فأتي به في غضارة
177
صيني فملأ من النبيذ قدحا وصبه على الكبد، وغطاها قليلا، وكشف عنها فأصابها قد تقطعت وتهرأت، ثم استدعى كبدا أخرى فأتي بها، فأخذ من النبيذ قدحا فجعل نصفه نبيذا ونصفه ماء، وصبه عليها وغطاها أيضا، وتركها قليلا، ثم كشف عنها فوجدها تبرق مصقولة حسنة، فقال للرجل: هكذا كان ينبغي أن يشرب هذا النبيذ منصفا. وقال لأولياء الميت: مات ميتكم بأجله وعلى حسب ما قضيت موتته، فشأنكم بميتكم فا[مضوا وادفنوه]، يتولاه الله، جل اسمه، برحمته، ثم قال لصاحب النبيذ: امض واحذر أن تسقي أو تشرب من هذا النبيذ شيئا صرفا فإنه قاتل. فقال: والله، أيد الله الأمير، لا شربت ولا أسقيت بعد [يومي] نبيذا أبدا ما عشت. فقال له: جودت، انصرف مسلما.
ومن ذلك أنه راح في يوم خطبة فلما رقي الخاطب
178
المنبر وخطب دعا للمعتمد ولولده، ونسي أن يدعو لأحمد بن طولون، ونزل عن المنبر مرقاة، فقال سوار الخادم: فأشار إلي أن إذا فرغ من صلاته وخرج فاضربه خمسمائة سوط. فذكر الإمام وهو على المرقاة الثانية، فرجع إلى أعلى المنبر، وقال: الحمد لله، وصلى الله على محمد
ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ، اللهم وأصلح الأمير أبا العباس أحمد بن طولون. وزاد في الدعاء له ثم نزل عن المنبر، قال سوار: فنظر إلي مولاي وقال لي: اجعلها دنانير. ووقف الخاطب على ما كان منه فحمد الله، جل اسمه، على سلامته منه، وهنأه الناس بالسلامة.
ومن ذلك أنه اعتل معمر الجوهري فعاده أحمد بن طولون، وكانت بينه وبين معمر مودة وخلطة وميل شديد ومحبة، فإنه لعنده جالس يتوجع له من علته ويذكر له غمه به، وشغل قلبه بأمره، ويدعو الله له بالعافية؛ إذ سمع صائحا يقول: أنا بالله وبالأمير، فقال للحاجب: ما هذا؟ فخرج وعاد فقال: امرأة. فقال: هاتها. فدخلت إليه عجوز؛ فلما رأته قال: أنا بالله وبالأمير. فقال لها: ما قصتك وممن تتظلمين؟ فقالت: من هذا الذي أنت عنده أيها الأمير. فقال لها، وما خبرك معه؟ فقالت: أنا امرأة من أهل الستر، ولي نصف دار منها معيشتي، وفي بقائها علي نعمتي، فاشترى هذا الرجل من شريكي، وكدني في أن أبيعه النصف الذي لي لتكمل له الدار، فامتنعت لأن في بقائها ستري، وفي بيعها هتكي، فأنا من كده لي ومطالبته إياي بالبيع، وتخويفي منه، في أمر قد عذبني وحيرني، فرد أحمد بن طولون إلى معمر وجها مكفهرا لم ير مثله قط، تكاد أن تطير من عينيه النار، وانقلب في الوقت عن تلك الحال التي كان عليها له إلى غيرها، كل ذلك مراعاة لحق الله، عز وجل، ثم قال له بعبسة وانقباض وجفاء خطاب: ما تقول فيما قالت هذه المرأة؟ قال معمر: جميع ما أملكه صدقة إن كنت أعرف شيئا مما ذكرته. فقالت الامرأة: وكيلك فلان الذي يعنتني ويؤذيني. وطلب في الوقت فلم يوجد، فقام أحمد بن طولون وقال له: أنصفها ولا تحوجها إلى شكاية بعدها. فبث معمر الرسل يطلبون وكيله حتى أحضر، فسأله عما حكت الامرأة قال: نعم، صدقت، النصف من الدار الفلانية اشتريناها من شريكها، وطلبت منها النصف الذي لها لتكمل الدار بأجمعها فامتنعت. فأمره بإحضار الكتاب بشراء النصف فأحضره، فأقر لها في ظهره أن الشراء لها دونه ووهبه لها ووصلها بجملة دنانير، وقال لها: قد أبقى الله، جل اسمه، عليك النصف الذي لك وزادك النصف الذي لنا هبة منا لك، فأحب أن تمضي وتلقي الأمير وتعرفيه ما فعلته في أمرك وتشكريني عنده. فخرجت إلى الميدان فلقيت أحمد بن طولون فعرفته ما كان من معمر، فحمد الله على ذلك.
179
ومن عجيب أخباره أنه لما صرف أبا أيوب عن الخراج، وقلده أحمد بن إبراهيم الأطروش جعل يتجسس عنه فلا يجد له شاكيا ولا به ساعيا، وكان قد استكتب أبا الجيش علي بن أحمد وسنه يومئذ أربعون سنة، واستخلفه على جميع أمره، وكان كل الكتاب يومئذ يحلفون، وهم متوافرون، أنهم ما رأوا ولا شاهدوا أحضر ذهنا منه ولا أقوى حفظا.
فبينا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الأطروش يوما في الديوان يناظر المعاملين، إذ نظر [إلى] نصراني كان يعرف بإسحاق كاتب جرجان، وكان معتقلا شيخا من المتقبلين يعرف بابن جمهور، فآدى
180
النصراني عليه، فاغتاظ ابن الأطروش من تسلط النصراني على الشيخ، فأمر برده إلى حبسه، فصاح النصراني: نصيحة للأمير أحمد بن طولون. فما تم كلامه حتى وافى صاحب أحمد بن طولون، فأخذ أحمد بن إبراهيم الأطروش والنصراني فأحضرهما بين يدي أحمد بن طولون، فقال لإسحاق النصراني: ما نصيحتك؟ فقال: أخذ أحمد بن إبراهيم الأطروش هذا من مال ضياع البلد في هذه الأيام أربعين ألف دينار. فقال لابن الأطروش: ما تقول فيما ذكره؟ فأنكره وقال: هذا نصراني أحمق ما يدري ما يقول، وإنما لما طالبته بما يجب عليه من الخراج عمل هذا ليدفع به عن نفسه المطالبة. فاغتاظ أحمد بن طولون وقال له: أنا أسألك عن الحجة فيما ذكره تقيمها تأتيني بخرافات! فبقي ابن الأطروش قد حار وسقط في يده.
181
ورفع في الخبر إليه؛ لأن الأخبار ما كانت تغبه في كل ساعة بكل ما يجري من قليل وكثير، فكان في الخبر أن بالباب كاتبا لأحمد بن إبراهيم الأطروش، يسأل الحجاب إدخاله إلى الأمير، فأمر بإحضاره، فدخل على أحمد بن طولون، فكان أول ما ابتدأ به بعد السلام على الأمير أن قال: أيد الله الأمير، جميع ما وجب على صاحبي هذا أحمد بن إبراهيم الأطروش فهو علي دونه بما فوضه إلي من أمره، فإن رأى الأمير، أيده الله، أن يعفيه من المناظرة لهذا النصراني ويجعلها معي ويصغي الأمير، أيده الله، إلى ما يجري فعل. فعجب أحمد بن طولون من تأكيده على نفسه فيما يتبرأ فيه الولد من والده، فقال له: شأنك وإياه.
والتفت إلى النصراني فقال له: ما نصيحتك؟ فقال: أخذ صاحبك من مال ضياع البلد أربعين ألف دينار. فقال له علي بن أحمد: أخذها جملة من حاصل مال كان لها مفردا، أو أخذها مفرقا من الضياع؟ فقال له النصراني: أخذها مفرقا من الضياع. قال: فأحضرنا بها عملا مفصلا تبين فيه ما ذكرت شيئا شيئا. فقال: ما عندي لها عمل بتفصيل، ولكن إذا أحضر الحساب للضياع أخرجت من عرضه ما اختزله ويثبت اقتطاعه له. فقال علي بن أحمد: الله أكبر. وأخرج من خفه عملا وناوله الأمير وقال له: أيد الله الأمير، هذه نسخة ما حمل إلى بيت المال عن هذه الضياع دفعة دفعة وأنا أحفظها ظاهرا، وهو ذا أقرؤه وهو يسمع، فمهما عرف منه هذا النصراني شيئا فيذكره. ثم اندفع يذكر ذلك ضيعة ضيعة ودفعة دفعة، وقد أعجب أحمد بن طولون ذلك منه، وأقبل عليه يستزيده حتى أتى على العمل، ثم استعاده إياه ثانية إعجابا منه واستحسانا له، فأعاده على ترتيب لم يقدم حرفا ولم يؤخر حرفا، ثم قال للنصراني: أخبرني الآن ما الذي زاد على هذا حتى يكشفه الأمير أيده الله؟ فإن صح علم صدقك، وإن لم يصح وقف على كذبك. فانقطع النصراني، وسكت سكوت منقطع لا حجة معه، وارتعد بين يدي أحمد بن طولون فقال له: يا كلب، أردت أن تحملني على الإساءة لرجل ليس في خدمتي أعف منه ... لولا أن الإسلام يهدر ما قبله ...
182
عبرة لغيرك، وأمر بانصرافه، ثم قال لعلي بن أحمد: بارك الله عليك ... منك؛ فقد جمعت بين الذكاء والوفاء، فلا يدخلن إلي صاحبك وقتا إلا وأنت معه، وكان لباس علي بن أحمد الدراعة فنهاه أحمد بن طولون عنها، وأمره بلباس الأقبية والسيف والمنطقة ولبس السواد يوم السلام.
وحدث يحيى بن براقة الحاسب وكان صديق أبي يوسف يعقوب بن إسحاق كاتب أحمد بن طولون، قال: صار إلي غلام أبي يوسف الكاتب، بعد انصرف أحمد بن طولون من الإسكندرية إلى الفسطاط، يدعوني إليه ويذكر شوقه إلي، وكنت قبل نكبته مواصلا له، فلما حبسه أحمد بن طولون [تهيبت] الذهاب إليه خوفا على نفسي، فقلت له: ما تركت زيارته إلا خوفا، فقال: قد علم عذرك، والآن فقد تقدم الأمير إلى الموكل بالمطبق أن يفرده من جملة المحبوسين، ويطلق له دخول من قصده للسلام عليه، من أصدقائه وأصحابه وحاشيته وذوي عنايته، وشوقه إليك شديد، وقد استبطأ تأخرك عنه مع ما جرى من تسهيل أمره، فمضيت مع الغلام إليه فوجدته في غرفة واسعة نظيفة فسلم علي وقال: يا أبا زكريا قد تفرغت الآن للعرض عليك، والاقتباس منك، فالزمني فلزمته. فعمل زيج السندهند بأسره، وعمل صدرا من أحكام النجوم. وأقمت أنقطع إليه في محبسه خمس سنين وكسرا حتى أطلق، فحدث يحيى بن براقة قال: لما دخلت سنة أربع وستين ومائتين
183 ... المسلمين ويتضمن ديارهم ذكر ما ابره في الضيق منك، وقد سلكت في قصيدتي ذلك المسلك، وكتب إلى أبي عبد الله الواسطي رقعة يشكو بها حاله، ويسأله التلطف في قراءة القصيدة عليه في خلوة، ويتبعها بما يحسن أن يأتيه وهي:
الشعر صعب على المكروب والعاني
وليس أعجب شيء فيض ملآن
ما للزمان لقد حالت حوادثه
بيني وبين حبيب نازح دان
إن قلت جاء أجاب الطرف من كثب
ملكنني بين أبواب وحيطان
ودون عرب وعجم في مجالسهم
موكلين بنا ترك وسودان
إذا تنحنحت قالوا طار صاحبنا
كأنما لي في حبسي جناحان
لكن طيفك يأتيني برغمهم
يا حبذا طيف من أهوى ويهواني
طيف لبيضاء تنقاد القلوب لها
لو خاصمت قمرا جاءت ببرهان
لولا خيالك يا مولاة مالكها
وأنه كلما نومت يغشاني
إذن لما عشت من هم أعالجه
وأحرقت كبدي نيران أحزاني
كيف البقاء على سجن حبست به
كأنه حجر من بين كثبان
إذا مددت يدي مستلقيا بلغت
منه سماوته
184
شلت
185
يد الباني
وإن علا نفسي نمت سرائره
ثم استقلت بأحزان وأشجان
وإن تروحت منه للخروج فلا
روح سوى مخرج مأوى لشيطان
للجن فيه عزيف كل صاخبة
تنوح فرعون أو تبكي لهامان
تجول فيه بنات الأفعوان مع ال
عقارب [السود] من مثنى ووحدان
قال: فورد جواب أحمد بن محمد الواسطي عليه يقول: قد قرأت القصيدة عليه، وهو منشرح الصدر، فتدمع لبعضها وضحك لبعضها. فقلت: أيد الله الأمير، قد طال حبسه، وبلغ به غضب الأمير حالا رثى له عدوه منها، فإن رأى الأمير، أيده الله، أن يمن عليه بالرضا. فقال: ما غضبت عليه، ولو غضبت لجرى مجرى غيره ممن اصطفيت ماله وأجريت عليه المكروه، حتى خفي خبره واستتر أثره، وقد أطلقت له من يأنس به وهو مشغول بتعلم حساب النجوم وقول الشعر، وقد زال الآن عتبي عليه عن قلبي. فقلت له: الحمد لله، فما يمنع الأمير من التطول عليه بإطلاقه والرضا عنه؟ فقال: كلام ألقاه إلي وحدثني به عن أنوشروان، وهو أنه قال: الملك المتمكن من نفسه لا يغضب سريعا ولا يرضى سريعا؛ لأن ذلك من أخلاق النساء ومن قاربهن؛ فلذلك أطلت حبسه. فأمسكت عن إعادة قول عليه، فأنت يا أبا يوسف في حبس نفسك بما كنت غنيا عنه من هذا القول.
فلما وصل إليه الجواب من أبي عبد الله قال لمن حضره من إخوانه، أما ترى إلى فظاظة أبي عبد الله في خطابه لي، وأنا في مثل هذه الحال، وذمه إياي فيما كان يجب أن يمدحني به؟ ولكن يا أخي المحن تقلب أعيان الحسنات إلى المساوئ.
فكاتب أبا بكرة
186
القاضي وسأله كلام أحمد بن طولون في أمره، ومسألته إطلاقه، فركب إليه القاضي، فأذكره بحرمته عليه، وخدمته له، وطول صحبته له. واتفق له في تلك الساعة ورود خبر عليه يسره، فأمر بإطلاقه، وتخلية سبيله.
وكان وقت الحج فلما أطلقه [جاءه] مسلما عليه، فسأله الإذن له في الحج، وعرفه أنه اعتقد ذلك إذا من الله، عز وجل، عليه برضا الأمير، فأذن له في ذلك، وأطلق له الذهاب إلى منزله بسر من رأى، والاجتماع مع أهله وحرمه، وأطلق له جملة كبيرة من المال وخرج.
فلما حج ووصل إلى منزله كف لسانه بالعتاب، فلم يذكر أحمد بن طولون بكلمة تكره ولا بقبيح، فزاد بذلك عند الموفق، وتقدم به عنده، وكتب طيفور خليفة أحمد بن طولون إليه بذلك، وأنه يكثر الشكر بذلك ويطيل الثناء عليه، فشكر له أحمد بن طولون ذلك، وصار يكاتبه في مهماته وحوائجه، ولا يقطع مواصلته بصلاته.
قال مؤلف هذا الكتاب: حدث نسيم الخادم قال: كان أحمد بن طولون مولاي على غاية من الميل والمحبة لمعمر الجوهري، فلما مات معمر الجوهري حزن عليه أحمد بن طولون حزنا عظيما، حتى ظهر ذلك منه للناس كلهم، فلم يتعز به ولم يسل عنه؛ فلحزنه عليه كان يبكر كل يوم سحرا إلى قبره وأنا معه فيترحم عليه ويقرأ قليلا، ويعود إلى قصره مع الصبح، فكنا عند موافاتنا قبره نجد في كل يوم امرأة قد سبقتنا إلى قبر مقابل قبر معمر، تبكي وتنتحب بحرقة موجعة مؤلمة لقلب من يسمعها، فكانت تزيد في حزن أحمد بن طولون وتبكيه.
فلما كثر ذلك عليه منها قال لها يوما: يا امرأة، أتبيتين ها هنا؟ فقالت: لا أيها الأمير. فعلم أنها قد عرفته، فقالت: وكيف لي لو تهيأ لي المبيت حتى أبيت ولا أفارق هذا القبر وأدفن فيه مع صاحبه؟ ولكني أسهر ليلي لما أجد في قلبي، فإذا قرب الفجر خرجت وقد شغل الحزن قلبي عن الخوف من وحشة الطريق. فقال لها أحمد بن طولون: وما هذه الحال العظيمة التي استحق بها هذا الفعل منك؟ فقالت: أيها الأمير، إنها حال عظيمة عندي، لا يجوز لي أن أذكرها. فقال لها: لا بد أن تخبريني ذلك، أبنك هو؟ قالت: لا. قال: فأخوك؟ قالت: لا. قال: فزوجك؟ قالت: نعم. قال: أقسمت عليك لتخبرني بما استوجب به منك هذا الفعل. فقالت: أيها الأمير، إني أحتشم من ذكره وأرفع الأمير عن كشفه. قال لها: إلزامي لك ذكره قد أزال حشمتك وأقام عذرك.
فقالت: أزوجني أبي لهذا الرجل وأنا صبية ما بلغت مبالغ النساء، فلما عقد النكاح سافر سفرا طال مدة أيسنا منه معها، فخلا بي من النساء من لا خير فيه، وأنا مع أبي وأمي، وأفسدوني واستولوا على عقلي، وحملوني على أن ساعدتهم فيما كتب علي، مما لم يكن لي منه محيص، وصبوت كما تصبو النساء وحملت، فلما تبين والداي جميعا ذلك ورد عليهما ما يرد مثله من المصائب، فبينما هما يركضان في الحيرة في أمري إذ قدم هذا الرجل من سفره، فطالب بإدخالي عليه، فدافعه أبي وأمي بما يحتاج إلى إصلاحه لي، رجاء أن يزول ما في جوفي، فلم يدعا شيئا يعمل في طرحه حتى عملاه، فما نفع ذلك لما قضى الله، جل اسمه، بكونه.
وقربت ولادتي فوافانا هذا الرجل وقد طالت المدافعة له، فحلف بالطلاق أنه يأخذني بعد ثلاثة أيام، فلم يجد أبي وأمي بدا من إدخالي عليه فدفعت إليه، وأنا على حال قد علمها الله، جل اسمه، غما وقلقا، وأبي وأمي في أعظم مما أنا فيه، فلما أدخلت عليه، وأخليت معه، انصرفت أمي وسائر أهلي، خوفا من مشاهدة الفضيحة، فلما حصلت معه في الكلة
187
ضربني الطلق، وزاد الأمر علي، فوثبت من الكلة، أريد الخروج من البيت إلى أمي وليس عندي أنها هربت، فما بلغت عتبة باب البيت حتى طرحت الولد من بين رجلي إلى الأرض، وسقطت ولا عقل لي، فوثب هذا الرجل يتأمل، فرأى طفلا مطروحا يبكي، فصاح بأخته، فسمعته وأنا في كربي وغمي، يقول لها: يا أختي، اقضي كل حق لي عليك، بما تأتيه في أمر هذه الامرأة. وانصرف عن البيت، وتركني مع أخته، فقامت بي أحسن قيام، وتولت أمري ما لا يتولى مثله أمي؛ برفق وإشفاق، وانبساط وجه، وحسن خلق، ومزح ومداعبة، حتى كأن الولد منهم، وكل ذلك يزيدني خجلا واحتشاما، إلا أنه قد سكن قلبي بعض السكون.
وبلغ أبي وأمي خبري فلم يقربني أحد منهما حياء واحتشاما، وبت ليلتي، فلما كان من الغد دخل إلي بوجه منبسط طلق ضاحك، فجلس عند رأسي، وساءلني عن خبري، وقال لي: ألك حاجة؟ قلت ودموعي تجري: يبقيك الله. فبكى لبكائي، ومضى بنفسه إلى أبي وأمي، فحلف عليهما حتى جاءني بهما، وقال لهما: لا مهرب من قضاء الله، عز وجل، إني ليس في يدي ولا في أيديكما ولا في يدي أحد من عبيده، جل ذكره، منه غير الصبر والحمد له، تبارك وتعالى، على البأساء والضراء، والحمد لله الذي كان هذا من فيض [؟] الله جل اسمه، له الصبر عليه والستر عليكم، واحمدوا الله جل اسمه، فدعيا له وشكراه واستعبدهما بذلك.
فكان كل يوم يدخل إلي بكرة وبالعشي، يسألني عن حالي، ويسألني عن شيء أشتهيه ويستحلفني على ذلك، فأبوس يديه وأدعو له حتى إذا مضى لي أربعون يوما، وهي أيام النفاس، ودخلت الحمام وصلحت له، دخل إلي مستبشرا طيب النفس، فمازحني وجلس عندي، واستحضر أبي وأمي وأنفق نفقة كبيرة واسعة حسنة، حتى كانت مقام عرس ثان، فلما انقضى يومنا وبات عندي، وجرى بيني وبينه ما يجري بين الرجل وزوجته وأنا على غاية الاحتشام والحياء منه، وأصبح، وهب لي دنانير كثيرة، وقطع لي ثيابا حسانا، فما مضى إلا شهر حتى حملت فولدت غلاما فسر به غاية السرور، فكأني انبسطت قليلا إليه، ودعا أيضا أبي وأمي وحلف عليهما أن يلزماني ولا ينقطعا عني، وصاغ لي حليا حسنا، وما ترك شيئا من إكرامي وسروري حتى بلغه لي، وعاشرتني أخته ولأمي
188
أحسن عشرة، وفعلت معنا أجمل فعل، فكنا له ولها كالعبيد.
وما زلت معه على حال ما فوقها مزيد من الإحسان والمحبة، حتى مضت لي عشر سنين، وكبر ابني وحذق القرآن، وعلمه جميع الآداب، وأنجب، فعظم بذلك سروره وسروري، ثم اعتل علته هذه التي مات فيها، فلما أيس من نفسه كتب وصيته، وأحضر الشهود ليشهدوا عليه فيها فسمعتهم يقرءون في الوصية: والذي خلفه من الولد ولدان ذكران، وهما فلان وفلان، وزوجة، وهي فلانة ابنة فلان، يريدني، فلما سمعت ذلك لحق قلبي ما يلحق قلوب النساء من الغيرة، ثم فكرت في خيانتي وقبح فعلي وجميل فعله، فأمسكت، إلا أني لما خرج العدول من عنده، خرجت إليه من وراء مقطع كنت جالسة خلفه، فقبلت رأسه ويده، وقلت له: يا سيدي، لك علي من الإحسان والإنعام وجميل الفعل ما قد استعبدتني به ، حتى لو وقفت على أن لك ثلاث نسوة وعدة جوار لحملتهن لك على رأسي، فكان ذلك أقل واجبك علي، فكيف يكون لك ولد غير ولدي من امرأة غيري أو جارية فلا تعرفني حتى أتولى خدمتها بنفسي، وكان ذلك بعض ما تستحقه مني؟ فقال: كأنك أنكرت ما سمعتيه في وصيتي من ذكري ولدين ذكرين! فقلت: نعم. فحول وجهه عني إلى الحائط فقال لي: ويحك هذا وذاك، وتشهد ومات.
فأحضرتني أخته ذلك الطفل الذي كنت رميته، والله ما قدرته يعيش، ولا سألت عنه ولا فكرت فيه، فقالت له: يا بني، هذه أمك فبس
189
رأسها، فانكب على رأسي وبكيت وبكى وبكت أخته، وإذا بها قد اشترت له داية وأفردته في موضع معها، وكبر فعلمته مع ابنه القرآن وجميع ما علمه ابنه من الآداب وأنجب أيضا، على أنه بعض ولد الجيران وأحضرت أخاه فقالت له: يا ابن أخي، هذا أخوك فتعانقا، ووقف كل واحد منهما على صورة الأمر، واتفقت الحال بينهما، فتسخمت
190
أنا وأخته عليه، وجززنا شعورنا، ولزمنا الحزن عليه، فماتت أخته حزنا وبقيت أنا وابني وأخوه معي، وخلف له شيئا يسد حاجتنا،
191
فأنا ألزم قبره ولا أنسى جميل فعله، ولا يزول من قلبي حزنه. فقال لها أحمد بن طولون: رحمه الله ورضي عنه، فما في الدنيا أكرم من هذا الرجل ولا أجمل فعلا، وأحسن الله جزاءك إذ عرفت له مقدار فعله بك، وكثر الله في النساء مثلك، فإن يكن لك حاجة أو نابتك نائبة، فعرفيني فقد لزمني حقك، ووجب علي حفظك. فدعت له، وانصرف أحمد بن طولون وقد أبكته وأحزنته.
قال: وحمل أبو الفتح محمد بن الفتح أخته خديجة إلى أحمد بن طولون في آخر سنة خمس وستين ومائتين وكان المعتمد قد عقد بينهما نكاحا، وكانت أخته يومئذ تحت المعتمد بالله، فقلد أحمد بن طولون محمد بن الفتح ديار مضر. وكان الحسن بن مخلد قد نفاه السلطان إلى الرقة؛ لأنه أساء إلى الأولياء والكتاب، فكتب إلى أحمد بن طولون يذكر له رغبته في المقام عنده وفي كنفه، فأنفذ محمد بن الفتح كتابه إليه بذلك، فأجابه أحمد بن طولون: أنا وليك ومقام صنيعتك؛ لأنه كان الوزير، وصوب رأيه فيما انتواه فرحل إليه، فلما قارب أعمال مصر منعه صاحب البذرقة
192
وكتب إلى أحمد بن طولون بخبره، وكتب إليه أيضا الحسن بن مخلد، فكتب أحمد بن طولون إلى صاحب البذرقة يأمره بحمله مكرما فحمل إليه، فلما وصل إلى أحمد بن طولون أظهر إكرامه وإعزازه، والتجمل له والبشر به.
ولم يزل عنده على هذه الحال إلى أن تأمل أحمد بن طولون منه أنه يرى أن فعله ذلك به، باستحقاق له عليه، وأقبل يتبسط بين يديه تبسط المتبوع مع التابع، ولم يزده أيضا مهابة، ولا توفية حقه، فأحفظه ذلك عليه، وكان ينادمه فحضر يوما محبوب بن رجاء معه بحضرة أحمد بن طولون فقال لمحبوب على جهة المداعبة:
فاح ريح الخمائم
193
من سراويل قاسم
يعرض بأن أم محبوب بن رجاء اسمها قاسم، وذهب عنه أن اسم أم أحمد بن طولون قاسم، فقال له محبوب بن رجاء؛ لينبه أحمد بن طولون عليه: أويذكر لأمي وقد كانت مهابة [؟] أو يقال فيها هذا؟ إنما المنكر أن يكون الوزير أخيف
194
إحدى عينيه زرقاء والأخرى سوداء، وهذا في الدواب مشئوم، فكيف في الوزراء؟ فأحفظ أحمد بن طولون قول الحسن بن مخلد وخبأ ذلك له، فلما كان بعد أيام أحضره أحمد بن طولون لمنادمته على الرسم فغنى، وقد سكر، بالنبطية
195
وصفق بيديه، ثم زاد عليه السكر وملكه فقال:
أيا ويحك كم تصعد
لقد جزت مدى الفرقد
ولو زلت بك النعلا
ن لاستوبأت ما تحمد
فاغتاظ أحمد بن طولون غيظا شديدا، وأمر به فجر برجله إلى الحبس، فما زال محبوسا حتى خرج أحمد بن طولون إلى الشام، فحمله معه مقيدا فمات في الطريق، فدفن في قصر عيسى بن شيخ الخشاشي.
وكان ابن مخلد قد خبر ابن طولون عن أحمد بن محمد بن مدبر، بما كان يكتب به أحمد بن محمد بن مدبر في أمره إلى السلطان ، ودفع إليه كتبا منها ما يقول فيه بخطه: وإنه قد عزم على أن يقيم بمصر خليفة، ويصف غدره، ويذكره بكل قبيح ويشير بعزله، ويخيف السلطان منه، ويذكر ما قد اختزله من الأموال، فكتب أحمد بن طولون من وقته إلى سعد الفرغاني، وكان من قواده وثقاته، وهو بالشام مقيم، أن يشخص إليه ابن مدبر فأشخصه، فحبسه في حجرة من داره مكرما، ولم يدر ابن مدبر ما عرفه به الحسن بن مخلد، وقرره له عنده، فكتب ابن مدبر إلى أحمد بن طولون رقعة، وليس عنده صورة الأمر فيما جرى في أمره، ولا أن له ذنبا، وضمن الرقعة أبياتا منها:
أريت
196
قبيل الصبح في النوم أننا
جميعا على سطح ينيف بنا السطح
إذا فارس يهوي إلى السطح معلنا
أخو شكة يزهى به السيف والرمح
197
يلوح بالبشرى إليك مبادرا
بنصر وتمكين أجدهما النصح
وعالوا بتبكير من الدار عدوة
بعقب كتاب الفتح إذ قرئ الفتح
فلم أر حلما مثله صدق وافد
على سرعة ما كان يسبقها اللمح
فهنأت بالشكر العطية إنه
تدوم مع الشكر العطية والنصح
وقل لي فدتك النفس من كل حادث
وإن كان للنفس الضنانة والشح
إلى كم يكون العتب في غير معتب
198
بتمويه واش شأنه القذف والقدح
يصرح بالبهتان تصريح مازح
ويا رب حتف ساقه الهزل والمزح
أما خلة ترعى ولا طول عشرة
ولا حرمة الندمان تقضى ولا الملح
تبين فإن الحق يجلو دجى العمى
وإن كنت في شك فقد بين الصبح
وما لي ذنب غير أني محسد
وفي زمن تكدي الأمانة والنصح
فإن كان لي ذنب فحلمك واسع
199
وحكم الكتاب العفو والكظم والصفح
فقد نالني بالأمس ما مل سمعه
فأجمل فإن القرح ينكؤه القرح
وما كنت ذا شعر ولكن جراحة
من الغم في صدري وقد ثعب الجرح
قال: وكان أحمد بن طولون قد حبس ابن مدبر في حجرة مفروشة ومعه خادمان يخدمانه، ويوجه إليه أحمد بن طولون في كل يوم مائدة حسنة عليها من كل شيء، فلما ورد عليه هذا الشعر أغاظه فأحضره إليه، وقال له: تفككك وتفكهك يدلان على أنك ما وقفت على علمي بما قصدتني به وكاتبت السلطان في مرة بعد أخرى بسوء طبعك، وقبح كيدك، وجرأتك على ربك بأيمانك الكاذبة، هبك ويحك تتوهم بخبثك أنه قد جاز أنها تجوز على عالم الغيب والشهادة، والله لقد أردت قتلك لولا اليمين التي حلفت بها لك، لما صح عندي من سعيك في أذيتي، وقصدك مكروهي، وحيلتك في سفك دمي. فأنكر ذلك فقال: ويلك، تنكر وهذه كتبك بخطك عندي؟ ثم أحضره الكتب التي سلمها إليه الحسن بن مخلد ورماها إليه وقال له: ويلك هذه كتب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويخاف عقوبته، عز وجل، التي يخافها من بغى وأساء؟ والله لولا ما في قلبي من يميني لضربت عنقك الساعة، وضربتك بالسوط حتى تموت. وأمر به فأخرج من بين يديه سحبا. وعمل أحمد بن محمد الواسطي جوابا لشعر ابن مدبر، ودخل به إلى أحمد بن طولون فقرأه عليه فأعجبه وأمره بإنفاذه إليه، وقيل: إنه لمحمد بن عبيد الغفار.
200
أأحمد كان السطح يا ابن محمد
منيفا ولو عاليته خسف السطح
201
متى كنت في الأحلام لله صادقا
فتصدق في رؤياك إذ وضح الصبح [فكم ذبحت كفاك من رب نعمة
بلا شفرة [أو] يحتوى الملك والسرح
فأصبح مما خول الله عاريا
فلا جاهه يبقى ولا المال والربح
ومن عدلنا أن قد زويت مضيقا
عليك فلا عفو مرجى ولا صفح
فلو جاءنا الناعي بنعيك جاءنا
بأن جاء نصر الله للناس والفتح]
ولكن أدام الله عز أميرنا
وتمت له البشرى ودام له النجح
فما زال ميمون النقيبة ماجدا
أخا عزمات لا يطيش بها الجمح
وما زال في الهيجاء أول فارس
له يضحك السيف المهند والرمح
فاستجادها أحمد بن طولون وأنفذت إليه، فلما قرأها ندم على ما كان من خطئه على نفسه حيث لم ينفعه، ولم يزل في حبس أحمد بن طولون حتى عمي ومات.
وكان قد أشرك بين علي بن الحسن بن شعيب المدايني وبين ابن الأطروش في الخراج، فوجدت لعلي بن شعيب رقعة إلى ابن مدبر يقول فيها بخطه: «قد علم الله، جل اسمه، زهدي في العمل الذي أتقلده، وكراهتي له، وخوفي منه، وأسأل الله، جل اسمه، أن يكفيك ما أهمك.» فأمر به أحمد بن طولون إلى المطبق فما زال فيه حتى مات، وأفرد ابن الأطروش بالخراج.
وكان أحمد بن إسماعيل بن عمار المعروف بسبع شعرات قد قدم إلى أحمد بن طولون من الشام فقلده الأملاك وما خرج عن الخراج، وصرف به الحسن بن سليمان بن ثابت، وتقدم إلى أحمد بن إسماعيل بمطالبة الحسن بما دفعه علي ابنه، فطالبه بذلك وضربه فمات في الضرب، ونحن نذكر خبره مفردا إن شاء الله.
وكان أحمد بن إسماعيل هذا قد أشار على أحمد بن طولون بمشورة فتعداها، فبسط لسانه فيه على جهة الإشفاق عليه، وقال: ليس هو ممن تمرن في الرياسة وفيه لجاج لا يؤمن عليه منه. فبلغ ذلك أحمد بن طولون فحبسه في المطبق، ومنع من كان يبسط عليه عائدته حتى مات.
وكل هذه الأحوال التي عددنا فالعذر فيها كلها بين لأحمد بن طولون، والذنب لمن يبسط لسانه في مثله ويتعدى إلى غير ما هو أهله.
وكان قد بقيت لأحمد بن طولون بقية كبيرة من خراج البلد على بعض المتقبلين ذهب عني اسمه فاستتر، وكان قبل استتاره قد عمد إلى ربع له نفيس يفي بما عليه من الخراج، وفضل حبسه على ولده وخرج عن البلد، ورفع خبره إلى أحمد بن طولون فطلب، فقيل له: قد هرب وفات وخرج عن البلد. فأحضر بكار بن قتيبة القاضي وقال له: صاحبك يقول بحل الحبس في الدين فتحل حبس هذا الهارب منا حتى نأخذ مال السلطان منه؟ فقال له بكار: لا تفعل ولا تستن سنة يستن بها فيك؛ لأن لك أوقافا على وجوه فإن حللت حلوا عنك. فتوقف عن ذلك وكف عنه وشكر لبكار مشورته عليه.
202
وأما رغبته كانت في أبواب البر التي كانت له فكانت ظاهرة بينة واضحة، بشهوة شديدة ونية صحيحة ؛ فمن ذلك بناء الجامع والبيمارستان
203
وما ضمنه خزائنه من العقاقير النفسية الخطيرة والدرياقات المعروفة التي ليست إلا في خزائن الملوك والخلفاء، فلم يكن يعدم في بيمارستانه شيء من الأدوية ولا العقاقير الرئيسة؛ مثل دواء المسك وغيره مما لا يوجد مثله. واشترى له المستغلات النفسية التي يفي بعضها بجميع حوائجه إذا أبقى الله، جل اسمه، من يتولاها.
ثم العين التي بالمعافر بناها بنية صحيحة، ورغبة قوية جميلة، حتى إنها ليس لها نظير، ولقد اجتهد الماذرائيون
204
وأنفقوا الأموال الخطيرة ليحكوها فأعجزهم ذلك؛ لأنها وقعت في موضع جيرانه كلهم محتاجون إليها، وهي مفتوحة طول النهار لمن كشف وجهه للأخذ منها، ولمن كان له غلام أو جارية، والليل كله للضعفاء والمستورين والمستورات، فهي لهم حياة ومعونة. واتخذ لها المستغل الذي فيه فضل عن الكفاية.
حدث ابن قراطغان أن الذي تولى لأحمد بن طولون بناء هذه العين رجل نصراني حسن الهندسة حاذق فيها
205
وأنه دخل إلى أحمد بن طولون عشية من العشايا فقال له: فرغت مما تحتاج إليه فيها لنركب إليها نراها. فقال له: يركب الأمير، أيده الله، في غد، فقد فرغت. فركب وتقدم النصراني فتأمل منها موضعا يحتاج إلى قصرية
206
جير وأربع طوبات
207
فبادر فعمل ذلك. وأقبل أحمد بن طولون يتأمل العين، واستحسن جميع ما شاهده منها، ثم أقبل إلى الموضع الذي فيه قصرية الجير ليقف، فلرطوبة الجير لما وضع الفرس يده على الموضع غاصت فيه، وكبا بأحمد بن طولون فرسه، فلسوء ظنه قدر أن ذلك لمكروه أراده النصراني به، فأمر به وشق عنه وضربه خمسمائة سوط وأمر به إلى المطبق، وكان المسكين يتوقع الجائزة فأنفق له إنفاق سوء، وانصرف أحمد بن طولون.
وأقام النصراني في المطبق إلى أن أراد أحمد بن طولون بناء الجامع، فقدر له ثلاثمائة عمود، وقيل له: ما تجدها أو تنفذ إلى الكنائس في الأرياف وفي الضياع الخراب فتحمل إليه فأنكره ولم يختره وتعذب قلبه بالفكر في أمره، وبلغ النصراني وهو في المطبق الخبر فكتب إليه يقول: أنا أبنيه للأمير ، أيده الله، كما يحب ويختار بلا عمود إلا عمودي القبلة، وأحضره فأدخل إليه وقد طال شعره حتى سقط على وجهه، فقال له: ما تقول ويحك في بناء الجامع؟ فقال له: أنا أصوره للأمير حتى يراه عيانا بلا عمود إلا عمودي القبلة، فأمر بأن تحضر له الجلود
208
فأحضرت، وصوره له فأعجب به واستحسنه فأطلقه وخلع عليه وأطلق له النفقة عليه مائة ألف دينار، فقال له: أنفق وما احتجت إليه بعد ذلك أطلقناه لك، فوضع النصراني يده في البناء في الموضع الذي هو فيه وهو جبل يشكر،
209
فكان ينشر منه ويسطح ويعمله جيرا ويبني إلى أن فرغ من جميعه وبيضه وخلقه وفرش في الحصر، وعلق القناديل والسلاسل الطوال الغلاظ الحسان، وحمل إليه صناديق المصاحف ونقل إليه الفقهاء والقراء، وتصدق في ذلك اليوم صدقات عظيمة فيه وعمل طعاما واسعا كبيرا، وحمل إليه فأطعم سائر من حضر، وكان يوما عظيما نبيلا جليلا.
وراح أحمد بن طولون ونزل في الدار التي عملها فيه للإمارة وقد فرشت، وعلق فيها الستور وحمل إلى خزائنها الآلات والأواني التي يحتاج إليها، وصناديق الشراب فيها من كل نوع من الأشربة وما شاكلها، فنزل فيها أحمد بن طولون وجدد طهره وأبدل ثيابه وتبخر، وخرج من بابها إلى المقصورة، فركع وسجد شكرا لله على ما أعانه عليه من ذلك ويسره له، فلما أراد الانصراف خرج من المقصورة حتى أشرف على الفوارة وخرج إلى باب الريح، فصعد النصراني المنارة ووقف إلى جانب المركن النحاس، وصاح بأحمد بن طولون: أيها الأمير، عبدك يريد الجائزة، ويسأل الأمان ألا يجري عليه مثل ما جرى في المرة الأولى. فقال له أحمد بن طولون: انزل ويلك يا كافر. فقال: وحق رأس الأمير لا نزلت أو تؤمنني. فقال له: انزل فقد أمنك الله ولك الجائزة. فنزل وأمر له بعشرة آلاف دينار، وخلع عليه، وأجرى عليه رزقا واسعا.
قال: ومن أفعاله الجميلة ما كان يحمله إلى طرسوس وغيرها من الثغور من المال العين والسلاح والكراع والثياب ما لم يحمله إليها أحد قط، ولم يغيره على أهل طرسوس شيء مما أنكره من فعلهم، فيقصر عن ذلك مجازاة لهم؛ لأنه كان يقصد بفعله الله وحده جل اسمه.
ومن ذلك بناؤه حصن يافا؛ لأنها لم يكن لها حصن، ومات قبل الفراغ منه، وأتمه من بعده ابنه أبو الجيش.
210
ومنها ما كان يحمله إلى الحرمين من المال والعين والحنطة و[الشفوف] والثياب وكل ما يحتاج إليه أهلوها.
211
ومنها تفقد أهل الستر والمتجملين وضعفاء النواحي ممن يلزم المساجد، ويسأل عن النساء المستورات في منازلهن ومحالهن، فيجريهن مجرى الرجال من معروفه ويفضلهن.
212
وحدث أبو جعفر المروزي، قال: دعاني أحمد بن طولون يوما ودفع إلي رقعة وقال لي: سل عمن فيها فهم سجنة حبس القاضي، وانظر الدارج الحال منهم المستقل، وأثبت لي أسماءهم وأحوالهم وأسماء خصومهم، قال: فمضيت فسألت عنهم، وأثبت أسماءهم وأحوالهم وخصومهم، وذكر الموجد منهم والمعدم، وأحضرته العمل بذلك، فأحضر وكيله ابن مفضل فقال له: اجتمع مع أبي جعفر المروزي حتى تنظر في أمر هؤلاء القوم، وتحضروا خصومهم وترضوهم عنهم، وتثبتا مبلغ ذلك وتعرفاني به. فاجتمعنا وعرضناهم وأرضيناهم عنهم بمصالحة لواحد، وأن يدفع إلى آخر ماله كله لتشدده أو لاختلال حاله أيضا حتى فرغنا من جميعهم، فكان مبلغ ما لزمه من ذلك عشرين ألف دينار، وجئناه بالعمال فأطلق المال باستبشار وفرح وسرور وطيب نفس، وحمد الله، عز وجل، وأمر بأن ينصرف جميع المحبسين إلى منازلهم، فمضينا ودفعنا المال إلى أربابه، فأكثروا له الدعاء والشكر، وأطلقنا الجماعة من حبس القاضي وهم مبتهلون إلى الله، جل اسمه، بالدعاء له، فعدنا إليه فعرفناه ذلك فقال لنا: من أنا لولا توفيق الله، عز وجل، إياي؟ وإنه جل اسمه ليلهمني أن أحنو على الضعيف وأسطو على العنيف، وهكذا وصف الله، عز وجل، خلصه
213
فقال:
أشداء على الكفار رحماء بينهم
فالحمد لله على ما من به علي من ذلك.
قال مؤلف هذا الكتاب: وللحجاج بن يوسف حكاية مثل هذه، إلا أن الحجاج زكى نفسه، وأحمد بن طولون استكان لربه.
حدث الحسن بن القاسم الأنباري أن امرأة عارضت الحجاج بن يوسف فقالت له:
تق الله يا حجاج فينا فإننا
بقية شول
214
غاب عنها فحولها
وإلا تداركنا ابن يوسف رحمة
بكفيك أمسى صعبها وذلولها
فقال لها: ما خطبك؟ فقالت: غربت زوجي مع ابن أبي بكرة، وقد طالت غيبته وخفنا بعده الضيعة والعار، فأمر بالكتاب إلى ابن أبي بكرة بإقفال زوجها وكل من خرج معه، فولت تقول:
شكونا إلى الحجاج ما قد أصابنا
فكان كريما عالما بالنوائب
بصيرا بما يأتي حليما عن العدى
غيورا على البيض الحسان الكواعب
فقال لها الحجاج: صدقت وكذبت، أنا كريم عالم بالنوائب، بصير بما يأتي، غيور على البيض الحسان، ولست بحليم على العدى، أنا كما قال حميد الأرقط:
خلقت ثكلا للعدو الجاحد
أضرب منه موضع القلائد
بالسيف ضرب الهندكي الحاقد
215
وحدث أبو جعفر المروزي قال: كان أحمد بن طولون من حفاظ القرآن، [المتقنين] حفظه ومن الدارسين الحذاق، فكان يحب حفاظ القرآن ويكثر [مواصلتهم] بصلاته، ويطرقهم سرا في مواضعهم حتى يسمع قراءتهم، فيتبين منزلة واحد واحد في حفظه، ويصلي خلفه إما الصبح وإما العتمة، يركب حمارا ومعه غلام واحد، متنكرا لا يعلم به أحد، ولا يعرفه من يراه، حتى يصلي خلفه، ويعود في السحر إن كان صبحا أو بعد عتمة، ولا يقطع برهم في كل وقت.
فدعاني يوما وقال لي: أتعرف إماما يصلي بالمنامة
216
في موضع كذا وكذا؟ فقلت له: نعم، أنا أعرف المسجد، وما أعرف الرجل. فقال لي: إنه حسن الصوت جيد الحفظ، فخذ معك خمسين
217
دينارا وامض إليه، فإني لا أشك أنه في ضيقة، فصل خلفه، فإذا فرغ وخلا فوانسه حتى ينبسط إليك، والطف به حتى يأنس بك، فإذا أنس فادفع هذه الدنانير إليه، وسله عن دين إن كان عليه، فإن ذكره لك فاقضه عنه، وعرفني ما يكون منك في أمره فإني أراعيه.
قال أبو جعفر: فعجبت من تغلغله في معرفة هؤلاء القوم واحدا واحدا، وهم في أطراف البلد، وفي مواضع متفرقة لا يكاد يعرف أكثرها أهل البلد ، ثم علمت أن دينه ورغبته في الخير حملاه على ذلك، مع توفيق الله، عز وجل، له، ولن يوفق، جل اسمه، من عبيده لما يرضاه إلا من يختاره، وله عنده منزلة.
فبكرت في السحر إلى المسجد، وصليت خلف الرجل، فسمعت إماما طيبا حسن الصوت، فلما فرغ من الصلاة وانصرف الناس جلست أحادثه، فلم أزال أوانسه وأذكر له أخبار الصالحين، وما يصلح أن أحدثه لمثله حتى أنس وانبسط، وسألني عن حديثي وعن حالي، وقال: قد آنستني فأحب ألا تقطع مؤانستك فقد سررت بك. فسألته عن أحواله وعن تصرف الزمان به، فشكا إضاقة وقال: أغلظ ما حل بي أني وقفت في المحراب أمس أصلي فغلطت في قراءتي وما جرى علي هذا [قبلا]. فقلت: هذا يدل على شغل قلب وغم. فقال لي: نعم، منزلي خلف قبلة هذا المسجد، فجئت إلى الصلاة وزوجتي تطلق، فلما وقفت في المحراب سمعت صياحها من شدة الطلق، ففكرت أنه ليس لها في البيت دقيق ولا خبز ولا زيت ولا معي شيء أنفقه عليها فغلطت. فقلت: موضع يا سيدي ما تلام على ذلك. فأخرجت إليه الدنانير وقلت له: هذه الدنانير من جهة صالحة ترضاها، فخذها وتفرج بها. فتوقف عن أخذها، فحلفت له أنها من جهة مرضية، ليس عليه فيها تبعة، فأخذها وحمد الله، جل اسمه، وأثنى عليه، وانبسط وجهه بعدما كان كالناعس وأنا أحدثه، وكأنه في موضع آخر مشغول القلب والفكر، ثم سألته عن دين إن كان عليه، فقال: نعم، علي دين، وكان أيضا قلبي به متعلقا لتأخيره عن أصحابه، والساعة أبتدئ بقضائه. فقلت له: كم هو؟ فقال: خمسة عشر دينارا. فدفعتها إليه وقلت له: اقضها ولا تثلم هذه الدنانير، واتسع أنت وعيالك بها. فزاد في حمد الله، عز وجل، وشكرني، وسألني: من أي جهة هي؟ فلم أذكرها له، كما أمرني أحمد بن طولون.
وعدت إليه لأعرفه ما كان، فما وصلت إليه يومي، فلما كان من غد صرت إليه فخبرته بما جرى بيننا، فقال لي: صدق. ولقد وقفت خلفه مرارا فما سمعت منه غلطا إلا أول أمس، فإني رددت عليه في ثلاثة مواضع، وصليت اليوم خلفه فقرأ القراءة التي أعرفها منه، فحمدت الله، جل اسمه، على ما وفقني له في أمره. ثم أمرني بإثبات اسمه في الدفتر الذي فيه أسماء المستورين والمستورات الذين يجري عليهم في كل شهر خمسة دنانير على كل رجل وامرأة، وأجرى عليه مثلهم.
ومن ذلك ما حدث به سعد الفرغاني قال: ركب أحمد بن طولون يوما إلى الجيزة، وكان رسمه إذا قرب من الجسر أخلي له، فلما بلغ إليه أمر الناس بان يسرعوا المجيء عليه وأعجلوا، فلم يبق عليه إلا شيخ ضعيف على حمار هزيل ومعه صبي له، وقد أقبل من بعض نواحي الجيزة، فلما أعجل الناس وهب ليعجل معهم لم يكن له نهضة ولا لحماره، فسقط عن الحمار، فأقبل أحمد بن طولون ينظر إليه وإلى الصبي معه قد سقطا جميعا، فقال لي: امنعهم من إزعاج هذا الشيخ، وقف عليه وارفق به حتى يركب حماره والحقني به، فما أشك أنه مظلوم وقد وافانا يريد التظلم وسائله في طريقك معه إلي عن خبره، وسبب دخوله إلى مصر، فإن ذكر ظلامته فاسأله ممن يتظلم؟
قال سعد: فوقفت عليه حتى عبر أحمد بن طولون وعبرت مع الشيخ وقد رددته معي، فلخوفه انقاد معي ولم يسألني عن رده، وأقبلت أسير معه قليلا قليلا، على قدر سير حماره، وساءلته عن خبره وسبب دخوله الفسطاط، فقال: ما ترك لي وكيل ابن دشومة بذات
218
الساحل شيئا أرجع إليه، وكنت مستورا فهتكني، وكنت غنيا فأفقرني، حتى صرت بين المزارعين مرحوما فقيرا، بعد أن كنت موجدا موسرا، فدخلت مستغيثا إلى الأمير، أيده الله، وكان ابن دشومة يومئذ أمينا على أبي أيوب
219
في الخراج، فلما لحقنا أحمد بن طولون وكلت بالشيخ، ودخلت إليه في مضربه، فعرفته جميع ما عرفني به الشيخ، فوجه من ساعته بمن أحضر إليه ابن دشومة من مصر إلى الجيزة، ولم يصبر إلى أن يعود، لقوة رغبته في الثواب والخير، فأحضر فقال له : ويحك، إن الضياع تشبه البستان والمزارعون شجرة، فإن رفق بهم وأحسن القيام بأمرهم ورعوا بإصلاحهم؛ طلعت الثمرة ونمت وزكت، وإن لم يفعل ذلك هلكت الشجرة وذهب ثمرها، فأحضر كاتبك الساعة الساعة ومختار الناحية إلى ها هنا، ولا تبرحا حتى تنصف هذا الشيخ من ظلامته وتبلغ له ما يحبه وتعرفني، فإني ها هنا أراعي ما يكون منك في أمره.
فطار عقل ابن دشومة، وجعل يتوقع مكروه أحمد بن طولون، ووجه بمن أحضر صاحبه والمختار بالناحية، وابن دشومة كالمعتقل، حتى جمع بينهما وبين الشيخ، وذكر ما جرى عليه، فحطوا عنه ما كانوا يطالبونه به، وأسقطوا عنه ما شكاه من الغبن عليه، وبلغوا له فوق ما يحبه، وأحمد بن طولون يطالعهم برسله من حيث لا يعلمون، حتى عرف جميع ما جرى بينهم وبينه، وأقبل في خلال ذلك ينفذ إلى ابن دشومة خادما بعد خادم يقول له: أنصف الشيخ، ابلغ له فوق ما يحبه. ويكدهم في الفراغ من أمره، ويعرفهم أن مقامه بالجيزة بسببه، إلى أن ينصف فيعود إلى الفسطاط، فلما فرغوا من أمر الرجل دخل إليه ابن دشومة فعرفه أنه قد بلغ له ما أحب، فأمر بإحضاره، فلما حضر قال لابن دشومة: اشرح لي قصته وكيف ظلم وما عملت في أمره؟ فكان ابن دشومة يعيد عليه أمره، وهو يرعد خوفا من بادرة تلحقه منه، والشيخ واقف يسمع كل ما يجري في أمره.
فلما فرغ من شرح ذلك، قال له: يا شيخ، الأمر كما حكى؟ قال: نعم، أيها الأمير، جعل الله عليك واقية وسترك في الدنيا والآخرة. فلما سمع ابن طولون قوله: «والآخرة» بكى وخر ساجدا لله، ثم قال له: زال عنك ما كرهت وبلغت ما أحببت؟ قال: نعم، أيها الأمير، أحسن الله إليك كما أحسنت إلي. فقال: ما شاء الله فعل بك، ذاك بمنه وكرمه. فقال له؟ كم عمارتك؟
220
فقال: خمسون دينارا، قال له: فتطيقها؟ قال: لا. قال: فكم تطيق؟ قال: ثلاثين دينارا، فأمر بأن تجعل عمارته عشرين دينارا، ووهب له خمسين فدانا يزرعها ما أحب بعماط [؟] وتقوية
221
في كل سنة ولا تؤخذ منه التقوية ولا تسترجع، وجعل ذلك كالصدقة، وقال له: يا شيخ، لولا أن حط العمارة عنك يحط من منزلتك في بلدك لحططتها. فدعا له، فقال: ما فعله الأمير، أيده الله، في أمري فهو أكثر من الحطيطة، وجميعه صدقة علي وعلى ولدي وعيالي، فأجاب الله منا فيك صالح الدعاء. فأمر بأن نهب له عشرين دينارا، وقال له: خذ هذه الدنانير فاشتر بها حمارا فارها لا يرميك على الجسر ولا يقف بك إذا عبر الأمير عليك. وضحك أحمد بن طولون، وانكب الشيخ ليقبل الأرض، فمنعه من ذلك وقال له: احذر ثم احذر أن تفعل هذا بأحد من المخلوقين؛ فإنه لا يؤثره إلا كل جبار عنيد، والسجود لله وحده، عز وجل. فانصرف الشيخ إلى غاية من السرور، بما تم له من إزالة الظلم والمسامحة في العمارة، والإفضال عليه، وهبة الدنانير، وممازحة أحمد بن طولون له في الحمار، فرأيته في انصرافه يبكي فرحا، ويدعو لأحمد بن طولون بنية خالصة، وحصل له بذلك جاه في بلده ووطنه ومحله، ومنزلة وسطوة.
وحدث نسيم الخادم قال: ركب مولاي في غداة باردة إلى المقس
222
فأصاب بشاطئ النيل صيادا عليه خلق لا يواريه منه شيء، ومعه صبي له في مثل حاله، وقد ألقى شبكته في البحر، فرآه مولاي فرق له، وقال لي: يا نسيم، ادفع إلى هذا الصياد ثلاثين
223
دينارا، فتأخرت حتى دفعتها إليه، ولحقت به فلم يبعد حتى رجع، فوجدنا الصياد ميتا ملقى والصبي يبكي ويصيح، فظن مولاي أن بعض سودانه قتله وأخذ الدنانير منه، فوقف بنفسه عليه، وسأل هذا الصبي عن أبيه فقال له: هذا الغلام، وأشار إلي، دفع إلى أبي شيئا، فلم يزل يبوسه حتى وقع ميتا.
فقال لي مولاي: فتشه. فنزلت وفتشته، فوجدت الدنانير معه بحالها، فحرضنا الصبي أن يأخذها فأبى، وقال: هذه قتلت أبي وإن أخذتها قتلتني. فأحضر مولاي قاضي المقس وشيوخه، وأمرهم بأن يشتروا للصبي دارا بخمسمائة دينار يكون لها غلة
224
فاشتريت وحبست عليه، وكتب اسمه في جملة من كان يجري عليه جرايته في كل شهر، وقال لي: يا نسيم نحن قتلناه، الغنى يحتاج إلى تدبير، وإلا قتل صاحبه، كان يحب أن يدفع إليه دينار بعد دينار حتى تحصل له هذه الدنانير ولا تدفع إليه جملة.
وحدث طاهر الكبير قال: كان لمولاي برج حمام هيتي
225
فصعد إليه يوما وجلس على كرسي بين يدي البرج يستعرضها، فأخرجت إليه ما كان عندي من الفراخ، فنظر إليها وسرحها تدرج بين يديه، وكان عددها ثمانية، ثم أمرني بردها فرددت سبعة وإذا بالثامن قد درج فصار خلفه، فقال لي: قد بقي واحد. فقلت: هو خلف مولاي. فقال لي: خذه. فمددت يدي إليه لآخذه فارتعدت هيبة له أن أمد يدي خلفه، فتبين ذلك مني، فقال لي: تنح. فتنحيت فوضع خده على التراب، في الموضع الذي كانت قدمي عليه، وبكى وأقبل يمرغ خديه ولحيته في التراب ويتضرع إلى الله، جل اسمه، ويسأله العفو عنه وإلهامه الشكر على نعمه عنده.
وحدث نسيم الخادم قال: ركب مولاي يوما إلى الأهرام، فأتاه الحجاب بقوم عليهم ثياب صوف وفي أيديهم مساح ومعاول، فسألهم عما يعملون، فقالوا: نحن نقوم نطلب المطالب،
226
فقال لهم: لا تخرجوا بعد هذا الوقت إلا بمنشور
227
ورجل من قبلي يكون معكم. فقالوا له: سمعا وطاعة للأمير، أيده الله. فسألهم عما رفع إليهم من الصفات، فذكروا له أن في سمت الأهرام
228
مطلبا قد عجزوا عنه؛ لأنهم يحتاجون في إثارته إلى جمع كبير ونفقات واسعة؛ فإن فيه مالا عظيما. فنظر مولاي إلى شيخ من أصحابه يعرف بالرافقي من أهل الثغر فضمه إليهم، وتقدم إلى عامل معونة الجيزة في دفع جميع ما يحتاجون إليه من الرجال والنفقات. وانصرف مولاي فأقام القوم مدة يعملون حتى ظهرت لهم العلامات، فوافانا الرافقي وأعلم مولاي بذلك، وأن أمره قد قرب، فركب وسرنا معه حتى وقف على الموضع، فلما رآه الناس جدوا في الحفر، فكشفوا عن حوض كبير عظيم مملوء دنانير، وعليه غطاء مكتوب عليه بالبزنطية،
229
فأحضروا من قرأه فكان: أنا فلان بن فلان الملك الذي ميز الذهب من شئونه وغشه وأدناسه، فمن أراد أن يعلم فضل ملكي على ملكه فلينظر إلى فضل عيار ديناري على عيار ديناره، فإن مخلص الذهب من الغش مخلص في محياه وبعد مماته. فقال مولاي: الحمد لله، يا نسيم ما نبهتني عليه هذه الكتابة أحب إلي من المال. ثم أمر لكل رجل كان يعمل فيه بمائة دينار ووفى الصناع أجرتهم، ووهب لكل رجل منهم خمسة دنانير، ودفع إلى الرافقي منه ثلاثمائة دينار، وقال لي: يا نسيم، خذ لنفسك منه ما شئت، فقلت: ما يأمرني به مولاي. فقال لي: خذ منه ملء كفيك جميعا، وخذ من غيره من بيت المال مثل ذلك مرتين، فإني أشح على هذا. فبسطت كفي فملأهما، فحصل لي منه ألف دينار، وكان عيار الدينار منه أجود من عيار السندي بن شاهك ومن عيار المعتصم، ولم يكن يرى أجود منهما، فتشدد مولاي من ذلك اليوم في العيار، حتى لحق ديناره بالعيار المعروف به، وهو الأحمدي الذي لا يطلى بأجود منه.
230
قال: وأما صدقاته فكانت مشهورة متواترة على أهل الضعف والمسكنة والمستورين والمتجملين، وكان راتبها في كل شهر ألفي دينار، سوى ما يطرأ عليه من نذر ينذره أو شكر على تجديد نعمة لله، عز وجل، عنده، أو على خبر يسره، فيقابل ذلك بالصدقات الكبيرة، فيزيد ذلك على راتبه زيادة عظيمة، سوى مطابخه التي يقام بها في كل يوم للصدقات، في داره وغير داره، يذبح فيها البقر الكثير والكباش العداد، ويطعم الناس ويفرق على كل من يأخذ في القدور الفخار مع الخبز على المساكين أربعة أرغفة مع كل قدر، في رغيفين منها فالوذج، وكان من شهوته لذلك، وصحة نيته فيه، ورغبته في الثواب عليه، يعمل الطعام في داره، وينادى من أحب أن يحضر طعام الأمير فليحضر، وتفتح الأبواب ويدخل الناس إلى الميدان، ويجلس هو في المجلس الذي ذكرنا مقدما أنه كان يجلس فيه، يشرف على من يدخل داره ويخرج منها، وينظر إلى المساكين، ويتأمل فرحهم مما يأكلون، فيفرح بذلك ويحمد الله عليه.
فنظر يوما إلى شيخ مستور وقد زل
231
في خرقة معه زلة، وزاد فيها حتى لم يكن في الخرقة موضع، فلما قام لشدة الزحمة وقعت من يده لضعفه، فغمز بعض الحجاب بعض الغلمان أن يأخذها، تماجنا لا قصدا، وترد عليه. وتأمل أحمد بن طولون ذلك فأغاظه، فأمر برد الشيخ وإحضار الحاجب، وقال له: ويحك، ما الذي حملك على ما صنعت بهذا الشيخ الضعيف؟ فقال: والله أيها الأمير ما أردت إلا مداعبته. فقال له: والله العظيم لا حملها له إلى منزله غيرك. وأمر فأصلح للشيخ مائدة عظيمة، فيها من كل شيء حار وبارد وحلو، وأحضره، فقال له: يا شيخ كم سنك؟ قال: ثمانون سنة. قال له: لك عيال؟ قال: نعم، خمس بنات عواتق وثلاثة غلمان وأمهم ومن يخدمنا، ومن يقرب منا نواسيه بما أمكننا. فقال: ففي أي شيء تتجر؟ قال: في المثلث،
232
قال: وكم بضاعتك منه؟ قال: عشرة دنانير. قال له: فلم لا تزوج بناتك؟ فقال: لا يرغب فيهن إلا لشيء وما لنا شيء. فأمر له بمائة دينار بضاعة له، وأحضر معمر الجوهري فتقدم إليه بأن يجهز بناته بما يصلح لهن من الجهاز والتجمل ويزوجهن، ودفع إلى الذكور من ولده لكل واحد خمسين دينارا، وأثبت أسماء الجميع في دفتر الجرايات، فذكر معمر الجوهري أنه جهزهم بألف دينار، فعرفه ذلك وسره، وأطلق المال له، وحمل الحاجب مع الشيخ تلك الزلة بين يديه على سرجه، حتى بلغ إلى منزله، ووهب له عشرة دنانير تكرما ورغبة في الثواب.
وحدث إبراهيم بن قراطغان، وكان على صدقات أحمد بن طولون، قال: قلت للأمير: أيد الله الأمير، إنا نقف في المواضع التي جرت العادة بصدقة الأمير على من فيها من المستورين والمستورات فتخرج إلينا الكف الناعمة المخضوبة نقشا أو تظاريف والمعصم الرائع وفي الإصبع الخاتم الذهب والسوار والفنك
233
والثوب الرطبة [؟] فقال لي: يا هذا كل من مد يده إليك فأعطه؛ فهذي هي الطبقة المستورة التي ذكرها الله، عز وجل، في كتابه، فقال:
يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا
فاحذر أن ترد يدا امتدت إليك، وأعط كل من طلب منك.
قال: ومن حسن أفعاله أنه بلغه عن علي بن طباطبا أنه قد حبس في مال بقي عليه من ضياعه وعجز عن أدائه، فقال: وكم مقداره؟ فقيل له: عشرون ألف دينار. فأمر صاحب الخراج بإسقاطها عنه، وكتب له بالعشرين ألف دينار براءة، ووجه إليه، فأحضره إليه وعرفه بإسقاط ما عليه وصرفه إلى منزله، فأكثر الدعاء والشكر. ولم يزل وسائر أهله وجيرته يدعون له طول حياتهم.
قال: وأما إشفاقه على أهل مصر فكان يزيد على كل إشفاق، حتى إنه كان يجوز إشفاق الوالد على ولده، يحوطهم ويراعي أحوالهم ومصالحهم، ويدفع كل مكروه عنهم.
حدث سوار الخادم، قال: قلت لمولاي ليلة وقد بات في قبة الهواء خاليا مفكرا، وكانت ليلة قمراء، وهذه القبة بنيت للمأمون وقت موافاته البلد، ويقال: إن العلاء الطائي بناها على قرية من جبل المقطم، وكانت تشرف على داره وعلى جميع البلد: أيها الأمير، قد مضى أكثر الليل ومولاي منتصب، فلو أعطى نفسه حظها من الراحة كان ذلك أعود عليه. فقال: يا بني! إنا كلفنا من القيام بأمر هذه البلدة ما كلفناه، فإن نحن أعطينا أنفسنا حظها من النوم والراحة، وأهملنا الفكر في تدبير أحوالها، والشغل بما يعود به صلاح أمورها، وصيانة أهلها، ليأمنوا في سربهم، ويسكنوا في تقلبهم ضاعوا، فأرى أن أتعب ويناموا أصلح من أن أستريح ويخافوا فيسهروا. فأمسكت عنه.
قال: ولقد أصلح منجنيقات، لما كان في نفسه من المسير إلى حصن أنطاكية، فأراد امتحانها فنصبت في الموضع المعروف إلى اليوم بالمنجنيقات، على شاطئ البركة، وفوق الجبل الذي يعرف بجبل يشكر وهو المعروف بالكبش، ولم يكن بين يديه إلى النيل شيء، وإنما كان جرفا
234
يشرف به على الكبش، فركب مولاي ليجرب بين يديه، فنصب في أحدهما حبال ووضع فيه حجر، ووقف الرجال على الحبال وجذبوها، فمر الحجر إلى البستان المعروف ببستان عرق الذي على خليج أمير المؤمنين، وإنما سمي هذا الخليج بأمير المؤمنين؛ لأن عمر بن الخطاب، رحمه الله، أمر عمرو بن العاص بحفر خليج يتصل من النيل إلى القلزم، وتحمل فيه الميرة إلى الحرمين، فحفروه، وكان متصلا بالقلزم فسمي بذلك؛ لأن عمر، رحمه الله، أول من سمي بأمير المؤمنين
235
ثم حذف منجنيقا آخر أيضا، وزادوا في رجاله وحباله، وجعل فيه حجرا، وزادوا في جذبه، فلما استوفوا جره انقطعت الكفة وطارت في الهواء.
فلقد رأيت مولاي ولم يتكل على حاجب ولا غلام يتقدم، وإنه يصيح بنفسه إلى الناس الذين ينظرون، ويشير مع صياحه إليهم بكمه إلى الموضع الذي يقدر أن الكفة وقعت فيه بنجوة
236
بصياح شديد؛ كل هذا إشفاقا منه على أهل البلد ورأفة بهم.
وحدث نسيم قال: خرج مولاي ليلة إلى قبة الهواء، فسمع في أطراف المعافر كلبا ينبح فرابه ذلك، فقال للغلمان وهم قيام بين يديه: اركبوا الساعة وامضوا ركضا نحو هذا الكلب فانظروا على أي شيء يصيح، فإن وجدتم أحدا فجيئوني به. فمضى الغلمان نحو صوت الكلب حتى أدركوه، فوجدوا رجلا قد كان عند صديق له من جيرانه، وقد انصرف من عنده يريد منزله، فوجد بابه مغلقا، وهو قائم عليه يدق، وقد منع أهله غلبة النوم عن أن يسمعوا دقه، وكلما دق الرجل نبح الكلب عليه، فأخذوه وأردفه أحدهم خلفه، وأقبلوا به ركضا، فلما رأى الرجل ما حل به طار النبيذ من رأسه، وأقبل يستعين بالله، فلما أوقفوه بين يديه كاد عقله يذهب، حتى ثبته الله، عز وجل، فعرفه الغلمان صورة الأمر، فقال له أحمد بن طولون: ما الذي حملك على الخروج في مثل هذا الوقت؟ فقال له: أنا أحدث عنه الأمير، أيده الله، كنت عند صديق لي من جيرتي، وتمادى بنا الحديث إلى هذا الوقت، وكنا نستعمل الحذر والتحفظ، قبل أيام الأمير، أيده الله، فلما ولينا واشتدت وطأته على أهل الدعارة والفساد، انقمعوا
237
من هيبته وخوفا من سطوته، فأمنا لذلك، وصرنا نخرج في مثل هذا الوقت وقبله وبعده آمنين ببركة الأمير، أيده الله. فاستحيا منه أحمد بن طولون لحسن عبارته وبيان قوله، وتوقف عما كان قد عزم عليه من التأديب له في الخروج في مثل هذا الوقت، فقال له: قد كنا على تأديبك على مخاطرتك بنفسك في مثل هذا الوقت، فأزال ذلك عنا جميل عذرك، وحسن عبارتك عن نفسك، وفصاحة لسان، وعلمنا أن ذلك لا يكون إلا في عاقل، وكفى بالعقل واعظا، وقد جعلت العوض من ذلك سرعة ردك إلى منزلك؛ فلست أشك بأن أهلك لما علموا بأخذنا لك قد قلقوا لذلك. ثم قال لبعض الغلمان: أردفه خلفك ورده إلى منزله. وقام هو فأخذ مضجعه وقد مضى أكثر الليل.
وحدث نسيم الخادم قال: بينا نحن وقوف ليلة بين يدي مولاي، وقد طال سهره وفكره، وكان إذا لحقه مثل هذا وطال وقوفنا بين يديه يقول: تفرقوا واقعدوا. لعلمه بما ينالنا من التعب، ونعانيه من غلبة السهر والنوم، فنغتنم هذا القول منه ونتفرق، فنستلقي في المواضع التي يبعد نظره عنها.
فبينا نحن ليلة وقد نمنا، إلا وبه قائم على رءوسنا ولم نشعر به، فقمنا مبادرين، فقال لنا: ما سمعتم هذا الصياح؟ وتأملنا فإذا صوت عال يقول: يا أحمد بن طولون يا أخا عاد. فقال للغلمان: اركبوا واطلبوا صاحب هذا الصوت حيث كان، حتى تجيئوني به الساعة. وكان كلامه يجيء من ناحية الجبل من بين المقابر هناك، فمضى الغلمان وأبطئوا ثم عادوا فقالوا: ما أبقينا موضعا، فما رأينا أحدا، ولا عرفنا خبرا. وإذا بالصوت ثانية: يا أحمد بن طولون يا أخا عاد. فحرد فقال: ويحكم! اخرجوا فاطلبوه حيث كان. فخرجوا كخرجتهم الأولى وأبطئوا وعادوا، فقالوا: والله ما أبقينا موضعا، ولا تركنا مكانا، حتى طلبناه فما وجدنا أحدا. فقال لهم: ارجعوا قليلا قليلا، وأخفوا سيركم، واكمنوا بين المقابر، فلا بد من الصياح المرة الثالثة، فلقربكم منه تقفون على موضعه فتأخذونه، فمضوا وعملوا كما أمرهم، فلم يشعروا به إلا وقد خرج فنادى: يا أحمد بن طولون يا أخا فرعون. فلقربهم منه عرفوا مكانه فقصدوه فوجدوه ، وقبضوا عليه، فإذا به مجنون كان في أيام أحمد بن طولون يكنى أبا نصر، وكان إذا هاج خلط، وإذا سكن تكلم بكلام بليغ، فأتوه به وعرفوه أنه أبو نصر المجنون، فسكن غيظه، وقال: يا أبا نصر، ما حملك على أن خاطبتنا بمثل هذا الخطاب، وهتفت بنا في مثل هذا الوقت؟ فقال له: لأنك تعظمت وتكبرت وتجبرت ونسيت خلقك من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم جعلت المضغة عظاما ثم كسيت لحما، ثم سواك رجلا كاملا. فبكى أحمد بن طولون بكاء كثيرا، ثم قال له: ما أحسبك يا أبا نصر إلا متنطعا
238
علينا؟ ومع هذا فأتوهمك جائعا فتأكل شيئا؟ فقال له: ما تطعمني شيئا ولا أنتفع بك. فقال له: ما تغشانا يا أبا نصر ولا تأتينا. فضحك وقال: حتى أجيئك؟ لعن المعروف إن لم يكن ابتداء. ثم قال:
ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله
عوضا ولو نال الغنى بسؤال
فقال له: صدقت يا أبا نصر، هاتوا له شيئا يأكل، فأتي له بطبق فيه ألوان كثيرة وفضلة من جدي ودجاج وفراخ وفالوذج، فأقبل يأكل من كل شيء، وأمعن في الفالوذج فثقلت معدته فنام، ووضع يده تحت رأسه، وتمدد بين يدي أحمد بن طولون، فذهب به النوم وهو يتأمله، حتى علم أنه قد استثقل في نومه، فقام وقال: دعوه لا تنبهوه. ووكل به خادما يراعي أمره، وقال له: لا تكرهه على شيء يريده، فإن طلب ماء أو غيره فأعطه. فمضى أحمد بن طولون فنام، وانتبه قبل انتباه المجنون، وقت ركوبه، فسأل عنه فخبر بنومه، فركب على رسمه ووصى به، وقال: إن أراد الانصراف فلا يكلم ولا يخاطب، ويترك يذهب كيف شاء. فلما انتبه قام مبادرا نحو الباب فلم يكلم وخرج فمضى، فلما عاد أحمد بن طولون سأل عنه فخبر بذهابه فتصدق في ذلك اليوم بصدقات كثيرة. وكان يتعاهده في كل وقت بالطعام والكسوة والبر.
وحدث نسيم الخادم قال: قلد مولاي الشرطة السفلانية قائدا من قواده، وقال له: ارفق بالرعية ، وانشر العدل عليهم، واقض حوائجهم، وأظهر إكرامهم وصيانتهم، وتفقد مصالحهم، فإني أسير بالليل في محالهم فكل موضع أمر به لا يخلو من قارئ أو متهجد أو داع أو ذاكر لله، عز وجل، فوفر علينا دعاءهم لنا، واحرسنا من أن يكون دعاؤهم علينا.
ويقول لمن يقلده الشرطة الفوقانية: تشدد عليهم وأرهبهم منك، ولا تلن لهم واغلظ عليهم، فإني أسير في محالهم فما أمر بموضع فأسمع فيه إلا غناء أو سكران أو معربدا، قد أخرجته عربدته إلى الوثوب والكفر.
وكان لا يقلد شرطة أسفل إلا الثقات من وجوه قواده. وأما تشدده على قواده وغلمانه فمشهور.
حدث ابن قراطغان قال: وجه أحمد بن طولون بقائد من جملة قواده إلى بعض الأرياف في حمل مال، وإصلاح حال، فلما أقام القائد بالناحية التي نزلها وفرغ مما يحتاج إليه أقبل إليه بعض أقباط الضيعة فسعى إليه براهب في الضيعة لشيء كان يحقده عليه، فأراد التشفي منه، والقبط لا يحسنون أكثر من سعاية بعضهم ببعض، قال له: إن ها هنا راهبا قد وجد كنزا عظيما مملوءا مالا. فحمل القائد الشره والطمع على أن أحضر الراهب فأرهبه وهدده وأخافه، فأخذ منه خمسمائة دينار، وانصرف القائد من الضيعة، فبلغ ذلك من الراهب مبلغا كسفه وأتى عليه، فجعل يبكي ليله ونهاره، فرآه بعض من وافى الضيعة فسأل عن حاله فخبره فرحمه، وقال له: ولم تبكي ولنا أمير عادل منصف؟! ادخل إلى الفسطاط واكتب قصة
239
فإذا ركب أحمد بن طولون فادفعها إليه، فإنه يأمر لما يقرؤها برد مالك عليك، وجسره على ذلك وسهله عليه.
فشخص إلى الفسطاط وكتب قصته وأقبل بها إلى الميدان، فوقف على بعض أبوابه يلتمس ركوب أحمد بن طولون، فبصر به حاجب ذلك الباب، فدعا به وسأله عن خبره فشرح له قصته، وأنه ينتظر ركوب الأمير ليوصل إليه قصته، وكان الحاجب صديق القائد الذي يتظلم منه الراهب، فقال له: بينك وبينه شيء غير هذا؟ فقال: لا. قال: فأنا أدفع إليك الخمسمائة دينار، فامض في حفظ الله، والرجل صديق لي وأنا أسترجعها منه أو أتركها لها، وأصونه عن الوقيعة به. ففرح الراهب وقال: ما أطلب يا سيدي غير هذا. فأحضر الحاجب خمسمائة دينار ودفعها إليه، فأخذها ومضى وهو لا يصدق، وجاء فخرج من ساعته وعاد إلى ضيعته.
فوقف بعض أصحاب الأخبار على ما جرى، فكتب به إلى أحمد بن طولون، فأحضر الحاجب فسأله عن الخبر فلم يمكنه ستره، فأحضر القائد واعتقله، وأنفذ الحاجب خلف الراهب إلى ضيعته حتى أحضره، فلما حضر جمع بينه وبين القائد، وسأله عن الحال كيف جرت، فخبره بما كان، فقال له أحمد بن طولون: كان سبيلك، ويلك، أن تدعي عليه بثلاثة آلاف دينار حتى آخذها لك منه، وأجعل ذلك تأديبا له ولغيره. ثم قال للحاجب: والله لولا أنها مكرمة سارعت إليها، وجميل رغبت فيه، وقال الله عز من قائل:
هل جزاء الإحسان إلا الإحسان
لعمرت بك المطبق، ولكن احذر أن تعاود مثلها، ولا تستبدن بأمر تأتيه دون أن تعرفنا به، ولا تطو عنا خبرا ولا سرا ولا قصة ترفع. فقال له: أقلني أيها الأمير أقالك الله، فوالله لا أعود إلى مثلها أبدا. قال: فانصرف إلى موضعك.
ثم أقبل على القائد فقال له: أفي رزقك تقصير عن مؤنتك؟ قال: لا. قال: فأخر عنك استحقاقك تأخيرا يضطرك إلى ما أتيته؟ قال: لا. قال: فبأي حال استحللت أن تأخذ من هذا البائس الضعيف ما تقطع به قلبه وتبكي عينه، وتفقره وأهله؟ ألك حاجة أوجبت ذلك عليك أو ضرورة دعتك إليه؟ المطبق. فأخرج من بين يديه إلى المطبق على موضعه منه، ومحله في نفسه، فخرج وهو آيس من الحياة، وأمر الراهب بالانصراف.
وحدث أبو كامل شجاع بن أسلم الحاجب، قال: لما أطلقني أحمد بن طولون ألزمني دار الصناعة،
240
فدعاني يوما فقال لي: كل ما تعمل [لي من العدة] يكتفى فيه بالقليل، مع [تقدم] هيبتي في صدور الناس إلا المراكب؛ فإن البحر لا يهابني، ولا يخاف سورتي، وليس يعمل في البحر إلا الوثاقة، والجودة في الصنعة، وتقديم الإحسان، فقدم الحزم في الاحتياط، والاستزادة في الإنفاق على المراكب، لتسلم بعون الله، عز وجل، وتوفيقه من معرة البحر.
وحدث قال: دخلت أم عقبة الأعرابية يوما إلى أحمد بن طولون ومعها ابنها عقبة، وكان كثيرا ما يأنس بها، ويحب محادثتها لفصاحتها وحسن كلامها، وكان يكثر برها في كل وقت، فسألته التقدم في تصريف
241
ابنها فيما يعود عليه نفعه، فقال لابن مهاجر، وهو بين يديه: انظر له في شغل يعود عليه فيه خير يبين عليه. وكان البريد إليه، فقلده ابن مهاجر بريد ناحية من النواحي، وأجرى عليه من الرزق عشرة دنانير في كل شهر، فحدث ابن مهاجر قال: إني لقاعد بين يدي أحمد بن طولون بعد ثلاث، حتى دخلت أم عقبة على الأمير فقالت: أنا شاكرة للأمير، أيده الله، ذامة لهذا الرجل، تريدني، فقال لها: ولم ذاك؟ فقالت: أمرته في إشغال ولدي فيما يعود عليه نفعه فشغله فيما لا يرحض
242
عن رءوسنا عاره وشناره، والجوع الكريم أنفع من الشبع اللئيم، فقال لها: وما ذاك؟ قالت: وكله بالنميمة يحصيها على المسترسل، ويهتك بها المستتر، فقد تحاماه الناس وتناذروه
243
فإذا لم يكن غير هذا تركته، ولم أتعرض لما فيه مقت الله، عز وجل، وسب عباده. فضحك أحمد بن طولون، وأمرني أن أجري العشرة دنانير في كل شهر، وأعفيه من البريد ففعلت، فشكرت ودعت وقالت: هذا الأشبه بك أيها الأمير. وانصرفت.
وحدث نسيم الخادم قال: ما خلت دار مولاي قط من كاتب خفي الشخص، موثق عنده، يعرف بكاتب السر، يرتصد في سائر يومه مناظرته لمن ناظره، فيكتب الابتداء والجواب في كل ما يجري، فإذا انقضى يومه أنفذ جميع ما يثبته مع خاصة يثق به فيقرأ ذلك ويتدبره، فإن كان فيه شيء يحتاج إلى مداركته بتغيير أو زيادة تقدم في ذلك بما يمتثل.
وحدث نسيم الخادم أيضا قال: كان لمولاي في مقرنس
244
سقف مجلس بين يديه ألف بدرة،
245
قد أحكمت مواضعها واستوثقت منها بالخشب الغليظ والنخل الصلب والعمل المحكم. وكانت بين يديه يراها ولا يراها غيره ممن يكون بين يديه، إذا دخل وباب المجلس مفتوح، ولم يكن يعلم بذلك، فلا يراعيه غيره وغيري قط. وكان قد أكد علي في مراعاته وجعلته اهتمامي. قال: وكان في الدار غراب شديد الأنس، وكان مولاي يعجب بصياحه، وما كان يمضي يوم إلا ومولاي يدخل ذلك المجلس يتأمل البدر، فدخل يوما فرأى بدرة مخلخلة، فتقدم بإنزالها فأنزلت، فأمرني بفتحها ووزنها، فنقصت عما كان فيها أربعين
246
دينارا، فقال لي: يا نسيم من تظن أنه أخذها؟ فقلت: ما يدخل هذا المجلس غيرنا أنا ومولاي، ولكني أراعي هذه الحال. فقال لي: افعل. وشغل ذلك قلبي، فبينا أنا أراعيه يوما إذ نظرت ذلك الغراب قد دخل البيت فنقر البدرة من خياطتها فأخرج منها دينارا واحدا، فمضى به، فمشيت خلفه حتى أتى به إلى شق بين بلاطتين فألقاه فيه، فدخلت إلى مولاي فخبرته بذلك فعجب منه، وقام فأتى الموضع، ودعا بالمبلطين فقلعوا تينك البلاطتين، فوجدنا الدنانير التي نقصت والدينار الآخر، لم يذهب من ذلك شيء، فضحك مولاي وقال لي: يا بني، لو كانت هذه الدنانير لمسكين أو متجمل ما وجدها، ولكن يا بني المقبل محروس. وتصدق في ذلك اليوم صدقة كبيرة.
وحدثت نعت أم ولد أحمد بن طولون قالت: كانت لمولاي زوجة من بنات الموالي تزوجها بمصر، وكانت من أحسن النساء وأجملهن وجها وخلقا، يقال لها: أسماء، قالت: فقلت له يوما: يا مولاي ليست خلوتها معك على قدر محلها منك، وما يقتضيه حسنها وجمالها ومحلها أيضا. فقال لي: ويحك هي صغيرة الكف قصدة الخلق، وأكره أن يكون هذا في ولدي منها؛ فلهذا أتوقف عنها كثيرا.
وحدث أحمد بن القاسم أخو عبد الله بن القاسم كاتب العباس بن أحمد بن طولون قال: حدثني أخي عبد الله قال: بعث إلي أحمد بن طولون بعد أن مضى من الليل نصفه، فوافيته وأنا منه خائف مذعور، فدخل الحاجب بين يدي وأنا في أثره، حتى أدخلني إلى بيت مظلم فقال لي: سلم على الأمير. فقلت: السلام على الأمير ورحمة الله وبركاته. فقال لي من داخل البيت وهو في الظلام: وعليك السلام، لأي شيء يصلح هذا البيت؟ فقلت: للفكر. فقال: ولم؟ فقلت: لأنه ليس فيه شيء يشغل الطرف بالنظر فيه. فقال لي: أحسنت بارك الله عليك، امض إلى العباس فقل له: يقول لك الأمير اغد علي، وامنعه من أن يأكل شيئا من الطعام، إلى أن يجيئني فيأكل معي، واحذر ذلك. فقلت: السمع والطاعة لأمر الأمير، أيده الله. وانصرفت ففعلت ما أمرني به ومنعته من أن يأكل شيئا.
وكان العباس قليل الصبر على الجوع، فرام أن يأكل شيئا يسيرا قبل ذهابه إلى أبيه، فمنعته فركب إليه، وكان يوم خميس، فجلس بين يديه، وأطال أحمد بن طولون عمدا حتى علم أن العباس قد اشتد جوعه، فأحضرت المائدة ولم يقدم عليها إلا سمانى
247
زيرباجا
248
فانهمك العباس في أكلها لشدة جوعه، وامتدت يده إلى صغار ما كان من البوارد
249
على المائدة فشبع من ذلك الطعام، وأبوه متوقف عن الانبساط في الأكل، فلما علم بأنه قد امتلأ من ذلك الطعام أمرهم بنقل الطعام، فأحضر كل لون طيب، لا يخلو من أن يكون دجاجا ثقيلا وفراخا مسمنة، ثم لبن بالبطة السمينة والجدي الرضيع والخروف النادر وما شاكل ذلك [مما] يؤكل من جميع الحيوان مشويا، فانبسط أبوه في جميع ذلك فأكل، وأقبل يضع بين يدي ابنه منه، فلا يرى فيه حيلة لأكله وشبعه.
فقال له: إنني أردت تأديبك في يومك هذا بما امتحنتك به، لا تلق بهمتك على صغار الأمور بأن تسهل على نفسك تناول يسيرها، فيمنعك ذلك عن كبارها، ولا تشتغل بما يقل قدره فلا يكون فيك فضل لما يعظم قدره، وهذا يا بني نظير تشاغلك بالسمانى وهو من صغار الطير، ولم تتوقف عما تعلم أنه يحضر مائدة أبيك مما هو أجل من السمانى وأطيب وأمتع، فلما حضر لم يكن فيك لشيء منه فضل وقد تتبعته نفسك فما قدرت عليه.
وليس يتصل بي أنك أخذت من رجل على حاجة تقضيها له أقل من خمسمائة دينار، لا يجد صاحبها مسا معها ، ولا إجحافا فيها، إلا غضبت عليك، ونلت كاتبك بغليظ العقوبة، ولا تستدع البر على الحوائج، ولكن أقمه مقام الهدية التي تفيدها إذا جاءت عفوا، واحذر أن تقتضيها إن تأخرت عنك، وكافئ على الهدية بأحسن منها، فإن أعظم الفقر فقرك إلى رعيتك، وقد جعلت بما عملته معك اليوم تأديبا ومعاتبة وتنبيها لك على ما فيه رشدك، وفقك الله وسددك، ولا ساءني فيك. فقبل يده، وقبل منه، وامتثل أمره.
وحدث هارون بن ملول قال: وقف بعض من ينتحل التصوف من المصريين لأحمد بن طولون، وقد انصرف يوما من صلاة الجمعة، فقال له: أيها الأمير على رسلك. فوقف، فقال له: اتق الله الذي إليه معادك وراقبه؛ فقد أرعبت الناس وأخفتهم خوفا قد منعهم من صدقك عن كل ما يجري مما يكرهه الله، عز وجل، ولا يرضاه، وأنا لسان جماعتهم إليك. فأمر بالقبض عليه، فلما نزل أحضر إليه شيوخ البلد ووجوهه، وكان الناس إذ ذاك متوافرين.
فلما اجتمعوا وافى صاحب خبر السر الذي يكتب كل ما يجري، فدفع إليه رقعة فيما خاطبه به الصوفي، فأمر كاتبه أحمد بن أيمن بقراءتها على الشيوخ فقرأها عليهم، وسألهم عما أنكروه من أمره حتى بعثهم إلى إيفاد الصوفي إليه، فحلفوا له بالله، عز وجل، وبالطلاق والصدقة أنهم ما بعثوا إليه أحدا، ولا أنكروا له فعلا، فأحضر الصوفي وقال له: زعمت أن أهل البلد نصبوك للقول فيما أنكروه، فقال: نصبني لهذا المظلوم والمقهور ممن لحقه جور أصحابك. فقال له: لست أعجل عليك، أخبرني: ما الذي اتضح عندك حتى دعاك إلي؟ فقال: بعض أصحابك منذ ثلاثة أيام أنا أتلطف وأبحث عما قد رابني منه، حتى وقفت على أن امرأة طبالة لا سبيل له عليها تدخل إليه وتبيت عنده كل ليلة، واشترى رجل من أصحابك أيضا غلاما أمرد فنصب له طرة وقرطقه
250
بأشياء لا يسمح بها إلا قلب فاسق.
فقال له أحمد بن طولون: أنت الآن في العاجل قد دللتنا على عورتك، وأعلمتنا أن التجسس المنهي عنه، والظن السيئ المكروه استعماله ، وقد نهي عنه أيضا، من شيمتك، ولله، عز وجل، ستر على عباده لا ينتهك بما التمسته، فأنا أرى أنك إلى التأديب أحوج منك إلى التأنيب. ولعل دخائلك الردية أوضح من دخائل من فسقته ورميته بما لا يجوز في الدين أن يقطع مثله على مسلم في الحكم.
قال هارون بن ملول: فقال رجل ممن حضر: أيد الله الأمير، هذا الرجل أعرفه وقلبي يكرهه؛ لأن قصده أن يترأس لدنيا يصيبها بالكذب على الناس، وأنا أشهد وجماعة من حضر أن مسكنه الذي ينزله غصب، وأن طعمته
251
إخافة المستورين. فقال جميع من حضر من الشيوخ: صدق، أيد الله الأمير. فأمر به فضرب مائة سوط وطيف به البلد على جمل، ونودي عليه بما قيل فيه، وحبس في المطبق.
252
وحدث أحمد بن أيمن قال: كان لأحمد بن طولون ساع يسعى بالكتاب والمعاملين إليه، وكان من أبناء قبط مصر يعرف بأبي الذؤيب، حسن الموضع منه، وكان قد أجرى عليه وأحسن إليه بنصحه له، وكان ربما أكل معه، وربما جلس ينادمه بين يديه. قال: فاجتمعنا يوما عند أحمد بن طولون، فقال أحمد بن طولون لكنيز المغني: أنا أشتهي صوتا ما سمعته منذ خرجت من سر من رأى. فقال له: وما هو أيها الأمير؟ فقال:
ألا سقيتم بني حزم أسيركم
نفسي فداؤك من ذي غلة صاد
فقال له: ما أعرفه يا سيدي، وما استهواني من تقريب أحمد بن طولون لي وإيناسه لي [دعاني] إلى أن قلت: أنا أحسنه. ففرح بذلك فاندفعت، لما تبينته من سروره، أغنيه إياه، وكان أحمد بن أيمن هذا حسن الصوت، فطرب أحمد بن طولون طربا شديدا، حتى صفق بيديه، قال أحمد: فحملني سخف الطرب لما رأيته من سرور الأمير إلى أن قمت فرقصت على إيقاع اللحن، فزاد سرور أحمد بن طولون بذلك، وغمزني على أبي الذؤيب الساعي أن أسقط عليه، فتزالقت
253
على البساط وألقيت نفسي عليه، فأظهر أنه ألم لذلك، فأخذ يبكي كما يبكي الصبي، لعاميته وسوء أدبه، فصاح عليه أحمد بن طولون، فقال له : لم يوجعني ما وقع علي، أيد الله الأمير، من جسمه وعظم جثته، وإنما آلمني ما على ظهره من البدر التي اختانها وحصلها من مال الأمير، أيده الله. فقال له أحمد بن طولون: أمسك، وارفع هذا إلى الصحو، ولا تخلط الجد بالهزل. فتبينت غلطي بفرط الانبساط، فما مضت إلا مديدة حتى قبض علي أحمد بن طولون، وحبسني، وأخذ جميع ما كان لي، وما خرجت من حبسه إلا بعد وفاته، أطلقني ابنه أبو الجيش.
وحدث العجيفي
254
وكان يتولى شرطة أسفل: أن رجلا من التجار يعرف بالستر والسلامة، ابتاع خادما مما أبيع من تركة وكيل أحمد بن طولون الذي قبض عليه، المعروف بابن مفضل، بمائتي دينار، وأنه أخذ جوازا وخرج بالغلام إلى الشام، يؤمل في بيعه هناك ربحا، فلما بلغ العريش، وكان بها وال يعرف بحبيب المعرفي قد نصبه أحمد بن طولون ليتأمل ما يرد من الكتب ونفيس الأمتعة إلى الفسطاط، فقرأ الجواز وقال: قد كان يجب أن يحكى في هذا الجواز حلية هذا الخادم. فقال الرجل: أنا أشتريته من الواسطي. فقال: لست أطلقه إلا بعد الاستئمار
255
فيه، فكتب إلى أحمد بن طولون بخبره، فكتب إليه يأمره بإشخاصه إليه، فأشخص التاجر والغلام، فلما وافى وأدخل مع الغلام إليه، قال له: من أين لك هذا الخادم؟ قال: ابتعته من الواسطي كاتبك مما باعه من تركة ابن مفضل. فقال له: أين كنت عازما به؟ قال: أستقري به البلدان حتى أجد فيه ما أؤمله من الربح. فقال: اكتبوا له جوازا وحلوا فيه الخادم، وأطلقوا سبيله. فقال: أيها الأمير، فعلى من نفقتي في مجيئي ورجوعي بغير ذنب ولا جناية وجبت علي حتى أشخصت؟ فقد علم الله، جل اسمه، ما داخل قلبي من ذلك من الغم والجزع وأتكلف نفقة ثانية؟ فقال له أحمد بن طولون: لا، ما نكلفك نفقة، كم كانت نفقتك في خروجك ورجوعك؟ قال: عشرة دنانير. فأمر بدفعها إليه، وتحقق بذلك منه أنه من أهل السلامة، فخرج ولم يدع له، فكتب صاحب الخزانة بما سمعه تكلم لما لحقه من التعب والمشقة في دخوله ورجوعه بما أنكره أحمد بن طولون، فأمر به إلى المطبق، فلما دخله وجد فيه جماعة من غرمائه الكتاب والقواد الذين كان قد أيس أن يرى أحدا منهم أبدا، فسر بهم وسري
256
عنه بنظره إليهم وسروا أيضا هم به، وأنس بهم وأنسوا به، وقضوه جملة كبيرة مما كان له عليهم، واستأنف معاملة ثانية لهم، وباع رجلا منهم الخادم بربح جيد، فوجه به إلى من باعه له بدون ذلك لحاجته إلى الثمن، وأسلف قوما من المحبسين دنانير كثيرة وابتاع في المطبق رحالات
257
أبيعت يستغلها، وأقام مع غرمائه مقام مستوطن طيب النفس، حامد لله، عز وجل، على ما قضاه عليه، فذكره أحمد بن طولون يوما بعد سنة وشهور فأمر بإطلاقه.
فحدث يعقوب غلام العجيفي قال: دخلت إلى الرجل وأنا مسرور بإطلاقه، فبشرته بذلك، وقلت له: قم انصرف في حفظ الله، قد أمر الأمير بإطلاقك. فقال لي: وكيف أخرج من موضع أكثر مالي فيه، بل جميع ملكي؟ ومع هذا فلي فيه مستغل وأسلاف على جماعة وديون، فزبرته وأنكرت قوله، فصاح وبكى، وأقبلنا نجاذبه على الخروج وهو يجاذبنا على المقام، فرفع خبره إلى أحمد بن طولون فعجب منه وأمر بإحضاره، وقال له: ويحك تختار المقام في المطبق على إطلاق السرب.
258
فقال له: أيها الأمير، لما صار جميع ملكي في حبسك، وحصل لي فيه معاملون، اخترت ذلك، فإن كان لا بد من إخراجي فاتركني حتى أستنظف مالي وأبيع مستغلي. فقال له: وكم تحب أن تقيم كذلك؟ قال: ثلاثة أشهر. فقال له: ويحك أمجنون أنت؟ قال: لا والله، إلا صحيح بحمد الله، ولكن ما تسمح نفسي بترك مالي فيه، مع ما اتفق لي من المعاش مع من فيه. فقال له: فما تشفق على نفسك من شدة الحر فيه والازدحام والضيق؟ فقال له: أيها الأمير، القيسارية إذا ازدحم الناس فيها كانت أشد حرا منه، ويهون ذلك لكثرة الفائدة ولذة الربح، لا سيما ومعاملي فيه ثقات، وأحسن معاملة من التجار وأكرم وأوسع صدرا، وإنه لتسوءني مفارقتهم. فأمر أحمد بن طولون برده إلى المطبق، فلم يزل فيه حتى مات، فكان أمره من العجائب.
قال: ووقف رجل ليوسف بن إبراهيم يوما على باب داره حتى أقبل من الميدان، فلما هم بالنزول صاح به: أنا عائذ بالله وبك، ومستجير من رجل في حاشيتك قريب من قلبك، أثير
259
عندك، فقال له: ومن هو؟ قال: أذكره لك في سر، وأنهي إليك من خبره ما لا يسعك له الصبر عليه. فأدخله معه الدار وخلا به، ففتح كمه فأراه كتابا من موسى بن بغا إليه، وقال له: بعث بي إليك قاصدا وحدك بهذا الكتاب. فصاح به يوسف بن إبراهيم ليسمع من حضره: يا هذا، إن جميع ما ادعيت به، وذكرت أنه ظلمك فيه مائة دينار، ونحن نعطيك إياها، ونزيل ظلامتك. وأمر فأحضرت الدنانير فدفعها إليه، وقال له: امض في حفظ الله، فلم يبق بينك وبينه شيء بعد هذه المائة الدنانير من المطالبات، وأعفنا من تظلمك وتكثرك. فأخذ الرجل المائة الدنانير وخرج، ولم يأخذ منه يوسف بن إبراهيم الكتاب، توقيا وخوفا، ورغبة في السلامة.
فأحضر أحمد بن طولون يوسف بن إبراهيم فقال له: ما الذي كان في كتاب موسى بن بغا إليك؟ فقال له: والله ما قرأت كتابا قط، والذي يجب علي من حق طاعتك فقد عملته. فقال له: فلم لم تقبض على الرجل وتجئني به؟ فقال له: لم يستكفني الأمير، أيده الله، هذا فأكفيه وأمتثل أمره فيه، ومن أتى شيئا من غير أن يندب إليه فساع يتوقع من شره أكثر مما يطلب من خيره. فاعتقله أياما ثم صرفه إلى داره مكرما.
وحدث نسيم الخادم قال: أهدى علي بن ماجور إلى أحمد بن طولون ثلاثة خدم كانوا لأبيه، فأما أحدهم فما خلا من طرفه في وقت من الأوقات، من شدة ملازمته لخدمته، فقال له يوما: أي البلدان أحب إليك أن تكون فيه؟ فقال له: بلد فيه مولاي الأمير. فقال له: ويحك في داري ثلاثمائة خادم، وقد تقدمت عليهم تقدما قصر بجماعتهم في عيني، فأنا أخاف عليك أن تحدث بك حادثة منهم فأغتم بك ولا يمكنني أن أستدرك أمرك، فاختر لنفسك بلدا تكون فيه آمن عليك من حال تلحقك. فقال له: إذا كان الأمر على ما ذكره مولاي الأمير فطرسوس. فوصله بجملة دنانير كثيرة، وأمر له بخيل وبغال وآلة كثيرة، وأجرى له رزقا واسعا، وأنفذه إليها.
وأما الثاني فكان من أحسن الناس وجها وخلقا، فرآه يوما في خلعة رائعة حسنة وقد زاد حسنه وجماله فيها، فقال له وهو خال: لو لحقتني في شرخ شبابي لما أفلت مني. فقال له: لو كان مولاي الأمير يستأهلني لما أفلت منه. فضحك وقال: يا نسيم، ابعث بهذا الخادم إلى محمد بن أخي، فإني لا أرغب في هزله، فهو يفسده أمر قريب يومه. وكان محمد هذا ابن أخيه موسى عفيف الفرج، ولما بعث به إليه ورآه حسنا بضا
260
وهبه للسيدة بنت أحمد بن طولون زوجته، وكان يخدمهما جميعا.
وأما الثالث فإنه سلم إليه رجلا آثر الراحة منه وقال له: إن هذا عدوي وعدوكم، وقدر عليه أنه سيقتله، ثم سأله عنه بعد أيام، فقال له: هو محبوس. فقال له: لو كنت تحبني لقتلته. فقال له: يا مولاي، لو كنت لك وحدك لقتلته، ولكني لك ولخالقي وخالقك، وما أقدر أن أرضيك بسخطه؛ لأنه أقدر علي منك. فنفاه إلى أذنة ولم يقطع رزقه عنه.
وحدث نسيم أيضا قال: كان أصحاب الأخبار يرفعون إلى مولاي رقاعا في أقوام تكون سببا لاصطفائهم وقتلهم، وكنت حربا لأصحاب الأخبار باغضا لهم، وكنت إذا لقيت الرجل منهم لعنته في وجهه جهرا، وكان مولاي إذا رفعت إليه رقعة حفظ معناها، وأمر بقتل صاحبها، ودفعها إلي وأمرني بتحريقها، ولم يثق بغيري في ذلك.
فسعى أصحاب الأخبار في إفساد حالي عنده، فكانوا إذا رفعوا إليه واحدة وعلموا أني قد حرقتها رفعت أخرى إلى مولاي وقالوا له: كيف بقيت هذه الرقعة لم تحرق؟ فيوهموه أني قد أغفلت أمرها، أو أخذتها لأعلم ما فيها ومن رفعت فيه، فأعلمني مولاي بذلك، فحلفت عليه أني ما أغفلت قط تحريق رقعة دفعها إلي، ولكن هؤلاء القوم لما علموا ببغضي لهم، احتالوا في إسقاط منزلتي من مولاي. فقال لي: صدقت، قد علمت ذلك، وأنها حيلة منهم عليك في الرقاع التي آمرك بتحريقها؛ لأن لي فيها علامة، وهي إدخال سبابة يميني حتى يتحيف فيها اسم أعرفه من الرقاع التي يعيدونها إلي سليمة من علامتي، وهذه يا بني صناع رديئة ليس يصلح لها غير الشرار ومن ليس فيه خير.
وحدث
261
سعد الفرغاني قال: ركب أحمد بن طولون يوما، فبينا هو سائر فإذا هو برقاص يعمل في دار، فقال: اقبضوا عليه وامضوا به إلى الدار. فقبض عليه ومضي به إلى الميدان.
262
فبقي جماعة أصحاب أحمد بن طولون في حيرة من ذلك، لا يدرون على ما ينزلون أمر الرقاص. ولما عاد إلى داره أحضره وأحضر السياط والعقابين فاعترف أنه جاسوس للموفق، وأنه أنفذ معه كتبا إلى جماعة من القواد، قد أوصل بعضها وبقي بعضها، وأنه عمل رقاصا ليخفي أمره ويختلط بالناس، ويسمع منهم الأخبار، ويسأل عما يحتاج إليه، فوكل به حتى مضى، وأحضره ما بقي من الكتب، فقبض على الجميع وأتى عليهم، وأطلق الجاسوس وقال له: عد إليه وعرفه أنا قد وقفنا، والحمد لله، على ما عمله، ولم يضرنا الله جل اسمه به، بل كشف لنا عن نيات أعدائنا، فاستأصلنا شأفتهم بما مكننا الله عز وجل به فيهم. ووكل به حتى خرج من العريش.
فقال له طبارجي: أيها الأمير، كيف علمت بهذا الرقاص؟ فقال له: يا هذا، إني لمحت تكته وهو يحمل قصرية الطين على كتفه [فرأيتها تكة] أرمني، فقلت: رقاص بتكة أرمني لا يكون. فعلمت أنه جاسوس، فكان من أمره ما قد رأيتم.
وحدث أحمد بن محمد الكاتب، وكان من عقلاء الناس وفهمائهم، وكان فيه دين وخير كثير، [قال]: أتاني رسول أحمد بن طولون و[قد] مضى من الليل أكثره، وأنا نائم في فراشي، فقرع بابي قرعا عنيفا فأشرفت عليهم عيالي، فإذا جماعة من الغلمان بالشمع والمشاعل، فراعهم ذلك وعرفوني فأشرفت عليهم، فعلمت أنه لم يستدع حضوري في ذلك الوقت لخير، فأيست من الحياة، فدخلت المستراح وتطهرت وتطيبت طيب من يفارق الدنيا، ولبست ثيابا نظافا، وقلت: تكون [مشيئة الله] وودعت أهلي، وقد كثر بكاؤهم وضجيجهم، ونزلت إليهم فركبت معهم، فمضوا بي حتى دخلت إلى أحمد بن طولون.
فرأيت قاعة الدار كلها شمعا يتقد، حتى خلت أنه نهار، وسرت فيها حتى بلغت المجلس الذي هو فيه، وبين يديه شمعتان عظيمتان في كل واحدة منهما قنطار، وهما بعيدتان منه، فسلمت وأنا أرعد خوفا، فرد علي السلام، فسكن بذلك بعض روعي، واستدناني فدنوت، فقال لي: أنت غدا في دعوة فلان، ومعك في الدعوة فلان وفلان، إلى أن أسمى لي جميع من كان وقع الاتفاق على حضوره. فقلت: نعم، أيد الله الأمير. فقال لي: امض واحذر أن يفوتك شيء مما يجري حتى تبينه وتنصرف به إلي تعرفنيه. فقلت: السمع والطاعة لأمير الأمير، أيده الله. فقال لي: انصرف راشدا. فانصرفت وقد حرت في أمري، فقلت: أبعد هذه السن أركب الآثام وما تقبح به الأحدوثة، أسعى بقوم بيني وبينهم مودة وعشرة وأخوة، وأكون السبب في قتلهم وإتلاف نعمهم؟! إنا لله وإنا إليه راجعون.
وتأملت الحال فإذا بي إن خالفت أمره قتلني، وأيتمت ولدي وأرملت زوجتي، فعملت على تحمل ذلك ويعلم الله، جل اسمه، كرهي له، وأني غير مختار لما لا أوثره، وأني صابر على ضيق الحال طلبا للصيانة، وتجنبا للدخول فيما فيه المأثم، ثم فكرت في وقوفه على الدعوة وعلى حالها، ومعرفة من يحضرها، فازداد خوفي منه وحذري، وحيرتي في أمري، وعدت إلى منزلي، وقد يئسوا مني، فلما رأوني تباشروا بي وحمدوا الله، عز وجل، على ذلك، ورأوني قد رجعت إليهم من الآخرة، وأنه، جل اسمه، قد تصدق بي عليهم، ووهبني لهم هبة جديدة.
فلما أصبحت وتعالى النهار، جاءتني رقعة صديقي صاحب الدعوة، يسألني أن أقدم الوقت في المصير إليه، ففعلت، وأظهرت أن بي عسر البول وأخذت معي مكتبا أكتب فيه كل ما يجري، وحضرت الجماعة التي أسماهم لي أحمد بن طولون، فكنت كلما سمعت شيئا يجب أن أثبته أريهم أني أقوم إلى المستراح، فإذا حصلت فيه كتبت كل ما جرى وتهيأ، لما أحب الله، عز وجل، إمضاءه، أنه لم يكن للقوم مذ وقت حضورهم إلى وقت انصرافهم حديث إلا ذكر أحمد بن طولون بكل قبيحة وعظيمة، والابتهال إلى الله، جل اسمه، بالدعاء عليه، وتمكين الموفق منه، كل ذلك لأمن بعضهم من بعض والثقة بهم، ولما في قلب كل واحد منهم منه، فلم أزل أكتب كل ما يقوله واحد واحد، وفي قلبي من ذلك ما قد علمه الله، عز وجل، إلى بعد العتمة.
وانصرفت الجماعة وكنت أنا آخر من انصرف، فجئت من توي إلى أحمد بن طولون كما أمرني، فأدخلت إليه فأصبته على تلك الحال، وهو كالمنتظر لي، فلما سلمت رد علي السلام، وقال لي: الساعة انصرفت؟ قلت: نعم أيها الأمير، أنا آخر من انصرف. فقال لي: جودت، هات ما معك. فقلت: هو في مكتب، فإن أمر الأمير بنقله نقلته، فأمر لي بدواة وبياض، فتنحيت ناحية، ونقلت جميعه في رقعة، وقمت فدفعتها إليه فقرأها، فلما استوفى قراءتها، قال لي: بارك الله عليك خذ ما تحت المصلى،
263
فمددت يدي، وأنا أرعد وأقدر أنها أفعى، قد أعدها لي تضرب يدي فتأتي على نفسي، فأصبت رقعة، فقال لي: اقرأها. فقرأتها، فإذا فيها جميع ما كتبته، ما غادرت منه حرفا واحدا، وإذا به قد استظهر علي، بأن جعل معي واحدا من القوم الذين كانوا معنا في الدعوة لا أعرفه، فعرفت بعد ذلك أنه كان بعض أصحاب صديقي، وأراد أحمد بن طولون [أن يعرف] أينا أصدق وأنصح فيما يرويه له فكانت نسختنا واحدة، فحمدت الله، جل اسمه، إذ لم أدع شيئا قل ولا جل حتى كتبته، وتيقنت أني لو تركت شيئا لاستحل قتلي، فلما قرأتها قال لي: دعها وامض مصاحبا. وأمر لي بألف دينار فأخذتها وانصرفت، وليس لي فكر ولا عقل إلا في أصدقائي، وما يكون منهم ، وما أتخوفه عليهم.
فلما كان من غد ركبت إلى صديقي صاحب الدعوة لأعرف خبره، فلما صرت إلى السكة التي يسكن فيها، لم أر للدار التي كان فيها أثرا، ورأيت موضعها رحبة مكنوسة مرشوشة واسعة نظيفة، لا أعرفها ولا رأيتها قط، وأقبلت أطلب الدار فلا أراها بوجه ولا سبب، فتحيرت ووقفت أتأمل الرحبة والموضع، فرآني بعض شيوخ الناحية فتقدم إلي وقال لي: أراك، أعزك الله، متحيرا، فقلت له: نعم، أعزك الله، أنا أطلب دار صديق وما أراها، ولولا معرفتي بهذا الموضع لقلت غلطت موضعها، فقد حرت من ذلك. فأخذ بعنان لجامي وقدمني ناحية وخلا بي، وقال لي: امض يا حبيبي في حفظ الله، فرحم الله صديقك، فقد كان حسن المجاورة لنا، وقاضيا لحوائجنا وحقوقنا. فقلت له: عرفني ما وقفت عليه لأعلمه وفرج عني. فقال: أما خبره فما أدري كيف جرى، إلا أنه سعي به إلى أحمد بن طولون، وبجماعة كانوا عنده البارحة في دعوة، فلما كان في أول الليل وافى إلى ها هنا أكثر من خمسمائة رقاص،
264
وأكثر من ثلاثمائة بغل عليها المزابل،
265
فأنزلت الدار إلى الأرض بأسرها، ونقل جميعها إلى البحر،
266
فما أصبح الصباح حتى صارت رحبة كما ترى مكنوسة مرشوشة، كأنه ما كانت ها هنا قط دار، وغرق صاحبها والجماعة الذين كانوا معه عنده؛ لأنه بلغني من جار لبعضهم أن رسل أحمد بن طولون كانوا يخرجون واحدا من منزله فيغرق وتؤخذ نعمته بأسرها، فاذهب في حفظ الله. فزاد غمي وقلقي، وعظمت مصيبتي وحزني، وما انتفعت بنفسي بعدهم.
وحدث
267
أحمد بن دعيم، وكان من خاصة قواد أحمد بن طولون، وكان حديثه لي بعد أن ترك الديوان، وحسن انقطاعه إلى الله، جل اسمه، قال: قلدني أحمد بن طولون الصعيد الأوسط في وقت خروج عبد الرحمن العمري
268
عليه بالصعيد، فكتب إلي يستخبرني عما أقف عليه من حاله، فكتبت إليه أعرفه ضعف يده، وانتشار أمره، وقلة المال، وقبضت على رئيس من رؤساء الأعراب اتهمته بمكاتبته، وأنهيت خبره إليه، فكتب إلي يأمرني بحمله إليه ، وابتياع ما قدرت عليه من النجب، والشخوص [إليه] لأشرح له أمره مشافهة، فامتثلت أمره، فما سرت إلا مرحلة حتى لحقني وجوه تجار العمل، ومعهم أعرابي شاب، وقالوا لي: جئناك في أمر هذا الأعرابي المحمول معك إلى الأمير، أيده الله، ومعنا من يبذل في إطلاقه خمسمائة دينار. فقلت لهم: قد أنهيت خبره إلى الأمير. فقال الأعرابي الذي معهم: خذ الخمسمائة دينار واجعلني أنا مكانه، وأطلقه فيحصل لك المال والرجل؛ إذ
269
لا يعرف الأمير أيهما كتبت بذكره. فقلت: أفعل.
وكان الأعرابي المحمول من عشيرتي، وكنت مغموما بأمره، إلا أني لم أجد بدا من تعريف أحمد بن طولون ما كان منه، لما كان في قلوب جماعتنا من الخوف منه، فأحضرت الأعرابي وعرفته ما جرى، وقلت له: قد سرني الله بخلاصك. فقال: بماذا؟ فعرفته ما جرى، فقال: بأن تجعل هذا مكاني وتحمله عوضا مني، ليجري عليه المكروه دوني؟ والله لا كان هذا أبدا. ثم قال الأعرابي للشاب الأعرابي: امض لشأنك، أحسن الله جزاءك. والتفت إلي فقال لي: يحسن بشيخ مثلي [أن] يتربح
270
في المعروف؟ هذا رجل لقيته وقد أكبت عليه خيل
271
لتسلبه نفسه وما كان معه، فطردتها عنه حتى تخلص، فلما رآني في هذا الوقت وما نزل بي، أراد أن يخلصني بحصوله في موضع إن سلمت روحه لا يخرج منه آخر الليالي، ثم يغرم مالا لعله يثقل عليه ويجحف به، ليكون له الفضل علي، والله لا فعلت، ثم أقبل إليه فقال: انصرف في حفظ الله، فلن يضيع عندي فعلك، وقد حصلت لك قبلي مكرمة. فقلت له: قد قضيت يا أخي ما يجب عليك، كثر الله في الناس مثلك، فانصرف مصاحبا، فقد وثق الرجل بالله، عز وجل، في أمره، وهو، جل اسمه، يخلصه بجميل هذا الفعل.
فقال لي: لست أفعل، وعزمت
272
على الأول في القبول منه وقلت له: فلست آخذ منه شيئا وأعينه في خلاصك، ولن أدع حالا أبلغ بها خلاصه أيضا إلا بلغت. فامتنع وقال: والله لئن خالفتني وأخذته وحصلت بحضرة الأمير لأعرفنه، فاصرف الرجل ولا تعرضه للهلكة. فبقيت قد تحيرت ودهشت من كرمهما جميعا. فقال له الشاب: إذا كان الأمر على هذا فما أصنع في عارفتك التي في عنقي؟ أنشدك الله إلا قبلت المال وأزلت عني العار؛ فأنت تعلم أنه عار على الكريم أن يموت وعليه دين من ديون المعروف. فامتنع من قبول المال أيضا وقال له: إذا رأيت رجلا قد أحاطت به خيل تريد تسلبه فذبها عنه، فإذا فعلت ذلك فقد كافأت عارفتي، انصرف في كلاءة الله، عز وجل.
273
فانصرف الأعرابي باكيا متأسفا على قد فاته، مما بذله من نفسه وماله، ولم يزل يقبل رأس الأعرابي ويديه ورجليه ويبكي ويعول، ويسأله قبول المال وهو ممتنع من ذلك، حتى أبكى جماعتنا، فلما لم يجد فيه حيلة انصرف.
فلما دخلت إلى أحمد بن طولون وشافهته بخبر العمري، وذكرت له منه ما سره، وعرضت عليه النجب واستحسنها، قلت له: بقي أيها الأمير ما هو أحسن منها. قال: ما هو؟ قلت: الأعرابي الذي كتبت بخبره إلى الأمير، أيده الله، فأمرت بإشخاصه، قال: نعم، وما الذي فعل، وأردت بقولك إنه أحسن مما جئتنا به؟ قلت: كان من خبره كذا وكذا، وشرحت له جميع ما جرى من أوله إلى آخره، وخبر المال الذي بذل لي، ومشورتي عليه بأن يفعل، وصدقته عن جميعه، فأعجبه صدقي، واستحسن فعلهما، وأمرني بإحضار الأعرابي فأحضرته، فلما رآه قال له: يا أعرابي، قد كنا عزمنا في أمرك على ما يسوءك ولا يسرك، حتى وقفنا على ما جرى بينك وبين من أراد مكافأتك على جميلك عنده، وقد قمنا عن ذلك الأعرابي بحق عارفتك عنده بإطلاق سبيلك والإحسان إليك. وأمر أن يخلع عليه وأثبته في ديوانه وأسنى له الرزق، وأمرني بإيفاد رسول قاصد في حمل الأعرابي إليه ففعلت، فلما وافى أدخلته إليه، فقال له: كثر الله في الناس مثلك يا أعرابي وقد قمنا عنك بحق عارفتك، بما أتيناه في أمر صاحبك، وبك نجاه الله، عز وجل، وبجميل فعلك من مكروهنا. وأمر فخلع عليه وأثبته في ديوانه وأجرى له رزقا واسعا. ولم يزالا في خاصته ولا يخليهما في كل عيد من صلة واسعة إلى أن مات.
وحدث نسيم الخادم
274
قال: كان مولاي يراعي أمر المحبوس حتى تمضي له سنة فإذا جازها نسيه ولم يذكره، وكان يقول لي سرا: إذا تبينت من رجل براءة ساحته فسهل علي أمره واستأمرني فيه، فإني أستعمل التشديد للضرورة والقلوب بيد الله، عز وجل.
قال نسيم: فقال لي موسى بن صالح، وكان من الثقات عنده وكان على الشرطتين جميعا: إن في الحبس رجلا قد زاد على سنتين وهو منقطع إلى الله، عز وجل، لا يسألنا شيئا من أمره، وقد أكب على العبادة، وقد جرى في أمره شيء، وهو ذا أشرحه لك فيما بيني وبينك، لثقتي بك وبدينك ومحبتك للخير؛ ولأستعين بك في أمره، حتى يخلصه الله، عز وجل، على يديك، فيحصل لك بذلك ثواب من الله الكريم جزيل. فقلت له: قل. فقال لي: لما رأيت هذا الرجل على هذه الحال، قلت له: يا هذا، إن الناس يضطربون في أمرهم ويسألون الخلاص مما يقاسونه، بكتب رقعة بشفاعة من يعتني بأمرهم، وأراك خارجا عن جملتهم. فجزاني خيرا.
فرق له قلبي وكبر في نفسي فخلوت به وقلت له: إني لو استجزت إطلاقك بغير إذن لفعلت، ولكن أستعن في أمرك بمن يضطرب
275
في خلاصك، فقال لي: ما أعرف في هذا البلد غير أبي طالب الخليج
276
ولو تهيأ الاجتماع معه لخاطبته بما لا تبلغه الرسالة. فقلت له: والله لأخاطرن فيك بنفسي، أنا أطلقك سرا على أن توثقني بأيمان محرجة أنك تعود إلي ولا تخفرني،
277
فقال لي: إذا كنت عندك بمنزلة من تشك فيه حتى تتوثق منه بيمين، فلا حاجة لي في إطلاقك إياي. فقلت: والله لا استحلفتك ثقة بك، فامض في حفظ الله، وأحكم معه ما تريد.
وكان ذلك ليلة الجمعة، وفارقته على أن يصير إلى محبسه ليلة الإثنين، فلما كان في سحر يوم السبت وافاني لما فتحت السجن، فلما دخل حمد الله، جل وعز، وأثنى عليه، وسجد شكرا له جل اسمه، ثم قال لي، وقد حرت من أمره: بعثت إلى أبي طالب الخليج امرأة من أهلنا فهمة، وطويت عنه إطلاقي، وسألته أن يلطف في أمري فوعد بذلك، وقال: أدخل إلى الأمير وأسأله في أمره، فاجلسي إلى أن أعود إليك أعرفك ما يجري، وأرجو أن يمن الله الكريم بإطلاقه.
وركب عشية الجمعة أمس، فأقام عند الأمير إلى قريب من العتمة، وانصرفت إلي الامرأة فقالت: وافى أبو طالب وهو مغموم فقال لي: كلمت الأمير في أمره، فقال لي: لقد أذكرتني رجلا يحتاج إلى عقوبة. ثم تقدم إلى رجل من أصحابه في المصير به إليه في غد عند جلوسه اليوم، وقال للمرأة: قولي له ارجع يا أخي إلى الله، عز وجل، فليتني ما تكلمت في أمرك. وطال علي بقية ليلي قلقا بأمرك أن يجيئك رسول في إحضاري، فبكرت إليك في هذا الوقت، خوفا من حال تلحقك فتغمني فيك، ورأيت والله جميع ما يوعدني به من المكروه أسهل علي من أن أخفر بك وأبطل ظنك.
فما استوفى كلامه حتى وافاني رسول الأمير، فتسلمه مني ومضى به إليه فلحقته، فرأيت الأمير وقد شغل الساعة عنه، فقال: أنا أسألك أن تدخل الساعة إليه من قبل أن يفرغ شغله فتدعو به حتى تشرح له قصته وتسأله في أمره. فبادرت معه ودخلنا إلى مولاي، وإذ به قد دعا بالرجل وهو بين يديه، وقد ذكر له جنايته فاعترف بها واعتذر إليه منها عذرا قبله منه، فتأملناه فإذا به قد لحقته عليه رقة ورحمة ورأفة ضد ما قدرناه فيه، فعلمنا أن العناية من الله، جل اسمه، قد سبقت عنايتنا، فغنينا عن سؤاله في أمره، وأمر بإطلاقه، وأمر له بجائزة.
قال نسيم: ثم قال لي مولاي: تسلمه يا نسيم مكرما. فأخذته إلي وقد لحقني من السرور بإطلاقه ما علمه الله، جل اسمه، وكذلك موسى بن صالح، فوصلته بدنانير كثيرة سوى ما وصل إليه من مولاي، وصرفته مع موسى بن صالح؛ لأنه اختار انصرافه معه ليبلغ أيضا في أمره ما يحبه، مما توصل به المثوبة من الله جل ثناؤه.
فلما خلوت بمولاي حدثته بقصته من أولها إلى آخرها، فأحضر موسى بن صالح وقال له: لله درك فيما أتيته في أمر الرجل، فأحضرنيه. فأحضرته، فلما رآه أكرمه وأدنى مجلسه، وجعله أخص أصحابه عنده، ولم يزل يواصله ببره إلى أن مات مولاي، رحمه الله.
وحدث نسيم الخادم
278
قال: حبس مولاي يوسف بن إبراهيم في موضع في داره لشيء أنكره منه، وكان إذا حبس رجلا في داره أيس منه. وكان ليوسف بن إبراهيم على جماعة من أهل الستر معروف كبير وتحمل لمؤنهم، فاجتمعوا وكانوا نحوا من مائة رجل،
279
لكل رجل منهم محل في نفسه وقديمه وستره ودينه، ووافوا إلى باب الجبل، فاستأذنوا على أحمد بن طولون، فأذن لهم فدخلوا إليه، وعنده محمد بن عبد الله بن الحكم، وجماعة من شيوخ البلد.
فابتدءوا الكلام بعد السلام بأن قالوا: قد اتفق لنا، أيد الله الأمير، من حضور هذه الجماعة مجلسه ما رجونا أن يكون ذريعة لنا إلى ما نأمله، ونحن نرغب إلى مولاي الأمير، أيده الله، في أن يسألها عنا ليقف على منازلنا، فسألهم عنهم فقالوا: نعرفهم بالستر والصيانة والدين والقديم النبيل، وقد عرضت على جماعة منهم العدالة فامتنع صيانة وتواضعا.
فأمرهم بالجلوس فلما جلسوا سألهم تعريفه ما قصدوا له فقالوا: ليس لنا أن نسأل الأمير، أيده الله، مخالفة ما آثره في يوسف بن إبراهيم؛ لأنه أهدى إلى الصواب فيه، لكنا نسأله، أيده الله، أن يقدمنا قبله فيما لعله قد اعتزم عليه في أمره من قتل أو مكروه، وهو في حل وسعة، وأن يفعل في أمره بعد ذاك ما أحب، وقد قضينا حق عارفته عندنا، وكافينا معروفه لدينا، بتحمل المكروه فيه، كما كان يبادر بمعروفه إلينا. فقال لهم: وكيف ذاك؟ فقالوا: ما أحوجنا أن نفكر معه في شيء نبتاعه لسنتنا من مئونة وكسوة وقليل وكثير، ولا وقفنا بباب غيره لما غنينا به عمن سواه، وما نؤثر، أيد الله الأمير، البقاء بعده، ولا السلامة من شيء قد وقع فيه. وعجوا بالبكاء بين يديه، فبكت الجماعة الحضور لبكائهم، ورق قلب أحمد بن طولون حتى تدمع
280
معهم وقال لهم: بارك الله عليكم وأحسن جزاءكم فقد كافأتم إحسانه إليكم، وجازيتم إفضاله عليكم. ثم قال: يوسف بن إبراهيم. فأحضر فقال لهم: خذوا بيد صاحبكم وانصرفوا به معكم؛ فقد وهبت جنايته لكم. فأخذوا بيده وخرجوا من عنده، شاكرين داعين إلى الله، جل اسمه، في إطالة بقائه ودوام عزه.
ولم يزالوا حول يوسف بن إبراهيم حتى أوصلوه إلى داره، فشكر لهم فعلهم، وانصرفوا فرحين بما سهله الله بكرمه لهم من المحنة في أمره. وكان ذلك سبب رضا أحمد بن طولون عن يوسف بن إبراهيم.
281
قال مؤلف هذا الكتاب: اتصل بأحمد بن طولون عن القاسم بن شعبة شيء أنكره منه، فقبض عليه وحبسه في داره، ووكل به من يمنع أحدا يدخل إليه، فلا يخرج من عنده إلا غلام يقضي من حوائجه وحوائج حرمه ما لا بد منه في منزله، ولم يمتهنه بحبس في مطبق ولا غيره، وتركه في داره موكلا به، وكان ذلك من جميل أفعال أحمد بن طولون محافظة لأبيه. وكان يصحبه ويتقلب في نعمته رجل يعرف بابن أخت بن الزنق، وكان له عم من الشيوخ الأولين الذين فيهم السلامة والدين، فلما قبض عليه أحمد بن طولون فزع ابن أخت بن الزنق من مكروه يلحقه من أحمد بن طولون، وخافه وانقطع عنه، فبلغ عمه ذلك فأنكره عليه وحثه على المضي إليه، والتوصل إلى قضاء حاجة إن كانت له، فاحتج بأنه لا يصل إليه لمنع الموكلين لمن يجيئه، فقال له: [لأن] يقف على مصيرك إليه ومنعهم لك أحسن من وقوفه على انقطاعك عنه، فقال له: أنا أخاف من مكروه يلحقني، فقال له: كما كنت يا بني تتقلب في نعمته، تصبر على ما يلحقك في محنته، فلا تفضحنا بالقعود عن رجل أحسن إليك، فلم تكافئه على جميله عندك. فقال له: ما أجسر على ذلك. فلما أيس منه قال له: قبحك الله، سرقت معروف الرجل، وتركته يقارع محنته. فلم ينجح فيه قوله.
وركب الشيخ حماره، وصار إلى دار القاسم بن شعبة، وجيرانه يناشدونه الله ألا يتعرض لأحمد بن طولون فلم يقبل، وقال: والله لا تحملت عارا حملنيه هذا الرجل الجاهل القبيح الفعل. فلما وقف بباب القاسم بن شعبة وعليها الموكلون، وقوم من أصحاب الأخبار، سلم عليهم، فقال: كيف حال القائد أبي محمد، أيده الله؟ فقالوا له: امض يا شيخ في حفظ الله. فقال: ما أمضي حتى أقضي من حقه ما يلزمني؛ إذ كان قد بعد عنه من يلزمه أمره، ممن كان في جملته من أهلي.
فرفع خبره إلى أحمد بن طولون فأحضره فقال له: ما كنت يا شيخ تعمله للقاسم بن شعبة؟ فقال: والله ما عملت له قط عملا، ولا تصرفت له في حال من الأحوال، ولا دخلت له دارا، ولا سلمت عليه قط، ولا أعرفه ولا يعرفني، ولكنه أولاني جميلا في بعض أقاربي، فتوقفت عن معاضدته في محنته، وقضاء حقه على ما أولاه، توقيا وخوفا، فلم تطق نفسي الصبر على ترك مكافأة جميله عنه، فانتصبت الساعة لذلك، والأمير، أيده الله، أحق وأولى بحسن مكافأة أبيه فيه، والصفح له عن ابنه في غلطة إن كان غلطها أو زلة إن كان زلها؛ فقد كان أبوه مشهورا بحسن الموالاة للأمير، أيده الله، جميل النصح له طول حياته. فقال أحمد بن طولون: يا شيخ ما في هذا المجلس أحد يقول فيما اهتديت إليه من إذكارك إياي حق أبيه، ولعمري إنه ليقضي عطفي على ولده، وصفحي عن زلله والتجاوز له عن خطئه، فأحسن الله جزاءك يا شيخ على جميل فعلك، وكثر في الناس مثلك؛ فقد نبهتني على قضاء حق أبيه، رحمه الله.
ثم أمر بإحضاره، فلما حضر خلع عليه خلع الرضا وأجازه، ورده إلى منزلته التي كانت عنده، وقال للشيخ: تسلمه يا شيخ بارك الله عليك، وأحسن إليك. فسبقه الشيخ إلى داره فنزلها، ولم يمض إلى منزله ولم يدخل داره معه، وحرص به واجتهد فما فعل، وقال له : إنما أردت قضاء حقك والقيام فيه بما قعد عنه ابن أخي خوفا وجزعا من الأمير، أيده الله، فلله الحمد على ما سهله لي من ذلك ويسره، وأستودعك الله. وانصرف إلى منزله، فلما كان من غد ركب إليه القاسم بن شعبة يشكر فعله، وعاد إلى أفضل ما كان عليه لابن أخيه إكراما للشيخ على ما أتاه في أمره.
وحدث نسيم الخادم قال: صار إلي ثابت بن سليمان - وكان سليمان هذا يكتب لشقير الخادم، ثم خدم بعد مولاي - ومعه رقعة وسألني أن أوصلها إلى مولاي، فأخذتها منه وقرأتها، فإذا فيها يذكر أن شقيرا الخادم أودع أباه أربعمائة ألف دينار، فأوصلتها إلى مولاي، وعجبت من سعايته بأبيه، فلما قرأها استحضره وقال له: قد قرأت رقعتك، فالأمر على ما ذكرته من حصول المال عند أبيك؟ قال: نعم، أيد الله الأمير، وإنما خشيت أن تمتد يد أخي إليه، ويتصل خبره للأمير بعد وقت، فيلحقني مكروهه، فقال له: أمسك الآن عن هذا واطوه عن الناس كلهم، ولا يعلم أبوك بمجيئك إلي، حتى أدبر الأمر في ذلك فيما أراه فيه، وانصرف مكلوءا. قال نسيم: فكثر تعجبي من إمساك مولاي عن هذه الجملة العظيمة التي لا يغفل عن مثلها.
فلما مضت سنة مات سليمان فأظهر مولاي غما به، وتفجعا عليه، ثم دعا بابنه الرافع لتلك الرقعة، فرد إليه ما كان في يد أبيه من أملاكه، وضم إليه من الرجال من تقوى بهم يده، وتركه شهرا، ثم دعا به يوما وأنا قائم بين يده، فقال له: كيف حال مخلفي أبيك معك بعد أبيك؟ فقال: الحال صالحة، وما أدع حالا تؤدي إلى مصلحتهم إلا بلغتها ببقاء الأمير، أيده الله، وقد أعز الله، جل اسمه، جانبي به أدام الله عزه. فقال له: احمل إلي تلك الأربعمائة ألف دينار التي لشقير الخادم عندكم. فتلجلج ولم يمكن أن يرد جوابا، فأمرني بتسليمه إلى أحمد بن إسماعيل بن عمار، وأن آمره بمطالبته بها بالسوط، فامتثلت ذلك، وطالبه فبلح
282
فضربه خمسمائة
283
سوط، وأخذ جميع ملكه وما خلفه أبوه، فلم يوجد عنده بعض ما تقوله على أبيه، فأعاد مطالبته ثانية، وضربه فمات تحت الضرب، فعرف مولاي خبره فقال: ذلك أردت لسعايته كانت بأبيه - رحمه الله - إلي، فلا رحمه الله.
284
أخبار العباس بن أحمد بن طولون
قال مؤلف هذا الكتاب: لما ضبط أحمد بن طولون أطراف عمله، بلؤلؤ غلامه وابن جيغويه، ومن ضم إليهما من الرجال، أغذ السير من الثغر إلى الفسطاط ليبادر أمر العباس ابنه. وكان سبب خروج العباس إلى الغرب حمقه ونقصه، وإنما قدمه أبوه على سائر ولده لكبر سنه، ولأنه كان أحظاهم عنده، ولهوى كان له فيه من هوى الأبوة، ومن الناس من يعمى عن حظ نفسه وعيب ولده لهواه فيه، وإن كان أبوه حازما لا يطعن عليه، لكنه كما قال الشاعر:
ويسيء بالإحسان ظنا لا كمن
هو بابنه وبشعره مفتون
فخانه أمله فيه وأتاه من المقدور ما ليس في خلده، وهذا لصغر الدنيا عند الله، عز وجل، ولنزارة محلها، ولينبه أولي الألباب على مقدارها، وأنها لا تدوم لأحد ولا تصفو له وإن حسن تدبيره، وصح تمييزه، وقيل هو واحد زمانه.
ولم يزل أحمد بن طولون كذلك مستقيمة أموره كلها مصححة أمانيه، يعطى سؤله وإرادته حتى بلغ الكتاب أجله، فكان أول انحلال أمره وعكس قصته وتنقص الأمور عنه، أمر العباس ابنه، فانعكست العين على من آمن سبلها وأعذب شربها، وذلك ولده وقرة عينه، وأحب الأشياء كلها إلى قلبه، والمؤمل لسد مكانه، و[أن] ينوب منابه، فكان كما قال الشاعر:
أتيت في أمري من مأمني
ولم أكن فيه بمرتاب
وقد يوفى ويلقى الردى
محترس من ضعف أسباب
وذلك أنه اشتملت على العباس ابنه طائفة سوء من صنوف شتى؛ فمنهم قواد استخلصهم، واستحجب كثيرا منهم، كانوا يخافون أباه ويحسدونه بالنعمة عليه، ويتمنون تلفها وزوالها، ودخول النقص عليها من أي وجه تهيأ له، فأشاروا على العباس بالخلاف على أبيه والانحراف عنه، واتفق لهم أنه أرجف بموته لما طالت غيبته بالثغور والشامات.
منهم علي بن ماجور
1
وعبد الله بن طغيا وأحمد بن صالح الرشيدي وأحمد بن القاسم بن أسلم و[جعفر] بن حدار
2
الكاتب، وكل هؤلاء كان لأحمد بن طولون عنده النعمة الجزيلة، والإحسان التام، والأشياء الخطيرة، إلا أن الحاسد لا دواء له، ولا يقنعه إلا أن يأتي على نفس من يحسده.
ومنهم طائفة أخرى مذهبهم النحو والغريب وعلم النجوم والشعر وما يجري مجراه. وانضاف إليهم جعفر بن عبد الله وأحمد بن [المؤمل] المعروف بأبي معشر، ومحمد بن أزهر
3
المعروف بالمنتوف. وكل هؤلاء حسنوا له التغلب على مصر، والفتك بأحمد بن محمد الواسطي.
وكان العباس ممتلئ القلب من هيبة أبيه، وكل من أشار عليه لا علم له بسياسة جيش، ولا تدبير أمر، فرام العباس أن يظهر التغلب من مصر فمنعه الواسطي، وخاف دخول الخلل في الأعمال، وكان أبوه أمره قبل خروجه إلى الشام واستخلافه إياه في البلد ألا يتجاوز ما يشير عليه به الواسطي، وقال له: يا بني، إن الواسطي قد عجم أمري وعرف ما يصلحه، فأقبل عليه، وفوض الأمر إليه، وتضافرا على ما يحسن معه الأثر فيما أنتما بسبيله، وكانت هذه الطائفة تزري
4
على الواسطي عند العباس، وتقع فيه وتوحش بينه وبينه، ويحكون عنه أن ألفاظه عامية، وأنه يغلط في كتبه، ويكثر اللحن فيها - وكان العباس أديبا حسن الأدب إلا أن الكمال لله، عز وجل - وقالوا فيه من هذا المعنى ما لا يضع منه ولا يعكر فيه، لفضله وعقله، لولا عمى قلب العباس وقلب من أشار عليه. أليس البلد في يده وأمره نافذ فيه، وفيما يريده من مال وغيره، متمكن منه مبذول له؟ ولكن نعوذ بالله من الخذلان.
وكتب الواسطي إلى أحمد بن طولون كتبا بخطه، يذكر فيها ما يلحقه من سوء اعتراض العباس، ومنعه له من استيفاء الرسوم السلطانية بمصر، وأنه مقبوض اليد، ويذكر الطائفة التي استولت عليها وتخطيها في البلد إلى ما ليس من عملها، وكان محبوب بن رجاء عدو الواسطي، فكان كلما ورد من الواسطي كتاب إلى أحمد بن طولون ينفذه إليه لموضع كتابته لأحمد بن طولون، وأخذه كل كتاب يرد عليه، وكتب عنه بما يأمره به، فكان ذلك مما يزيد في غيظ العباس على الواسطي ويحقده له.
ولج العباس وجد فيما اعتزم عليه، فلخوف الواسطي من سوء العاقبة، قال له بما جعله له أبوه من اليد في البلد: إن أضربت أيها الأمير عما قد حملت عليه وإلا منعتك منه. فأجابه العباس بجواب قبيح، وخاف الواسطي تأنيب أبيه في ستر الأمر عنه، وأن يلزمه أحمد بن طولون الذنب فيما يأتيه العباس، فكتب إليه يشرح له القصة، ولم يستر عنه منها شيئا، ويذكر أن حيلته تعجز عن منعه، فأجابه يوصيه بالمداراة له إلى موافاته، فاستعمل معه ذلك حتى زاد أمره، وعجز عن مداراته، فاستتر في داره ولم يحتمل الامتهان، فركب إليه العباس وهجم عليه وأخرجه مكرها، ووجد عنده الأجوبة من أبيه عن كتبه كانت إليه في أمرها، فأخذها فلما وقف عليها اشتد خوفه من أبيه وساء ظنه به، فقيد الواسطي وأيمن الأسود وكان من غلمان أبيه وثقاته؛ لأنه أشار عليه بما يشير به الناصح.
وأظهر العباس لما قوي في نفسه الخوف من أبيه أنه يريد الخروج إلى الإسكندرية، فقال له محمد بن أبا ونظراؤه من قواد أبيه: ما يصنع الأمير بالإسكندرية؟ فقال: بلغني أن الروم تطرقها وأحب أن ألقاهم لعل الله، جل اسمه، أن يظفرني بهم. فقالوا له: بعضنا يكفيك هذا، والصواب ألا تفارق [ما جعلك] الأمير، أيده الله، عليه، والمرتبة التي رتبك فيها؛ فأنت أيها الأمير العوض منه، ومقامه في دار مملكته، فلم يصغ إلى قولهم، واستخلف أخاه ربيعة على البلد وخرج، وكتب هؤلاء القواد إلى أبيه يبلون بينهم وبينه عذرا، ويعرفونه أنه قد غلبهم على رأيهم، ولم يتهيأ لهم منعه إلا على سبيل النصح، لقوة يده وما مكنه منه الأمير.
وأخذ العباس كل ما تهيأ له من المال والمتاع والسلاح والكراع، وأخذ معه الواسطي وأيمن الأسود مقيدين وخرج، فلما صار إلى الإسكندرية أقام بها أياما ثم تجاوزها إلى برقة.
ووافى أحمد بن طولون إلى مصر فوجده قد أخذ من المال ألفي ألف دينار، ولم يقنعه ذلك حتى استسلف من التجار ثلاثمائة ألف دينار، وأمر صاحب الخراج أن يضمنها لهم ويكتب لهم بها على المعاملين، ففعل ذلك خوفا منه. وأحضر أحمد بن طولون أبا أيوب وقال له: لم يقنعك [ما أخذ] من المال حتى استسلفت له من التجار ثلاثمائة ألف دينار! فقال له: خفته، ولم يكن لي به طاقة. فلم يقبل ذلك منه، وألزمه غرمها للتجار من ماله، فبلغ ذلك منه مبلغا كشفه وأضر به، فشكا ذلك إليه، فقال له: هذا جزاء من عاون عدوي وقوى يده بمالي. فلما انكشف له ما لحقه من ذلك علم أنه لو منعه لأجرى عليه المكروه، فأزال ذلك عنه، وقبل عذره.
قال: وسعى إليه في ذلك الوقت المعروف بأبي مقاتل بن أبي ثابت بأبيه لما رأى انحراف أبيه عنه، وبأخيه المعروف بأبي حفص، لتقديم أبيه أخاه عليه، فغلظ عليه سعايته بأبيه، فقبض عليه وعلى أخيه جميعا وضربهما بالسوط فماتا، فأخذ ما كان لهما، وعطفه ذلك على أبيهما.
قال: وراسل أحمد بن طولون العباس ابنه ولطف به، وأنفذ إليه أبا بكرة بكار بن قتيبة والصابوني القاضيين وأبا محمد معمر الجوهري وزيادا المعدني مولى أشهب، وكان فصيح اللسان، حسن العبارة، قوي الفهم، وأمرهم بملاينته وملاطفته، ووعده في كتابه الصفح عما جناه، وألا يسوءه بمكروه، وحلف له على ذلك بأيمان مغلظة. وخرجوا فلما وصلوا إليه رحب بهم وأكرمهم ورفع مجلسهم، فابتدأ زياد المعدني فقال: يا سيدي، سيدنا الأمير، أيده الله، يقرأ عليك السلام، ويقول لك: يا أقرب الناس إلي، وأبرهم لدي، وأعزهم علي، خفرت ظني بك [أقوى ما كان] أملي فيك، وأرجى ما كنت لك، عن غير إساءة كانت مني إليك، ولا خطيئة ركبتها فيك، ولم ترع حسن تربيتي لك، وعظم إشفاقي عليك، وأني رشحتك لمنزلتي، وقدرت بك حياة ذكري، وصيانة شملي؛ فأرضيت عدوي، وأسخطت وليي، أيا سبحان الله! أما تخاف العقوبة في العقوق وقانيها الله، جل اسمه، فيك، وثمرة المجازاة على الإساءة، صرفها الله بكرمه عنك؟ فإن رجعت إلي فكأنك لم تذنب، وإن تمادى بك الاغترار شخصت إليك بنفسي، ولم أكن بأول من خسر سعيه وأخلف تقديره. وبكى زياد وبكى معه من حضر، فتدمع العباس، وبلغ قوله من قلبه.
فذكر زياد أنه انصرف مع الجماعة إلى دور قد أعدت لهم، وفرق فيما بينهم، وما يخالجه شك في أنه يرجع معهم إلى أبيه، لما تبينه من انعطافه وبلوغ كلامه من قلبه، فخلت به تلك الطائفة التي أغوته حتى خرج، لخوفها من أبيه، فثنته عن انعطافه. وقال له ابن حدار الكاتب: الله الله فينا وفي نفسك، انظر لنا ولك؛ فأنت تعرف أباك وغدره، فارحمنا وارحم نفسك؛ فأنت تعرف طبع أبيك وشدة غدره، فإنه يرى أن في استئصال شأفتك، وتقطيع قلبه عليك فيما يأتيه من أمرك وأمرنا بعدك، بما السياسة وتوطيد المملكة توجيه، فخف الله فينا وفيك.
وكان كلام زياد له يشبه معنى ما كاتبه [به] أبوه، وكن فيما ذكره في كتابه بعد دعاء الصدر: وراجع بك إلى الحال التي يحصل لك عاجلها، ويتوفر عليك ثواب آجلها، ولا حرمك ثواب بري وطاعتي، وصرف عنك وزر عقوقي ومعصيتي. ثم قال له فيه: أحين فقأت النعمة فيك أعين الأعداء، وبلغت الغاية القصوى من سرور الأولياء، وبلغت السن التي يكون معها انتفاع الوالد بولده، واستحكمت ثقتي بك، وحسن ظني بالأيام فيك، واستكفيت على كفايتك وعنايتك عني، أتيت ما لا يحسن بك، ولا يجمل بمثلك، أستكفي الله، جل اسمه، مئونة من حملك على ذلك، وغلبك على رأيك، فقد سعى في دينك بما ثلمه، وعيشك بما كدره، ودنياك بما نقصها، وآخرتك بما أفسدها، ومروءتك بما أزرى بها، ونعم الله، عز وجل، عليك بما يدعو إلى تبديلها وما، أنا بآيس من أن يثيبه على عظيم ما ركبه منك، وجليل ما جناه عليك في تضييعك حقي، وما ألبسك من ثوب معصيتي، وعرضك إليه من سخط الله، جل ثناؤه، وغضبه في إسخاطي ومخالفتي، فإنك إذا ميزته وتبينته لم تجده إلا أحد رجلين؛ إما رجل أطعنا الله، عز وجل، فيه، فلزمنا أخذ جناية جناها منه، أو رجل طمع في مالك فاغتنم شغل قلبك فقال: أفوز بحظ من دنياه في هذا الرهج الساطع، فإن أحسست في أمره نقصا لجأت به إلى حيث لا يعرف خبري ولا يدري أين أمري، فميز من شئت من خلصائك ونصحائك، فقد ترى أمرك، فإنك لا تجده يخرج من هذين القسمين، والله المستعان.
قال زياد: فلما غدونا إليه وسلمنا عليه وجدناه قد حال عما كنا شاهدناه منه، فقال لي: يا زياد، والله إن أبي ما نوى لي خيرا. فقلت له: يا سيدي، كيف يليق
5
هذا بصدرك وأنت تعلم أنه ما طلعت الشمس على أحب إلى أبيك منك؟! فالتفت إلى بكار القاضي فقال له: يا أبا بكرة المستشار مؤتمن، وأنا أقلدك أمري، أسألك بالله هل تأمنه علي؟ فقال له بكار، لما كان عليه من الدين والورع والزهد: قد حلف أبوك لك ألا يسوءك، فإما يفي لك بما حلف أو لا يفي، وما يعلم الغيب إلا الله جل اسمه.
فلما سمع أصحابه قول بكار، قالوا له: كيف رأيت؟ لو تحقق القاضي ما يثق به منه لما قال هذا. فكتب لنا جوابا للكتاب وشرط فيه شرائط مجحفة، وأغلظ في خطابه لأبيه بإنشاء ابن حدار الكاتب، وانصرفنا إلى أبيه وعرفناه ما جرى بيننا وبينه، ولم تزل بينهما مكاتبات ومراجعات.
ثم دعت العباس حماقته [إلى] الخروج إلى إفريقية،
6
ثقة بما معه من المال والعدة والعدة، ورأى أن ذلك يقيمه ويوصله إليها، وحسن ذلك وأطمعه فيه أصحابه، ليبعدوا عن أبيه، وصغروا عنده أمر إبراهيم بن أحمد بن الأغلب صاحب إفريقية، وكاتب وجوه البربر فتسرعت إليه منهم جماعة كبيرة العدة، وفرق فيهم صدرا
7
من المال الذي كان معه، وتخلف عنه أكابر القبائل، واعتلوا عليه بأن بينهم وبين قوم ترات، ولا يأمنونهم عند خروجهم عن أوطانهم على أموالهم وحرمهم، فرأى أن من حصل معه كاف له.
وكتب إلى إبراهيم بن أحمد بن الأغلب يقول: إن المعتمد بالله أمير المؤمنين قد قلدني إفريقية، وإنه أمره بالخروج إليها. ويأمره بإقامة الدعوة له، ورحل بأكثر من معه وأكثر المال والذخائر، حتى انتهى إلى حصن يقال له: «لبدة» ففتحه أهله له، وخرج إليه عامل ابن الأغلب به، فتلقاه بأجمل تلق فقابلهم بضد ما استحقوه منه، وأطلق لأصحابه نهب الحصن، فنهبوا وقتلوا الرجال وسبوا النساء، وهتكوا من لم يصلوا إلى سبيه، فهرب أهل الحصن إلى إلياس بن منصور الزناتي [النفوسي] رئيس الإباضية،
8
واستغاثوا إليه، وشكوا ما نالهم منه، فدخلته حمية الإباضية، فغضب من ذلك غضبا شديدا، وكان العباس قد كاتبه يأمره بالسمع والطاعة له، وإلا رحل إليه، ووطئ بلده، وبلد النفوسي بمعزل عن الناس، ممتنع لنجدته وكثرة أهله وقوتهم، ولم يؤد النفوسي إلى الأغلب طاعة قط، فرد الجواب مع رسوله يقول: قل لهذا الغلام إنك أقرب الكافرين مني وأولاهم بمجاهدتي، وقد ظهر من قبيح فعلك ما لا يمكنني معه التخلف عنك وعن جهادك، وأنا على أثر رسالتي إليك.
وكانا ابن الأغلب قد أنفذ إلى محمد بن قرهب عامل طرابلس بخادم له يعرف ببلاغ في جمع من أهل القيروان كثير، فالتقى مع العباس وكان القتال بينهم مناوشة لا مناجزة، فقاتل العباس فيها قتالا شديدا بنفسه، وكان مع نقص عقله من الرجال الفتاك، وكان جيد الشعر [ومن شعره يفتخر]:
لله دري إذ أغدو على فرسي
إلى الهياج ونار الحرب تستعر
وفي يدي صارم أفري الرءوس به
في حده الموت لا يبقي ولا يذر
إن كنت سائلة عني وعن خبري
فها أنا الليث والصمصامة الذكر
من آل طولون أصلي إن سألت فما
9
فوقي لمفتخر بالجود مفتخر
ورثت مجد أبي عنه وورثني
مجدا أناف به آباؤه الغرر
لو كنت شاهدة كري بلبدة
10
إذ
بالسيف أضرب والهامات تبتدر
يدعون لا أين والعباس يقدمهم
كأنهم حمر والليث مقتسر
إذن لعاينت مني ما تسير به
عني الأحاديث والأنباء والخبر
فلما كان من غد غاداه النفوسي في اثني عشر ألف مستنصر مقاتل، وزحف إليه أيضا بلاغ بعسكره من خلفه، فأطبق عليه العسكران، فقتل من أصحابه خلق كثير، ولولا شجاعته ورجلته
11
لأخذ، فدعته الضرورة بقتل من قتل من أصحابه إلى أن انهزم، ولحق فكاد أن يؤسر، حتى أقيل بجزالته ولطف الله، عز وجل، به وبعونه، وأخذ سواده وذخائره وجميع ما كان معه من المتاع والأموال والسلاح، وما حصله معه له من مصر وعاد إلى برقة أقبح عودة، وكان معه أيمن الأسود مقيدا فتخلص من القتل؛ لأنهم علموا بقيده أنه حرب له، وكان قد أطلق الواسطي بضمان جماعة من التجار ببرقة إحضاره إياه متى طلبه، فكان عندهم مكرما.
وشاع الخبر بمصر أن العباس قتل، فتبين الناس في وجه أحمد بن طولون كآبة شديدة وغما ظاهرا؛ لأنه وقع بذلك بين شرين؛ منها فقد ابنه إن صح، وذهاب جميع ما كان معه، ومنها الترة التي تقع بينه وبين النفوسي وابن الأغلب، إن أمسك عنها انحلت منزلته، وإن نهض إليها فبإنفاق الأموال الجليلة العظيمة التي لم تكن في حسابه، فلم يزل مغموما مهموما حتى صحت عنده سلامته، فحمد الله، جل اسمه، وتصدق بمال كثير.
وكان مما أغاظ أحمد بن طولون من مكاتبات ابنه العباس إليه، حتى استخفه إلى الخروج إلى الإسكندرية بنفسه، قوله في كتابه من إنشاء جعفر بن حدار: إلى الأمير أبي العباس أحمد بن طولون مولى أمير المؤمنين من عبد الله مولى الله، المتمسك بمناجي طاعة الله، المنحرف عن زيغ ظلم المعصية إلى وضوح سر البصيرة، القابل من الله موعظته، والعامل بما أمر به؛ إذ يقول جل ثناؤه:
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين
وقوله عز وجل:
ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه
سلام على الأمير، وعلى من استرجع وادكر، وفكر وازدجر، فأنا أحمد إلى الأمير الله لا إله إلا هو، العاطف بي إلى أرفع سنن الهداية، والعادل بي عن ظلم سنن الجهالة، وأسأله صلاة تامة يخص بها وليه وخيرته من صفوته ورسوله
صلى الله عليه وسلم .
أما بعد، وفق الله الأمير لمحال رشده، وجنبه مقابح أمره ، وسخر له الخلق عن غامض ذكره، فإن كتاب الأمير ورد على الحائد منه عن سبيل العظة والتذكير، إلى سبيل التهديد والتحذير، فبعد وقرب، وآنس وهدد، وجمع وفرع، يبذل من نفسه باليسير فيها، ويدعو إلى الصلة ويحدث غيرها، ويعرض من ماله الأنفس، ويصير من خطابه الأنزر، ويعدد من واجب حقه، ولازم مفترضه، ما أعترف به مصدقا لمن اعترف بالطاعة محققا، وأذعن به لمن أذعن وحاد عن الشك، ووقفت منه على ما أطنب حاطا وحوف عاما ومهمه [؟] فإن استخذأت لاتباع موافقتك وتطامنت ترغبا عبر محاورتك [؟] فلقد اضطرتني الطاعة، وأنجذتني الحاجة، إلى إقامة عذر يتضح لك في استجلاب مرضاتك ما تجاوزت عما يدهمني، فهبت في جواب الأمير مقام الأمير.
إن فهت ضاع دمي [؟] وإن سكت فمثل النار في كبدي، وبالله أستعين على بلوغ طاعته، وإليه الرغبة، جل اسمه، في استصلاحك، وتحصينك من زيغ شيطانك، وأما ما قرعت بذكره ووبخت موضعه في غير كتاب صدر منك في غير جواب ورد، من انحرافي عن سبيل طاعتك وحنقي عن موالاتك، والتماسي ابتزاز ملكك، فوالذي اضطرني إلى مجادلة من أوجب الله، عز وجل، علي حقه، فإن حججته أوحشته، وإن قصرت عن الحجة نقصت عنده، ما حلت عن مخايل ظنك، ولا كنت مذ نشأت إلا تحت طاعتك، لكنه اكتنفني أمران واجبان مقرون حقهما بحق الله، جل اسمه، وحق رسوله
صلى الله عليه وسلم ، وسمعت الله، جل اسمه وعلا، يقول:
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله .
فكان أكبر ما عندي في تأدية حقك القعود عن نصرة من لزمني مشايعته، ووجبت علي معاونته، وقبلت من الله، عز وعلا، أدبه في حسن هجرتك، يقول الله، عز وجل:
وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا
فلو ذهبت إلى ذكر ما أتى الله به، عز وجل، في كتابه المنزل على نبيه
صلى الله عليه وسلم
لطال به كتابي، وقامت به عليك حجتي. والآن فقد خليت عما قلدنيه أمير المؤمنين، وما قبلت له تكرمته وإنعامه من جميع أعمال حضرته؛ خوفا من أن أقوم فيها بالحق فأسخطك، وانكفأت إلى هذه الناحية هربا من موجدتك، وطلبا للقيام بحقك، أيها الأمير، ولا أبين بقيامي فيما جعل إلي ما يخلفك فيه النقيصة، إذا كان حبل أمير المؤمنين قد اضطرب في يدك، فوهت قواه وانحل مبرمه وتداكت
12
عساكره في ذلك كما تداك الإبل اللواقح على الحياض الطوافح، وسبلي من اتبع رضاك أيها الأمير، وتوقف عما تكره التصرف فيه أن تعرف له ذلك، ولا تجازي عليه بخلاف ما يستوجب.
وأما تخويفك أيها الأمير إياي بخيلك ورجلك وعددك وعتادك، فلو نظرت بعين النصفة ونطقت بلسان المعدلة؛ لانفرج عن لبك رين الشبهة، وانفتح من سمعك ما استد سمعه بالشهوة، فسمعت بعد وقر، وعرفت بعد نكر، أني لو آثرت ما إليه قصدت من مقاومتك، لدفعتك عن محل عزك، وما انحرفت عن دار ذلك، ولأقمت بها مظهرا الحق داعيا إلى طاعة الله، عز وجل، وفي جواري من يجيب صريخ الحق إذا استصرخته، ثم لو كشف لك عن قناعه، وحسر عن ذراعه، لتطامنت لوطأته الليوث الغضاب، ولتضعضعت لروعته الصم الصلاب، فلو لزمت ما بدر إليه ظنك لغورت مشاربك، ولدثرت مسالكك، ولاستصعب على الراكب مركبه، ولحيل بينهم وبين ما يشتهون، لكني آثرت الله، عز وجل، وما لديه، فألقيت أزمة أمرك سخيا بها، وسوغتكها مطرحا لها زاهدا فيها، وانقطعت إلى ناحيتي هذه لقلة قدرها وبعد محلها، لأخفي شخصي بها لا لما شرطت القول فيه وأطلت الخطب به، والله، جل وعز، يجزي الشاكرين.
وأما عرضك أمانك قبل انجذاذ الحبل، فإن الله تبارك وتعالى يقول:
ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين
ويقول جل اسمه:
لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه
ولقد مدح خليله
صلى الله عليه وسلم
في قطعه رحمه فيما حصر دينه فقال:
وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم .
والكتاب طويل، وإنما اختصرنا منه هذا القول.
فلما ورد كتابه أغاظه وبلغ منه وخرج إلى الإسكندرية وأجابه يقول:
13
إلى الظالم لنفسه العاصي لربه المثلم لدينه
14
المبخوس من حظ دنياه وآخرته، سلام على كل منيب مستجيب من قريب.
أما بعد فإن مثلك مثل البقرة تثير المدية بقرنها، والنملة يكون حتفها في جناحها، وستعلم، هبلتك
15
الهوابل، أيها الأخرق الجاهل الذي ثنى عن الحق عطفه، واغتر بضجيج المواكب خلفه، أي مورد هلكة سلكت، إذ على الله، جل اسمه، تمردت؛ فإنه تعالى قد ضرب لك
مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون
16
واعلم أن البلاء بإذن الله قد أظلك، والمكروه قد أحاط بك، والعساكر قد أتتك كالسيل في الليل، تؤذنك بحرب وويل، فإني لأقسم، وأرجو ألا أجور وأظلم، ألا أثني عنك عنانا، ولا أوثر على شأنك شانا، فلا تتوقل ذورة أو تلج بطن واد، إلا تبعتك وطلبتك حيث يممت وسلكت، حتى تستمر من عيشك ما استحليت، وتستدفع من البلايا ما استدعيت، حتى لا دافع، بعون الله، يدفع عنك، فتعرف من قدر الرخاء ما جهلت، وتود أنك هلكت، ولم تأت بما إليه عجلت، ولا رأي من أطاف بك من الغواة قبلت، فحينئذ يتفرى
17
لك الليل عن صبحه، ويسفر [لك] الحق عن نصحه، فتنظر بعين لا غشاوة عليها، وتسمع بأذن لا وقر فيها، وتعلم أنك كنت مستمسكا بحبل غرور متماديا، وسالكا سبيل ضلال لا تجد له هاديا، من عقوق لا ينام طالبه، وبغي لا يفوت هاربه، وتقف على سوء رويتك، وعظيم جريرتك، في تركك قبول الأمان، وهو لك مبذول وأنت عليه محمود، واليد عنك كافة والسيف عنك مغمود، فتتلهف واللهف غير نافعك، إلا أن تكون أجبت إليه سريعا وأقبلت نحوه هرعا،
18
واعلم أنك لا تقصد موضعا إلا تلوتك، ولا تأتي بلدا إلا قفوتك، ولا تلوذ بعاصم لينجيك، إلا استعنت بالله عليه وعليك، فما يجيرك إلا أحد رجلين؛ إما لدين أو لدنيا، فأما الدين فأنت بحكمه مفارق؛ لأنك عاق مشاقق، وأما الدنيا فما أحسبه بقي معك من حطام ما سرقته، مما حملت نفسك على الاستبداد به، ما يفي بمكاثرتنا، مع ما وهبه الله، جل اسمه، لنا من جليل نعمه التي نستوزعه الشكر عليها، ونرغب إليه في إدامتها،
19
وما دعاني إلى إرفاقك والتسهيل من خناقك طول هذه المدة إلا أمور؛ منها استضعاف أمرك واحتقارك، وقلة الاحتفال به واستصغاره، ومنها أن جعلنا تركك على ما اخترته عقوبة لك من إباقك إلى أقصى البلاد، مبعدا عن الوطن والأهل والراحة والمهاد، وقد فارقت بلدك، وحرمت أهلك وولدك، ومنها أنا علمنا يقينا أن الوحشة دعتك إلى الانحياز حيث انحزت، فأمهلناك ليسكن نفارك، وقلنا إنك تحن إلينا حنين الولد ذي الحسب، وتتوق إلينا توقان ذي الرحم والنسب،
20
فلم تسمع من واعظ، ولم تعتد بمحافظ، وأما الآن وقد اضطررنا إلى الانزعاج نحوك، لاستعمالك المواربة والمخادعة فيما يجري عليه تدبيرك، فما أنت بموضع للصيانة، بل حقيق باللعنة والإهانة، فعليك من ولد عاق لعنه الله ولعنه اللاعنين، والملائكة والناس أجمعين، لا قبل الله لك صرفا ولا عدلا، وحاط بك حيث كنت ولا حاطك حيث توجهت،
21
وستعلم أيها المخالف القاطع رحمه العاصي ربه، أي جناية على نفسك جنيت، وأي كبيرة أتيت؛ فتندم إن كانت لك روية، وفيك فضل إنسانية، وتود أنك لم تكن ولدت، ولا في الخلق عرفت، إلا أن ترجع
22
راغبا، وتسرع خاضعا إلى ما قبلنا، فنقيم الاستغفار لك مقام اللعن، والرقة مقام الغلظة والوهن، والسلام على من سمع الوعظ فوعاه، وذكر بالله فاتقاه.
وسير من الإسكندرية إليه العساكر، وهم بالنفوذ إليه بعدهم، حتى وافاه الواسطي؛ لأنه تهيأت له الحيلة عند انهزام العباس من النفوسي فتخلص بذلك، وعمل الحيلة حتى هرب منه إلى أبيه، فوافاه وقد تم عزمه على اللحوق بالعسكر، فمنعه وقال له: حاله أصغر من ذلك، وأنا أكفيك أمره مع بعض قوادك، والصواب أن ترجع إلى بلدك ومقر عزك، فقبل منه، وأنفذ الواسطي مع طبارجي وجماعة من وجوه أصحابه، وطبارجي مؤمر على الجيش، وعاد أحمد بن طولون إلى مصر، فلما قرب طبارجي من العباس خرج إليه مدلا بنفسه، ونسي هزيمته في أمسه، فلما التقى العسكران استأمن إلى طبارجي جماعة من وجوه أصحاب العباس فقبلهم، وخلع عليهم، وقامت الحرب بينهم على ساق، وتعارك الفريقان، فصبر أصحاب العباس الباقون هنيهة، حتى دهمهم ما لا طاقة لهم به، ثم ولوا منهزمين لا يلوون على شيء، فذكرت قول البحتري:
لما رأوك تبددت آراؤهم
وغدا مصارع حدهم مصروعا
فدعوتهم بظبا الصفيح
23
إلى الردى
فأتوك طرا مهطعين خشوعا
حتى ظفرت بعزهم
24
فتركته
للذل جانبه وكان منيعا
فقتل منهم وأسر خلقا كثيرا، وولى العباس منهزما في شرذمة من غلمانه، وسرب طبارجي خلفه الرجال، وبادر فكتب إلى أبيه كتاب الفتح، وكتب بذلك الواسطي نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم، كتابي هذا وقت غروب الشمس، من يوم الإثنين لسبع بقين من جمادى الآخرة، وقد وضعت الحرب أوزارها، وأظفر الله، جل اسمه، عبد الأمير، وجمع أوليائه، وأيدهم ونصرهم وأحسن معونتهم، ودمر على الملعون العاق الشاق الغادر العباس، وضرب وجهه، وقتل أكثر الفجرة الذين كانوا معه، وأمكن من خلق كثير منهم، والحمد لله الذي أجرى الأمير، أيده الله، على عوائده عنده، وجعل أولياءه المنصورين، وحزبه الغالبين، وأعداءه ومن عدل عن أمره المقهورين، حمدا يكون قضاء لحقه، وكفاء لإحسانه، وامتراء للمزيد من فضله، تبارك اسمه وجل ثناؤه.
وكنت عند نزولنا المنزل المعروف بدي حنى [؟] قد أكملت أمر المقدمة والساقة والميمنة والميسرة، وسرنا على تعبئة، حتى وافينا المنزل المعروف بدينار الذي كتبت كتابي هذا منه، وكان اللعين قد وافى هذا المنزل من أول النهار، مستعدا بجموعه وحشوده، فلما توافت الفئتان تسرع إلينا مدلا بنفسه، متماديا في غيه، فحملت ميمنته على ميسرتنا، فأعان الله، جل اسمه وله الحمد، الأولياء على فلها، وحملت ميسرتنا على ميمنته، وحملت أنا في أثرها من القلب، محتسبين واثقين بنصر الله، عز وجل، متوكلين عليه، فولى القوم منهزمين، قد ضرب الله وجوههم، ومنح أكتافهم، وقذف الرعب في قلوبهم، وأتبعتهم الأولياء يقتلون فيهم ويأسرون منهم، وقبل ذلك ما استأمن إلينا جماعة من مشهوريهم، كتابي يرد على الأمير، أيده الله، بأسمائهم، ولم يصب أحدا من الأولياء بحمد الله شيء يكرهه، ومضى اللعين على وجهه في نفر يسير من غلمانه، فأتبعته بصيرا وأنعج وكنجورا وهم مدركوه بمشيئة الله وعونه، وفي غد نكتب إلى الأمير، أيده الله، بشرح القصة، وبادرت بكتابي بهذه الجملة ليتعجل الله، عز وجل، إليه السرور بما من الله، جل اسمه، ويحمده على ما أولى من إنعامه.
قال مؤلف هذا الكتاب: وورد الخبر بأن الطائفة التي أنفذها طبارجي خلف العباس لحقته، فقتل من غلمانه جماعة وقبضوا عليه أسيرا فأتوا به طبارجي، فقيده وحمله من وقته إلى أبيه، وأمر بصيرا وأنعج وكنجورا أن يتقدموا به إليه، وأنفذ كتابا بالشرح، فلما وصل إليه الكتاب حمد الله كثيرا وتمثل، وما تمثل بشعر قط:
وبعثت
25
من ولد الأغر معتب
26
صقرا يلوذ حمامه بالعوسج
27
فإذا طبخت بناره أنضجتها
وإذا طبخت بغيرها لم تنضج
وهو الهزبر إذا أراد فريسة
لم ينجها منه صياح الهجهج
28
ومد طبارجي إلى برقة، فدخلها وأصلح من حالها ما كان فسد، واستخلف فيها خليفة ورجع إلى مصر، وحمل بين يده الأسرى والرءوس، ودخل إلى البلد على تعبئة حسنة وترتيب، فلما وافوا بالعباس إلى الجيزة أخرج إليه جميع الجيش، وذلك في سنة سبع وستين ومائتين، فلما لقوه زفوه
29
بين أيديهم وأدخلوه البلد في قبة مكشوفة وهو مقيد وعليه قرطق ملحم،
30
وعلى رأسه عمامة
31
فشقوا به البلد، حتى إذا وافوا به الثلاثة الأبواب، أمر أبوه بإنزاله عن القبة، وأركب بغلا بإكاف، وساروا به كذلك حتى إذا بلغ إلى باب الميدان أوقف موضعه في الشمس.
وأدخل بصير وأنعج وكنجور وأصحابهم فخلع أبوه عليهم، وأحسن إليهم، وأخرجوا بين يديه وهو يرى ما فعل بهم من الجميل ، وهم مسرورون فرحون، وأمر به إلى حجرة فاعتقل فيها، ولم يزل معتقلا حتى وافى طبارجي.
فلما وافى أمر أحمد بن طولون بإخراج الجيش لتلقيه، فخرج بأسره وتلقي، ودخل ودخلوا بين يديه في أحسن زي وأجمل تعبية، والأسرى بين يديه والرءوس، فشق البلد حتى وصل إلى الميدان، فلما دخل إلى أحمد بن طولون خلع عليه خلعا حسانا، وحمل بين يديه أكياسا كثيرة دنانير ودراهم، وحمله على فرس نادر بسرجه ولجامه، وخيل تقاد بين يديه، وانصرف إلى داره في أجل حال.
وأمر أحمد بن طولون بالأسرى إلى الحبس، وبالرءوس أن تنصب على القسي ليراها من لم يرها ويشاهدها، ويشاهد منها كل معروف، فيأيس منه من أهله من خفي عنهم أمره. وأمر بأن تبنى دكة عظيمة السمك عالية خارج الميدان، فبنيت فلما فرغ منها ركب إليها وصعد من سلم عمل لها [من] حجارة عظيمة، ففرش له عليها، وجلس عليها وحده، منفردا من سائر أصحابه إلا خواص غلمانه.
فأول من دعا به فقدم أبو معشر فضربه ثلاثمائة سوط، وأمر بالعباس فأحضر، وأوقف بين يديه، فأمره بأن يقطع يدي أبي معشر ورجليه، فدفع إليه سيفا فتقدم فقطع يديه ورجليه، وألقي من أعلى الدكة إلى الأرض، فما وصل إلى القرار حتى مات، ثم قدم إليه المعروف بالمنتوف فأمره أيضا فقطع يديه ورجليه، ورمى به من أعلى الدكة إلى الأرض، ثم قدم ابن حدار
32
الكاتب، وكان غيظه عليه أشد وحنقه عليه أعظم؛ لأن كتب العباس إليه كانت بإنشائه، فأمره فقطع يديه ورجليه ورمى به إلى الأرض.
وكان أحمد بن طولون إذا قرأ كتابا من العباس إليه، تمر به اللفظة البشعة فيقول: هذا من كلام أبي معشر، وهذه اللفظة من كلام الشيخ السوء ابن حدار،
33
وهذا من كلام فلان وهذا من كلام فلان؛ لأنه كان يعرف كلام كل واحد منهم ومذاهبهم، ثم ضرب أعناق الباقين من الأسرى، أعاذنا الله من البلاء كله، إلا رجلين من عليهما بالعفو لحرمة كانت لهما به؛ أحدهما جعفر بن يارجوخ؛ لأنه كان زوج ابنته، ولأن أباه كان صاحبه، فأمر بحبسه، ثم أطلقه على أن يطلق ابنته ويخرج عن بلدها فطلقها، وخرج فمات بنواحي الموصل، ورجل يعرف بابن عبيد، ذكر لأحمد بن طولون أنه خلص ابنه العباس من النفوسي بالغرب في وقت محاربته له، وأنه لولاه ودفعه عنه وبذله مجهوده في محاربته عنه، لكان قد أسر وقتل، فحفظ له أحمد بن طولون ذلك في العباس، فعفا عنه وأطلقه، وأحسن إليه واصطنعه.
فلما فرغ العباس من قطع أيدي أصحابه
34
دعا به أبوه فقال له: قبح الله هذا من رأي وعقل، ويل لك بهذا العقل وبهذا الرأي قدرت الرياسة؟ يا ويلك لم لم تجعل العوض من مبادرتك وتسرعك إلى قطع أيدي أصحابك هؤلاء، استلقاءك بين يدي وتضرعك إلي ومسألتك إياي الصفح عنهم وعنك، والعفو عن جميعكم؟ فكان ذلك أجل لك وأعظم لمحلك وأكبر لمنزلتك؟ وتقضي بذلك حق من حمل نفسه في طلب مرضاتك ومساعدتك على خطة الهلاك فيها، وقد فارق وطنه وأهله وولده وتبعك في هواك فجعلت، يا ويلك، مجازاته على ما تحمله فيك من المكروه قطع يديه ورجليه بيدك، ثم إيتام ولده وإرمال عياله، ولكن ما وفقت لما تأتيه فتصونهم عما حل بهم منك منة عليك، وعزيز علي أن يكون هذا وزنك، ومقدار عقلك.
فلما تفرق الجمع أمر به فبطح وضربه بيده مائة مقرعة، فكان يضربه ودموعه تنحدر، كأنه [هو] المضروب، وأمر باعتقاله في داره!
قال مؤلف هذا الكتاب: وغلب الحسن بن مهاجر على أحمد بن طولون، فحسن له جمع الأموال، ومنعه من سماحته وجريه على عادات كانت له جميلة؛ فقبل رأيه وتغيرت سماحته، واستقصى ابن مهاجر على الناس، ومنع كل من كان يبسط عليه عائدته، ويشمله معروفه وفائدته، وظهر ذلك فانحرفت عنه القلوب، وتغيرت له النفوس كما قالت الحكماء: ترك العادات ذنب محسوب.
حدث أحمد بن محمد الواسطي أحمد بن إبراهيم الأطروش بعد وفاة أحمد بن طولون، وقد اجتمعا فتفاوضا أخباره فقال: فارقت أحمد بن طولون، رحمه الله، وقت رجوعه إلى مصر من الإسكندرية ، ورجوعي إلى برقة مع طبارجي للقاء العباس، وهو أمير نبيل سمح واسع الصدر في العطاء والبذل في أبواب الخير على حسب ما رأيتم منه، وعدت من برقة مع طبارجي إليه وهو أمير ممسك ضيق الصدر بخيل مطرح لما جرت به عادته، فتطيرت يشهد الله له بذلك؛ لأني ما رأيت سمحا قط ولا تحدث به انتقل عن سماحته، ودق نظره في توفير ماله، إلا عند حضور منيته.
ولما انقضى أمر العباس ابنه وهو كان ابتداء انحلال أمره، تنكر عليه لؤلؤ غلامه وكان عمدته وعليه كان معوله، لتتم مشيئة الله، عز وجل، فيه بانقضاء عمره، وزوال ملكه، كما يجري حكمه، جل اسمه، على سائر خلقه، عند انقضاء المدة، وتكدير المحنة، وتنغيص العيش، وإذا أراد الله أمرا أتى بعضه يتلو بعضا ليؤدب بذلك المؤمنين، وينبه به المعتبرين، ويخفف به عن قلوب المتقللين كما قال بعضهم:
35
إذا ما كساك الدهر سربال صحة
ولم تخل من قوت يحل ويعذب
36
فلا تغبطن المكثرين
37
فإنه
على قدر ما يكسوهم الدهر يسلب
فلما خلا قلبه من ابنه العباس، واطمأن بالظفر، وأمن ما كان يتخوفه، تحدرت عليه الغير من جهة أخرى، فتنكر عليه لؤلؤ غلامه الذي كان أقربهم إلى قلبه محلا، وأشدهم مكانا وزلفى! رباه صغيرا، ومده كبيرا وكهلا، وعلى حسب ذلك سد به الثلمة التي خاف منها، وجعله المحامي والذاب عنها، فكان دخول الخلل عليه من أوكد احتياطه، وانحلال مبرمه من أوثق رباطه.
حدث أسامة بن حباب وكان مضموما إلى لؤلؤ، قال: حمل أحمد بن طولون غلامه لؤلؤا في خرجته إلى أعماله بديار مضر،
38
بما لا يتسمح به لأحد من أولاده، ولا غيرهم من خاصة أصحابه المخصوصين به من مال ومتاع، وكراع وآلة، وكل ما يحتاج إليه وما لا يحتاج، ثم أمر أن ينادى ونحن يومئذ معسكرون بمنية
39
مال الله ببراءة الذمة من أي رجل من رجال الأمير أبي محمد لؤلؤ دخل إلى المدينة، وليست معه حجة منه إلا حل به غليظ المكروه. قال:
نفقت لي دابة، فاستأذنت لؤلؤا في الدخول إلى الفسطاط لأعتاض منها، فأذن لي، فأخذت كتابه إلى أحمد بن طولون مولاه، ودخلت ليلا، فإني لسائر إذ تعثر فرسي بشيء، فنزلت أنظر، فأصبت كيسا فأخذته وركبت، ووافيت منزلي فنظرت الكيس فإذا به مملوء دنانير، وكانت لي امرأة صالحة، فحدثتها بخبره فأحضرت الميزان فوزنت الدنانير، فكانت سبعمائة دينار، فقالت لي: يا هذا لا تشره نفسك إليه، فلعله لمن لا يملك غيره، ولكن عرف به وخذ جعلك منه حلالا موفرا، يجعل الله لك فيه البركة، فسكنت إلى قولها، فلما أصبحت أخفيت شخصي من أن يراني أحد، فيعرف أحمد بن طولون خبري، فأحتاج أن أقيم الحجة في دخولي، فوجهت إلى صديق لي في ابتياع دابة عوضا من دابتي.
فبينا أنا كذلك إذ سمعت النداء: «من دلنا على كيس فيه دنانير جعله مائة دينار حلالا طيبا وأجره على الله.» فقالت لي زوجتي: كيف ترى؟ مائة دينار حلال خير من سبعمائة حرام. فقلت للغلام: أدخل المنادي. فدخل ومعه إنسان من التجار سيماه تدل على أنه خشن الطبع، فقلت للمنادي: أين صاحب الكيس؟ فقال: هذا هو. فقال لي: الكيس عندك؟ قلت: نعم، وجدته في الطريق بموضع كذا وكذا. قال: هاته. فأخرجته إليه، فلما رآه لطم وجهه، وقال: ذهب مالي. وصاح: أنا بالله وبالأمير. ثم قال لي: الأمير بيني وبينك. فخشيت أن يسمع أصحاب الأخبار، فيذهبوا بي إلى أحمد بن طولون، فبادرت بالخروج معه اضطرارا، وقلت لزوجتي: رضيت؟ هذا رأيك الحسن ومشورتك الجميلة، ولكن ليس العجب إلا مني حيث قبلت منك. فقالت لي: لا تخف فإن الله، عز وجل، معك.
فحملت الكيس معي، وأخذت كتاب لؤلؤ إلى أحمد بن طولون حجة في دخولي، فلما توسطنا الطريق قام إلي أصحاب الأرباع،
40
فأريتهم كتاب لؤلؤ وعرفتهم ذهابي به إلى الأمير، ومضينا حتى دخلنا إلى أحمد بن طولون فقال لي: ألم تخرج مع لؤلؤ؟ قلت: نعم، أيد الله الأمير. قال: فلم دخلت؟ فعرفته خبري في دابتي ودفعت إليه كتاب لؤلؤ، فلما قرأه قصصت عليه خبري وخبر الكيس، وما كان من الرجل، فأحضره فقال له: كم كان في كيسك؟ قال: ألف دينار. فأمر بإحضار الميزان ووزن الدنانير بين يديه، فوزنت فكان مبلغها سبعمائة دينار، فأمر بردها إلى الكيس، فقال لي: اقبض أنت الكيس إليك إلى أن يجيئك صاحبه. وقال للرجل، اطلب أنت كيسك جميع الله عليك. فقال: أيها الأمير الله الله في، هو والله كيسي. فقال له: لو كان كيسك لما ادعيت أكثر منه. وأمر بإخراجه فأخرج، وقال لي: امض لشأنك فانصرفت بالكيس وابتعت منه الدابة واتسعت، فقالت لي زوجتي: كيف رأيت مشورتي؟ لو استحقه التاجر لما حرمه الله إياه، وجعله رزقا لك. فتركت باقية عند زوجتي، ورجعت إلى لؤلؤ فحدثته بما جرى، فضحك وأمر لي بفرس. وكانت هذه الخرجة العظيمة التي بلغ أحمد بن طولون بلؤلؤ فيها كل مبلغ جليل هي التي خفر به فيها واستأمن إلى الموفق.
قال مؤلف هذا الكتاب: كان أحمد بن طولون إذا أنكر على لؤلؤ شيئا أوقع بكاتبه محمد بن سليمان، وقال: هذا منك ليس منه. فحمل محمد بن سليمان الخوف من أحمد بن طولون على أن حسن للؤلؤ حمل جملة من المال في الأعمال، والاستئمان إلى الموفق، فمنع عامل الخراج لؤلؤا من المال، واستخف برأي محمد بن سليمان، حتى أخذ جميع ما أراد من أموال الأعمال، فلما حصل له المال قال له محمد بن سليمان: قد علمت ما فعل بابنه العباس، وهو أعز الناس عليه، وقد تخلصنا منه، فإن لم تبادر وإلا لم نأمنه. فأجابه إلى ما أشار به عليه.
فكتب محمد بن سليمان إلى الموفق عن لؤلؤ كتابا يعرفه رغبته في المصير إليه، والتصرف تحت أمره ونهيه، والدخول في طاعته، فاستبشر الموفق لذلك، لما في نفسه من مولاه أحمد بن طولون، وابتهج له، ورأى أن ذلك إحدى الفرص التي ينتهزها ويبادر إليها، فأجابه بأحسن جواب وأنفذ إليه خلعا وحملانا.
وكانت مع لؤلؤ طائفة من خواص أحمد بن طولون، فقدر فيهم أنهم يساعدونه على ما اختاره، فلما تبينوا حاله أنكروا ذلك ولم يساعدوه، فكان أكثر ما قدروا عليه، لما خرج الأمر من أيديهم، أن تركوه وانصرفوا عنه إلى مولاه بجملة خبره، فلما وردوا عليه وشرحوا له حاله، وما هو عليه، تكدر عليه مشربه الذي كان يشربه فيه، ومر مذاقه الذي كان يستحليه، لنكد الدنيا وأيامها، كما قال ابن الرومي:
تذكر ساعة ألعقت فيها
وأنت وليدها عسلا وصبرا
لتعلم أن هذا الدهر يمسي
ويصبح طعمه حلوا ومرا
وظن أحمد بن طولون أن المخادعة تمكنه من لؤلؤ والملاطفة تثنيه، ولم يعلم أن سبب زوال ملكه يكون على يدي محمد بن سليمان لما حقده عليه من أفعاله به وحققه منه.
فكاتب أحمد بن طولون لؤلؤا [وأرسل إليه] كتابا يلاينه فيه، ويذكره تربيته له، وما يجب من حقه، وكان من بعض ألفاظه في مكاتبته له: «وفقك الله لطاعته، وراجع بك إلى ما هو أعود عليك دينا ودنيا برحمته، إنه ليس شيء يبلغه والد شفيق، ومستصلح رفيق، من مواصلة وعظ، وتنبيه على حظ، أو دلالة على رشد، وحض على سلوك قصد، إلا وقد بلغنا أقصى نهايته [معك] وأبعد غايته فيك، ضنا بك وشحا عليك، وتأميلا لمراجعتك، وما تركنا شيئا ظنناه يؤنس وحشتك، ويرفع محلك، ويتجاوز به حق حرمتك، إلا وقد أتينا منه، على ما نرجو أن يكون لروعتك مسكنا، ولنفسك مؤنسا ومطيبا، ولك من كل خوف موقيا.
وليس يمنعنا ذلك من تكرير القول عليك، رجاء أن تصادف مواعظنا إياك إصغاء إليها وإصاخة لها، لينفعك الله، عز وجل، بها نفعا كبيرا، ويصرف بها عنك شينا كثيرا، وقد تبينت بما كان من مفارقتك لنا ما قارفته من معصية الله، جل اسمه، فينا، وتعرضك لما تعرضته من سخطه بانحرافك عن طاعتنا، واختيارك لنفسك ما كنت عنه غنيا، وعليه ثقة أمينا، فانظر هل نلت بذلك فيما بلغت عاجل دنيا؟ أو آجل صلاح وجزيل [أجر]؟ بل قد سعيت في فسادهما، ثم تأمل الحال التي أنت عليها، والحال التي انتقلت عنها، في أيهما كنت أرخى بالا وآمن سربا وأروح بدنا وقلبا ، لتعلم أنك لم توفق في ذلك، ولم تسدد في اختيارك؛ لأن الله، عز وجل، وكلك إلى نفسك، فاستفزك الشيطان وأضلك.
لقد تبين لك غرور ما أتيته بتبديد شملك بعد اجتماعه، وانصداع شعبك بعد التئامه، واتضح لك ما كنت أحذرك وقوعه، من قلة رضا جماعة الأولياء والموالي بك، واستنكافهم من رياستك؛ إذ زالت عنك شمسنا، فحرمت هيبتك التي ألبسك الله، عز وجل، بنا، من تنكر[هم] لك وانصرافهم عنك، وما تنتظر الشرذمة الباقية معك إلا إمكان الفرصة بمثل ذلك، محاماة منهم على أديانهم، ووفاء بأيمانهم، فكيف بك إذا صرت إلى العراق بحال مع من لا يدفع عنك عدوا، ولا يصرف عنك سوءا، وقد فارقت العش الذي فيه درجت، وموطنك الذي منه خرجت، ومولاك الذي في حجره ربيت، وفي نعمته غذيت، وصرت إلى من لا يرعى فيك إلا
41
ولا ذمة، ولا يوجب لك حقا ولا حرمة، بل يجعلك مغنما وفيئا
42
مقتسما، يدنيك ويمنيك، لا حرصا عليك بل ليحتوي على ما معك ويستصفيك.
وقد كتبت إلى أمير المؤمنين وإلى من لعلك تقصده، أعلمهم أن المال الذي اختزلته من أعمالنا هو مما أمرتك بحمله إلى باب السلطان، أعزه الله، ومبلغه ألف ألف دينار، فأي حجة أبلغ لهم من كتابنا إليهم أن المال لهم ومحمول إليهم؟ فهل تكون بعد استنضاف ما معك إلا بين أمرين؛ إما أن يردوك علينا متقربين بك إلينا، أو نبذل لهم في ردك إلينا مالا يرونك عوضا منه؟ فيكون مصيرك إلينا على جهة القهر والأسر ما الموت أيسر منه، أفهذه المنزلة خير لك أو مراجعتك الواجب عليك؟ وإنابتك إلى ما هو أولى بك، مما تختاره ويرجع إلى محصول، ويئول إلى معقول، فيكون مصيرك إلينا بوجه مسفر غير كاسف، وقلب مطمئن غير خائف.»
والرسالة طويلة، وإنما اقتصرنا على هذا منها.
وكان أحمد بن طولون بإقباله [يصيب] فيما يتخوفه من ظن يظنه وحدس يحدسه مما قدمنا ذكره بالمعنى فيه، المنبه على صلاحه، حتى إذا بلغ الكتاب أجله انقلبت العين، وتتابعت المحن.
حدث نسيم الخادم قال: كان مولاي إذا خرج إلى نزهة يحب الولع بقوس البندق،
43
وكانت نزهته حول الجب لا يعدوه، فخرج يوما إلى النزهة ونزل في مرج حسن، وكان قوس البندق بيده، فمر به حمام طائر فضربه فسقط، وأخذناه فإذا في أصل جناحه رقعة كالكتاب فإذا فيها: «قد استراح مولاي محمد فخذوا حذركم، وارفعوا كل شيء فقد عصا الأمير لؤلؤ.» فأمر مولاي من وقته بإحضار خادم كان على مخلفي لؤلؤ فأحضر [وقال له]: من منكم له حمام هدي؟ ومن لكم عليل في عسكر لؤلؤ؟ فقال له: ليس في دارنا يا مولاي حمام هدي، ولكن لعبيد الله بن سليمان أخي كاتبنا محمد طيور تسرح، وقد كان مغموما بعلة أخيه محمد بن سليمان، فأمر مولاي بالقبض على عبيد الله بن سليمان من ساعته.
وأسر وجده بلؤلؤ وأظهر التهاون بأمره، وفي قلبه منه أحر من الجمر، وأظهر أن غمه بالمعتمد، لما بان للناس من غمه بما يلحق المعتمد من الموفق من التقصير في أمره والمهانة، وما يخافه عليه من القتل، وأنه لا يسعه في أيمانه المؤكدة عليه في عنقه بالبيعة أن يغمض في أمره، وأنه يريد الخروج لنصرته، وليفكه من تلاعب أخيه به، واستيلائه على الأمور دونه، وإنما يقصد في خروجه أن يبلغ كل مبلغ يصل به إلى القبض على لؤلؤ، فأنفذ إلى المعتمد بالله رسولا خفي الشخص، رث الهيئة، إلا أنه كامل محصل، وأنفذ إليه معه سفتجة بمائة ألف دينار، وكتب معه إليه كتابا هذا منه، وذلك في سنة ثمان وستين ومائتين:
قد منعني الطعام والشراب والنوم خوفي على أمير المؤمنين من مكروه يلحقه، مع ما له في عنقي من الأيمان المؤكدة، وقد اجتمع عندي مائة ألف عنان أنجاد، وأنا أرى لسيدي أمير المؤمنين الانجذاب إلى مصر، فإن أمره يرجع بعد الامتهان إلى نهاية العز، ولا يتهيأ لأخيه فيه شيء مما يخافه عليه منه في كل لحظة، فإن رأى أمير المؤمنين، أيده الله، ذلك صوابا قدمه إن شاء الله، وأظهر الخروج لهذه القصبة.
فحدث أحمد بن محمد الواسطي قال: قال لي أحمد بن طولون: أليس الرأي عندك أن أخرج بجميع جيشي وعدتي كلها حتى أنتاش أمير المؤمنين من تلاعب أخيه الموفق به وأنقل كرسي الخلافة إلى مصر؟ فإن بيعته التي في عنقي تقتضي هذا له مني. فقلت له: ما تبلغ معرفتي وفهمي الكلام في هذا الباب، ولكن في محبسك من إن أحضرته واستشرته أشار، لفهمه ورجحان عقله، عليك بالصواب. فقال: ومن هو هذا؟ فقلت: محمد
44
بن إسماعيل بن عمار، فقال لي: صدقت إنه لكذلك، ولولا نفوري منه لخوفي من غوائله ودهائه لما كان بحيث هو، وكان معي في أجل حال، فأحضرنيه. فوجهت من وقتي فأحضرته، فأدخل إليه وهو بحاله التي هو عليها من المطبق، وعليه قميص غليظ، ولم يكن يلبسه أحد سواه، وقد اسود من طول دخان السراج، وشعره قد طال حتى سقط على وجهه، لمكثه في المطبق، فاستدناه فدنا قليلا، ثم استدناه ثانية فدنا، وقال: ما أرضى رائحتي للأمير أيده الله.
فقال له: «دعوتك لأستشيرك في أمر أردت أن أفعله، لعلمي بجودة رأيك وصحة فهمك. فقال له: أين الرأي مني اليوم، أيها الأمير، وهذه حالي؟ فقال له: أنت أوفى رأيا، وأذكى قلبا، من أن يختل عليك ما التمسته منك، أو يعتريك ما يعتري ذوي النقص. فقال: يقول الأمير، أيده الله، ما شاء، والله، جل اسمه، الموفق. فقال له: إن أبا أحمد الموفق قد احتوى على أخيه أمير المؤمنين المعتمد بالله، ونفذ أمره في كل ما يريد، وتمكن من إعناته بمن ضم إليه أمير المؤمنين من الرجال والجيش الذي استدعاه منه لقتال البصري، فلما حصل ذلك له صارت له عدة على أمير المؤمنين، وقد خفت حنثي في يميني التي له في عنقي، إن قعدت عنه، وقد عزمت على الخروج إليه بنفسي وجميع جيشي، حتى أنصر دعوته، وأنقله إلي، فما ترى؟»
فقال: «إن من الخطر العظيم أولا خروج الأمير بنفسه، وجميع جيشه وعدته؛ لأن الحرب سجال،
45
والظفر بحسب التوفيق، فأخاف أن يلحق الأمير، وأعيذه بالله ، هزيمة فلا تكون له بعدها قائمة. ولأن يكون الأمير، أيده الله، من وراء من يبعث به إلى هذا الوجه، وهو مادة له، أولى من أن ينفذ بنفسه. وبعد هذا فأرى كلام الأمير كلام من قد لهج من نصرة المعتمد، وما يريده من رد أمره إليه، مما لا يراه له المعتمد، ولا يعتد به له؛ لأنه رجل مشغول بلهوه، منهمك في لذاته، بمعزل عن حسن تدبير، وأن يكافئ عن فعل جميل.
أرأيت أيها الأمير لو انتقل إليك، وتمت للأمير حمايته من أخيه، وأجابك إلى ما دعوته إليه، أكان له في قصرك دار يسكنها غير دارك؟ فأول ما يستعجل الأمير أن ينتقل عن هذه الدار إلى ما لا يقاربها ولا يدانيها، بل يضيق بمن يحوطه، بل لا يسع بعضهم، ثم يكون الأمير إذا دخلها كبعض الزوار.
ثم أنت أيها الأمير الآن المتبوع الأمر، فلا تلبث أن تصير التابع المأمور، ولعله أن يكون عنده آثر الناس مله أو مغن أو نديم، لا يعشر
46
غلام الأمير، وليس له منه منفعة في أمر، ولا يحمل عنه شيئا من ثقل، ولا يزيد على أن يلهيه، ويسهل موارد أموره ومصادرها عليه.
وأقل ما في هذا الباب الثاني أنه إذا دخل الأمير للسلام يكون قائما، وذلك النديم أو الملهي جالسا، لموضعه منه، ومنبسطا إليه. ولعل هذا إذا شاهده الأمير أخرجه إلى أكثر مما خرج إليه أخوه الموفق فيه، ثم لا يأمن الأمير أن يسأله بعض غلمانه في ضيعة من ضياعه أو عمل فيه أخص غلمان الأمير، فلا تمكنه مخالفته في كل ما يستدعي منه، ثم اعتراضات حاشيته في البلد وأصحابه، وكذلك في الأعمال، وطلبهم ما يشق على الأمير ويعظم، فلا يتهيأ له منعهم، فإن منع أغضب أمير المؤمنين، ثم الأمير بعد هذا غير آمن من أن تحمله المحافظة لمن يسأله استنزالك عن موضعك فيجيبه، ليكافئه على حال قد تقدمت له عنده إلى محبته، ولا يخالف إرادته.
وحسبك أيها الأمير أن تستدعي رجلا إلى بلدك وملكك، فإذا بلغته الغاية القصوى، وسوغته كل ما كدحت فيه دهرك، رأى أن ذلك كله له ومن حاله، وأن الذي قد بقي معك مما تتجمل به بين يديه له دونك، وأن إبقاءه لك تفضل عليك.
إن من إقبال الأمير ما يلحق المعتمد من أخيه؛ لأنه يجد بذلك الحجة على خلافه وترك الائتمار له، وإسقاط اسمه والدعوة له وتأليب
47
الأولياء عليه، وفي هذا ما يتهيأ له بلوغه من معونة أمير المؤمنين، وما يثني أخاه عليه فيعود له إلى إرادته ويزول عنه ما يكرهه، وما أحب، أيها الأمير، إظهار هذا الاجتهاد العظيم في قهر الموفق ونصرته لأخيه عليه، لما يتخوف من مثله لقوة يده وكبر أمره وتمكنه، والذي أرى، ولرأي الأمير، أيده الله، فضله، ألا يفعل ما إذا فعله جرى الأمير فيه بينه وبين أمير المؤمنين على ما شرحته له، مما يخرج الأمير معه إلى أكثر مما خرج أخوه إليه.»
فقال له أحمد بن طولون: حسبك حسبك. وأمر برده إلى محبسه.
قال أحمد بن محمد الواسطي لأحمد بن طولون: أيها الأمير، أكان جزاء هذا الرجل على هذا الرأي السديد الصحيح الذي قال فيه الحق ومحض النصيحة أن يرد إلى محبسه؟! قال: نعم، إني تأملت أمره فوجدته قد نصحني في دنياي وغشني في ديني وآخرتي، ثم تأملت رأيه وجودته وصحته وما حضره منه بغير فكر ولا استعداد وهو على هذه الحال الصعبة القبيحة المفنية للحس فضلا عن غيره، فكيف لو رأى نفسه مطلقة وهو نافذ الأمر والنهي يأكل طيبا ويلبس لينا ويشم عطرا؟ [إذن] لاستد رأيه، ولبعد غوره، وتمكن من عدوه، بقوة حيلته، وحزم رأيه. إن أجهل الأمراء من أعطى مقادته للكتاب العقلاء؛ لأنهم أسد الناس رأيا وأقلهم دينا، بل يقبل رأيهم من غير أن يظهر لهم فيه استصابة!
قال أحمد بن محمد الواسطي: فعجبت من قوله، وازددت حذرا له وخوفا منه، وكان ابن عمار البائس قد ظن بإخراجه إياه إليه، ومشاورته له وما محضه من النصيحة في مشورته، أن في ذلك فرجه وخلاصه وانحلال عقدته، فلما رده إلى الحبس أيس مما كان يتوقعه من الفرج، وصدع قلبه الغم فمات.
قال مؤلف هذا الكتاب: وورد كتاب طيفور خليفة أحمد بن طولون من الحضرة يذكر وصول رسول أحمد بن طولون وكتابه إلى المعتمد والمال المسفتج،
48
وأنه خارج إليه مع المعتمد، ويذكر في كتابه أن يتأهب لموافاته إليه كما استدعاه، فقد تم عزمه على المسير إليه، وأنا بين يديه أخدمه إلى أن يصل إليك إن شاء الله.
فلما قرأ أحمد بن طولون كتابه بذلك، أحضر شيوخ كتابه وقواده وشيوخ البلد، وأحضر ابنه أبا الجيش فاستخلفه على البلد، وخلف معه جماعة من شيوخ قواده منهم محمد بن أبا وغيره، ووصاه باتباع أمرهم ووصاهم به، وأكد على الجماعة في مراعاة البلد والرعية، والمحافظة على ما يكون منه تمام السياسة واستقامة الحال وحسن الأحدوثة، وحذر ابنه من التشاغل بلهو أو بشيء غير ما قلده إياه، وخرج إلى الشام وحمل معه ابنه العباس مقيدا في قبة، وهو يظهر في قوله وفعله أن خروجه لنصرة المعتمد، والكامن في صدره لؤلؤ غلامه، وهو يود أن الأرض طويت له إليه، أو قذفته بين يديه، وهو على غاية من الكآبة والغم بأمره، وكان قد استقر عنده أن الموفق قد أنفذ إليه الخلع، وأنها قد وصلت إليه، ولم يتحقق وصوله هو إليه، فلما بلغ الرملة صح عنده دخول لؤلؤ العراق، وذلك في آخر سنة ثمان وستين ومائتين.
وكان محمد بن سليمان كاتب لؤلؤ من أحذر الناس من أحمد بن طولون وأشدهم فزعا منه، لمقدمات كان يعرفها منه؛ منها أن أحمد بن طولون كان يؤدب الكاتب كثيرا على ذنب الصاحب، ومنها أنه رأى فيما يرى النائم كأنه يكنس قصره داخله وخارجه بمكنسة في يده، فلما انتبه طلبه ليبدأ به، فلخوف لؤلؤ عليه من حال لعلها تأتيه ولم يعلم بالرؤيا أخفاه، وقال: وجهت به في مهم لي وأنا أوجه أحضره. وأمره بالخروج إلى الشام يتقدمه.
49
وإنما أراد أحمد بن طولون أن يعمل في أمر محمد بن سليمان، كما صنع في أمر صنم كان في عين شمس،
50
وذلك أنه كان بعين شمس صنم على مقدار الرجل المعتدل الخلق من كذان
51
أبيض حسن الصورة، يخيل لمن استعرضه أنه ينطق. فحدث إبراهيم بن كامل المصور
52
أنه وصف لأحمد بن طولون فأحب رؤيته، فقال له خادم له نصراني ثقة عنده في جميع أحواله في داره، يقال له ندوسة: ما أختار [أن] يراه الأمير، أيده الله. فقال له: ولم؟ قال: لأنه ما رآه وال قط إلا عزل. فركب إليه في سنة ثمان وخمسين ومائتين فتأمله، فلما رآه أحضر القطاعين وأمرهم أن يجتثوه من الأرض، فوضعوا الفئوس عليه، فلم يتركوا منه عضوا صحيحا على الأرض، حتى درس وعفا خياله وذرى ما بقي حياله في الصحراء، ثم دعا بندوسة خادمه فقال له: يا ندوسة، من صرف [منا] صاحبه؟ فقال: أنت أيها الأمير، صرف الله عنك كل محذور. وعاش أحمد بن طولون بعده اثنتي عشرة سنة [أميرا]، وإنما حمل محمد بن سليمان الخوف منه والحذر على أن حسن لصاحبه لؤلؤ الذهاب عنه إلى الموفق، لتسلم منه نفسه ويأمن عليها من مكروهه.
قال مؤلف هذا الكتاب: فلما بلغ أحمد بن طولون إلى دمشق، وشاع الخبر بحركة المعتمد إلى مصر، أقام أحمد بن طولون بدمشق مترقبا له، حتى وافاه خبر المعتمد مع رسوله النافذ كان إليه بالمال، يخبره بحركته إليه، وقد فصل من الحضرة، وأنه يسلك على طريق البرية إلى مصر بمن خف معه من ثقاته، فاضطرب أحمد بن طولون لذلك، وتندم على مكاتبته بما حركه على المسير إليه، وتبين كل ما ذكره له ابن عمار أنه يكون كله، فقلق لذلك وتصبر له، حتى أتى من إقباله ما لم يكن في حسبانه، وبما جرت به عادة الله، جل اسمه، عنده.
ورد عليه كتاب طيفور خليفته يقول: قد كنت على المسير إليك مع أمير المؤمنين المعتمد حتى جرى ما أوجب تأخره، فتأخرت بتأخره، وأرجو أن تكون الخيرة للأمير، أيده الله، في ذلك إن شاء الله؛ وذلك أنه لما قرأ كتابك، ووقف على ما دعوته إليه من المسير إلى ناحيتك، سره ذلك وشكره لك، وأظهر الخروج إلى النزهة، وأخرج معه أخاه أبا عيسى وإبراهيم بن مدبر وأحمد بن خاقان وخطارمش وتينك،
53
وسار على كتيبة يريد مصر، فبلغ أخاه أبا أحمد الموفق خبره، فكتب إلى إسحاق بن كنداج الخزري يعرفه أن أخاه قد خرج قاصدا إلى أحمد بن طولون، ومتى تم هذا الأمر استولى أحمد بن طولون على أمره، فلم يكن لكم ولا لأحد منكم مقدار، ولم يلتق اثنان في عسكر الموالي، إن صح ذهابه وتم إلى ابن طولون يتجنب عن وجه العدو، ويتمكن
54
من الدخول إلى السلطان، فيكون ذلك سببا لزوال دولة بني العباس. ويناشده الله، جل وعز، في كتابه في تجديد العناية في رده، ووعده إن رد المعتمد أقطعه إقطاعا واسعا ووصله بالمال الجزيل، وزاد في رياسته ومحله، وذلك في جمادى الأولى سنة تسع وستين ومائتين.
فلما قرأ إسحاق بن كنداج الكتاب حركه على ما استدعاه منه الموفق الحسد لك أيها الأمير، والطمع فيما وعده به، ورحل إليه راغبا راهبا في خيل جريدة في أربعة آلاف غلام، من نصيبين
55
إلى الموصل، فسأل عن المعتمد، فقيل له إنه قد رحل عنها في أمس ذلك اليوم. ووجد له مراكب وحراقات وسفينتين، فيها متاعه وحرمه بموضع يعرف بالدواليب، ووكل بهم ومنع من سيرهم، وأمر الموكلين ألا يطلقوا لأحد من أسباب المعتمد أن يتجاوز الموصل، وسار حتى لحق المعتمد بين الموصل والحديثة، فضرب مضربه دون مضارب أصحاب المعتمد، وسار إليه فلم يلقه أحد من أصحاب المعتمد، حتى وقف بباب مضربه، فخرج إليه نحرير الخادم فسلم عليه، ودخل فاستأذن له، وأمره بإدخاله إليه، فدخل إليه ومعه محمد ابنه وحبشي ووصيف ابنا أخيه وطيب بن صفوان وجماعة من وجوه قواده، فسلم على المعتمد، ووقف بين يديه، فقال له المعتمد: يا إسحاق، لم منعت الحشم من دخول الموصل؟ - لأن الخبر بلغه، وكان بين يديه يومئذ أحمد بن خاقان وخطارمش وتينك - فقال: يا أمير المؤمنين، وما دخول الحشم الموصل ؟ قال: لأني آثرت دخولها. قال: لا والله، أيد الله أمير المؤمنين، ما إلى ذلك سبيل؛ أخوك في وجه العدو، عدوك وعدو دولتك يقف على زوالك عن مستقرك، ومدينة آبائك، فينصرف عن مقاومته ويخلي بينه وبين دار ملكك، وبهذا جاءني كتابه. فقال له المعتمد: أفغلامي أنت أم غلامه؟ فقال: كلنا يا أمير المؤمنين غلمانك ما أطعت الله، فإذا عصيته فلا طاعة لك علينا. فقال له: وما معصيته؟ فقال: تخليك عن دار ملكك ودار آبائك وتركك أخاك وهو مجاهد عنك وعن دولتك لعدوك فتظعن عن مستقرك، وفي هذا عصيان الله، عز وجل. ثم خرج من المضرب، وخلف أصحابه معه بين يديه.
ووجه إلى المعتمد يقول: إن رأى مولاي أن يبعث إلى أحمد بن خاقان وخطارمش وتينك لنتشار فيما نحن فيه فعل. فوجه بهم إليه ومعهم إبراهيم بن مدبر، وسار معهم إلى مضربه، فلما حصلوا فيه قال لهم: علمتم أنه ما جنى أحد على الإسلام جناية أعظم من جنايتكم، قالوا: وكيف؟ وما هذه الجناية؟ فقال: أولها إخراجكم الخليفة في عدة يسيرة، وهذا هارون الشاري
56
في جمع عظيم ما رآه، فلو علم به لأسره، فكان قد حصل الخليفة مأسورا في يدي الشاري، فكانت تكون فضيحة ليس أعظم منها، فلولا تحصنكم الساعة في عسكري لكان هذا، ولقتلتم وذهب الخليفة. وأحضر القيود وقيد الجماعة، ووجه فقبض على مضاربهم، بجميع ما كان لهم فيها.
فلما أمسى الليل بعث ابنه محمدا وبابني أخيه في جماعة ليحفظوا المعتمد، فلما أصبح دخل على المعتمد فسلم عليه وقال له: يا أمير المؤمنين، الأمر مضطرب بناحية أخيك لانزعاجك عن مستقرك، وما مقام مولاي ها هنا معنا؟ فقال له: احلف لي أنك تنحدر معي ولا تسلمني. فحلف له وانحدر به إلى سر من رأى، فقال المعتمد في ذلك:
أصبحت يملكني من كنت أملكه
وصار يأمرني جهرا وينهاني
وصرت في حجره طفلا يروعني
أخشاه حقا كما قد كان يخشاني
فالحمد لله شكرا لا شريك له
على الذي خصني منه وأولاني
57
فلما بلغوا سر من رأى تلقاه أبو العباس بن الموفق وصاعد بن مخلد فسلمه إسحاق إليهما، وانصرف إلى دار الخليفة ينتظر عودتهم، فأنزلا المعتمد دار أبي أحمد بن الخصيب التي في طرف الجسر، ومنع من نزول الجوسق والمعشوق،
58
ووكلا به قائدا في خمسمائة رجل، يمنعون أن يدخل إليه أحد، فقال المعتمد للموكل به: ما أنت؟ قال: أخدم أمير المؤمنين. قال: هذا توكيل مليح.
وعاد أبو العباس بن الموفق وصاعد كاتب الموفق إلى إسحاق بن كنداج، فخلعا عليه خلعا حسانا، وركب من دار الخليفة وعليه تاج ووشاح وسيفان، ولقب بذي السيفين، و[كل] ذلك غرق بالجوهر،
59
وعقد له على مصر مكان أحمد بن طولون، وأقطع ضياع القواد الذين كانوا مع المعتمد، ومبلغ مالها عشرة آلاف دينار في السنة، وسلمت إليه نعمهم.
فلما وقف أحمد بن طولون على هذا كله من كتاب صاحبه إليه، وتواترت الأخبار أيضا به، والكتب إلى سائر الناس، أقام بدمشق ووجه فأحضر قضاة أعماله، وفيهم العمري وأبو حازم وبكار بن قتيبة فاستفتاهم في خلع أبي أحمد الموفق، فكل أفتاه بخلعه إلا بكار
60
بن قتيبة فإنه تلكأ في ذلك، فتغافل عنه أحمد بن طولون، وحقدها في نفسه، وكتب كتاب الخلع على نسخ، وأنفذ إلى كل عمل من أعماله نسخة تقرأ على المنبر في جميع أمصاره وتخلد، فمن جوامع ذلك:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أجمع عليه القضاة والأولياء ووجوه أهل الأمصار، حين أحضرهم أحمد بن طولون مولى أمير المؤمنين مجلسه، بمعسكره في مدينة دمشق سنة تسع وستين ومائتين، وسألهم عما يوجبه ما أقدم عليه الناكث أبو أحمد في أمير المؤمنين المعتمد على الله، من إيقاع الحيل على فض جيوشه، وتشريد حماته، بحملهم على السيف مرة وقتلهم بالسم أخرى، ثم تخطى ذلك إلى إخافة سربه، وحمله على الائتمار له في كثير مما يؤثره، مما يضع به من منزلته، وينقص من محله، فلما كثر هذا عليه، وخافه على نفسه؛ أجمع على النفوذ إلى أحمد بن طولون للاعتصام به؛ إذ هو ثقته وعمدته وممن خلص له على التجربة، بتوقفه عن مكاره الخلفاء قبله، وإن أبا أحمد لما رأى ذلك خاف أن يظل مأمورا بعد أن كان آمرا، وكتب إلى إسحاق بن كنداج في قصده ورده، فشخص إليه في جمع كثيف حتى وافاه بين الموصل والحديثة فرده، وأمير المؤمنين يناشده الله ويذكره به، ويخوفه مروقه عن الدين، ونقضه ما أكدته عليه البيعة، وإنما قدم عليه وقد فارق الطاعة، وبرئ من الذمة، ووجب جهاده على الأمة، فلم يصغ إلى ذلك، ولا اكترث به، لما جعل له على ما يأتيه من أمره من الحطام، فشرهت نفسه إليه، وإلى ما استباحه من مال من أقام على الطاعة، ووفى بالعهد والذمة، حتى أدخله سر من رأى مأسورا، وسلمه إلى صاعد بن مخلد فحبسه ووكل به، ومنع من جميع أهله وولده وشمله، فأصلح مقبوض اليد، بعيد الناصر، يخاف على نفسه آناء ليله ونهاره، عرضة لسوء القول وقبيح الفعل، فالأمة في حرج من القعود عن نصرته، والأولياء في حنث من نقض بيعته، والسنن دائرة، والأحكام ضائعة، والحق منتبذ، والعدل شارد، وغير الله، عز وجل، تنتظر، فرأى كل من حضر خلعه مما كان أمير المؤمنين بته له من ولاية عهده، والتبري منه، والجهاد له؛ إذ كان قد منع حقوقا ثلاثة؛ أولها حق الإمامة، والثاني حق الأخوة، والثلث حق النعمة عليه. وأوقع من حضر من الحكام شهادته عليه وفتياه به، فكتب بذلك عشر نسخ نسقا واحدا لا يغاير بعضها بعضا، وفيها خطوط القضاة بما نسخته:
يقول عبيد الله بن محمد العمري القاضي بجندي قنسرين والعواصم والثغور الشامية، وجندي حمص
61 [وأنطاكية]: قد قرئ علي هذا الكتاب، وهو قولي، والحق عندي، والذي أفتيت به، لما صح عندي من غدر الناكث المعروف بأبي أحمد، وتعديه وخروجه عن طاعة أمير المؤمنين، أيده الله، وأنه قد استوجب بما كان منه، مما سمي، ووصف في هذا الكتاب، إسقاط اسمه وخلعه وترك الدعاء له، وأنه غير مستحق لإمامة المسلمين، ولا مأمون عليهم، ولا موثوق به في ذلك، وأشهدت علي وعلى فتياي من أثبت شهادته في هذا الكتاب. وكتب عبيد الله بن محمد القاضي بخطه، في يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة تسع وستين ومائتين.
وكتب عبد الحميد: يقول عبد الحميد بن عبد العزيز القاضي بدمشق والأردن وفلسطين: قد قرئ علي هذا الكتاب وهو قولي، والحق عندي، وهو الذي أفتيت به، وقد صح عندي غدر الناكث المعروف بأبي أحمد، وتعديه وخروجه عن طاعة أمير المؤمنين، أيده الله، وأنه قد استوجب بما كان منه إسقاط اسمه وخلعه، وكتب بخطه.
وكتب أحمد بن أبي العلاء قاضي ديار مصر بمثل ما كتب صاحباه حرفا بحرف.
وتوقف بكار بن قتيبة في شهادته، فغضب أحمد بن طولون لأنه لم يشرح كما شرحوا، ولا شهد كما شهدوا، وتوقفه كان لموضعه من الورع والدين، فكتب: شهد بكار بن قتيبة القاضي بمصر والإسكندرية ونواحيهما على ما سمي ووصف في الكتب من أولها إلى آخرها من إحسان أمير المؤمنين، أيده الله، إلى الناكث أبي أحمد بن جعفر المتوكل على الله وتفضله عليه، وبما كان من تعديه على أمير المؤمنين، وأن الناكث أبا أحمد قد استحق بما كان منه خلعه وترك الدعاء له. وكتب بكار بن قتيبة بيده.
وأنفذت النسخ، فكان الخاطب إذا دعا للمعتمد في أعمال أحمد بن طولون قال بعد ذلك: اللهم استنقذه ممن أسره وجار عليه وقصده، يريد الموفق، ثم يدعو للمفوض ثم لأحمد بن طولون. وكتب إلى ابنه أبي الجيش يأمره بأن يبعث إلى مكة قائدا جلدا في عسكر كثيف، يمنع من أن يدعى لأبي أحمد على منابر مكة أو بالموقف أو عرفات، فأخرج لذلك المعروف بالغنوي وابن السراج في جيش ضخم، وأقبل من العراق مع الحاج قائد يعرف بابن الناعمودي،
62
وكان على مكة يومئذ هارون بن محمد العباسي، فعاون أهل مكة أهل العراق فكانت الهزيمة على المصريين، فجرى من ابن السراج كلام كتب به أصحاب الأخبار إلى أحمد بن طولون فأنكره، فلما قدم أمر به إلى المطبق.
63
قال مؤلف هذا الكتاب: فلما بلغ الموفق ما عمله أحمد بن طولون من إسقاط اسمه وترك الدعاء له، أمر بلعنه على المنابر، وخرجت براءة بلعنه إلى سائر الأمصار جميعا، فكانت نسختها:
إن الله، عز وجل، قرن بطاعته طاعة رسوله
صلى الله عليه وسلم
وطاعة أولي الأمر، انتخبهم لإعزاز دينه، وإقامة معالمه، فقال جل من قائل:
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم
فإن عدو الله المباين لجماعة المسلمين، المعروف بأحمد بن طولون، أظهر ما كان منه من معصية وشقاق، فيما بين أقاصي المغرب إلى أكناف العراق،
64
ومرق من الدين، وخالف أمير المؤمنين، وأخرب ثغور المسلمين، وقاتل فيها المجاهدين بأهل الفسق الملحدين، واستباح حريمهم، وسفك دماءهم، فلما تبين أمير المؤمنين أمره، وعرف كفره، تبرأ منه إلى الله، عز وجل، ولعنه لعنا ظاهرا وأمر بلعنه ليلحقه ذلك من خواص الأولياء وعوام الرعية، اللهم فالعنه لعنا يفل حده، ويقل جنده، ويتعس جده، واجعله مثلا للغابرين، إنك لا تصلح عمل المفسدين، يا رب العالمين.
وكان أحمد بن طولون لما أسقط اسمه والدعوة له على المنابر، أمر أن يمحوا اسمه عن الطرز التي قد كتبت قبل ذلك، ولا تكتب فيما يستأنف، فلم يبق بمصر ولا بنواحيها ثوب على طرازه اسم الموفق إلا نقض، فلحق الناس في ذلك مشقة.
وعمل شعراء الشام في حضرة الخليفة أشعارا كثيرة، فمن ذلك ما قاله إسحاق بن طريف المخزومي في شعر له طويل:
كيف يرجى للعهد من نقض العه
د ولم يرع حرمة الأجداد
ناكث قد أضل قوما أطاعو
ه على نكث بيعة وفساد
أي صوم لنا وأي صلاة
وإمام الهدى أسير الأعادي؟!
أي عذر لكم بخذل إمام
لابس ثوب خيفة واضطهاد؟!
وقال عبد الرحمن بن سلامة الشيباني:
هذا الخليفة في فنا أعدائه
متذلل لهم أخو استسلام
متوقع للقتل كل عشية
وصباح يوم غد من الأيام
يبكي على أولاده وعياله
كبكاء ذات الثكل والأيتام
غدروا به غدر الجحود لكل ما
قد كان أولاهم من الإنعام
وقال منصف بن خليفة الهذلي في شعر طويل له:
أمسى الخليفة بعد العز مأسورا
وأصبح اليوم مقهورا ومحزونا
لم يرع ذمته أهل العراق ولا
حموه حين غدوا لله عاصينا
سلوا عليه سيوف الغدر [مشرعة
لقتله] وأبانوا ما يسرونا
يكلفون ولي الله داهية
والله يكره فيها ما يحبونا
خليفة الله مأسور ومضطهد
والناس في دار لهو ما [يبالونا]
وقال النابلسي الضرير من شعر له طويل يخاطب فيه أحمد بن طولون:
يا سمي النبي لا نسي الله
لك الذب عن حريم النبي
دولة الدين والخلافة عزت
بك لا بالطريد عنها البغي
يعني أبا أحمد الموفق لما نفاه المهتدي فرده المعتمد:
أيزال اسمه على الرغم من كل
مقام امرئ كريم سني
رام ما لن يناله فلقد خا
ف وخاب اعتصامه بالخصي
يعني اعتصامه بيازمان الخادم.
ولبعدا له و[سحقا] لإسحا
ق اليهودي دينه الخزري
يعني إسحاق بن كنداج في معاضدته له على المعتمد.
وقال محمد بن بشر العنسي:
يا بني الدين من مراد وقحطا
ن وأكفائهم من الأقوام
ضاربوا عن خليفة الله بالبي
ض وقوموا به قيام الكرام
حسبكم سبة عليكم وعارا
دائما عيبه مدى الأيام
ما أصاب الإمام يوم ابن كندا
ج وقد [جد] أمر أهل الشآم
قال مؤلف هذا الكتاب: وتواترت الأخبار من الحضرة إلى أحمد بن طولون ظهر أبي أحمد الموفق على الناجم البصري، وأنه قد شارف القبض عليه في آخر سنة تسع وستين ومائتين، فخزله ذلك وأقلقه، وكان الموفق قد أراد لما كان فيه من الفضل والعقل، وجودة التحصيل، أن يستشف أمر لؤلؤ في مولاه أحمد بن طولون، فقال له: تخرج إليه لتقاتله. فأسرع الإجابة إلى ذلك فنقصه ذلك عنده ووضعه من عينه؛ لأن جميع ما كان يفعله الموفق بأحمد بن طولون إنما كان غيرة عليه ألا يكون له كما هو لأخيه، وكان يقف على فضله ومحله فيتأسف ألا يكون له ومعه.
فتقدم الموفق بأن يكتب جريدة بأسماء من شخص مع لؤلؤ، وأن تكون عدتهم مائة ألف رجل فارس وراجل. وتقدم سرا إلى الكتاب بأن يدافعوا عن ذلك، فظن لؤلؤ أن الأمر حق؛ فجدد آلته واستبدل بدوابه وزاد منها في عدتها، وشمر ذيله لمحاربة مولاه، والموفق يتأمل من حاله في كل وقت ما قد عمي لؤلؤ عنه، ويقدر أنه لا ينتقد عليه قبح ما قد عمل على أن يحمل نفسه عليه.
حدثنا عبد الله بن الفتح عن ابن الداية، وكانت له من أبي أحمد الموفق منزلة، قال: لما تأمل الموفق أمر لؤلؤ وما عزم عليه في أمر مولاه؛ نغصه بعد سروره كان لمجيئه إليه، فتوقف عن إنفاذه، وأمر كاتبه صاعد بن مخلد وجماعة من خاصته بمكاتبة أحمد بن طولون، وتوبيخه على المبادرة بخلعه، وإسقاط اسمه، ويقولون: إنه إنما كان يجب أن تفعل ذلك لو رأيت بالخليفة حادثا، فأما ولم يجر إلا منع أمير المؤمنين من فعل شيء آثره لو بلغه لعاد عليه وعلى مملكته ضرر، فذلك غير منكر يوجب ما تسرعت إليه؛ لأنه ليس قادحا في يمين، ولا مخرجا عن بيعة، ولا عادلا عن طاعة، وأنت تعلم أن خواص الملوك يردون أمرهم في كثير مما يحبونه احتياطا لهم وعليهم، ولا يخرجون به عن طاعة، ولا يحنثون في بيعة، وأنه قد كان يجب عليك أن تصون نفسك عن سوء الظن بنا، في أننا نستجيز أن نحدث في أمير المؤمنين حادثة نبرأ إلى الله الكريم منها، ويحلفون أن اللعن الذي خرج عن غير إرادة مني ولا محبة ولا اختبار، وأني لكاره لما جرى من ذلك، ويشيرون عليه بأن يكاتبني بما يزيل به ما قد وقع بيننا وبينه.
قال: وكتب بما أمرهم به إليه عن أنفسهم، وحلفوا له على كراهية الموفق لما جرى من اللعن وغيره، ويقولون في كتبهم إليه إن الأحسن بك والأجمل، لما خصك الله به من الفضل، والمحل الجليل، والمروءة المقرونة بالدين، أن تكتب إليه تذكر فيه ما أنت مؤثر له من طاعته، وما توجبه من حقه ورعايته، وما يشاكل ذلك مما أنت، بجميل فعلك ووافر تحصيلك، أهدى إليه إن شاء الله.
وضمنت الكتب ما لا زيادة عليه من استعطافه، وما يبعثه على إجابتهم إلى ما حبوه وأنفذت إليه بذلك، فلما وصلت إلى أحمد بن طولون الكتب علم أنهم لم يكتبوا إلا بما اختاره الموفق وأمرهم به؛ فسره ذلك وأجاب جماعتهم يقول: إن الموفق أحد مواليه، وإنه إنما انحرف عنه لحصره الخليفة وأسره إياه، وأنه لو خلاه مع اختياره، وأزال عنه الموانع التي ألزمه إياها، ولم يحل بينه وبين أمره ونهيه، وامتثل أمره على رسمه كان، ولم ينحرف عن طاعته، ولا عدل عن محبته وإرادته، لكان كبعض خدمه، وإن جميع ما في يده من مال عمله محفوظ للخليفة، وإن أقام على ما هو عليه من حصره إياه في يده وتوكيله به، حاربت عنه ولو لم يبق معي أحد، فإني أرجو أن أرزق الشهادة على حسن الطاعة.
وكانت الكتب قد وردت عليه سرا فأنفذ الجواب عنها سرا، فلما وصلت إلى الموفق ووقف عليها سره ما تضمنته، واستحسن هذا الفعل من أحمد بن طولون، وأن ذلك منه إنما هو عن إرادة قوية في طاعتهم، ونية صحيحة في موالاتهم، وكان الموفق كامل العقل، متمكنا من نفسه، حسن المعرفة، ذكي الروح، فسكن ذلك منه ما كان في نفسه على أحمد بن طولون، وأمال قلبه إليه في كليته، وأيس من أن أحمد بن طولون يتخلى عن القيام بأمر المعتمد، ففعل للمعتمد كل ما اختاره، ونقله إلى قصره، وبلغ له كل ما يحبه، وأزال الموكلين عنه والتشديد عليه، فأضرب عن كل ما قد عزم عليه في أمره، كل ذلك [رعاية] لأحمد بن طولون، ولكبره في نفسه وحاله وقوة يده، وفضله في قلبه، وامتثل كل ما رسمه في كتبه وزيادة عليه رضا له، وراسل الموفق المعتمد يقول له ما اختار لعنه وإنه لنادم عليه، وعلى كل ما جرى في أمره، وشكر له حسن محافظته عليه، وحسن طاعته له، وسأله مكاتبته بما يزول به ما بينهما، فسر المعتمد هذا من أخيه الموفق.
وكتب إلى أحمد بن طولون كتابا بخطه يسأله الرجوع عما هو عليه لأبي أحمد الموفق، ويعرفه ما جرى في أمره، وما فعله ورجع عنه، ويشكره على ما كان منه حتى عاد له الأمر كما أحب، ويسأله أن يرد الدعوة له على المنابر، وإعادة اسمه إلى الطرز، ويعود إلى ما كان عليه من استقامة الحال، وأنفذ الكتاب إليه مع الحسن بن عطاف، وأنفذ معه كتاب الموفق بخطه بإسقاط اللعن عن أحمد بن طولون، فلما بلغ الحسن بن عطاف الرقة بلغته وفاة أحمد بن طولون فرجع إلى الحضرة.
وكان قد اتصل بلؤلؤ غلامه أن مولاه قد باع نساءه وأولاده في سوق الرقيق بمصر، وقبض على جميع ما كان له في داره، فبلغ ذلك منه كل مبلغ، وأقبل إلى الموفق فبكى بين يديه وقبل الأرض وعرفه ما بلغه عن حرمه وأولاده، وسأله إنفاذ الجيوش معه على ما كان عزم عليه، وضمن له أنه المجهود في طاعته، حتى يأخذ له البلد، وبسط لسانه في مولاه، ولم يدع شيئا يغري به الموفق ويوحش به قلبه على مولاه حتى نقله، فوعده الموفق بإنفاذ الجيوش معه وخلع عليه، وحمل على دابة من دوابه، وتقدم إلى الكتاب بتجريد الجيوش معه، كل ذلك سخرية به ومدافعة، إلى أن يرد الجواب مع الحسن بن عطاف، فيقبض حينئذ على لؤلؤ رضا لأحمد بن طولون لما شاهده من انحرافه عن مولاه، وقبح فعله بمن رباه وأحسن إليه، وكان هذا الفعل من الموفق لما فيه من العقل والرياسة والمروءة، وعمل على أن يوكل به ويرده إلى أحمد بن طولون عند ورود جوابه عليه.
قال مؤلف هذا الكتاب: و[ما] كان فعل لؤلؤ في أمر مولاه كفعل الخارجي في الحجاج بن يوسف، على أن رأي الخوارج في الحجاج وغيره من الولاة معروف، حدث مروان بن الحكم الأردني قال: أتي الحجاج بن يوسف بخارجي خرج عليه فقال: اضربوا عنق ابن الفاعلة.
65
فقال له الخارجي: بئسما أدبك أهلك يا حجاج، أبعد الموت منزلة أصانعك لها؟ ما كان يؤمنك أن ألقاك بمثل ما لقيتني به؟ فقال له الحجاج: صدقت ، لله درك! وأطلقه، فرجع الخارجي إلى [أهله]، فلما كان بعد وقت من الزمان عزم الخوارج على قتال الحجاج، فقالوا لذلك الخارجي: ارجع معنا إلى قتال الحجاج ابن الفاعلة، فوالله ما أطلقك هو بل الله، عز وجل، الذي أطلقك. فقال لهم: هيهات! غل يدا مطلقها، واسترق نفسا معتقها
66
وأنشأ يقول:
67
أأقاتل الحجاج عن ملكوته
68
بيد تقر بأنها مولاته [إني إذن لأخو الدناءة والذي
عفت على عرفانه جهلاته]
ماذا أقول إذا وقفت حياله
في الصف واحتجت له فعلاته
وتحدث الأقوام أن صنيعة
غرست لدي فحنظلت نخلاته
أأقول جار علي؟ إني فيكم
لأحق من جارت عليه ولاته
والله لا خنت الأمير بآلة
وجوارحي وسلاحها آلاته
أجد الخزاية أن أكون مصعرا
خدي أو مكفورة حسناته
69
فهذا على أنه خارجي لا عهد له ولا عقد، شكر الحجاج على ما فعله في أمره، وما من به عليه، فمنعه ذلك من الإساءة إليه والعودة إلى ما يكره، ولؤلؤ كفر أيادي مولاه، وإحسانه إليه، وإنعامه عنده، ولم يشكر شيئا منها ولا رعاه، وقد من عليه بالأموال، وصير له الجاه العظيم، بعد أن رباه صغيرا في حجره كأحد ولده، وأوطأ عقبه
70
الرجال كثيرا، وأمره على من هو خير منه أما وأبا وحالا ومحلا، لشتان بين الرجلين، والحديث شجون.
قال المنصور للربيع حاجبه ومولاه، وإنما ملكه كبيرا وقدمه واصطفاه رجلا: يا ربيع، سل حاجتك؛ فلقد سكت حتى نطقت، وخففت حتى ثقلت، وقللت حتى كثرت. فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أرهب بخلك، ولا أستقصر عمرك، ولا أغتنم مالك، وإن يومي بفضلك علي لأحسن من أمسي، وغدي في تأميلك أحسن من يومي، فلو جاز أن يشكرك شاكر بعين الخدمة والمناصحة لما سبقني إلى ذلك أحد. فقال له: صدقت، علمي بذلك أحلك مني هذا المحل، فسل حاجتك؛ فإني أقسم عليك لتفعلن. فسأله أشياء، فوقع له بها، وبجائزة حسنة.
وما يشك في أن لؤلؤا قد وصل إليه من مال صاحبه أكثر مما وصل إلى الربيع؛ لأن المنصور كان رجلا متقللا قنوعا، فكان في عطائه على قدر ذلك، ثم ازدادت حال الربيع حتى قلده وزارته بلزومه مناصحته.
قال: ونزلت حال لؤلؤ عند الموفق ببغيه الوبي، وأصله الدني، وفعله الردي، حتى قبض عليه، وأخذ جميع ما كان في يديه، فلما صيره ظرفا فارغا، أطلقه كلبا والغا،
71
كل ذلك كان من الموفق غيظا عليه، لما شاهده منه في أمر مولاه.
ولعهدي بلؤلؤ في آخر أيام هارون بن أبي الجيش خمارويه، وقد دخل إلى الفسطاط فما رأوه إنسانا، ولا أولوه إحسانا، ومنعوه أن يلبس سيفا ومنطقة، فكان يركب بدراعة وغلام واحد بين يديه، كأنه من بعض وكلاء الريف، فكان ما نزل به ثمرة العقل السخيف والفعل القبيح.
سبب موت أحمد بن طولون: ولكل أجل كتاب
قال مؤلف هذا الكتاب: أول ذلك أن يازمان الخادم، لما خلا ذرعه بوفاة موسى أخي أحمد بن طولون وإبراهيم بن عبد الوهاب اليتيم، تمكن من طرسوس وخلت له، [فثار به خلف]
1
وكان قد استمال طائفة من مطوعيها، فوثبهم على خليفة طخشي الذي استخلفه موسى عليها، لما حضرته الوفاة فأخرجوه عنها، واتصل خبره بأحمد بن طولون وهو يومئذ بدمشق، وخاف التدبير عليه، فسلك طريقا متجانفة، ووجه إلى المخايض والقناطر بمن يمنع منها أن تقع عليه حيلة فيها حتى بلغ المصيصة
2
فأقام بها، وكاتب يازمان وراسله بالشيوخ يدعوه إلى الطاعة وترك المشاقة، والانقياد إلى أمره، ويبذل له الأمان، ويخيره بين الخروج منها سالما مسلما موفورا، ويميت أسباب الشر والمحاربة، أو يقيم عليها غلاما من غلمانه من قبله، فلم يجبه إلى واحد منهما، فدخل إلى أذنة
3
وكاتبه أيضا منها فلم يجبه، فزحف إليه فوجده قد تحصن بها ونصب منجنيقاته وعراداته
4
على سورها، فنزل أحمد بن طولون بمرجها، وأحاطت عساكره بحيطانها، ففجر يازمان عليهم نهر البردان،
5
وكان ذلك في كانون الأول، وأوان شدة البرد والمطر، فكاد أن يغرق أكثر عسكر أحمد بن طولون، فرحل عنها ليلا بعد أن غرق المرج وما حول مدينة طرسوس، وغرقت المضارب والخيم وكل ما كان في العسكر، فلم يتهيأ له مقام ساعة واحدة، ووافى إلى أذنة فكتب إليه كتابا يقول فيه:
أما والله أيها الناقص الأنذل،
6
لولا [إرادة] إبقائي على ثغور المسلمين، وكراهتي أن أفتح عليها للعدو معرة تكون سببا لهلاكها؛ لعلمت أن مثلك لا يقاوم غلاما من غلماني ولا يعشره، فلما انتصرت بما فتحته فغرقت به ما لا يمكنه دفعه إلا بما فيه هلاك الثغر انصرفت كافا يدي، محافظا لله، عز وجل، ولجماعة ساكني الثغر، لا محافظة لك ولا عجزا عن حملتك الضعيفة والسلاح.
وأصبح أحداث طرسوس في حوا [؟] إلى ما غرق من الآلات التي ند عنها أهلها لما غرقت بالماء فنهبوها.
وانصرف أحمد بن طولون عن يازمان، بغيظ عظيم، قد تمكن في قلبه منه، إن شفاه أهلك ثغور المسلمين وبلغ منيته، فرأى أن كظمه وتحمل غيظه لما كان فيه من الدين والخير أعود عليه في آخرته.
وطال مقامه بأذنة، وكان ذلك في عنفوان اشتداد البرد كما ذكرنا متقدما، فمات من سودانه خلق كثير؛ لأنهم بقوا بطول مقامهم عراة في البرد. وتساقط من الدواب مثل ذلك من كثرة الثلوج، فلما زاد الأمر عليه رحل إلى المصيصة، فاجتمع إليه وجوه قواده وكبار أصحابه، فقالوا له: لا تبرح أو يزول هذا البرد، وتعود إلى يازمان ويمكنك الله، جل اسمه، منه. فقال لهم: والله لا يراني الله، عز وجل، وأنا أجهز جيشا لمحاربة طرسوس إذ كانت سكن الإسلام.
فأقام بالمصيصة ثلاثة أيام، وقد نالته علة من البرد، فلم يبلغ أنطاكية حتى زادت علته، وكان بدؤها هيضة؛ أكل لبن جواميس، فاعتراه بعد الهيضة قذف فأعقبه قيء كثير، فكان بدؤه سببا صغيرا كما قال ابن الربعي:
لا تحقرن سببا
كم جر شرا سبب!
وتزايدت علة الذرب،
7
وكان طبيبه سعيد بن توفيل
8
فوجده قد خرج إلى بعض الديارات هناك، فاغتاظ لذلك عليه، وضاق له صدره، فزاده الغيظ هيضا، فلما وافاه طبيبه سعيد أغلظ له القول، ومنعته عزة نفسه أن يشكو إليه أمره وما ناله، والعلة تزيد قليلا قليلا وتستحكم، ثم دخل إليه طبيبه في الليلة الثانية فاشتم منه رائحة نبيذ، والنبيذ عند النصارى فهو والله دينهم وعادتهم، وقال له: لي يومان في هذه العلة وأنت لاه شارب وتأتيني متنبذا. فقال له: طلبني الأمير، أيده الله، بالأمس وكنت في بيعة
9
يتبرك مثلي بالصلاة فيها، ويسافر إليها من البلدان البعيدة،
10
فلما قربت منها استغنمت ذلك، فلما جئت لم يخبرني سيدي الأمير بما جرى بعدي. فقال له: أفما كان يجب أن تسألني عن حالي؟ فقال له: خفت سوء ظن سيدي الأمير، ولم يجز أن أسأل أحدا من الحاشية عما لا يعلمون صحته، وشربي النبيذ فإنما آخذ منه الشيء اليسير؛ لأنا نأخذه في قرباننا دينا، لا أشربه كما يشربه الناس، وأنا مشغول بخدمة الأمير. فقال له الأمير: فما الحيلة الآن؟ قال: تمتنع من الغذاء الليلة، فلا تذوق شيئا قل ولا جل بوجه ولا سبب، ولو قرمت
11
إليه بكل نوع من الشهوة له، وتتحمل ذلك على كل حال. فقال له: ويحك فأنا والله الساعة جائع شديد الجوع وما أصبر. فقال له: الله الله أيها الأمير؛ فإن هذا جوع كاذب لبرد معدتك تجده. فلما كان في نصف الليل اشتد به الجوع فلم يصبر، وعاد ذلك الحزم فيه نقصا، فدعا بشيء فأكله، وأتي بطبق فيه فراريج [حارة] مشوية وخروف وجدي بارد، فأكل من كل ما رآه، فلما حصل في معدته انقطع عنه الإسهال.
قال نسيم الخادم: فلما وقفت على ذلك خرجت إلى سعيد بن توفيل وهو قائم في الدار، فقلت له: قد أكل مولاي الساعة من خروف وجدي وفراريج وبزماورد
12
ودجاج، فخف عنه القيام وامتسك. فقال: الله المستعان، ولله أمر هو بالغه. ثم قال لي: ضعفت قوة المدافعة بقهر الغذاء لها قليلا، وستتحرك حركة شديدة. قال: فوالله ما جاء السحر حتى قام أكثر من عشرة مجالس. ورحل عن أنطاكية وعلته تتزايد إلا أن في قوته احتمالا لها. ووافى إلى دمشق فأقام بها لتسكن علته.
وكان ابن أبي الساج قد كاتبه، وعزم على أن يوجه إليه ابنه يكون عنده رهينة بالوفاء، وإظهار الدعاء له في أعماله بالجزيرة، فظن أحمد بن طولون أن رأيه فيما أظهره صحيح، فأنفذ إليه عبد الله بن الفتح وطبارجي ومعهما الخلع والجوائز والخيل، على أنه إن وفى بما ذكره ودخل في طاعته سلما إليه المال والخلع وما حمل إليه، وثبتا اسم أحمد بن طولون على الجزيرة وأعمالها.
ولما قرب طبارجي من ابن أبي الساج خشي أن يكون ذلك حيلة عليه، وكان أحمد بن طولون قد تقدم إليهما بالقبض عليه فولى هاربا، فرجع طبارجي وابن الفتح إليه فعرفاه بما فعل، فعجب من ذلك.
وخاف سعيد بن توفيل عليه من تزايد العلة، فأشار عليه بالرحيل إلى مصر، فاستخلف على دمشق ابن دغباش، وقلد عبد الله بن الفتح الرقة، وجعل أنعج على السيارة بينهما، ورحل على عجلة عملت له موطأة، يجرها الرجال قليلا قليلا؛ لأنه لم يتهيأ له ركوب بغل ولا قبة؛ لئلا تتحرك على ذلك [علته]، فسار بهذه الحال حتى بلغ الفرما،
13
فشكا إزعاج العجلة أيضا له، فركب الماء في المركب يخب قليلا قليلا حتى وافى إلى الفسطاط، وركب من ساحل الفسطاط قبة إلى الميدان.
فلم يستقر في داره حينا حتى أحضر بكار بن قتيبة القاضي فسأله عن امتناعه من التصريح كما صنع غيره في أمر الموفق، وقال له: لم توقفت عن خلعه وقد حصر الخليفة وأسره وقهره واستبد بالأمر دونه؟ أفمثل هذا لا يخلع؟ ويؤمر على المسلمين لمخالفته رب العالمين. فقال له بكار: أنت أوردت علي كتابا من الخليفة المعتمد بتوليته العهد، فلو أوردت علي كتابا من الخليفة المعتمد أنه قد [خلعه] خلعته، وأما بخلعك أنت له أخلعه أنا لا يجوز لي غير ما عملته؛ إذ لم يجز لي أن أقبل الأمر بنصه. فقال له: صدقت، أتيتك لعمري بكتاب منه بتقليده العهد وهو مطاع القول، وهو اليوم محصور مأسور مضيق عليه، قد نكث عهده من قلده إياه، ولم يجازه على جميل فعله به، واستبد بالأمر دونه وحصره وقهره، فوجب بذلك على المسلمين خلعه. فقال له بكار: ما أقول في هذا شيئا إلا بحجة أثبتها. فقال له أحمد بن طولون: أنت شيخ قد خرفت، ونقص عقلك، وأعجبك قول الناس: «بكار بكار» فدعاك ذلك إلى أن خرجت عن جملة من شهد بأنه مستحق للخلع، وخارج عن طاعة أمير المؤمنين ممن فيه الخير والدين، ثم أقامه للناس في الميدان، وأمر بتحريق سواده، فحرق وحبسه في داره، فكان بكار في كل جمعة يلبس ثيابه وطويلته
14
ويخرج إلى باب الدار التي هو معتقل فيها، يريد الجامع الجامع لصلاة الجمعة، فيقول له الموكلون: ما إلى الخروج، أيها القاضي، سبيل إلا أن نؤمر. فيقول لهم: الله شهيد على أني أرجع إليكم. فيقولون له: ما إلى ذلك سبيل. فيقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد. ويرجع. فرفع ذلك إلى أحمد بن طولون فأرسل إليه يقول: زعمت أن المحجور عليه يأمر وينهى ويكتب ويكاتب، فكيف حال الممنوع؟ فما تريد أنت أيضا؟ أردت علي كتابا من الخليفة بتقليدك القضاء فأنفذت ذلك لك، والآن قد منعتك فتورد علي كتابه بردك حتى أردك. فأقام في الحبس مذ قدمته الأولى من الشام إلى عودته الثانية منها.
وتفرغ [أحمد بن طولون] لأشياء كانت في نفسه، فمنها هرثمة صاحب دار هرثمة، أوقع به واصطفاه جميع ما ملكه وحبسه؛ لأنه كان رفع إليه أنه قال: توهمنا أنا نخدم إمارة، ولم ندر أنها خلافة، إلا إنها خلافة وسخة مخوفة العاقبة.
وأنه اجتاز ببكار بن قتيبة وقد أقيم للناس فقال له: عز علي، كفانا الله وإياك، فما هذا مقامك. فحبسه في المطبق حتى مات فيه.
وأوقع بزياد المعدني؛ لأنه بلغه عنه أنه سمع حسن بن مهاجر كاتبه
15
وقد لحن في لفظة، فضحك منها. وكان أيضا القواد كلهم يبغضونه ويسبونه لفصاحته وعجمتهم؛ ولأن أحمد بن طولون تقدم إليه أن ينتسب إلى ولائه فقال له: أيها الأمير، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «ملعون من انتمى إلى غير مواليه.» وجماعة من بالمغرب يشهدون بعتق أشهب لي. فأمسك عنه. وبلغه أيضا أنه كان يعيب ألفاظ أحمد بن طولون، ويقول: كان أشهب مولاي أسد رأيا وأحق بالرياسة منه. فحبسه حتى مات في حبسه.
وقبض على أبي الضحاك محبوب بن رجاء وأخذ جميع ما كان له وحبسه في المطبق، وقال له: أنت كنت السبب في خروج ابني العباس إلى الغرب بالتضريب
16
بينه وبين الواسطي، وإنفاذك كتب الواسطي إلى ابني العباس بما كان يطالعني به من أمره، وأغريته به وملأت صدره عليه، لتقتل الواسطي وتنفرد بموضعه.
وكان معمر الجوهري قد حسن له التجارة، فحمل إليه مالا على أن يشغله له في كتان، فرأى فيما يرى النائم كأنه تمشش
17
عظما فدعا بالعسال المفسر، وكان حاذقا بالعبارة،
18
فقص عليه ما رآه فقال له: أسفت نفس الأمير إلى مكسب لا يشبه خطره ومحله. فدعا بإبراهيم بن قراطغان وكان من أحد ثقاته، ويتقلد صدقاته، فقال له: امض إلى أبي الحسن معمر، فخذ منه ثمن الكتان، وتصدق بجميعه، ففعل ذلك، وكان مالا واسعا.
حدث إسحاق بن إبراهيم قال: قلت لسعيد بن توفيل طبيب أحمد بن طولون وقد صار إلي بعد قدومه بيوم يسلم علي، ويشكو إلي ما عاناه من علة أحمد بن طولون، وكان يخدم أبي وعمي قبله: ويحك، أنت حاذق في صناعتك فاره
19
فيها، وليس لك عيب إلا أنك مدل بها، غير خاضع لمن تخدمه بها، والأمير وإن كان فصيح اللسان هو أعجمي الطبع، وليس يعرف أسباب الطب، ومقدار صناعته، فتدل فيها عليه
20
فيحتمل ذلك لمقدار محل الطب والحاذق فيه، وقد أفسده أيضا عليك إقباله، فالطف له وارفق به وداره، وخاطبه من حيث يشاء، واخدمه كما يختار، وواظب على أمره واحتمل شيئا إن جرى منه، فإن احتمالك يثنيه عما لعلك تنكره.
فقال لي: والله ما خدمتي له إلا كخدمة الفأر للسنور، والسخلة للذئب، وحذري منه كحذرهن، وإن قتلي لأحب إلي من صحبته؛ لأنه ينكر علي ما لا ينكر، ويخالف من علاجه ما ينفعه، ويسارع إلى ما أحذره منه وأنهاه عنه، فإذا حدث ما يكرهه نسبني إلى أني قصرت في علاجه وجعل الذنب لي. فقلت له: فأنت على هذا مرحوم، أعانك الله بلطفه.
فلما اشتدت علة أحمد بن طولون أرجف إسحاق بن كنداج وابن أبي الساج بموته وأذاعا [ذلك] وطمعا في الوثوب على أعماله التي تقرب منهما. وبلغ ذلك أحمد بن طولون فكتب إلى أنعج يأمره بالمصير إلى عبد الله بن الفتح ليعاضده، وكتب إلى ابن دعباش يأمره بمعاضدتهما إن احتاجا إليه، ووصاهم بأن تكون كلمتهم واحدة، وقلوبهم متفقة، وأمر بمضاربه فأخرجت إلى منية الأصبغ،
21
وأنفذ إلى الشام جيشا فيه خاقان ويلبق، وأقام في مضاربه نحوا من شهر، ونفذت بذلك الأخبار إلى ابن كنداج وابن أبي الساج فكف ذلك منهما طمعهما، ومنعهما مما كانا قد عزما عليه.
وكان أحمد بن طولون إذا جرى ذكر إسحاق بن كنداج يقول: قال اليهودي كذا، وفعل اليهودي كذا؛ لأن الخزر
22
كلهم يهود.
وأضر بأحمد بن طولون مقامه في مضربه لكثرة الهواء، فدخل إلى داره وعلته تزيد، فأحضر الحسن بن زيرك الطبيب، فشكا إليه سعيد بن توفيل طبيبه. وكان ابن زيرك هذا حاذقا أيضا في صناعته مقدما فيها، وذكر له توانيه في علاجه، فسهل عليه علته، ووعده بالسلامة منها عن قرب، فأنس إلى هذا القول منه وفرح به، وخف عليه بالراحة في داره والطمأنينة، وبملاطفة النساء له بالغمز مرة، وبالهدوء أخرى. ورفق النساء بالعليل يحدث راحة، وكذلك محادثة الصديق المحب أو الصاحب المخلص، واستماع الأخبار والأحاديث من جد وهزل تحدث سلامة وراحة قوية ومرحا في القلب، فهذا أجل ما استعمله العليل.
فلما حصل لأحمد بن طولون هدوءه في داره، واجتماع شمله وسكونه، تبرك [بقول الحسن] بن زيرك، فجعل يخلط فيما يأكله مع الحرم ثقة بقول ابن زيرك، ويسر عن طبيبه وغيره ما يخلط به على نفسه، ولا يمتنع من شهوة يؤثرها، لقوة قلبه بقول ابن زيرك الطبيب وما أطمعه فيه. وإنما قصد بذلك أن يكسره عن شكواه إليه طبيبه سعيدا، فكانت راحته التي وجدها لا أصل لها، فازدادت علته بتخليطه. وكان قد اشتهى على أم أبي العشائر ابنه سمكا قريصا
23
فأحضرته إياه فأكل منه، فما تمكن في معدته حينا حتى تدافع الإسهال عليه وزاد أمره، فأحضر أطباء البلد كلهم وجعل الذنب لهم، وقال لهم: أخطأتم في علاجي. وأرهبهم وأخافهم، وقال للحسن بن زيرك الطبيب، وكان قد سقاه دواء ممسكا: أحسب أن الذي سقيتني إياه أمس كان غير صواب، وكذلك ما أسقيتنيه اليوم أيضا. فقال: والله ما أسقي الأمير إلا ما أجتهد في الصواب فيه، وأتولى عجنه وعمله بيدي، وأعلم أنه علاجه وموافق له، وكل ما تناوله الأمير، أيده الله، أمس واليوم فمحمود زائد في القوة الممسكة ينهضها ويقويها في معدتك وكبدك.
وضاق صدر ابن زيرك من خطابه له، فقال: يحتاج الأمير، أيده الله، إلى إحضار جماعة أطباء البلد كلهم، في غداة كل يوم، حتى يجتمعوا على المشاورة، ويتفقوا في أمره على ما يسقونه، فلا يتناول إلا ما أشارت به الجماعة واتفقت فيه آراؤهم. فضيق هذا القول صدر أحمد بن طولون، فقال: والله لئن لم ينجع في دواؤكم وتدبيركم لأضربن أعناقكم بأسركم، فما أنتم إلا ممخرقون، وعلى الأعلاء متجنون، لا يحصل العليل منكم على شيء في الحقيقة.
فانصرف الحسن بن زيرك من بين يديه وهو قلق بكلامه، [قد فعل] الخوف منه في قلبه وعمل فيه الفكر، وكان شيخا كبيرا فحميت كبده عليه من الغم الشديد، وقوي عليه الفكر فاختلط عقله، فبقي يومه وليلته يهذي بعلة أحمد بن طولون، ويورد كلامه له وما توعد به الجماعة، فمات من الغد، وطلبه أحمد بن طولون فعرف موته فازداد غمه وقلقه، وأمر بجمع الأطباء، فجمع له أطباء البلد الموصوفون في التقدم في الصناعة والحذق، وكانوا إذ ذاك متوافرين، فكانوا يحضرون في كل يوم بين يديه، ويحضر طبيبه سعيد بن توفيل خشية ما جعله ابن زيرك في نفسه، فيتشاورون في أمره، فإذا اتفقوا على صفة لا يشكون فيها جميعا عملت شربة فيها شربتان، فيشرب أحدهم نصفها بين يديه ويسقى النصف الآخر؛ كل هذا حتى يزول الشك عنده فيهم، فكان من يشرب منهم ما لا يحتاج إليه جسمه ضره وأعقبه علة، فكانوا يحتملون من ذلك أمرا عظيما طول علته.
قال: وكان أحمد بن طولون قد قال لسعيد بن توفيل طبيبه قبل علته: أريد طبيبا يصلح لخدمة الحرم، ويكون بين أيديهم في غيبتي وحضوري. وكان له ابن بارع في صناعته قد حذق الطب، وكان ذكي الروح حسن الوجه، فقال له: لعبد الأمير ابن كيس قد برع في الطب، فإن أمرني بإحضاره أحضرته، قال: أحضره. فلما أحضره نظر إلى حسنه فقال له: ويلك! أقول لك طبيب يصلح للحرم تجيئني بمن يفتنهن ويفسدهن، انظر لي واحدا مقبحا، لا يهش إليه أحد، فحملت سعيد بن توفيل النفاسة والغيرة على موضعه أن يدخل معه فيه غيره، على أن [أخذ] هاشما، وكان شاكريه،
24
فألبسه دراعة
25
وخفا وعمامة، وقلع ثيابه الوسخة التي كان يخدم فيها، وكان مقبحا جدا، فأدخله إليه، فلما رآه قال له: نعم، هذا يصلح لهن، وقد جودت فيه، فألزمه خدمتهن. وكان لهاشم هذا إقبال قد أزف ونجوم قد طلعت، لم يعلم بها سعيد بن توفيل، ولا أن هلاكه يجري على يديه، فأدخل إلى الحرم فسألوه عن أشياء تنفق عندهن؛ من دواء الشحم وعلاج سواد الشعر وعلاج الحيض وأشباه ذلك. وكان هاشم خبا ملعونا، فاجرا رديء الطبع، فجرى معهن في ميدانهن كما أردن، فقال لهذه: أنا أعمل لك كذا وكذا. وقال لأخرى لما تطلبه منه: أنا أعمل لك في هذا ما لا يعرفه أحد ولا يحسنه. وعمل لكل واحدة منهن ما أرادت، فحظي بذلك عندهن حتى ضرب بعضهن ببعض المثل، وكسب منهن كسبا كثيرا ما كسب صاحبه مثله مع أحمد بن طولون. ولم يكن يحسن غير دق العقاقير وعجن الأدوية بين يدي سعيد، ونفخ النار تحت الأدوية المطبوخة، ولم يكن يمكنه من عمل شيء من الطب؛ لأنه لم يكن وزنه ذلك ولا محله عنده، وإنما كان يمسك حماره إذا دخل دار الأمير أو بغله وينام في الإصطبل.
وكان جماعة الأطباء قالوا لسعيد لما اصطنع هاشما وأدخله إلى الأمير والحرم: يا سعيد نفست
26
على غيرك أن تدخله دار الأمير ، وفيهم من لا يشك فيه أنه يصلح لذلك، حذقا بالصناعة وفهما لها، ثم مع هذا كنت تكون آمنا منه عليك وعلى حالك، والله ليكونن لك من هاشم الذي اخترته يوم يرده إليه طبعه الرديء وأصله الدنيء.
حدث جريج بن الطباخ المتطبب قال: لقي سعيد بن توفيل [عمر] بن صخر الطبيب، فقال له [عمر]: ما الذي نصبت هاشما له؟ فقال: لخدمة الحرم؛ لأن الأمير طلب مني طبيبا مقبحا. فقال له: قد كان في أبناء الأطباء قبيح قد حسنت تربيته وطاب مغرسه يصلح لهذه الحال، ولكنك استرخصت الصنيعة، والله يا أبا عثمان، لئن قويت يد هاشم ليرجعن فيك إلى دناءة منصبه وخساسة محتده. فتضاحك سعيد من قوله وقدر أن ذلك لا يكون.
فلما جمع أحمد بن طولون الأطباء واتفقوا على ما يعالجونه به، دخلت إليه أم أبي العشائر ابنه فقالت له: قد أدخل مولاي إليه اليوم جميع الأطباء ووقفوا على علاجه، وعمل كل واحد منهم بما عنده من الصواب بما سقوك إياه، وأرجو أن يكون فيه الشفاء بمشيئة الله. ولم يحضر مولاي هاشما طبيبا فيمن حضر، والله يا مولاي ما فيهم مثله؛ لأنا قد شاهدنا منه في خدمته لنا ما حمدناه وتبركنا بصفاته، فقال لها - طلبا للفرج لما هو عليه من العلة التي يطمع العليل فيها بكل شيء، وتتعلق نفسه بما توعد به فيها من العافية: أحضرينيه سرا حتى أخاطبه وأسمع ما عنده في مشاهدته حالي. فأدخلته إليه سرا، بعد أن شجعته على كلامه، وسهلت عليه هيبته؛ لأنه جبن من دخوله إليه مما لم يقدر أنه يراه أبدا، فلما دخل إليه ومثل بين يديه وأخذ مجسه وتأمله قليلا، لطم وجهه وقال: أغفل أمر الأمير، أيده الله، حتى بلغ إلى هذه الحال؟ لا أحسن الله جزاء من تولى أمره. فكان لطم هاشم وجهه بين يدي الأمير وما تكلم به في أستاذه تصديقا لقوة من أنكر على [سعيد] تقديمه وإدخاله إياه إلى الحرم وتركه بحيث لا يستحق، وكان ما خاطبوه فيه حقا، فقال له أحمد بن طولون: يا مبارك، فما الصواب الآن؟ قال: يتناول الأمير، أيده الله، قميحة صفتها كذا وكذا، وعدد فيها قريبا من مائة عقار، ولم يعلم أن سبيل هذه القمائح تمسك [عندما] تتناول ثم تعقب ضررا كبيرا؛ لأنها تتعب القوى الماسكة، وكان استعماله ما اتفق عليه الأطباء مع سعيد وسقوه إياه لو دام عليه أحمد عاقبة وأنفع، فامتنع من شرب ذلك يومه، وتناول القميحة التي أشار بها هاشم، وعملها له بين يديه، فلما تناولها أمسكت وحبست قيامه وقوي قلبه لذلك، وحسن موقع هاشم من قلبه، وظن أن البرء قد تم له، فقال له: ويحك يا هاشم! إن سعيد بن توفيل قد حماني منذ شهر من لقمة عصيدة
27
اشتهيتها ومنعني منها، لعنه الله، وأنا والله أشتهيها. فقال له: أيها الأمير، قد أخطأ سعيد، العصيدة مقوية ولها أثر حميد. فأمر أحمد بن طولون بإصلاحها فأصلحت، وجيء منها إليه بجام
28
واسع فأكل منه أكثره، وطابت نفسه ببلوغ شهوته ونام، وكان يشتهي النوم فيتعذر عليه، فأثقلت معدته ووجد خفا في انقطاع الإسهال، وطاب له النوم بعد الأكل، وظن أن ذلك صلاحه وعافيته، وطوى ذلك عن طبيبه سعيد ولم يوقفه على شيء منه.
فتبارك الله الخالق البارئ المتفرد بالكمال والبقاء، بينما كان له العقل الصحيح والرأي السديد والفراسة المضيئة والحدس الصادق الذي ما كان يخطئ في أيام إقباله، وما كان يلزمه نفسه ويتفقده منها ومن غيرها، وشدة حذره وتوقيه ... حتى انقلبت العين في هذا كله دفعة واحدة، وصار هو عدو نفسه يطعمها سرا من طبيبه السمك القريص، مع ما يعلمه الناس كلهم فيه، والعصيدة الثقيلة المتخمة المؤذية في حال الصحة فكيف مع العلة؟ ثم يخادع نفسه ويسخر منها ويكتم طبيبه وغيره حاله في ذلك، حتى [كأن] له في معدته بسوء فعله عدوا قاتلا، ويفضل مثل هاشم على مثل طبيبه سعيد بن توفيل وغيره من حذاق الأطباء إلا أنه إذا أراد الله، عز وجل، أمرا سلب كل ذي لب لبه حتى تتم مشيئته.
فلم أكل العصيدة ونام انتبه من نومه، فأحضر سعيد بن توفيل، فقال له: يا سعيد، ما تقول في العصيدة؟ قال: ثقيلة على الأعضاء، وأعضاء الأمير تحتاج إلى التخفيف لا التثقيل. فقال له: دعنا من مخاريقك، قد أكلتها بحمد الله ولم أر إلا خيرا. فأمسك سعيد حيرة في أمره، وجاءوه في الوقت بسفرجل من الشام وفاكهة، فقال لسعيد: ما تقول في السفرجل؟ فقال: مص منه شيئا يسيرا على خلو من المعدة فإنه صالح. فلما خرج سعيد من عنده أكل سفرجلتين كبيرتين فعصر السفرجل العصيدة فتدافع الإسهال جدا، فدعا بسعيد بن توفيل فقال له: يا ابن الفاعلة، ألم تزعم أن السفرجل صالح؟ ما صلاحه وقد عاودني الإسهال؟ فقام سعيد ينظر إلى النجو
29
فرجع إليه فقال: هذه العصيدة التي أحمد الأمير أمرها وذكر أني ممخرق، وأني غلطت في منعه منها، لم تزل قائمة متحيرة في الأحشاء لا تطيق عبورا، ولا تطيق المعدة هضمها لضعف قوتها حتى عصرها السفرجل، ولم أطلق [لك أن تأكل] السفرجل، إنما قلت: تمص منه يسيرا. وكان سعيد قد أخبره الغلمان أنه أكل سفرجلتين، فقال له في خطابه: أكل الأمير السفرجل للشبع، لم يأكله للعلاج. فقال له: يا ابن الفاعلة، أخذت تهاترني وأنت صحيح سوي وأنا عليل مدنف.
30
السوط! فأحضر، فضرب بين يديه مائتي سوط، وحمل على جمل وطيف به البلد، ونودي عليه: هذا جزاء من ائتمن فخان. ونهبت داره فمات بعد يومين.
قال مؤلف هذا الكتاب: وكان أحمد بن طولون يحذر سعيدا قديما من قتله له، وكان قد وقع له لتتم المشيئة في سعيد أيضا أنه قد أغفل علاجه في بدء العلة حتى تزايدت عليه وعظم أمرها، ولم يكن الأمر كما ظنه أحمد بن طولون به، ولا كان الخطأ إلا منه على نفسه، والذنب له دون غيره. وكان سعيد بن توفيل من يوم أكل السمك قد أيس منه، وعرف نسيما الخادم بذلك، وكان غلاما عاقلا محصلا.
حدث نسيم الخادم أن مولاه أحمد بن طولون طلب سعيد بن توفيل يوما من الأيام، فقيل له : مضى يستعرض ضيعة ذكرت له يشتريها. فأمسك، فلما حضر قال له: ويلك يا سعيد! اجعل صحبتي ضيعتك التي تشتريها لتستغلها، وواصل مراعاة خدمتي، واحرص على صحتي ولا تغفل ذلك، واعلم أنك تسبقني إلى الموت إن كان موتي على فراشي، وأني لا أمكنك من الاستمتاع بالحياة بعدي. فقال بعض العلماء حين سمع هذا القول: ما سمعت حثا لمتطبب على مبالغة في نصح أشد من هذا.
قال مؤلف هذا الكتاب: وفي إفاقته من علته أطلق محبوب بن رجاء من محبسه، ورد إليه جميع ما كان أخذ منه، فوجد محبوب ماله مختوما بخاتمه بحاله ... دنانير، ما عرض له ولا نظر إليه.
فلما رأى أحمد بن طولون اشتداد العلة أحضر خواصه من وجوه قواده وابن مهاجر والواسطي، وقال لهم: استهدوا لنا الدعاء من الناس كافة، وسلوهم الخروج إلى الجبل والتضرع إلى الله، جل اسمه، بالمسألة له في عافيته لنا. فشاع هذا القول منه في الناس، فخرج المسلمون بالمصاحف إلى سفح الجبل، وتضرعوا إلى الله في أمره بنيات خالصة لمحبتهم له، وشكرهم لجميل أفعاله، وكثرة معروفه وإحسانه، وصيانتهم عن كل حال يكرهونها منه، أو من أحد من حاشيته، مع أمنتهم ورخص أسعارهم، بمراعاة ذلك وحرصه عليه ومحبته له.
فلما رأى اليهود والنصارى ذلك من المسلمين خرج الفريقان؛ النصارى معهم الإنجيل، واليهود معهم التوراة، وفي أيديهم حزم الآس، وفي أيدي شمامستهم البخور، يبخرون ببخورهم الذي يتبركون به، واجتمعت الجماعة كلها في سفح الجبل، واعتزل كل فريق منهم على حدة يدعون الله، عز وجل، ويتضرعون إليه في أن يمن عليه بعافيته، فكان يوما عظيما، وارتفعت لهم ضجة عظيمة هائلة حتى سمعها في قصره، فبكى لذلك، وتضرع معهم إلى الله، جل اسمه، والمنية قد قربت، كما قال بعضهم:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمة لا تنفع
قال: ومن شيم النصارى أن يتضرعوا بمثل هذا الفعل في الاجتماع والخروج، إذا قدم البلد وال جديد، وكذلك رأيناهم قد عملوا في قدوم بولس إلى البلد، خرج النصارى إليه وفي أيدي شمامستهم الزبور وغيره ... ومعهم المجامر يبخرون من باب المدينة إلى أن دخل إلى داره، وخرجت إليه، أيضا، اليهود، وفي أيدي أحبارهم وشيوخهم الآس، وفي أيدي بعضهم كتبهم يقرءونها بين يديه، فكان لهم ذلك اليوم ضجيج في البلد.
وحدث نسيم الخادم قال: دعاني مولاي، وقد مضت قطعة من الليل، قبل وفاته بشهر واحد، فقال لي: ادخل إلى بكار بن قتيبة فإن أصبته يصلي فانتظر فراغه من ركوعه وسجوده، فإذا سلم فقل له عني: أنت تعلم ميلي إليك قديما وإكرامي لك مبتدئا، وإنه لم يفسد محلك عندي إلا أمر الخلع وأن شهادتك فيه كانت مباينة لشهادة غيرك مخالفة لها. وقد شاع في عسكري أنك نقمت هذا الخلع علي، ووالله ما انحرفت عن الناكث لإساءة كانت منه إلي اعتدتها له، ولا أردت بخلعه إلا الله، عز وجل؛ لأنه أسر الخليفة ومنعه ما يجري له. والصواب أن تحضر مجلسي في جمع من أوليائي وأولياء أمير المؤمنين، فتتبرأ من الناكث براءة تدل على صدق نيتك لأمير المؤمنين، وترجع إلى عملك، ونرجع لك إلى ما كنا عليه من الإكرام والموالاة والحال التي كانت بيننا، وإن امتنعت من هذا فلا لوم علينا فيما أتيناه في أمرك، مما لم نؤثره ولا نختاره والله فيك.
قال نسيم الخادم: ففتحت باب الحجرة التي كان فيها بكار معتقلا، ودخلت فوجدته قائما يصلي، فقلت من حيث يسمع: رسول الأمير. لأنه كان ثقيل السمع، فوالله ما حركه ذلك ولا فكر فيه ولا أوجز من صلاته، ولم يزل يقرأ حتى فرغ من حزبه، ثم ركع وسجد وجلس قليلا، وقام وقرأ طويلا، ثم ركع وسجد وجلس يسيرا، ثم سلم، فقلت له: ر[سول الأمير]. فقال: وما يريد الأمير؟ فقصصت عليه الرسالة، فقال: قل له: يعز علي أن يكون حرصك على ما تفارقه أكثر من ميلك إلى ما لا بد لك منه، وقد أعنتني وآذيتني؛ لأنك تكلفني الشهادة بالبلاغات التي لا يعدلها الحكام، فخف الله في أمري فإني شيخ فان وأنت عليل مدنف، ولعل التقاءنا بين يدي الله، عز وجل، قريب، وقد والله نصحت لك والسلام. وقام إلى صلاته.
قال نسيم: فخرجت من عنده وقد أبكى قلبي وأبكى عيني، فدخلت إلى مولاي فأعدت عليه قوله، فبكى وبقي يقول: شيخ فان وعليل مدنف، ولعل التقاءنا بين يدي الله، عز وجل، قريب. وأقبل يكرر ذلك، ثم قال لي: انظر أعرف المضمومين إليك، فوكله به في دار تكتريها له، وأطلق له دخول ابني أخته إليه ومن أحب. فاكتريت له دارا في نواحي الموقف، ووكلت به رشيقا أخا سعد الفرغاني؛ لأنه كان شيخا فيه دين وخير، فلم يزل معتقلا فيها إلى أن مات مولاي، فأطلقه أبو الجيش يوم موته واستحله لأبيه، فكانت هذه الفعلة من أبي الجيش أحد أفعاله الحسان، فأقام بعد مولاي عشرين يوما ومات فلحق به.
حدث شعيب بن صالح قال: أرجف الناس بوفاة أحمد بن طولون قبل أن يموت بشهور، وعلل الخوف، أبدا، تطول على أصحابها، فدخل إليه يوما جماعة من أصحاب أخباره، ومعهم رجل من أهل المدائن فقالوا له: هذا صاحب خبر الموفق. فقال له أحمد بن طولون: ليس [ينجيك] مني ولا يخلصك غير صدقك إياي، فاصدقني تنج. فقال له: نعم، أنا صاحب الموفق، أنفذني إليك قاصدا لأعرف له صحة أمرك في علتك لا غير، لما أرجف بك عنده. فقال: [لقد سلم] الله روحي وجسمي، وأنا صحيح العقل والتمييز لم أمت، بمن الله وطوله، وأوليائي متمسكون بطاعتي، والدليل على ذلك إتيانهم إياي بك، ارجع إليه فقد أمنك الله، جل اسمه، وعرفه ذلك، وقل له: إني لم أنحرف عنك وأخلعك وأخالف عليك كرها لك، ولا كان ذلك مني إلا طاعة لأمير المؤمنين وما أكدته علي بيعته، فإن رجعت عما أتيته في أمره كنت لك كما أنا له متصرفا بين أمركما ونهيكما وطاعتكما. واحذر أن تقيم. ووكل به حتى أخرج عن البلد من وقته.
قال مؤلف هذا الكتاب: فورد علينا الخبر أنه لما وصل إلى الموفق رسوله هذا، فأدى إليه رسالة أحمد بن طولون، بكى غما منه بعلته ، وقال: صدق والله في قوله. ونذر لله، عز وجل، في عافيته نذرا من قيام وصدقات.
وحدث شعيب بن صالح قال: دخلت يوما إلى نسيم الخادم أسلم عليه، فرأيت عنده شيخا من أهل الدينور
31
حسن الظاهر، وذلك بعد وفاة أحمد بن طولون بمديدة يسيرة، فرأيته متمكنا من نفسه حسن الإبانة،
32
فقال لي نسيم: تريد أن تقف على أن مولاي قد ختم له بخير؟ سل هذا الشيخ يحدثك بخبره معه فإني حضرته، قال: فترحم الشيخ على أحمد بن طولون، فسألته عن ذلك فقال لي: كنت يوما جالسا في الموقف، في دكان بعض أهل سوق الجهاز، وإلى جانبي رجل حسن الهيئة، فذكر أحمد بن طولون في علته وغلظها، فقال رجل ممن حضر معنا في الدكان: قد مات. فقلت، وما أعرف لي غلطة غيرها:
فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين .
فقام ذلك الرجل من جانبي، فما بعد حتى عاد ومعه خمسة رجالة، وقال لهم بيده: خذوه. فطرح ردائي على وجهي [وساقني] سوقا عنيفا حتى أدخلت الميدان، فعرضت على حسن بن مهاجر، فقال لي: يا كلب، بطرت بعيشك بالأمن، ولو شغلت بالخوف لتركت الفضول، فحسست من كلامه قد وشي بي،
33
ثم كتب رقعة ووجه بها مع خادم إلى الأمير، فما أبطأ حتى خرج، فخاطبه بما لا أقف عليه، فقام وأدخلني معه، فعججت في سري إلى الله، جل اسمه، وسألته حسن الدفاع عني، ومثلت بين يدي الأمير وقد زاد اضطرابي، وأنا مستعين بالله على ما أتخوفه منه، فسلمت فرد علي السلام بإصبعه، ورأيت عليه أثر البكاء، فقال لابن مهاجر: ترفق قليلا قليلا، سل هذا الرجل هل سبقت منا إليه إساءة؟ فرد علي بن مهاجر قوله، فقلت: لا والله، أيد الله الأمير. فخاطبني هو وقال لي: فما أخذك، ويحك، بإطلاق لسانك بما لا يجوز لك في ولائك؟ فقلت: أعز الله الأمير لما لا يضبط من المقدار الذي يجري بالمحبوب والمكروه، وخور يلحق الطباع الضعيفة فيمنعها من حسن التحرز. فقال لابن مهاجر: قد أحسن الاحتجاج لنفسه ، وما يسهل علي إصلاحه في تقويمه بفسادي في معادي، على شدة حاجتي في هذا الوقت إلى عفو ربي. ثم التفت إلي فقال لي: حدثني فلان عن فلان عن وهب بن منبه، فقال: أوحى الله، عز وجل، إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: مر عامة أمتك ألا تتأسى بالملوك في ارتكاب الكبائر، فإن للملوك كبائر من الأفعال الجميلة لا يصل إليها عامتهم، تمحص بها آثامهم ويحسن بها صدرهم.
34
ثم قال لنسيم: ادفع إليه خمسين دينارا واصرفه مصونا. قال الدينوري: [حفظت الحد]يث ونسيت إسناده لفرط ما لحقني من الخوف والهيبة؛ فقد بقي في نفسي منه جرح لا يندمل، وغم لا يزول إلا بعد وجوده، وقد أحفيت
35
الطلب له وأنا كذلك إلى أن أجده بعون الله، فرحم الله أحمد بن طولون؛ فما مر لي وقت إلا وأنا أترحم عليه وأستغفر الله، جل اسمه، له.
قال: وكان أحمد بن طولون كثير الاستقصاء في مال الجيش، فلما اشتدت علته تقدم إلى ابن مهاجر في إطلاق رزق سنة للجيش في بيعة أبي الجيش بعده، فظن ابن مهاجر أن ذلك من اختلاط العلة فأهمل العمل به، فلما كان من غد يومه سأله عما صنع في ذلك، فقال له: ما خرج الحساب من أيدي الكتاب بعد، فقال له: أظننت، ويحك، تخليطا بي من العلة؟ ما أنا كذلك، والحمد لله كثيرا، بل أنا بضده، وإنما لمثل هذا الوقت جمعت الأموال، وإنما أردت أن يعلم الجيش أنه قد حصل لهم ما لا يسمح ببعضه من يحاربهم ويكاثرهم، فتكون أيديهم وقلوبهم قوية. فسكن ابن مهاجر إلى هذا القول، وأطلق المال للرجال، فعظمت منته عندهم، وكثر شكرهم.
قال مؤلف هذا الكتاب: فلما اشتدت بأحمد بن طولون علته دعا بأحمد بن محمد الواسطي، وقال له: يا بني لمثل هذا اليوم وهذه الحال ربيتك واصطفيتك، وقد علمت حسن موقعك مني، وأني فضلتك على الولد وكل أحد، فلا تخفر الظن بك، واعلم أن الوفاء أحسن لباس وأفضل معقل، والله يشكره، عز وجل، لمن استعمله ، حرمي هن أمهاتك وأخواتك، قال: والواسطي يلطم وجهه ويبكي، وأحمد بن طولون يبكي معه، وهو يحلف له أنه لو تعرض للقتل لما قصر فيما عاد بمصلحة شمله، ويقول: وأرجو أن يهب الله للأمير العافية ولا يرينا فيه سوءا أبدا ويقدمنا جميعا بين يديه. وكل ذلك [وهو] يعج بالبكاء.
فحدث نسيم الخادم، [قال: فلما خرج] الواسطي من حضرة مولاي، قال لي: يا نسيم، والله ما أخاف على حرمي إلا منه وعلى جميع مخلفي؛ لأنه قوي الحيلة فاسد الدين، ولولا أنه وقت استكانة إلى الله، عز وجل، وخضوع، ما كنت آمن على مخلفي منه. قال: فلما كان من غدر الواسطي بأبي الجيش ما كان، وذهابه إلى المعتضد ومعاونته إياه على أبي الجيش، ذكرت قول مولاي، رحمه الله، وفراسته فيه، فما ضر الله، عز وجل، أبا الجيش بغدره، وبقي شريدا طريدا مطرحا بأنطاكية، مذموم الأثر والسيرة، فذكر إحسان مولاي إليه ولم يكافئه على جميل فعله به، وكل أوزار احتقبها فيه، فتصوره الناس بالغدر وقلة الوفاء. ومات بعد مولاي بيسير.
قال نسيم: فلما كنا من غد خطاب مولاي للواسطي وما وصاه به، أحضره وأحضر محمد بن أبا وطبارجي وجماعة من وجوه خاصته وقواده ووجوه دولته وكتابه، فأحضر أبا الجيش فقال له: يا بني إني لم أدفع الحنث في يمين البيعة إلا بما كنت أحمله إلى أمير المؤمنين المعتمد خاصة، وهو مائة ألف دينار في كل سنة، ذكر لي فيما كاتبني به أنها تكفيه، فكان حملي هذا المال يقينا الحنث في يمين البيعة بيعته، فلا تؤخرها عنه ولا تقطعها، ولو أعيتك الحروب وواصلتك فلا تغفل حملها وما يقاومها، فإنك تدفع بها حنث هذا الجيش بأسره في يمين البيعة، وتشرح بها صدورهم في قتال من قصدك، ممن قهر الخليفة ومنعه أمره وتصرفه في إنفاذ حكمه، وجميع أمره، والله بكرمه يكفيه. [قال أبو جعفر] محمد بن عبد كان: إن أبا الجيش لم يزل يحمل هذا المال إلى المعتمد حتى تقلد إسماعيل بن بلبل الوزارة، فأوقع الصلح بينه وبين الموفق.
قال: فلما فرغ أحمد بن طولون من وصية ابنه في حمل المال إلى المعتمد أقبل على وجوه قواده وغلمانه فقال لهم: قد وطأت لكم المهاد بهذه الدولة، وخلفت لكم من عدتها ما يكفيكم، فاطرحوا الأحقاد بينكم، وأسقطوا التحاسد، واتركوا الاستئثار، ولتكن كلمتكم واحدة، وجماعتكم كرجل واحد، ولا تغتروا بمخاريق أهل العراق، ومواعيد من يطلب سيئاتكم، فليس برأسكم أبدا مثلي، ولا أحنى مني ومن ولدي عليكم، فلا تخفروا ذمتي، واحفظوا صحبتي وتربيتي لأكثركم، وإيثاري وإحساني وتفضيلي لجماعتكم، وهم يحلفون له ويبكون بأجمعهم.
ثم عطف على أبي الجيش فقال له: يا بني، لا تعدلن عن مشورتي عليك، فلن تجد، أبدا، أنصح لك مني، قد خلفت دخل بلدك يزيد على ما ينوبك بجيشك وسائر مئونتك، فلا تطلقن فيه يدا بجور، فيختل أمرك بخرابه، ولا تقبل بنصيحة من يتنصح لك بما يئول إلى خراب بلدك، والإجحاف بمعامليك فيه؛ فإنه عدو مبين من حيث لا تعلم، فانبذه عنك، ولا تقربه منك، وقد خلفت لك رعيتك لا يطلبون منك إلا لين الجانب والأمن من المخاوف، ولم أكن أمنعهم لين جانبي بخلا به عليهم، ولكني آثرتك على نفسي بمنعي لهم لين جانبي والأمن من مخافتي، فاستعمل أنت ذلك معهم فتملك قلوبهم، ويبادروا إلى طاعتك، ويهشوا إلى التصرف بين أمرك ونهيك، في صغير أمرك وكبيره، ولم أترك لك عدو أخافه عليك، واعلم يا بني أن كل سرف يئول إلى اختلال وتلف، فاقصد في ا ... مهماتك، ولا تمد يدك إلى المال المخزون عند خير الخادم [واجعله] ذخيرة لمملكتك، وأقمه مقام جارحة من جوارحك لا تبذلها إلا في شدة تخاف معها ساد سائر جسدك، أو عندما تقدر بإخراجها صلاح سائر جسدك، وكان خير الخادم هذا خادم المتوكل.
ثم قال له: واسلك يا بني سبيلي واقتف آثاري في سائر من خلفت يأنسوا بناحيتك، ويحسنوا طاعتك، ولا يميلوا إلى عدو يخالفك، ولا تقبلن مقال السعاة فيما تقوى به سوقهم عندك، فكل شر وسوء يئول إلى اضمحلال وزوال، ويهلك في ذلك من سلكه.
قال مؤلف هذا الكتاب: وكانت الوديعة التي عند خير الخادم ألف بدرة،
36
وكانت عند نسيم فنقلها إلى خير، وكان يكنى بأبي صالح. وكان أحمد بن طولون قد قرن به أبا الجيش يؤدبه، وكان ثقة مأمونا دينا، كان يعرف بخير الطويل، ولما فرغ أحمد بن طولون من وصيته لأبي الجيش قال له: يا بني وفي حاصلي ألف ألف دينار وسبعمائة ألف دينار، وهو غير الوديعة، يكون ذلك لعطاء جيشك، وما عسى أن يعرض لك عند مقاومة من يقصدك، ومادة الخراج بعد ذلك فغير منقطعة عنك، هذا يا بني ما تملكه الدولة والذي أملكه أنا خاصة من دخل أقطاعي وابتياعي، ما يحصل لي منه في كل سنة في بيت مالي مائتا ألف وخمسون ألف دينار، فاقسمها في ولدي وانظر إليهم بعيني، وتغمد هفواتهم، وسد خللهم، وكفهم عن الفاقة إلى غيرك، وبصرهم رشدهم، وامنعهم من سرف الإنفاق؛ فإنك أبوهم بعدي، جبر الله جماعتكم [وأحسن الخلافة] عليكم، وأنا أكرر عليك القول يا بني لئلا تنسى. ليس المال الذي عند خير الخادم لي [فتشتركوا] بقسمته بينكم، فلا تظنن أن كل ما قويت يدك على أخذه هو لك، فصنه وامنع نفسك منه، واستشعر فيه ما وصيتك، فإن انقادت لك الأمور لم يضرك بقاؤه لك، وإن عارضتك الحوادث كان عدة لك، فلا تغرنك وجميع مخلفي وحاشيتي السلامة، فتنسوا ما في نفوس أهل العراق عليكم؛ فأنتم شجا في حلوقهم فلا تأمنوهم، ولا تناموا
37
عن الحزم فيهم، فإن أحسستم بضعف عنهم فابذلوا جميع ما تملكونه في السلامة منهم، ولا تضعوا أيديكم في أيديهم، فإني أعرف ذنبي لهم، والله أسأل رعاية جماعتكم. ثم بكى وبكت الجماعة، حتى ارتجت الدار لبكائهم.
فلما اشتغل بهذه الوصية لهم انقطع عنه الإسهال، فأمل أصحابه عافيته وبرءه، وذو المعرفة أيس منه.
حدث نسيم الخادم قال: لما استحكم إياس مولاي من السلامة كان يحمل كل ليلة في محفة
38
يطوف في الميدان، فلا يرى فيه ثلمة يخاف أن تنفتح، أو تفتح في هيج، فيقتحم منها قوم يدخلون منها إلى القصر [إلا] ويأمر بسدها، حتى سد كل ثلمة كانت فيه، ثم يدعو بثقاته فينعى إليهم نفسه، ويسألهم حسن المكافأة بعده بالطاعة لولده، ويقتضيهم ذلك بسالفه عندهم.
فلما دخل ذو القعدة من سنة سبعين ومائتين دعا بابنه العباس، فأطلقه من قيده وخلع عليه، وقلده جميع الأعمال الخارجة عن أعمال مصر من الشامات والثغور، وقال له: أنا أوصيك يا بني بتقوى الله، عز وجل، ومكافأة أخيك والإمساك عن الاستطالة عليه، بزيادة سنك على سنه، فلا تتركن لمن يقصدكما من العراق مدخلا بينكما يتأتى [منه لكما، ولا] تسمع ممن يطلب صلاح نفسه بفساد ما بينكما، ولا تضمرن لأخيك غير ما تظهره؛ فإن القلوب مجندة. واعلم أن جوار أخيك لك أصلح من جوار غيره، ولا تضمر له خلافا فتبسطا ما بينكما، ويجد عدوكما بذلك سببا إلى هلاككما، وقد تقدمت بإزاحة علل رجالك، فاحرص أن يكون خروجك إلى عملك قبل وفاتي، فإن الراغب عنك كثير أكثر من المائل إليك، وأخاف أن تتلوم
39
على الطمع في موضعي وتتريث فتذهب نفسك، بصرك الله رشدك ووفقك، ووقاك ما أخافه عليك وأحاذره فيك بمنه.
ثم شكا بعد ذلك ظلمة في بصره، ثم لم يبصر شيئا، وجعل يخفت
40
وتضعف قوته، وينحل جسمه، إلا أن عقله ثابت لم يتغير منه شيء، والدليل على ذلك وصيته هذه، ورأيه فيها الرأي التام الذي لا يكون بأسد منه ولا أقوى ولا أبلغ، إلا ما حرمه الله، جل اسمه، إياه من التوفيق في علته حتى تنفذ مشيئته، تبارك وتعالى، فلم يحم نفسه من مأكول، ولا وقاها ضارا، كما أراد الله، عز وجل، فلم يملك دفعا.
حدثت نعت أم أبي العشائر ابنه قالت:
كنت جالسة بين يديه والعصابة في يدي، وقد أيست منه وأنا أنتظره أن تقبض روحه فأشد لحييه ولسانه ضعيف إلا أنه طلق إذا تكلم، ففتح عينيه ثم غلقهما ثم فتحهما، ونظر إلي نظر من رجع بصره إليه، فحمدت الله على ذلك، ثم قال بصوت قوي ولسان طلق ذرب:
41 «يا رب ارحم من جهل مقدار نفسه فأبطره حلمك عنه.»
ثم تشهد أحسن شهادة وأتمها، وقضى في آخر تشهده، وإن ذلك بعد ذهاب [طائفة] من ليلة الأحد، لعشر ليال خلون من ذي القعدة، سنة سبعين ومائتين، فحولت وجهه إلى القبلة، وأخذنا في أمره.
قال مؤلف هذا الكتاب: حدثنا شيخ من صالحي أهل المعافر، قال: جاءني بعض إخواني من كبار المتزهدين الأخيار يعرف بالرمامي، وكان من أحسن الصوفية، فقال: لا تتخلف عن جنازة هذا الرجل. فقلت له: وما في ذاك من الفائدة؟ فقال لي: كل الفائدة. قلت: ما هي؟ قال: ترى انحلال ما عقدته الدنيا من الأمور الجسيمة وتبدده، فيهون عليك ما عاصاك منها، ويزول عنك التهيب لما انساق منها، ويصغر في عينك ما اكتنزه المغرور ورحل عنه، وتعلم أن جميع أحوالها إلى زوال، فقلت: نعم، صدقت.
ومضيت فرأيت جمعا عظيما هائلا، وحالا كبيرة تعجز الصفة عن ذكرها حتى ظننت أنه ما بقي في البلد أحد من رجل ولا امرأة، وكل فرق شتى، كل فرقة على حدتها رجالا ونساء، فتأملت فإذا كل صنف من غلمانه أيضا فرق، وقواده فرق، وكتابه فرق، وسائر أصحابه ومن يلوذ به ويخدمه فرق فرق، ومن كان فضله عليه وجراياته وصدقاته فرق فرق، وقد تميز أيضا النساء من حاشيته وهن أيضا فرق فرق، حرمه منفرد في خلق عظيم، لا يخالطهن أحد من حشمهن، وحشمهن ناحية لا يخالطهن غيرهن، ونساء قواده ونساء غلمانه ونساء كتابه ونساء أصحابه كل صنف منهن على حدة لا يخالطهن غيرهن، ونساء القطائع فرق فرق، وكل الجماعة عليهم من الكآبة أمر عظيم، وكل منهم مسلم لأمر الله، عز وجل.
ثم أقبل من النساء السودانيات، اللائي كان فضله عليهن، وجراياته القمح والدراهم في كل شهر، خلق عظيم لا يحصيه [ولا] يقوم بمعرفة مبلغه إلا الله جل اسمه، صائحات صارخات، فارتجت الأرض لهن، وعظمت الحال في قلوب من شاهدهن، ثم أقبل بعدهن [من] صالحي من يسكن المعافر ممن فيه الدين والورع والخير نساء ورجال قد كان له في جماعتهم المعروف الواسع. ولو لم يكن إلا العين، الماء، التي صارت حياة لهم، وصيانة ومرفقا إلى اليوم وإلى القيامة، إن أراد الله، جل اسمه، ذلك ووقاها من الغير، فأقبلوا مبتهلين إلى الله، جل اسمه، يسألونه الرحمة له والمغفرة والتجاوز عنه، بخشوع وتضرع واستكانة وبكاء.
فشاهدت من ذلك ما هالني، وذكر جميع من حضر أنه ما رأى مثله لموت خليفة من الخلفاء ولا غيره ممن عظم قدره، ثم أقبلوا به مفردا على سرير، مدرجا في ثوب وشي سعيدي كافوري، وأبو الجيش خلفه وحده راكب، لموضع خلافته والإمارة، والعالم من صغير وكبير وشريف وقاض وعدل، وكل من في البلد يمشون، وبين يديه من غلمانه، وخلفه من كل صنف، ومن قواده وسائر من بقي من أصحابه ما لا يحصيه إلا الله، جل وعز، فأتوا به إلى المصلى الذي كان بناه، فتقدم ابنه أبو الجيش فصلى عليه، وصلى الناس بأجمعهم، وعدلوا به إلى قبره وواروه في لحده، وخلوه وحيدا فريدا، أقرب الناس منه وأحبهم إليه من حثا عليه التراب، وانصرف عنه كل ذلك الجمع العظيم، وذهبوا حتى كأنه لم يكن منهم أحد، فتبارك الله أحسن الخالقين ومالك يوم الدين، [سبحانه لا يموت ولا يزول و]كل نفس ذائقة الموت.
قال مؤلف هذا الكتاب: لما انصرفت من جنازته
42
اجتزت بمنزل الواثقية، وكانت من عقلاء النساء، حسنة الدين، كريمة الطبع، وكان أحمد بن طولون محسنا إليها عارفا بمحلها، فاستأذنت عليها فأذنت لي، فدخلت فوجدتها قد أقامت له مأتما سرا، هي وجواريها وخواصها، يندبنه ويضربن بالعيدان على هذا البيت، ويرقصن على إيقاعه، ولا يزدن عليه شيئا غيره، وهن يبكين أحر بكاء وأحزنه:
يا عين بكي خالدا
ألفا ويدعى واحدا
فما سمعت والله أحر منه ولا آلم للقلب ولا أشجى من أصواتهن به، حتى أبكينني بكاء عظيما، وانصرفت من عندها حزينا كئيبا، فلما كان بعد أيام صرت إليها لأعرف خبرها فأصبتها بحال حزن عظيمة، فسليتها وعزيتها، فجعلت تحدثني بأحاديث أحمد بن طولون، وتصف لي أحواله، وتشكو وجدها به إلى أن قالت لي:
اعلم أنه لما جرى على المعتمد من الموفق ما جرى، من سوء الاعتراض والقدح في السلطان، بلغ ذلك منه مبلغا عظيما، فألف كلاما بالتركية، وقال لي: أريد أن ألقيه على [إحدى] جواريك، وتلحنيه أنت لها، وتغنيه حتى أسمعه منها، فأحضرت جواري فاختار منهن رويعة فألقاه عليها، فوالله ما سمعت أرق منه ولا أشجى، فلحنته لها فكان صوته عليها إلى أن اعتل، وتعلمه أيضا جواريه، فما كان يسمعه أحد إلا أبكاه وأوجع قلبه، فسألتها أن تسمعنيه، وكانت فصيحة بالتركية فقالت لي: ليس تفهمه لأنه كلام بالتركية مؤلف، ولكني إذا أنت سمعته فسرته لك بالعربية، ثم أحضرت رويعة جاريتها فغنته بلحن شجي وإيقاع حسن، فأبكاني وآلم قلبي، وما سمعت [صوتا] من المناحات أحرق منه للقلوب، وفسرته لي فكان:
غلب الضباب على الشمس حتى صار النهار ليلا،
وضعفت الشمس وانطلقت السماء بما لا يحسن منها،
فبكا الرأس من قهر البدر وصاح: ما خوفي؟ اقطعوني،
وأريحوني بالله من الملعونة، يا سيد الملوك طرا،
يا لعين تراك تقلع، ولسان يخاطبك يقطع، إن سيفي
قد خرج من غمده، وليس يرجع حتى ترجع إلى بيتك،
وقد أوترت قوسي وليس أحطه حتى تكفى أعاديك.
ثم قالت لي: قد سمعت حسنه بالتركية، وهو بالعربية فيه كلام - كما رأيت - غير مستحسن إلا عند من يعرفه بالتركية. فودعتها وانصرفت.
قال مؤلف هذا الكتاب: مات أحمد بن طولون وعمره يومئذ خمسون سنة؛ لأني صرت إلى
43
نعت أم ولده يوما للسلام عليها، فأصبت بين يديها رقاعا قد أخرجتها لشيء تطلبه فيها، فوجدت رقعتين فقالت لي: هاتان الرقعتان بخط الماضي، رحمه الله. وبكت، فسألتها أن تريني إياهما ففعلت، فقرأت إحداهما فإذا فيها: دخلت إلى مصر متقلدا معونتها يوم الأربعاء لتسع بقين من شهر رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين، وقد مضى من عمري أربع وثلاثون سنة ويوم واحد.
وقرأت الرقعة الأخرى فإذا فيها رءوس أربعة أصوات، كان يقترحها على من يغنيه، لا يختار من الأغاني غيرها.
أحدها:
متى تجمع القلب الذكي وصارما
وأنفا حميا تجتنبك المظالم
والصوت الثاني:
رب من أنضجت غيظا صدره
فتمنى لي موتا لم يطع
والصوت الثالث:
طلعت عليك طوالع الوخط
فرضيتهن رضا على سخط
والصوت الرابع:
قد حصت البيضة رأسي فما
أطعم غمصا غير تهجاع
أسعى على جل بني مالك
كل امرئ في شأنه ساع
فبكيت وبكت ساعة، وجلست عندها طويلا، فلما أردت الانصراف قالت لي: أنا آنس بمحادثتك، لعلمي بغمك على الماضي، رحمه الله، فأحب ألا تغبني. فكنت أصير إليها في كل وقت.
قال: وخلف من الولد ثلاثة وثلاثين ولدا، منهم سبعة عشر ذكرا وست عشرة أنثى، فأما الذكور فأبو الفضل العباس، وهو أكبر ولده، وأبو الجيش خمارويه بعده، وأبو العشائر مضر، وأبو المكرم ربيعة، وأبو المقانب شيبان، وأبو ناهض عياض، وأبو معد عدنان، وأبو الكراديس خزرج، وأبو حبشون عدي، وأبو شجاع كندة، وأبو منصور أغلب، وأبو لهجة ميسرة، وأبو البقاء هدى، وأبو المفوض غسان، وأبو الفرج مبارك، وأبو عبد الله محمد، وأبو الفتح مظفر.
والبنات: فاطمة، ولميس، وتعلب [؟]، وصفية، وخديجة، وميمونة، ومريم، وعائشة، وأم الهدى، ومؤمنة، وعزيزة، وزينب، وسمانة، وسارة، وغريرة.
وخلف من المال العين ما قد ذكرناه متقدما، ومن الغلمان أربعة وعشرين ألف غلام، وأطبقت جريدة مواليه على سبعة آلاف رجل، وخلف من الخيل الميدانية سبعة آلاف رأس، ومن الجمال ثلاثة آلاف جمل، ومن البغال ألف بغل، ومن الخيل لركابه ثلاثمائة وخمسين فرسا، وخلف من المراكب الحربية مائتي مركب حربي كبار بآلتها.
وكان خراج البلد يومئذ مع ما ينضاف إليه من مال الضياع التي كانت للأمراء بالحضرة أربعة آلاف ألف وثلاثمائة ألف دينار.
44
وخلف من الأمتعة والفرش والآلة والأواني وآلات السفر ما لا يحصى كثرة ولا يعد ولا يحد، ولا يدرك كثرة واتساعا.
فأما نفقاته المشهورة المعروفة فما رأينا ولا رأى أحد قبلها مثلها لأحد قبله، ولا يرى بعده، كل ذلك كان منه طلبا للثواب والجزاء من الله جل اسمه.
منها ما أنفق على الجامع
45
وهو مائة ألف دينار وعشرون ألف دينار، وعلى البيمارستان
46
ومستغله ستون ألف دينار، وعلى العين التي بالمعافر مائة ألف وأربعون ألف دينار، وأنفق على حصن الجزيرة مائتي ألف دينار، وأنفق في بناء الميدان مائة وخمسين ألف دينار، وأنفق على مرمات الثغور وعلى حصن يافا مائتي ألف دينار، وكانت قائمة صدقاته في كل شهر ألف دينار، وكان ما يجريه على جماعة من أهل المسجد أبناء الستر والمتجملين وأولاد النعم، سوى ما [يجري من مال] السلطان عليهم من الرزق الراتب في كل شهر خمسمائة دينار، وما كان يحمله للصدقات في الثغور في كل شهر خمسمائة دينار، وكان راتب مطبخه وعلوفة دوابه في كل يوم ألف دينار، وما كان بقيمه من الأنزال والوظائف في كل يوم خمسمائة دينار، وكانت له وظائف خبز ولحم على قوم مستورين نساء ورجال في كل شهر ألفا دينار.
وكانت لذته وشهوته كلها فيما يصنع في كل جمعة من الأطعمة الواسعة العظيمة لكل صنف من الحلواء، وتنصب الموائد ويحضر الناس من كل نوع من فقير ومستور ومتجمل ومحتاج، ومن يتقرب إليه بأن يراه وقد أكل طعامه، فيقربه ذلك من قلبه، وهو جالس مستشرف له ينظر إليهم، ويفرح بما يراه منهم، فساعة يسجد شكرا لله وساعة يقف فيصلي ركعتين، وساعة يدعو الله، وساعة يبكي ويطالب الناس بأن يزلوا، ولا يخرج أحد إلا ومعه الزلة الكبيرة العظيمة، فإذا انصرفوا حمد الله وشكره.
ووجه بابن قراطغان وهو كان صاحب صدقاته إلى المعافر ومعه حمالو الخبز والقدور اللحم المطبوخة والفالوذج والخبيص، وخبزه المعروف في كل رغيف رطلان يسمى أبو الوفا والدراهم
47
حتى يفرق ذلك بالمعافر على المستورات، ومن لم يكن في طاقته الحضور لطعامه.
قال: حدثنا محمد بن الحسن اليماني، وكان من الصالحين شديد التقشف، وقد جرى ذكر أحمد بن طولون بعد وفاته وقال: رأيت أحمد بن طولون في منامي وكأنه في روضة خضراء وعليه لبسة حسنة رائعة، وقد حسنت صورته وهو جالس يده تحت خده، وعليه [حلة] عظيمة، فقلت: [ما فعل الله] بك؟ فقال لي: إنه لما فارقت روحي جسدي ساقني سائق عنيف في موضع لا أعرفه فاجتزت بجهنم، وقد فغرت فاها وخرج لسانها، فعدلت عن الطريق التي يسوقني السائق فيها خوفا أن تحرقني، فابتدرت إلي امرأة حسنة الوجه عظيمة الخلق، فقالت: لا بأس عليك يا أحمد، قد وهبك ربك لي، ثم مشت بيني وبين النار، فكنت أخاف من عظيم النار أن تسلني وإياها فتحرقنا جميعا، إلا أني قد أمنت على نفسي بها، ثم بدرت إلي امرأة أخرى مثلها في حسنها وعظم خلقها، فقالت لي: أبشر يا أحمد برضا ربك عنك، وصاحت هي وصاحبتها على النار فخمدت وانقطع لسانها وبعدت عنا، فقلت للامرأة الأولى: من أنت؟ فقالت لي: أنا أم الجهاد بطرسوس، الشاكر لمبرتك لنا في الشدائد، وعفوك عن أهل الثغور في الجرائم، فقلت للأخرى: من أنت؟ فقالت: أنا الصدقات التي كنت تبذلها يمينا وشمالا وصباحا ومساء. وانصرفتا عني وهما تقولان لي: لا تنس شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ثم نودي بالسائق: أدخله من باب المغفرة. فأدخلت إلى هذا الموضع. فقلت له: فما هذه الكآبة التي أراها بك؟ فقال: استحياء من الله ربي، عز وجل، لما اقترفته من الآثام وارتكبته من الأمور العظام ... فانتبهت من نومي وأنا أترحم عليه، ولكأنه بين يدي يخاطبني لما شاهدته منه وما تداخل قلبي من خطابه.
قال مؤلف هذا الكتاب: وحدثنا الحسن بن علي العباداني،
48
وكان من أهل عبادان، وهو من أهل التعبد والزهد والورع، دخل إلى مصر وسكن المعافر، وله هناك مسجد معروف، قال: رأيت في منامي كأني في الرحبة التي فيها العين التي بناها أحمد بن طولون بالمعافر، وكأن قائلا يقول لي: الأمير في المسجد - وأومأ بيده إلى مسجد الأقدام - فسلم عليه. فقلت له: نعم. فدخلت المسجد فإذا أنا بأحمد بن طولون، فسلمت عليه فرد علي السلام، فبينا أنا كذلك إذا بنار من وراء المسجد عظيمة، فقال لي: ألا ترى هذه النار؟ فقلت: نعم. فقال لي - وأومأ بيده إلى العين التي بناها: لولا هذه لأكلتني هذه النار. فانتبهت وقد سررت بهذه الرؤيا له.
وحدث محبوب بن رجاء قال: رأيت أحمد بن طولون في منامي بحال حسنة، فسألته عما لقي، فقال لي: غفر لي. فقلت له: مع عظيم ما ارتكبت؟ فقال: خفف ذلك عني أن أكثر من أسأت إليه كان مستحقا من ربه ما نزل به مني، فكنت عقوبة بعثها الله، عز وجل، مني عليه. ثم قال: إنما البلاء ظلم من لا ذنب له ولا ناصر. فقلت له: فمستقرك في الجنة؟ فقال: ما استقر بعد أحد في جنة ولا نار، ولكنه تلوح لنا دلالات المغفرة من طيب النفس وأمن السرب.
قال: ومن الدليل على أنه خفف عنه كما ذكر، ما تحدث به كامل بن سعيد متطبب سعيد الصغير، وكان سعيد هذا من أجلاء قواد الموفق، قال: قال لي سعيد يوما، وقد دخلت إليه فرأيته مغموما، فسألته عن حاله؟ فقال لي: شربت أمس نبيذا فسكرت وعربدت على غلام لي فضربته بالمقارع حتى مات تحت الضرب، فلما كان في السحر من يومي هذا رأيت في نومي كأن آتيا أتاني فقال لي: أنا رسول رب العالمين يقول لك: غضبت على عبد من عبيدي ملكتك رقه، فضربته بغير حجة حتى مات، وعزتي وجلالي [لأعجلن لك] العقوبة في الدنيا. قال: فقلت له: يوقيك الله ويصونك، هذه أضغاث أحلام. فأظهر ندما عظيما، وغما شديدا، وتصدق في يومه بعشرة آلاف درهم دية الغلام وانصرفت، فلما كان من غد صرت إليه، فقال لي: ويحك رأيت البارحة أشد مما رأيت قبلها. فقلت له: وما هو؟ قال: جاءني ذلك الشخص بعينه البارحة في منامي، فقال لي: يقول لك رب العزة: تقتل عبدي وتصانعني عنه، هيهات! وانتبهت من قوله مرعوبا وجلا خائفا. فقال كامل بن سعيد المتطبب: فما مضى لقوله إلا أيام يسيرة حتى أنفذه الموفق رسولا إلى أحمد بن طولون في حمل مال، وكتب إليه طيفور خليفته بالحضرة يعرفه أن الموفق حمله رسائل إلى وجوه قوادك في تضريبهم عليك وإفساد قلوبهم لك فاحذره، ووصل كتاب طيفور إليه قبل وصول سعيد، فحين وصل إليه ووقعت عينه عليه لم ينهنهه
49
حتى قال له: يا ابن كذا وكذا! فرغت من تضريبك الرجال بسر من رأى - وكان أحمد بن طولون يعرفه بذلك - وصرت إلى بلدي حتى تضرب علي رجالي، وتفسد نياتهم بالقشور والمحال، العمد! فأحضرت فقال: دماغه، فلم تزل العمد تأخذ دماغه حتى مات، فجر برجله بين يديه، فصحت رؤياه التي رآها.
قال مؤلف هذا الكتاب: وبهذا الخبر صحت رؤيا محبوب بن رجاء في قوله إنه لما رآه في منامه قال له: خفف عني أن أكثر من أسأت إليه كان مستحقا ذلك من ربه، فجعلني عقوبة له، بعثها الله، عز وجل، عليه مني. قال: وكان بين قتل سعيد الغلام وبين مسيره [إلى ابن طولون والا]قتصاص منه، فكان الوقت الذي بلغ الكتاب فيه أجله.
وحدث عبد الله بن الفتح - وكان من أصحاب سيما الطويل - قال: رأيت في منامي كأن سيما الطويل متعلق بأحمد بن طولون على باب المسجد الجامع الذي بناه بمصر، وهو يصيح بأعلى صوته: يا رسول الله! أعني على أحمد بن طولون فإنه قتلني، واصطفى مالي، واستباح أهلي وولدي. فتأملت فإذا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مقبل إلى المسجد فصاح به: يا سيما! كذبت ما قتلك أحمد بن طولون، قتلك عجيج سهل التاجر الذي قدرت أن عنده مالا وجدة، فضربته حتى كاد أن يموت، ثم دخنت عليه حتى مات من التدخين، وأنت وأحمد خاطئان أقل أحدكما وزرا أحسنكما سيرة، وأكثركما معروفا أقربكما من الله ومغفرته.
وحدث أحمد بن دعيم، وكان من قواد أحمد بن طولون، وترك الديوان وحسنت طريقته في الخير، قال: رأيت أحمد بن طولون فيما يرى النائم وهو بحال حسنة، فسألته عما فعل الله به؟ فقال لي: يا دعيم، ما ينبغي لمن سكن الدنيا أن يحتقر حسنة يعملها ولا سيئة يأتيها، عدل بي إلى الجنة بتثبتي على رجل متظلم إلي، وكان عي اللسان بعيد البيان منقطع الحجة ضعيف الجسم، وقد ارتاع مني مع ذلك واضطرب ، فوقفت عليه وسكنته حتى سكن روعه، وصبرت عليه في خطابه حتى قامت حجته بتثبتي، فتقدمت بإنصافه، فانصرف وقد أثر فيه السرور.
وحدث أحمد بن عبد العزيز الحريري - وكان في خزانة أحمد بن طولون ومعه قدم من العراق - قال: فرق أبو الجيش كسوة أبيه على حاشيته، فلحقني منها نصيب، فما خلا شيء مما صار إلي من رفء
50
ووجدت في بعضها رقاعا.
قال مؤلف هذا الكتاب: [كان أحمد بن طولون] يقول كثيرا: ينبغي للرئيس أن يجعل اقتصاده على نفسه وتسمحه على شمله وقاصديه، فإنه يملكهم بذلك ملكا لا يزول به عن قلوبهم، ولا تفسد معه سرائرهم في نصحه وموالاته وحسن طاعته. وهذه كانت صورته، رحمه الله.
قال: وحدثنا عبد الله بن الفتح أن نحريرا الخادم غلام المعتمد حدثه أنه لما ورد الخبر بوفاة أحمد بن طولون على المعتمد بكى حتى خيف على عينيه، وعج حتى رحمه جماعة خاصته وشمله، وحرم شرب النبيذ. وكان لميله إلى أحمد بن طولون ومحبته إذا قعد للشرب جعلت بين يديه صينية فيها خردادي
51
وقدح وكوز ومغسل، كل ذلك بلور على اسم أحمد بن طولون، فإذا شرب ندماؤه ملأ الغلام من الخردادي الذي في تلك الصينية قدحا ومضى به، ولا يزال يفعل ذلك إلى أن ينصرف الندماء، وكلما فرغ الخردادي ملئ إلى أن يسكر المعتمد.
فلما مات وحزن عليه وامتنع من الشرب وأقام كذلك مدة طويلة لم يزل ندماؤه يتلطفون له ويخاطبونه بما يسليه، ويسهل أمره عليه، ويعاونهم على ذلك أقرب الناس منه، وعياله وولده وخاصته حتى نصب مجلسه، فلما فقد صينية أحمد بن طولون من مجلسه، كانت على رسمها فيه، عاود البكاء عليه والنحيب، وخرج إلى أكثر مما كان خرج إليه في الابتداء، ورفع المجلس والنبيذ بين يديه، ولم يزل على ذلك أيضا مدة طويلة، ورثاه فقال:
إلى الله أشكو أسى
عراني كوقع الأسل
عل رجل أروع
ترى فيه فضل الرجل
شهاب خبا وقده
وعارض غيث أفل
شكت دولتي فقده
وقد كان زين الدول
إذا أمه القاصدو
ن حباهم جميع الأمل [قلت لعبد الله] بن الفتح: ما توهمت أن المعتمد يقيم شعرا؛ لأني أنشدت أشعارا لم أرضها. فقال: كان يمزح بأشعار
52
فإذا شاء جود.
وحدث علي بن يحيى بن أبي منصور، وكان خاصا بالموفق ومقدما عنده، قال: رأيت الموفق في الساعة التي ورد عليه فيها وفاة أحمد بن طولون، وقد استرجع ووجم، وظهر منه عليه كآبة لم أرها ظهرت منه قط لموت قريب ولا ولي حميم مخلص، فقلت له: ما توهمت أنه يرد عليك شيء أسر من نعي أحمد بن طولون! فما هذا الغم العظيم الذي قد جرى، وجرى في غير موقعه؟ فقال لي: دعنا من هذا وافهم عني ما أقوله لك: كان هذا الرجل مخالفي، والخلاف يزيد وينقص، وأعظمه خلاف استباح فيه مخالفتي ما أيسر فيه [؟] وغلبني عليه، وأسهله خلاف أحسن فيه مخالفتي بتدبير ما احتازه منه فأدى إلى عمارته، وكان خلاف أحمد بن طولون لي أحب من طاعة من يطيعني ويستبيح أموالي ويخرب بلداني، فخلاف من يحسن تدبير ما في يديه أحب إلي من موالاة من يحتوي على من وكلته إليه وتذم العاقبة فيه بسوء تدبيره وقبح أفعاله. وكان هذا الرجل، رحمه الله، يدبر ما قلده كما يدبر المالك ملكه، ويحوطه حياطته لنفسه، ثم لم يخرج عن طاعة ولا أجرى عن حال مذمومة؛ رعيته شاكرون ومعاملوه حامدون، وبه متبركون، وأعماله عامرة، وأموالها على يديه راخية، وأصحابه مغتبطون به، حسن السياسة، جميل الفعل، كثير المعروف، فلما قلده أخي نواحيه؛ خراجها ومعاونها، ضبط جميع ذلك ضبط جزل محتاط، فتزايدت أفعاله الجميلة فيها، على ما كان منه متقدما، ثم أقدمني أخي من مكة على كره مني لذلك، وكان مقامي بها أحب إلي وأروح لنفسي ... هذا لما عاينته وما كابدته، فلما قدمت إليه رأيت أمو[ر الدولة] مضطربة على غاية من الاضطراب والانحلال، حتى إنه كاد الأمر أن يخرج عن أيدينا بقلة ضبطه لأمر دولته، وسلوكه ما لا يحب فيها، فاجتهدت في جمع شتات هذه الدولة، ورأيت أمير المؤمنين أخي المؤكد لي البيعة رجلا لاهيا، مقبلا على لذاته، مشتغلا بأفراحه، لا يشغله عن ذلك شيء من أمر دولته ولا يفكر فيه، قد ألقى أموره إلى من استبد بها دونه، واجترأ عليها واشتغل بمصالح نفسه وما عاد لمحبيه، ولا يفكر في عاقبة ولا يتخوف من حادثة.
فتغطرست
53
لبقاء هذه الدولة بما ضبطتها به، وصنتها عما كانت قد أشرفت عليه من الزوال. وتأملت أمر غلمانه كلهم فما أحمدت أمر أحد منهم، وتأملت أمر أحمد بن طولون، رحمه الله، فوجدته قد حمل إلى إمامه المنفرد باصطناعه، مذ تقلد هذا البلد، ما كنت أرضى أن يحمل إلي بعضه لإصلاح ما أنا بسبيله، ولضيق الأمر وتعذر الأموال علي، فيما أعانيه ودفعت إليه، وناظرني بما إذا تأمله المتأمل المنصف علم أن عذره في خلعي، أوجب من عذري في لعنه، وما خرج إليه في أمري من انحرافه عني، أوجب مما خرجت إليه في أمره وفي انحرافي عنه، وإن كنت أظهر ذلك بلساني وقلبي ينكره ويعلم خطئي فيه، وعذره فيما يأتيه، وأئمتنا هؤلاء فهم فساد فيما بيننا وبين الناس، هذا المهتدي أشرت عليه أن يمرح [؟] في سيرة أبيه، وأعلمته أن الزمان الذي فسد بما أوجبه ما أجرى إليه من سوء التدبير بما يكون فيه المشقة المجحفة ... د غششته إني إنما أردت وقصدت الطعن على تدبيره ورأيه، وقد علم الله، جل اسمه، أني قد نصحته فضرب بيني وبين الناس، وعمل في أمري ما شاهدوه ونفاني عن حضرته، وركب خطأه وسوء تدبيره، فلم يزل يركض فيه حتى قتل أقبح قتلة فشمت به عدوه، واغتم به وليه وغم نفسه لاستبداده برأيه، وإن كان كل ما يجري فمن الله، جل اسمه، وقضاؤه ينفذ كما يشاء بسلب كل ذي لب لبه حتى تتم مشيئته، إلا أن مخالفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في ترك المشاورة خطأ، فأقمت، طول ما أقمت، هادئ القلب، آمن السرب، طيب النفس، غير مفكر إلا فيما عاد بأجري، وحمدته في عاقبتي إلى أن ردني أخي.
ولأحمد بن طولون، رحمه الله، أولاد عداد، وموال وعدد جم، لم يروا غير رياستهم، ولم يكن في جماعتهم من قلبه ممتلئ من هيبتنا غيره؛ لأنه ربي في خدمتنا، وشاهد قوة أمرنا وأحوالنا، فامتلأ من ذلك قلبه، وكبرت سطوتنا في عينه، وخلف الآن أموالا جمة عظيمة، لا يحوط جميعها من قليل وكثير إحصاء محص، ولا ضبط محتاط مكفي، وإذا اجتمع لمن يقوم مقامه من ولده قلة التهيب لنا، إذ لم يشاهد من أحوالنا ما قدمنا ذكره من مشاهدة أبيه من أمرنا، مع كثرة المال والأعراض والعدة الجليلة العظيمة والعدة الكثيرة الوافرة القوية، بالحال الجليلة والجمال والمال والشجاعة والإقدام، حسب ما اختصهم أبوهم، وانتخبهم واختارهم، وملأ أعينهم بما لا نتسمح نحن بمثله لكثير من أصحابنا فكيف غيره؟! فهم على ولده بذلك يحتاطون وفي ... بحالين؛ أحدهما المحافظة لما أتاه أبوهم فيهم من الجميل و... عليه من عظم الأحوال، وثانيه لأنهم تيقنوا أنهم لا يجدون مثله ولا مثل ولده أبدا؛ فلهذه الأحوال تعظم علينا نكايتهم معها، ويبعد علينا في ذلك مرامهم ويطرأ علينا منهم ما لعلنا أن نقصر عنه، وعن بلوغ المراد به؛ لأن الأنصار مع المال حيث كان، ولا سيما أنصار من أنصار، فإن بأيدينا من يقوم منهم كان خليقا بالغلبة، وإذا كان النصر لهم قدحت فينا عليه لنا قدحا عظيما وهدت منا ركنا كبيرا، وكنا مع ذلك قد اضطررناه إلى إتلاف الأموال التي تحتاج إليها المملكة المجاهدة عدوا إن تحرك، فإن كان انصر لنا عليه لم نجد بدا من أن نستخلف على بلدنا ونواحيه من هم كانوا لنا وللأعمال أصلح وأجود وأوثق وأحسن تدبيرا وأجمل حالا وسياسة فيما تقلده.
وكان بغية المتقلد بعد أحمد بن طولون، رحمه الله، وبعد تركته تحصيل الأموال وجمعها لنفسه واستئثاره بها وبجميع ما تنبسط يده إليه دوننا، ثم بعد ذلك تخريبه بلداننا، وإطلاقه نهبها وإخافة سرب أهلها، ودون فائدة للسلطان، ولا عائدة علينا، إلا ما تبسط به الألسن بالدعاء علينا والوزر لعلم في أعناقنا، وهو غير مفكر في ذلك وليس وكده إلا ما عاد لمحبيه، ثم أقبل يترحم على أحمد بن طولون ويبكي على فقده.
فقال علي بن يحيى بن أبي منصور: فقلت للموفق: ثبت الله عزم سيدي وسدد رأيه، وعوضه منه وحرس له ما منحه به، فهذا والله الرأي السديد والفهم الرشيد ولولا ما خصه ... قد قام الآن سيدي، أيده الله، عندما تبينته مما بينه لي الأمير، أيده الله، وشرحه من حال هذا الرجل، رحمه الله، وكشف منه ما كان عني مغطى وعن سائر الناس الذين لا يعلمون مقدار ما علمه الأمير، مد الله في عمره وبلغه أفضل آماله في دنياه وآخرته، والله بكرمه يهنيه ما خوله، ومن به من رياسته ويجعله عمادا لها بمنه وقدرته.
قال مؤلف هذا الكتاب: وجدت ثبتا
54
لابن مهاجر بما حمله أحمد بن طولون إلى المعتمد، وفرق في جماعة من حاشيته لأربع سنين، أولاهن سنة إحدى وستين ومائتين وأخراهن سنة خمس وستين ومائتين، مما كانت به السفاتج تنفذ إليه سرا مع من يثق به ويأمنه على سره وماله، ولا يعلم بذلك أحد ممن يكره علمه به من أصحابهم وغيرهم مما مبلغه ألفا ألف ومائتا ألف دينار.
قال: وكانت نفقات أحمد بن طولون، رحمه الله، جدا لا هزلا، كلها فيما قربه من الله، عز وجل، [و]من صالحي كل بلد تقلده، يرغب في دعائهم ويستجلبه بكل نوع، ويحنو على رعيته ويستجلب به دعاءهم، وكان وكده وشغله واهتمامه بإسعاد بلده وسائر ما بعد من بلدانه، يسعى فيما يرخص الله، جل اسمه، به أسعارهم، وجميع ما يباع في بلده وسائر بلدانه، فكان الرخص به عاما في كل بلد من سائر الأطعمة. وكان السبيل به آمنا، والأرزاق ببركته دارة، والنعمة من الله، جل وعلا، منه إرادته [؟]، جل اسمه، على سائر الناس مترادفة متكانفة. [تمت سيرة أحمد بن طولون.]
Shafi da ba'a sani ba