مقدمة
الحمد لله، الملك السلام، المهيمن العلام، شارع الأحكام، ذي الجلال والإكرام، الذي أنزل القرآن بحسب المصالح منجمًا، وجعله بالتحميد مفتتحًا وبالاستعاذة مختتمًا، وأوحاه على قسمين: متشابهًا ومحكمًا، فسبحان من استأثر بالأوّلية والقدم ووسم كل شيء سواء بالحدوث عن العدم ومنّ علينا بنبيّنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وأنعم علينا بكتابه المفرّق بين الحلال والحرام، والصلاة والسلام على خير من أوحي إليه حبيب الله أبي القاسم محمد النبي الأميّ المثبّت بالعصمة المؤيّد بالحكمة، وعلى جميع الأنبياء والملائكة البررة الكرام، عدد ساعات الليالي والأيام، وعلى آله الأطهار وخلفائه وجميع المهاجرين والأنصار وعلى بقية الصحابة الأخيار، صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين آناء الليل وأطراف النهار.
أما بعد: فيقول فقير رحمة ربه القريب محمد الشربيني الخطيب: إن الله جلّ ذكره أرسل رسوله بالهدى ودين الحق رحمة للعالمين بشيرًا للمؤمنين ونذيرًا للمخالفين، أكمل به تبيان النبوّة وختم به ديوان الرسالة، وأنزل عليه بفضله كتابًا ساطعًا تبيانه قاطعًا برهانه، ناطقًا ببينات وحجج، قرآنًا عربيًا غير ذي عوج، مفتاحًا للمنافع الدينية والدنيوية، مصداقًا لما بين يديه من الكتب السماوية حسناته ظاهرة باهرة في وجه كل زمان، دائرًا من بين سائر الكتب على كل لسان في كل مكان، أعجز الخليقة عن معارضته وعن الإتيان بسورة من مثله في مقابلته، ثم سهّل علة الخلق مع إعجازه تلاوته، ويسّر على الألسن قراءته، أمر فيه وزجر وبشّر وأنذر فهو كلام معجز في رقائق منطوقة ودقائق مفهومة، لا نهاية لأسرار علومه.
وقد ألّف أئمة السلف كتبًا
1 / 2
في معرفة أحكامه ونزوله كل على قدر فهمه، ومبلغ عمله، فشكر الله تعالى سعيهم ورحم كافتهم، ثم خطر لي أن أقتفي أثرهم وأسلك طريقتهم لعل الله أن يرزقني من مددهم ويعود عليّ من بركتهم فتردّدت في ذلك مدّة من الزمان خوفًا من الدخول في هذا الشأن لقوله ﷺ «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» وقول سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبيّ ﷺ «من قال في القرآن برأيه» وفي رواية بغير علم: «فليتبوّأ مقعده من النار» وقول أبي بكر رضي الله تعالى عنه لما سئل عن قوله تعالى: ﴿وفاكهة وأبا﴾ (عيسى، ٨٠) فقال: «أيّ سماء تظلني وأيّ أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله تعالى ما لا أعلم» إلى أن يسر الله تعالى لي زيارة سيد المرسلين ﷺ وعلى سائر النبيِّين والآل والصحب أجمعين في أوّل عام تسعمائة واحد وستين، فاستخرت الله تعالى في حضرته بعد أن صليت ركعتين في روضته وسألته أن ييسر لي أمري فشرح الله ﷾ لذلك صدري فلما رجعت من سفري واستمرّ ذلك الانشراح معي، وكتمت ذلك في سرّي، حتى قال لي شخص من أصحابي: رأيت في منامي إما النبيّ ﷺ أو الشافعيّ يقول لي: قل لفلان يعمل تفسيرًا على القرآن فعن قليل إلا وقد قرّرت في وظيفة مشيخة تفسير في البيمارستان ثم سألني بعد ذلك جماعة من أصحابي المخلصين وعلى اقتباس العلم مقبلين بعد أن رأوني فرغت من شرح «منهاج الطالبين» أن أجعل لهم تفسيرًا وسطًا بين الطويل الممل والقصير المخل، فأجبتهم إلى ذلك ممتثلًا وصية رسول الله ﷺ فيهم فيما يرويه أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أنه ﵊ قال: «إنّ رجالًا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرًا» واقتداءً بالماضين من السلف في تدوين العلم إبقاءً على الخلف، وليس على ما فعلوه مزيد، ولكن لا بدّ في كل زمان
من تجديد ما طال به العهد وقصر للطالبين فيه الجدّ والجهد، تنبيهًا للمتوقفين، وتحريضًا للمتثبطين، وليكون ذلك عونًا لي وللقاصرين مثلي، مقتصرًا فيه على أرجح الأقوال وإعراب ما يحتاج إليه عند السؤال، وترك التطويل بذكر أقوال غير مرضية وأعاريب محلها كتب العربية، وحيث ذكرت فيه شيئًا من القراءات فهو من السبع المشهورات، وقد أذكر بعض أقوال وأعاريب لقوّة مداركها أو لورودها ولكن بصيغة قيل ليعلم أن المرضي أوّلها وسميته «السراج المنير» في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير، وأسأله من فضله وإحسانه أن يجعله عملًا مقرونًا بالإخلاص والقبول والإقبال وفعلًا متقبلًا مرضيًا زكيًا يعدّ من صالح الأعمال، وقد تلقّيت التفسير بحمد الله من تفاسير متعدّدة رواية ودراية عن أئمة ظهرت وبهرت مفاخرهم، واشتهرت وانتشرت مآثرهم، جمعني الله وإياهم والمسلمين في مستقر رحمته بمحمد وآله وصحابته. وها أنا الآن أشرع وبحسن توفيقه أقول وهو الموفق لكل خير ومعطي كل مسؤول.
سورة فاتحة الكتاب
1 / 3
وتسمّى أمّ القرآن لأنها مفتتحه ومبدؤه فكأنها أصله ومنشؤه، ولذلك تسمى أساسًا أو لأنها تشتمل على ما فيه من الثناء على الله تعالى، والتعبّد بأمره، ونهيه وبيان وعده ووعيده أو على جملة معانيه من الحكم النظرية والأحكام العملية التي هي سلوك الطريق المستقيم، والاطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء، وسورة الكنز لأنها نزلت من كنز تحت العرش، والوافية والكافية لأنها وافية كافية في صحة الصلاة بخلاف غيرها عند القدرة عليها، والشافية والشفاء لقوله ﵊: «هي شفاء لكل داء» والسبع المثاني لأنها سبع آيات باتفاق، لكن من عدّ البسملة آية منها جعل السابعة ﴿صراط الذين﴾ إلى آخرها، ومن لم يعدها آية منها جعل السابع ﴿غير المغضوب عليهم﴾ إلى آخرها، وسميت مثاني لأنها تثنى في الصلاة أي تكرّر فيها بأن تقرأ في كل صلاة وفي كل ركعة وقول بعضهم تثنى في كل ركعة فيه تجوّز وهي مكية على قول الأكثر. وقال مجاهد: مدنية، وقيل: نزلت مرّتين مرّة بمكة حين فرضت الصلاة ومرّة بالمدينة حين حوّلت القبلة، ولذلك سميت مثاني. قال البغويّ: والأوّل أصح، وقال البيضاويّ: وقد صح: أنها مكية بقوله تعالى: ﴿ولقد آتيناك سبعًا من المثاني﴾ (الحجر، ٨٧) وهو مكيّ بالنص، انتهى. وأراد بالنص السنة فقد ثبت ذلك عن ابن عباس وقول الصحابي في القرآن خصوصًا في النزول له حكم المرفوع والقرآن العظيم والنور والراقية وسورة الحمد والشكر والدعاء وتعليم المسألة لاشتمالها على ذلك، وسورة المناجاة، وسورة التفويض وفاتحة القرآن وأمّ الكتاب وسورة الحمد الأولى وسورة الحمد القصوى وسورة السؤال والصلاة لخير: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، يقول العبد: الحمد لله رب العالمين، يقول الله: حمدني عبدي، يقول العبد: الرحمن الرحيم، يقول الله: أثنى عليّ عبدي، يقول العبد: مالك يوم الدين، يقول الله: مجدني عبدي، يقول العبد:
إياك نعبد وإياك نستعين، يقول الله ﷿: هذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، يقول العبد: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين، يقول الله: فهؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل»، ولأنها جزؤها فهو من باب تسمية جزء الشيء باسم كله.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾
وقوله تعالى: ﴿بسم الله﴾ أي: الملك الأعظم الذي لا نعبد إلا إياه، ﴿الرحمن﴾ أي: الذي عمّ بنعمتي إيجاده وبيانه جميع خلقه أسفله وأعلاه أدناه وأقصاه ﴿الرحيم﴾ أي: الذي خص من بينهم أهل ودّه برضاه، آية من الفاتحة وعليه قرّاء مكة والكوفة وفقهاؤهما وابن المبارك والشافعيّ وقيل: ليست منها وعليه قرّاء المدينة والبصرة والشأم وفقهاؤهما والأوزاعيّ ومالك. ويدلّ للأوّل ما روي أنه ﷺ «عدّ الفاتحة سبع آيات وعد بسم الله الرحمن الرحيم آية منها»، رواه البخاري في «تاريخه»، وروى الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه ﷺ قال: «إذا قرأتم الحمد لله فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم، إنها أمّ القرآن وأمّ الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها» وروى ابن خزيمة بإسناد صحيح عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها: «أن النبيّ ﷺ عدّ بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين إلى آخرها ست آيات» وآية من كل سورة إلا براءة لإجماع الصحابة على إثباتها في المصحف بخطه أوائل السور
1 / 4
سوى براءة مع المبالغة في تجريد القرآن عن الأعشار وتراجم السور والتعوّذ حتى لم تكتب آمين فلو لم تكن قرآنًا لما أجازوا ذلك لأنه يحمل على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآنًا وأيضًا هي آية من القرآن في سورة النمل قطعًا، ثم إنا نراها مكرّرة بخط القرآن فوجب أن تكون منه كما أنّا لما رأينا قوله: ﴿فبأيّ آلاء ربكما تكذبان﴾ (الرحمن، الآيات: ١٣ - ١٦ - ١٨) وقوله: ﴿ويل يومئذ للمكذبين﴾ (المرسلات، ٢٧) (المطففين، ١٠) مكرّرًا في القرآن بخط واحد وبصورة واحدة، قلنا: إن الكل من القرآن.
فإن قيل: لعلها ثبتت للفصل، أجيب: بأنه يلزم عليه اعتقاد ما ليس بقرآن قرآنًا ولثبتت في أوّل براءة ولم تثبت في أوّل الفاتحة.
فإن قيل: القرآن إنما يثبت بالتواتر، أجيب: بأنّ محله فيما ثبت قرآنًا قطعًا أمّا ما يثبت قرآنًا حكمًا فيكفي فيه الظنّ كما يكفي في كل ظنّي خلافًا للقاضي أبي بكر الباقلاني، وأيضًا إثباتها في المصحف بخطه من غير نكير في معنى التواتر، وأيضًا قد يثبت التواتر عند قوم دون آخرين.
فإن قلت: لو كانت قرآنًا لكفر جاحدها، أجيب: بأنها لو لم تكن قرآنًا لكفر مثبتها وأيضًا التكفير لا يكون بالظنيات وقد أوضحت ذلك مع زيادة في شرحي «التنبيه» و«المنهاج»، أما براءة فليست البسملة آية منها بإجماع.
فائدة: ما أثبت في المصحف الآن من أسماء السور والأعشار شيء ابتدعه الحجاج في زمنه.
والباء في بسم الله متعلقة بمحذوف تقديره بسم الله أقرأ لأنّ الذي يتلوه مقروء إذ كل فاعل يبدأ في فعله باسم الله يضمر ما يجعل التسمية مبدأ له كما أنّ المسافر إذا حل أو ارتحل فقال: بسم الله الرحمن الرحيم كان المعنى بسم الله أحل بسم الله أرتحل وذلك أولى من أن يضمر أبدأ لعدم ما يطابقه، وما يدل عليه ومن أن يضمر ابتدائي لما ذكرنا.
فإن قيل: المصدر لا يعمل محذوفًا، أجيب: بأنه يتوسع في الظرف والجار والمجرور ما لا يتوسع في غيرهما وتقديره مؤخرًا كما قال الإمام الرازي أولى كما في ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ لأنه أهمّ وأدلّ على الاختصاص وأدخل في التعظيم وأوفق للوجود فإنّ اسمه تعالى مقدّم ذاتًا لأنه قديم واجب الوجود لذاته فقدم ذكرًا.
فإن قيل: قال الله تعالى: ﴿اقرأ بسم ربك﴾ (العلق، ١) فقدم الفعل، أجيب: بأنه في مقام ابتداء القراءة وتعليمها لأنها أوّل سورة نزلت فكان الأمر بالقراءة أهمّ باعتبار هذا العارض وإن كان ذكر الله تعالى أهمّ في نفسه، وذكرت أجوبة غير ذلك في مقدمتي على البسملة والحمدلة، والباء للاستعانة أو للمصاحبة والملابسة على جهة التبرّك، والمعنى متبرّكًا بسم الله اقرأ، والثاني أولى لما فيه من التحاشي عن جعل اسمه تعالى آلة، والأحسن أن تكون لهما إعمالًا للفظ في معنييه الحقيقيين أو الحقيقيّ والمجازي عند من يجوّزه كإمامنا الشافعيّ، والبسملة وما بعدها إلى آخر السورة مقول على ألسنة العباد ليعلموا كيف يتبرّك باسمه ويحمد على نعمه ويسئل من فضله ويقدر في أوّل الفاتحة قولوا كما قال الجلال المحلى، ليكون ما قبل إياك نعبد مناسبًا له بكونه من مقول العباد.
فإن قيل: من حق حروف المعاني التي جاءت على حرف واحد أن تبنى على الفتحة التي هي أخت السكون نحو واو العطف وفائه، أجيب: بأنها إنما كسرت للزومها الحرفية والجرّ ولتشابه حركتها عملها وحذفت الألف من بسم خطًا كما حذفت لفظًا دون باسم ربك وإن كان وضع الخط على حكم الابتداء دون الدرج لكثرة الاستعمال، وقالوا: طوّلت الباء تعويضًا من طرح الألف
1 / 5
وألحق بها ﴿بسم الله مجراها ومرساها﴾ (هود، ٤١) و﴿أنه من سليمان وأنه بسم الله الرحمن الرحيم﴾ (النحل، ٣٠) وإن لم تكتب في القرآن إلا مرّة واحدة لشبهها لها صورة.
فإن قيل: لم حذف في بسم الله دون الله والرحمن الرحيم؟ أجيب: خطان لا يقاس عليهما: خط المصحف وخط العروضيين، ولا تحذف الألف إذا أضيف الاسم لغير الله ولا مع غير الباء. والاسم مشتق من السموّ وهو العلوّ لأنه رفعة للمسمى وشعار له فهو من الأسماء المحذوفة الإعجاز، كيد ودم، لكثرة الاستعمال وبنيت أوائلها على السكون وأدخل عليها مبتدأ بها همزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن ولأن من دأبهم أن يبتدئوا بالمتحرّك ويقفوا على الساكن، وقيل من الوسم، وهو العلامة فوزنه على الأوّل أفع محذوف اللام، وعلى الثاني أعل محذوف الفاء، وفيه عشر لغات نظمها بعضهم في بيت فقال:
*سم وسما واسم بتثليث أوّل ...
لهنّ سماء عاشر تمت انجلي*
والاسم إن أريد به اللفظ فغير المسمى لأنه يتألف من أصوات مقطعة غير قارّة ويختلف باختلاف الأمم والأعصار، ويتعدّد تارة ويتحد أخرى، والمسمى لا يكون كذلك وإن أريد به ذات الشيء فهو المسمى لكنه لم يشتهر بهذا المعنى، وقوله: ﴿سبح اسم ربك الأعلى﴾ (الأعلى، ١) المراد به اللفظ لأنه كما يجب تنزيه ذاته تعالى وصفاته يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب، أو الاسم فيه مقحم كما في قول الشاعر:
*إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولًا كاملًا فقد اعتذر*
وإن أريد به الصفة كما هو رأي أبي الحسن الأشعري انقسم انقسام الصفة عنده إلى ما هو نفس المسمى كالواحد والقديم وإلى ما هو غيره كالخالق والرازق وإلى ما ليس هو ولا غيره كالعلم والقدرة فإنهما زائدان على الذات وليسا غير الذات لأنّ المراد بالغير ما ينفك عن الذات وهما لا ينفكان.
فإن قيل: لم بدأ ببسم الله دون بالله، أجيب: بأن التبرك والاستعانة بذكر اسمه وللفرق بين اليمين والتيمن. والله علم على الذات الواجب الوجود، المستحق لجميع المحامد وأصله إله، قال الرافعي: كإمام، ثم أدخلوا عليه الألف واللام ثم حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى اللام فصار اللاه بلامين متحرّكين ثم سكنت الأولى وأدغمت في الثانية للتسهيل، انتهى. والإله في الأصل يقع على كل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بحق كما أنّ النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا، والحق أنه أصل بنفسه غير مأخوذ من شيء بل وضع علمًا ابتداءً فكما أنّ ذاته لا يحيط بها شيء ولا ترجع إلى شيء فكذا اسمه تعالى، وقيل: مأخوذ من أله إذا تحير، إذ العقول تتحير في معرفته، وقيل غير ذلك، وهو عربيّ عند الأكثر وعند المحققين أنه اسم الله الأعظم وقد ذكره الله تعالى في ألفين وثلثمائة وستين موضعًا واختار النوويّ تبعًا لجماعة أنه الحيّ القيوم قال: ولذلك لم يذكر في القرآن إلا في ثلاثة مواضع في البقرة، وآل عمران، وطه.
والرحمن الرحيم صفتان مشبهتان بنيتا للمبالغة من رحم بتنزيله منزلة اللازم أو بجعله لازمًا ونقله إلى فعل بالضمّ. والرحمة لغة رقة في القلب تقتضي التفضل والإحسان، فالتفضل غايتها. وأسماء الله تعالى المأخوذة من نحو ذلك إنما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادي التي تكون إنفعالات فرحمة
1 / 6
الله تعالى إرادة إيصال الفضل والإحسان أو نفس إيصال ذلك فهي من صفات الذات على الأوّل ومن صفات الفعل على الثاني، والرحمن أبلغ من الرحيم لأنّ زيادة البناء تدلّ على زيادة المعنى كما في قطع بالتخفيف وقطع بالتشديد.
فإن قيل: حذر أبلغ من حاذر، أجيب: بأنّ ذلك أكثري لا كليّ، وبأنّ الكلام فيما إذا كان المتلاقيان في الاشتقاق متحدي النوع في المعنى كغرث وغرثان لا كحذر وحاذر للاختلاف وقدم الله عليهما لأنه إسم ذات وهما إسما صفة، والرحمن على الرحيم لأنه خاص إذ لا يقال لغير الله بخلاف الرحيم، والخاص مقدّم على العامّ، وإنما قدم والقياس يقتضى الترقي من الأدنى إلى الأعلى كقولهم: عالم نحرير لأنه صار كالعلم من حيث أنه لا يوصف به غيره ولذلك رجح جماعة أنه علم ولأنه لما دل على جلائل النعم وأصولها ذكر الرحيم كالتابع والتتمة والرديف ليتناول ما دق منها ولطف فليس من باب الترقي بل من باب التعميم والتكميل وللمحافظة على رؤوس الآي، وهل الرحمن مصروف أو لا؟ فيه قولان: مال السعد التفتازاني إلى جواز الأمرين لأنّ شرط منع صرف فعلان صفة وجود فعلى وشرط صرفه وجود فعلانة وكلاهما منتف هنا لكن أظهرهما أنه ممنوع الصرف إلحاقًا له بما هو الغالب من نظائره في الزيادة والوصف، والثاني أنه مصروف إلحاقًا له بالأصل في مطلق الاسم وهو الصرف، هذا مع أنّ المختار في منع صرف ما ذكر انتفاء فعلانة لا وجود فعلى، والحاصل أنه تعارض في صرفه وعدم صرفه الأصل والغالب.
فإن قيل: هذا إذا لم تدخله ال، أجيب: بأنّ المختار أنّ غير المصروف إذ دخلت عليه ال والعلتان فيه باق على منع صرفه وإن جرّ بالكسرة.
فوائد: الأولى: الوقف على الله قبيح للفصل بين التابع والمتبوع وعلى الرحمن كذلك وقيل: كاف وعلى الرحيم تام.
الثانية: عدد حروف البسملة الرسمية تسعة عشر حرفًا وعدد ملائكة خزنة النار تسعة عشر قال ابن مسعود: من أراد أن ينجيه الله تعالى من الزبانية فليقلها ليجعل الله تعالى له بكل حرف جنة، أي: وقاية من واحد.
الثالثة: قال النسفيّ في ﴿تفسيره﴾ قيل: الكتب المنزلة من السماء إلى الدنيا مائة وأربعة: صحف شيث ستون، وصحف إبراهيم ثلاثون وصحف موسى قبل التوراة عشرة، والتوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، وجميع كل الكتب مجموعة في الفاتحة ومعاني الفاتحة مجموعة في البسملة ومعانيها مجموعة في بائها ومعناها: بي كان ما كان وبي يكون ما يكون. زاد بعضهم ومعاني الباء في نقطتها وتخصيص التسمية بهذه الثلاثة التي هي الله والرحمن الرحيم ليعلم العارف أن المستحق لأن يستعان به في جميع الأمور هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النعم كلها عاجلها وآجلها جليلها وحقيرها فيتوجه العارف بجملته حرصًا ومحبة إلى جناب القدس ويتمسك بحبل التوفيق ويشغل سره بذكره والاستمداد به عن غيره.
﴿الحمد﴾ الحمد اللفظي لغة الثناء باللسان على الجميل الاختياري على قصد التبجيل، أي: التعظيم، سواء أتعلق بالفضائل وهي النعم القاصرة أم بالفواضل وهي النعم المتعدّية فدخل في الثناء الحمد وغيره وخرج باللسان الثناء بغيره كالحمد النفسي وبالجميل الثناء باللسان على غير الجميل، إن قلنا برأي ابن عبد السلام أن الثناء حقيقة في الخير والشرّ، وإن قلنا برأي الجمهور وهو الظاهر أنه حقيقة في الخير فقط ففائدة
1 / 7
ذلك تحقيق الماهية أو دفع توهم إرادة الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يجوزه وبالاختياري المدح، فإنه يعمّ الاختياري وغيره، تقول: مدحت اللؤلؤة على حسنها دون حمدتها، وظاهر قول الزمخشريّ: الحمد والمدح أخوان أنهما مترادفان وبه صرّح في «الفائق» لكن الأوفق ما عليه الأكثر أنهما غير مترادفين بل متشابهان معنى أو اشتقاقًا كبيرًا، والاشتقاق ثلاثة أقسام: كبير، وأكبر، وأصغر، وقد يعبر عنه بالصغير، فالكبير أن يشترك اللفظان في الحروف الأصول من غير ترتيب كالحمد والمدح، والأكبر أن يشتركا في أكثر الحروف الأصول كالفلق، والفلج، والفلذ، مع اتحاد في المعنى أو تناسب، والأصغر أن يشتركا في الحروف الأصول المترتبة كضرب والضرب وبعلى قصد التبجيل ما كان على قصد الاستهزاء والسخرية نحو قوله تعالى: ﴿ذق إنك أنت العزيز الكريم﴾ (الدخان، ٤٩) وتناول الظاهر والباطن إذ لو تجرّد الثناء على الجميل عن مطابقة الإعتقاد أو خالفه أفعال الجوارح، لم يكن حمدًا بل تهكم أو تمليح، وهذا لا يقتضي دخول الجنان والأركان في التعريف لأنّ المطابقة وعدم المخالفة اعتبرا فيه شرطًا لا شطرًا وعرفًا فعل ينبىء عن تعظيم المنعم من حيث أنه منعم على الحامد أو غيره سواء كان ذكرًا باللسان أم اعتقادًا ومحبة بالجنان أم عملًا وخدمة بالأركان كما قيل:
*أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا*
فمورد اللغويّ: هو اللسان وحده ومتعلقه يعمّ النعمة وغيرها، ومورد العرفي يعمّ اللسان وغيره ومتعلقه يكون النعمة وحدها، فاللغويّ أعمّ باعتبار المتعلق وأخص باعتبار المورد، والعرفي بالعكس، والشكر لغة: هو الحمد عرفًا وعرفًا صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه من السمع وغيره إلى ما خلق لأجله، والمدح لغة الثناء باللسان على الجميل مطلقًا على جهة التعظيم، وعرفًا ما يدلّ على اختصاص الممدوح بنوع من الفضائل، فالشكر أعمّ من الحمد والمدح من وجه لأنه لا يختص باللسان وأخص منهما من وجه آخر لأنه يختص بالثناء على الإنعام، وضدّ الحمد الذم، وضدّ الشكر الكفران، وضدّ المدح الهجو.
وجملة الحمد لله خبرية لفظًا؛ إنشائية معنى، لحصول الحمد بالتكلم بها مع الإذعان لمدلولها، ويجوز أن تكون موضوعة شرعًا للإنشاء وقيل: خبرية لفظًا ومعنى، قال بعضهم: وهو التحقيق إذ ليس معنى كونها إنشائية لا أنها جملة إنشاء الحامد الثناء بها وذلك لا ينافي كونها خبرية معنى. ولام لله للملك أو الاستحقاق أو الاختصاص، وقيل: للتعليل والأولى أنها للاختصاص بالمعنى الأعمّ الصادق بالملك وبالاستحقاق، لا بالمعنى الأخص المقابل لهما وعلى كل فهي متعلقة بمحذوف هو الخبر حقيقة، فالحمد مختص بالله كما أفادته الجملة الاسمية سواء أجعلت لام التعريف فيه للإستغراق كما عليه الجمهور وهو ظاهر، أم للجنس كما عليه الزمخشري، لأنّ لام لله للإختصاص كما مرّ فلا فرد منه لغيره أم للعهد كالتي في قوله تعالى: ﴿إذ هما في الغار﴾ (التوبة، ٤٠) كما نقله ابن عبد السلام وأجازه الواحديّ على معنى أن الحمد الذي حمد الله به نفسه وحمده به أنبياؤه وأولياؤه مختص به والعبرة بحمد من ذكر فلا فرد منه لغيره، وأولى الثلاثة الجنس، زاد بعضهم أو للكمال كما أفاده سيبويه في الداخلة على الصفات كالرحمن الرحيم، قال البيضاويّ: إذ الحمد
1 / 8
في الحقيقة كله له إذ ما من خير إلا وهو موليه بوسط أو بغير وسط كما قال: ﴿وما بكم من نعمة فمن الله﴾ (النحل، ٥٣) انتهى.
فإن قيل: بل هو موليه مطلقًا بغير وسط، أجيب: بأن المراد بالوسط من تصل إليه النعمة أوّلًا ثم تنتقل منه إلى غيره لا أنه وسط في التأثير.
فأن قيل: لم خص الحمد بالله ولم يقل الحمد للخالق أو نحو من بقية الصفات أجيب: بأن لا يتوهم اختصاص استحقاق الحمد بوصف دون وصف، قال البيضاوي: وفيه إشعار بأنه تعالى حيّ قادر مريد عالم إذ الحمد لا يستحقه إلا من كان هذا شأنه، ﴿رب العالمين﴾ أي: مالك جميع الخلق من الإنس والجنّ والملائكة والدوابّ وغيرهم، إذ كل منها يطلق عليه عالم، يقال: عالم الإنس وعالم الجنّ إلى غير ذلك، وسمي المالك بالرب لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيدًا كقوله تعالى: ﴿ارجع إلى ربك﴾ (يوسف، ٥٠) والعالمين اسم جمع عالم بفتح اللام وليس جمعًا له لأنّ العالم عامّ في العقلاء وغيرهم والعالمين مختص بالعقلاء والخاص لا يكون جمعًا لما هو أعم منه، قاله ابن مالك وتبعه ابن هشام في «توضيحه»، وذهب كثير إلى أنه جمع عالم على حقيقة الجمع ثم اختلفوا في تفسير العالم الذي جمع هذا الجمع فذهب أبو الحسن إلى أنه أصناف الخلق العقلاء وغيرهم وهو ظاهر كلام الجوهريّ، وذهب أبو عبيدة إلى أنه أصناف العقلاء فقط وهو الإنس والجن والملائكة وقيل: عنى به الناس ههنا فإن كل واحد منهم عالم من حيث أنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير ووجه اشتمال الصغير وهو الإنسان على نظائر ما في الكبير وهو ما سوى الله تعالى أنّ تفاصيله شبيهة بتفاصيل العالم الكبير، إذ الكبير ينقسم إلى ظاهر محسوس كالعالم الملك وهو ما ظهر للحواس وتكون بقدرة الله تعالى بعضه من بعض وتضمنه التغيير وإلى باطن معقول كعالم الملكوت وهو ما أوجده ﷾ بالأمر الأزلي بلا تدريج وبقي على حالة واحدة من غير زيادة فيه ولا نقصان منه، وإلى عالم الجبروت وهو ما بين العالمين مما يشبه أن يكون في الظاهر من عالم الملك فجبر بالقدرة الأزلية بما هو من عالم الملكوت، والإنسان كذلك ينقسم إلى ظاهر محسوس كاللحم والعظم والدم، وإلى باطن كالروح والعقل والإرادة والقدرة، وإلى ما هو مشابه لعالم
الجبروت كالإدراكات الموجودة بالحواس والقوى الموجودة بأجزاء البدن.
فإن قيل: لم جمع جمع قلة مع أنّ المقام يستدعي الإتيان بجميع الكثرة أجيب: بأنّ فيه تنبيهًا على أنهم وإن كثروا قليلون في جنب عظمته وكبريائه تعالى.
﴿الرحمن الرحيم مالك يوم الدين﴾ ذكر ﷾ في هذه السورة من أسمائه خمسة: الله، والرب، والرحمن، والرحيم، والمالك، والسبب فيه كأنه يقول: خلقتك أوّلًا فأنا الله ثم ربيتك بوجود النعمة، فأنا رب ثم عصيت فسترت عليك، فأنا رحمن ثم تبت عليك، فأنا رحيم، ثم لا بدّ من إيصال الجزاء إليك، فأنا مالك يوم الدين.
فإن قيل: إنه تعالى ذكر الرحمن الرحيم في التسمية ثم ذكرهما مرّة ثانية دون الأسماء الثلاثة الباقية، فما الحكمة في ذلك؟ أجيب: بأنّ الحكمة في ذلك كأنه قال تعالى: اذكر أني إله ورب مرّة واحدة واذكر أني رحمن رحيم مرّتين ليعلم أنّ العناية بالرحمة أكثر منه بسائر الأمور، ثم لما بين الرحمة المضاعفة فكأنه قال: لا تغتروا بذلك فإني مالك يوم الدين ونظيره، قوله تعالى: ﴿غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب﴾ (غافر، ٣) وقرأ عاصم والكسائيّ: مالك
1 / 9
بألف بعد الميم، ويعضده قوله تعالى: ﴿لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر يومئذٍ﴾ (الانفطار، ١٩) وقرأ الباقون بغير ألف، ويعضده قوله تعالى: ﴿ملك الناس﴾ (الناس، ٢) وبينهما عموم مطلق فكل ملك مالك ولا عكس لعموم ولاية الملك التزامًا لا مطابقة ولا يقدح فيها أن تقول مالك الدواب والأنعام والوحوش والطير دون ملكها لأنّ ذلك ليس من جهة عدم شمول حياطته لذلك، بل من جهة أنه إنما يضاف عرفًا إلى ما فيه انقياد وامتثال وينفذ فيه التصرف بالأمر والنهي، قاله السعد التفتازاني، وقيل: هما بمعنى وهو القادر على اختراع الأعيان من العدم إلى الوجود ولا يقدر على ذلك إلا الله ويوم الدين يوم الجزاء ومنه قولهم كما تدين تدان وهو يوم القيامة وخص بالذكر لأنه لا ملك ظاهر فيه لأحد إلا لله تعالى ﴿لمن الملك اليوم﴾ (غافر، ١٦) .
فإن قيل: إضافة اسم الفاعل غير حقيقية فلا تكون معطية معنى التعريف فكيف ساغ وقوعه صفة للمعرفة؟ أجيب: بأنها إنما تكون غير حقيقية إذا أريد باسم الفاعل الحال أو الاستقبال فكان في تقدير الانفصال كقولك: مالك الساعة أو غدًا فأما إذا قصد به معنى الاستمرار: أي هو موصوف بذلك دائمًا فتكون الإضافة حقيقية كغافر الذنب فصح وقوعه صفة للمعرفة.
فإن قيل: التقييد بيوم الدين ينافي الاستمرار لكونه صريحًا في الاستقبال، أجيب: بأنّ معناه الثبوت والاستمرار من غير اعتبار حدوث في أحد الأزمنة ومثل هذا المعنى لا يمتنع أن يعتبر بالنسبة إلى يوم الدين كأنه قيل: هو ثابت المالكية في يوم الدين أو المراد أنه جعل يوم الدين لتحقق وقوعه بمنزلة الواقع فتستمرّ مالكيته في جميع الأزمنة.
تنبيه: إجراء هذه الأوصاف على الله تعالى من كونه ربًا للعالمين موجدًا لهم منعمًا عليهم بالنعم، كلها ظاهرها وباطنها عاجلها وآجلها مالكًا لأمورهم يوم الثواب والعقاب للدلالة على أنه تعالى الحقيق بالحمد لا أحد أحق به منه بل لا يستحقه على الحقيقة سواه، فإن ترتب الحكم على الوصف يشعر بعليته له.
﴿س١ش٥/ش٧ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّآلِّينَ﴾
﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ (الفاتحة، ٥ ٧) إيا ضمير منصوب منفصل وما يلحقه من الياء والكاف والهاء حروف زيدت لبيان التكلم والخطاب والغيبة لا محل لها من الإعراب وفيه أقوال أخر ذكرتها في «شرح القطر» .
فإن قيل: لم كرر ضمير إياك؟ أجيب: بأنه كرر للتنصيص على أنه المستعان به لا غيره.
فإن قيل: لم قدّمت العبادة على الاستعانة، أجيب: لتتوافق رؤوس الآي وليعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة وأيضًا لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك فرحًا واعترافًا منه بما يصدر عنه فعقبه بقوله: ﴿وإياك نستعين﴾ ليدل على أنّ العبادة أيضًا مما لا تتم ولا تتيسر له إلا بمعونة منه تعالى وتوفيق.
فإن قيل: لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب؟ أجيب: بأنّ عادة العرب التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تحسينًا للكلام وتنشيطًا للسامع فيكون أكثر إسغاءً للكلام فتعدل من الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى التكلم وبالعكس فيهما فهذه أقسام أربعة ذكرها البيضاوي والتحقيق كما قاله بعض المتأخرين: أنها ستة لأنّ الملتفت إليه إثنان وكل منهما إمّا غيبة أو خطاب أو تكلم، من ذلك قوله تعالى: ﴿حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم﴾ (يونس، ٢٢) الأصل بكم فهو التفات من الخطاب إلى الغيبة وقوله تعالى: ﴿وا الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه﴾ (الروم، ٤٨) الأصل فساقه فهو
1 / 10
التفات من الغيبة إلى التكلم.
والاستعانة طلب معونة وهي: إمّا ضرورية أو غير ضرورية، فالضرورية ما لا يتأتى الفعل دونه كاقتدار الفاعل وتصوّره وحصول آلة ومادّة يفعل بها فيها وعند استجماع ذلك يوصف الرجل بالاستطاعة ويصح أن يكلف بالفعل، وغير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل ويسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي أو يقرّب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه وهذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف غالبًا وقد يتوقف كأكثر الواجبات المالية.
فإن قيل: لم أطلقت الاستعانة؟ أجيب: بأنها إنما أطلقت لأجل أنها تتناول المعونة في المهمات كلها أو في أداء العبادات واستحسن هذا الزمخشريّ قال: لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض.
تنبيه: الضمير المستكن في نعبد ونستعين للقارىء ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة أو له ولسائر الموحدين أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعل عبادته تقبل ببركة عبادتهم وحاجته يجاب إليها ببركة حاجتهم ولهذا شرعت الجماعة في الصلاة.
فإن قيل: لم قدم المفعول؟ أجيب: بأنّ تقديمه للتعظيم والاهتمام به والدلالة على الحصر، ولذلك قال ابن عباس ﵄: معناه نعبدك ولا نعبد غيرك وتقديم ما هو مقدّم في الوجود والتنبيه على أنّ العابد ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولًا وبالذات ومنه إلى العبادة لا من حيث أنها عبادة صدرت عنه بل من حيث أنها نسبة شريفة إليه ووصلة بينه وبين الحق فإنّ العارف إنما يحق وصوله إذا استغرق في ملاحظة جناب القدس وغاب عما عداه حتى أنه لا يلاحظ نفسه ولا حالًا من أحوالها إلا من حيث أنها ملاحظة له ومنتسبة إليه ولذلك فضل ما حكي عن حبيبه محمد ﷺ حين قال: ﴿لا تحزن إنّ الله معنا﴾ (التوبة، ٤٠) على ما حكاه عن كليمه موسى ﷺ حيث قال: ﴿إن معي ربي سيهدين﴾ (الشعراء، ٦٢) لأنّ الأوّل قدّم ذكر الله تعالى على المعية والثاني بالعكس.
﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ بيان للمعونة المطلوبة فكأنه قال: كيف أعينكم فقالوا: اهدنا والهداية الدلالة بلطف ولذلك تستعمل في الخير.
فإن قيل: قال الله تعالى: ﴿فاهدوهم إلى صراط الجحيم﴾ (الصافات، ٢٣) أجيب: بأنه وارد على التهكم.
تنبيه: هدى أصله أن يتعدّى باللام أو بإلى كقوله تعالى: ﴿إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم﴾ (الإسراء، ٩) ﴿وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم﴾ (الأعراف، ١٧٥) فعومل معاملة اختار في قوله تعالى: ﴿واختار موسى قومه سبعين رجلًا لميقاتنا﴾ (الأعراف، ١٥٥) وقد يتعدى بنفسه كما هنا وهو حينئذٍ محتمل لإضمار الحرف ولعدم إضماره وهداية الله تعالى تتنوّع أنواعًا لا يحصيها عدد كما قال تعالى: ﴿وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها﴾ (إبراهيم، ٣٤) (النحل، ١٨) ولكنها تنحصر في أجناس مرتبة، الأوّل: إفاضة القوى التي يتمكن بها المؤمن من الاهتداء إلى مصالحه كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة والثاني: نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد، وإليه أشار تعالى حيث قال: ﴿وهديناه النجدين﴾ (البلد، ١٠) أي طريق الخير والشر وقال: ﴿وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى﴾ (فصلت، ١٧) والثالث: الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب وإياها عنى بقوله تعالى: ﴿وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا﴾ (الأنبياء، ٧٣) وقوله: ﴿إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم﴾ (الإسراء، ٩) والرابع: أن يكشف لقلوبهم السرائر ويريهم الأشياء
1 / 11
كما هي بالوحي والإلهام والمنامات الصادقة وهذا القسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء وإياه عنى تعالى بقوله: ﴿أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده﴾ (الأنعام، ٩٠) وقوله: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا﴾ (العنكبوت، ٦٩) .
فإن قيل: ما معنى طلب الهداية وهم مهتدون؟ أجيب: بأنهم طلبوا زيادة ما منحوه من الهدى والثبات عليه كقوله تعالى: ﴿والذين اهتدوا زادهم هدى﴾ (محمد، ١٧) والصراط من قلب السين صادًا ليطابق الطاء في الإطباق وقد تشمّ الصاد صوت الزاي ليكون أقرب إلى المبدل منه، قرأ حمزة الصراط المعرف في هذه السورة بالإشمام وهو أن ينطق القارىء بحرف متولد بين الصاد والزاي، وأشمّ خلف صراط الثاني كالأوّل وكذا جميع ما في القرآن من معرف ومنكر، وقرأ قنبل جميع ما في القرآن بالسين، وقرأ الباقون بالصاد الخالصة في الجميع، وهذه لغة قريش وهي الثابتة في الإمام وهو مصحف سيدنا عثمان ﵁ تعالى والمستقيم المستوي، والمراد به طريق الحق، وقيل: ملة الاسلام، وهذان القولان مرويان عن ابن عباس وهما متحدان صدقًا وإن اختلفا مفهومًا.
﴿صراط الذين أنعمت عليهم﴾ بالهداية بدل من الأوّل بدل كل من كل والعامل فيه مقدّر على رأي الجمهور، وقيل: العامل فيه هو العامل في المبدل منه وهو ظاهر مذهب سيبويه، واختاره ابن لك.
فإن قيل: ما فائدة ذكر صراط الذين أنعمت عليهم بدلًا تابعًا؟ وهلا اقتصر عليه مع أنه المقصود بالنسبة؟ أجيب: بأنّ فائدته التوكيد والتنصيص على أنّ طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة على آكد وجه وأبلغه لأنه جعل كالتفسير والبيان له فكأنه من البين الذي لا خفاء فيه إنّ الطريق المستقيم ما يكون طريق المؤمنين وهذا هو الموافق لما خرّج ابن جرير عن ابن عباس، إن المراد بالذين أنعمت عليهم الأنبياء والملائكة والصدّيقون والشهداء ومن أطاعه وعبده وقيل: الذين أنعمت عليهم الأنبياء خاصة صلوات الله وسلامه عليهم، وقيل: أصحاب موسى وعيسى قبل التحريف والنسخ.
تنبيه: أطلق الإنعام ليشمل كل إنعام لأنّ من أنعم الله عليه بنعمة الإسلام لم تبق نعمة إلا أصابته واشتملت عليه ويبدل من الذين بصلته. ﴿غير المغضوب عليهم﴾ وهم اليهود، لقوله تعالى: ﴿فيهم من لعنه الله وغضب عليه﴾ (المائدة، ٦٠) ﴿ولا﴾ أي: وغير ﴿الضالين﴾ وهم النصارى، لقوله تعالى: ﴿قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا وضلوا﴾ (المائدة، ٧٧) الآية، ونكتة البدل إفادة أنّ المهتدين ليسوا يهودًا ولا نصارى وقيل: إنّ غير صفة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان وبين السلامة من غضب الله تعالى والضلال، وقيل: المغضوب عليهم هم الكفار والضالون هم المنافقون، وذلك لأنه تعالى بدأ في أوّل البقرة بذكر المؤمنين والثناء عليهم في خمس آيات ثم أتبعه بذكر الكفار وهو المراد من قوله تعالى: ﴿إنّ الذين كفروا﴾ (البقرة، ٦) ثم أتبعهم بذكر المنافقين وهو قوله تعالى: ﴿ومن الناس من يقول آمنا با﴾ (البقرة، ٨) إلخ.. وكذا ههنا بدأ بذكر المؤمنين وهو قوله: ﴿أنعمت عليهم﴾ ثم أتبعهم بذكر الكفار وهو قوله ﴿غير المغضوب عليهم﴾ ثم أتبعهم بذكر المناففين بقوله: ﴿ولا الضالين﴾ .
فإن قيل: كيف صح أن يقع غير صفة للمعرفة وهو لا يتعرّف وإن أضيف إلى المعارف؟ أجيب: بأنه يصح بأحد تأويلين؛ أحدهما: إجراء الموصول مجرى النكرة إذ لم يقصد به معهود كالمحلى باللام في قول القائل:
*ولقد أمرّ على اللئيم يسبني
أي:
1 / 12
لئيما يسبني إذ لا مرور على الكل، والثاني: جعل غير معرفة بالإضافة لأنه أضيف إلى ما له ضدّ واحد وهو المنعم عليه فليس في غير إذن الإبهام الذي يأبى عليه أن يتعرّف.
تنبيه: إنما سمى كل من اليهود والنصارى بما ذكر مع أنه مغضوب عليه وضالّ لاختصاص كل منهما بما غلب عليه، وقال ﷺ «إن المغضوب عليهم اليهود وإنّ الضالين النصارى» رواه ابن حبان وصححه، وقيل: المغضوب عليهم العصاة والضالين الجاهلون بالله لأنّ المنعم عليه من وفق للجمع بين معرفة الحق لذاته والخير للعمل، به فكان المقابل. له من اختلّ إحدى قوّتيه العاقلة والعاملة والمخل بالعمل فاسق مغضوب عليه لقوله تعالى في القاتل عمدًا: ﴿وغضب الله عليه﴾ (النساء، ٩٧) والمخل بالعمل جاهل ضال لقوله تعالى: ﴿فماذا بعد الحق إلا الضلال﴾ (يونس: ٣٢) .
فإن قيل: ما معنى غضب الله لأنّ الغضب ثوران النفس عند إرادة الانتقام أو تغير يحصل عند ثوران دم القلب إرادة الانتقام وهو محال في حقه تعالى؟ أجيب: بأنه إذا أسند إلى الله تعالى أريد به المنتهى والغاية فمعناه إرادة الانتقام من العصاة وإنزال العقوبة بهم وأن يفعل بهم ما يفعل الملك إذا غضب على من تحت يده نعوذ بالله من غضبه ونسأله رضاه ورحمته.
فإن قيل: أيّ فرق بين عليهم الأولى والثانية؟ أجيب: بأنّ محل مجرور الأولى النصب على المفعولية ومحل مجرور الثانية الرفع لأنه نائب مناب الفاعل.
فإن قيل: لم دخلت لا في ﴿ولا الضالين﴾؟ أجيب: بأنها بمعنى غير كما قرّرته تبعًا للجلال المحلى، وأنها مزيدة كما قال الزمخشري لتأكيد ما في غير من معنى النفي، كأنه قال: لا المغضوب عليهم ولا الضالين، وللتصريح بتعلق النفي بكل من المعطوف والمعطوف عليه.
فائدة: أوّل السورة مشتمل على الحمد لله والثناء عليه والمدح له وآخرها مشتمل على الذمّ للمعرضين عن الإيمان به والإقرار بطاعته وذلك يدلّ على أنّ مطلع الخيرات وعنوان السعادات هو الإقبال على الله ومطلع الآفات ورأس المخالفات هو الإعراض عن الله تعالى والبعد عن طاعته والاجتناب عن خدمته.
فإن قيل: ما فائدة ﴿غير المغضوب﴾ إلخ بعد ذكر ﴿أنعمت عليهم﴾؟ أجيب: بأنّ الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف كما قال ﵊: «لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا» فقوله: ﴿صراط الذين أنعمت عليهم﴾ يوجب الرجاء الكامل وقوله: ﴿غير المغضوب عليهم﴾ إلخ يوجب الخوف الكامل وحينئذٍ يتقوّى الإيمان بركنيه وطرفيه وينتهي إلى حدّ الكمال وقرأ حمزة عليهم: غير المغضوب عليهم بضمّ الهاء وفقًا ووصلًا، وكذا جميع ما في القرآن، وقرأ ابن كثير: عليهم بواو، بعد الميم في الوصل فإذا وقف أسقط الواو وكذا يفعل في كل ميم جمع بعدها حرف متحرّك، وأمّا قالون فهو مخير في ميم الجمع إن شاء وصلها بواو كابن كثير وإن شاء لا يصلها بواو، وأمّا ورش فإنه يصل ميم الجمع بواو وإن كان بعدها همزة قطع فيصير عنده مدّ منفصل، وفي ﴿ولا الضالين﴾ مدّان لازم وعارض فاللازم هو الذي على الألف بعد الضاد قبل اللام المشدّدة، والعارض هو الذي على الياء قبل النون، والسنة للقارىء أن يقول بعد فراغه من الفاتحة آمين مفصولًا عن الفاتحة بسكتة وهو اسم الفعل الذي هو استجب، وعن ابن عباس ﵄: سألت رسول الله ﷺ عن معناه فقال: «افعل» بني على الفتح كأين لالتقاء الساكنين وجاز مدّ ألفه وقصرها قال مجنون ليلى
1 / 13
*يا رب لا تسلبني حبها أبدًا ... ويرحم الله عبدًا قال آمينا*
أي: بالمدّ، وقال جبير لما سأل الأسدي المسمى بفطحل:
*تباعد عني فطحل إذ سألته ... آمين فزاد الله ما بيننا بعدا*
فذكر مقصورًا وكان من حقه التأخير لأنّ التأمين إنما يكون بعد الدعاء ولكن قدّمه للضرورة وليس آمين من القرآن اتفاقًا بدليل أنه لم يثبت في المصاحف كما مرّت الإشارة إليه ولكن يسنّ ختم السورة به لقوله ﷺ «علمني جبريل ﵇ آمين عند فراغي من قراءة الفاتحة» كما رواه البيهقيّ وغيره، وقال ﷺ «إنه كالختم على الكتاب» كما رواه أبو داود في «سننه» وقال عليّ رضي الله تعالى عنه: آمين خاتم رب العالمين ختم به دعاء عبده، رواه الطبرانيّ وغيره لكن بسند ضعيف، يقوله الإمام ويجهر به في الجهرية لما روي عن وائل بن حجر: «أنه ﵊ كان إذا قرأ ولا الضالين قال آمين ورفع بها صوته» . وعن الحسن لا يقوله الإمام لأنه الداعي، وعن أبي حنيفة مثله والمشهور عنه وعن أصحابه أنه يخفيه، والمأموم يؤمن مع إمامه لقوله ﷺ «إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين فإن الملائكة تقول: آمين وإن الإمام يقول: آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه» . زاد الجرجانيّ في «أماليه» وما تأخر. وأحسن ما فسر به هذا الخبر ما رواه عبد الرزاق عن عكرمة قال: صفوف أهل الأرض تلي صفوف أهل السماء، فإذا وافق تأمين من في الأرض تأمين من في السماء غفر للعبد، قال ابن حجر ومثل هذا لا يقال بالرأي فالمصير إليه أولى وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله ﷺ قال لأبيّ: «ألا أخبرك بسورة لم ينزل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها؟ قال: بلى يا رسول الله قال: فاتحة الكتاب إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» رواه الترمذيّ وقال حسن صحيح، وعن ابن عباس ﵄ قال: «بينا نحن عند رسول الله ﷺ إذ ناداه منادٍ فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفًا منهما إلا أعطيته» وما
رواه البيضاويّ عن حذيفة بن اليمان أنّ النبيّ ﷺ قال: «إنّ القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتمًا مقضيًا فيقرأ صبيّ من صبيانهم في الكتاب الحمد لله رب العالمين فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة» حديث موضوع.
سورة البقرة
مدنية
وهي مائتان وسبع وثمانون آية
الم * ذَالِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾
﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ قال الشعبي وجماعة: ﴿ألم﴾ وسائر حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه وهي سرّ القرآن فنحن نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله ﷾، وفائدة ذكره طلب الإيمان بها والسبب في ذلك أنّ العقول الضعيفة لا تحتمل الأسرار القوية كما لا يحتمل نور الشمس أبصار الخفافيش والله تعالى استأثر بعلم لا تقدر عليه عقول
1 / 14
الأنبياء، والأنبياء استأثروا بعلم لا تقدر عليه عقول العلماء، والعلماء استأثروا بعلم لا تقدر عليه عقول العامّة، وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: في كل كتاب سرّ وسرّ الله في القرآن أوائل السور. وقال عليّ ﵁: إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي، قال داود بن أبي هند: كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور فقال: يا داود إنّ لكل كتاب سرًّا وإنّ سرّ القرآن فواتح السور فدعها واسأل عما سوى ذلك، وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: معنى ﴿ألم﴾ أنا الله أعلم ومعنى ﴿الر﴾ (يونس: ١) أنا الله أرى ومعنى ﴿المر﴾ (الرحمن، ١) أنا الله أعلم وأرى، قال الزجاج: وهذا حسن فإنّ العرب تذكر حرفًا من كلمة تريدها كقولهم: قلت لها قفي فقالت: قاف، أي: وقفت. وقيل: هي أسماء السور وعليه إطباق أكثر المتكلمين واختاره الخليل وسيبويه، سميت بها إشعارًا بأنها كلمات معروفة التركيب فلو لم تكن وحيًا من الله تعالى لم تتساقط قدرتهم عند معارضتها، ونقضه الإمام الرازي بأنها لو كانت اسمًا لها لوجب اشتهارها بها وقد اشتهرت بغيرها كسورة البقرة وآل عمران وقيل: أسماء للقرآن قاله قتادة. والحكمة في الإتيان بهذه الأحرف الثلاثة أنّ الألف من أقصى الحلق وهو مبدأ المخارج، واللام من طرف اللسان وهو وسطها، والميم من الشفة وهي آخرها، جمع الله تعالى بينها إيماء إلى أنّ العبد ينبغي أن يكون أوّل كلامه وأوسطه وآخره ذكر الله تعالى ولما تكاثر وقوع الألف واللام
في تراكيب الكلام جاءتا في معظم الفواتح مكرّرتين وهي فواتح سورة البقرة وأوّل آل عمران والأعراف ويونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة.
فإن قيل: هلا عددت هذه الأحرف بأجمعها في أوائل القرآن ومالها جاءت مفرّقة على السور، أجيب: بأنّ إعادة التنبيه على أنّ المتحدّى به مؤلف منها لا غير وتجديده في غير موضع واحد أوصل إلى الغرض وأقرّ له في الإسماع والقلوب من أن يفرد ذكره مرّة، وكذلك مذهب كل تكرير جاء في القرآن فمطلوب به تمكين المكرّر في النفوس وتقريره.
فإن قيل: هلا جاءت على وتيرة واحدة ولم اختلفت أعداد حروفها فوردت ص وق ون على حرف، وطه وطس ويس وحم على حرفين، والم والر وطسم على ثلاثة أحرف، والمص والمر على أربعة أحرف، وكهيعص وحمعسق على خمسة أحرف؟ أجيب: بأنّ هذا على عادة افتنانهم في أساليب الكلام وتصرّفهم فيه على طرق شتى ومذاهب عدّة، وكما أنّ أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف لم تتجاوز ذلك سلك بهذه الفواتح تلك المسالك.
فإن قيل: ما وجه اختصاص كل سورة بالفاتحة التي اختصت بها؟ أجيب: بأنه لما كان الغرض هو التنبيه والمبادي كلها في تأدية هذا الغرض سواء لا مفاضلة كان تطلب وجه الاختصاص ساقطًا كما إذا سمى الرجل بعض أولاده زيدًا والآخر عمرًا لم يقل له: لم خصصت ولدك هذا بزيد وذاك بعمرو؟ لأنّ الغرض هو التمييز وهو حاصل بذلك.
فإن قيل: هل لهذه الفواتح محل من الإعراب؟ أجيب: بأنّ لها محلًا عند من جعلها أسماء لأنها عنده كسائر الأعلام محلها يحتمل ثلاثة أوجه: إمّا الرفع بأنها مبتدأ أو خبر لمبتدأ محذوف أي: هذه ألم، أو النصب بفعل مقدّر كاذكر أو اقرأ أو اتل ألم، أو الجرّ بتقدير حذف حرف القسم.
﴿ذلك الكتاب﴾ الذي تقرؤه
1 / 15
يا محمد على الناس ﴿لا ريب فيه﴾ لا شك في أنه من عند الله تعالى.
فإن قيل: لم صحت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد؟ أجيب: بأن الإشارة وقعت فيه للتعظيم ولذلك قال الطيبي: أحسن ما قيل في توجيه ذلك قول صاحب «المفتاح» قال ذلك الكتاب ذهابًا إلى بعده درجة وقيل: وقعت الإشارة إلى ﴿ألم﴾ بعدما سبق التكلم به وتقضى، والمنقضي في حكم المتباعد، وهذا في كل كلام يحدّث الرجل بحديث ثم يقول: وذلك ما لا شك فيه ويحسب الحاسب ثم يقول: فذلك كذا وكذا وقال تعالى: ﴿لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك﴾ (البقرة، ٦٨) وقال نبي الله يوسف ﷺ ﴿لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي﴾ (يوسف، ٣٧) ولأنه لما وصل من المرسل ﷾ إلى المرسل إليه ﷺ وقع في حدّ البعد كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئًا: احتفظ بذلك أي: تمسك به، وقيل: معناه ذلك الكتاب الموعود إنزاله بقوله تعالى: ﴿إنا سنلقي عليك قولًا ثقيلًا﴾ (المزمل، ٥) أو في الكتب المتقدّمة لأن سورة البقرة مدنية كما مرّ وأكثرها احتجاج على اليهود وعلى بني إسرائيل وقد كانت بنو إسرائيل أخبرهم موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام إن الله يرسل محمدًا وينزل عليه كتابًا فقال تعالى: ﴿ذلك الكتاب﴾ أي: الذي أخبر الأنبياء المتقدّمون بأن الله سينزله على النبيّ المبعوث من ولد إسماعيل وقيل: إنه تعالى لما أخبر عن القرآن بأنه في اللوح المحفوظ بقوله: وإنه في أمّ الكتاب لدينا وقد كان ﷺ أخبر أمته بذلك فغير ممتنع أن يقول تعالى: ﴿ذلك الكتاب﴾ ليعلم أن هذا المنزل هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ. والكتاب مصدر سمي به المفعول للمبالغة أو فعال بني للمفعول كاللباس ثم أطلق على المنظوم عبارة قبل أن يكتب لأنه مما يكتب، وأصل الكتب الضمّ والجمع، سمي الكتاب كتابًا لأنه جمع حرف إلى حرف والكتاب جاء في القرآن على وجوه؛ أحدها: الفرض قال تعالى: ﴿كتب عليكم القصاص﴾ (البقرة، ١٨٧) ﴿كتب عليكم
الصيام﴾ (البقرة، ١٨٣) ﴿إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا﴾ (النساء، ١٠٣) وثانيها: الحجة والبرهان قال تعالى: ﴿فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين﴾ (الصافات، ١٥٧) أي: برهانكم، وثالثها: الأجل قال تعالى: ﴿وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم﴾ (الحجر، ٤) أي: أجل، ورابعها: بمعنى مكاتبة السيد رقيقه، قال تعالى: ﴿والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم﴾ (النور، ٣٣) .
فإن قيل: كيف نفى الريب على سبيل الاستغراق وكم من مرتاب فيه؟ أجيب: بأنّ الله تعالى ما نفى أن أحدًا لا يرتاب فيه وإنما المنفي كونه متعلقًا للريب ومظنة له لأنه لوضوحه وسطوع برهانه بحيث لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله﴾ (البقرة، ٢٣) فإنه لم ينف عنهم الريب بل أرشدهم إلى الطريق المزيح للريب وهو أن يجتهدوا في معارضة سورة من سوره ويبذلوا فيها غاية جهدهم حتى إذا عجزوا عنها تحقق لهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة وقيل: هو خبر بمعنى النهي أي: لا ترتابوا فيه كقوله تعالى: ﴿فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج﴾ (البقرة، ١٩٧) أي: لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا. والريب في الأصل مصدر رابني الشيء إذا حصل فيه الريبة وهي قلق النفس واضطرابها سمي به الشك لأنه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة، وفي الحديث: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإنّ الشك ريبة والصدق طمأنينة»، رواه الترمذي لكن بلفظ فإنّ الصدق
1 / 16
طمأنينة والكذب ريبة وصححه، ومعناه: اترك ما فيه شك إلى ما لا شك فيه فإذا ارتابت نفسك في شيء فاتركه أو اطمأنت إليه فافعله فإنّ نفس المؤمن تطمئن إلى الصدق وترتاب من الكذب وهذا مخصوص بذوي النفوس الشريفة القدسية الطاهرة.
تنبيه: جملة النفي خبر مبتدؤه ذلك و﴿هدى﴾ خبر ثانٍ أي هادٍ ﴿للمتقين﴾ الصائرين إلى التقوى بامتثال الأوامر واجتناب النواهي لاتقائهم بذلك النار. وتخصيص المتقين بالذكر تشريفًا لهم ولأنهم هم المنتفعون بالهدى كما قال تعالى: ﴿إنما أنت منذر من يخشاها﴾ (النازعات، ٤٥) وقال تعالى: ﴿إنما تنذر من اتبع الذكر﴾ (يس، ١١) وقد كان ﷺ منذرًا لكل الناس لأنّ هؤلاء هم الذين انتفعوا بإنذاره.
ولها ثلاث مراتب:
الأولى: التوقي من العذاب المخلد بالتبري عن الشرك وعليه قوله تعالى: ﴿وألزمهم كلمة التقوى﴾ (الفتح، ٢٦) .
والثانية: التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم، وهذا التجنب هو المتعارف بالتقوى في الشرع وهو المعنى بقوله تعالى: ﴿ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا﴾ (المائدة، ٦٥) (الأعراف، ٩٦) وعلى هذا قول عمر بن عبد العزيز: التقوى ترك ما حرّم الله وأداء ما افترض الله فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير.
والثالثة: أن يتنزه عما يشغل سرّه عن الحق تعالى وهذه هي التقوى الحقيقية المطلوبة بقوله تعالى: ﴿يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته﴾ (آل عمران، ١٠٢) وقال ابن عمر: التقوى أن لا ترى نفسك خيرًا من أحد. قرأ ابن كثير: فيه هدى، فيصل الهاء من فيه بياء في الوصل لأنها مكسورة وقبلها ساكن فإن كانت هاء الكناية مضمومة وقبلها ساكن وصلها بواو فإن كان قبلها متحرّك وبعدها متحرّك فجميع القرّاء يصلونها مكسورة بياء ويصلونها مضمومة بواو، فمثال المكسورة به أن يوصل، ومثال المضمومة قال له صاحبه وهو وما أشبه ذلك، فإن كان قبلها متحرّك وبعدها ساكن فالجميع على عدم الصلة مثال ذلك به الله وله الملك وما أشبه ذلك، ويدغم أبو عمرو الهاء في الهاء بخلاف عنه، وكذا كل مثلين ما لم يكن الحرف المدغم تاء متكلم مثل: كنت ترابًا أو تاء مخاطب مثل أفأنت تكره الناس أو منوّنًا مثل: سميع عليم أو مشدّدًا مثل: فتمّ ميقات ربه.
ثم وصف المتقين بما هو شأنهم بقوله: ﴿الذين يؤمنون بالغيب﴾ أي: يصدّقون بما غاب عنهم من البعث والجزاء والجنة والنار والصراط والميزان، والإيمان لغة التصديق وشرعًا قيل: التصديق بما علم بالضرورة أنه من دين محمد ﷺ كالتوحيد والنبوّة والبعث والجزاء ومجموع ثلاثة أمور اعتقاد الحق والإقرار به والعمل بمقتضاه عند جمهور المحدّثين والمعتزلة والخوارج والأصح أنه التصديق وحده، ويدل له أنه تعالى أضاف الإيمان إلى القلب فقال: ﴿كتب في قلوبهم الإيمان﴾ (المجادلة، ٢٢) وقال: ﴿وقلبه مطمئن بالإيمان﴾ (النحل، ١٠٦) وقال: ﴿ولم تؤمن قلوبهم﴾ (المائدة، ٤١) وعطف عليه العمل الصالح في مواضع لا تحصى وقرنه بالمعاصي فقال: ﴿وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا﴾ (الحجرات، ٩) ﴿يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى﴾ (البقرة، ١٧٨) فلو لم يكن الإيمان التصديق فقط بل هو وترك المعاصي لم يكونوا مؤمنين.
فإن قيل: قال الإمام الشافعيّ رضي الله تعالى عنه وغيره: إنّ الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، أجيب: بأن ذلك محمول على الإيمان الكامل. وقرأ ورش والسوسي بإبدال الهمزة الساكنة في يؤمنون واوًا وكذا يقرأ حمزة في الوقف ﴿ويقيمون الصلاة﴾ أي يديمونها
1 / 17
ويحافظون عليها في مواقيتها بحدودها وأركانها وهاتها يقال: قام بالأمر وأقامه إذا أتى به يعطي حقوقه لأنّ الحقيق بالمدح من راعى حدودها الظاهرة من الفرائض والسنن وحقوقها الباطنة كالخشوع والإقبال على الله تعالى لا المصلون الذين هم عن صلاتهم ساهون، ولذلك ذكر في سياق المدح ﴿والمقيمين الصلاة﴾ (النساء، ١٦٢) وفي معرض الذمّ ﴿فويل للمصلين﴾ (الماعون، ٤) والمراد بها الصلوات الخمس ذكر بلفظ الوحدان كقوله تعالى: ﴿فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق﴾ (البقرة، ٢١٣) يعني: الكتب، والصلاة في اللغة: الدعاء، قال الله تعالى: ﴿وصل عليهم﴾ (التوبة، ١٠٣) أي: ادع لهم، وفي الشرع إسم لأفعال وأقوال مخصوصة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم. وقرأ ورش بتغليظ اللام في الصلاة حيث جاء ﴿ومما رزقناهم﴾ أي: أعطيناهم ﴿ينفقون﴾ يخرجون المال في طاعة الله فرضًا كان أو نفلًا، ومن فسره بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والأصل فيه أو خصصه بها لاقترانها بالصلاة لأنهما يذكران معًا في القرآن ويحتمل أن يراد به الانفاق مما منحهم الله من النعم الظاهرة والباطنة، ويؤيده ما رواه الطبرانيّ في «الأوسط» مرفوعًا: «مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يحدث به كمثل الذي يكنز الكنز فلا ينفق منه» وإلى هذا ذهب من قال: ومما خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون. والرزق بالكسر في اللغة: الحظ، قال الله تعالى: ﴿وتجعلون رزقكم﴾ - أي: حظكم ونصيبكم - من القرآن أنكم تكذبون (النحل، ٧٥) وأمّا بالفتح فهو مصدر بمعنى إعطاء الحظ كما أنه بالكسر يكون مصدرًا أيضًا كما قيل به في قوله تعالى: ﴿ومن رزقناه منا رزقًا حسنًا﴾ () وفي
العرف اسم لكل ما ينتفع به حتى الولد والرقيق، والمعتزلة لما استحالوا من الله أن يمكن من الحرام لأنه تعالى منع من الانتفاع به وأمر بالزجر عنه، قالوا: الرزق لا يتناول الحرام ألا ترى أنه تعالى أسند الرزق ههنا إلى نفسه إيذانًا بأنهم ينفقون الحلال الصرف الطيب وأن إنفاق الحرام لا يوجب المدح وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله تعالى بقوله تعالى: ﴿قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالًا﴾ (يونس، ٥٩) وأجاب أهل السنة عما ذكر بأن الإسناد التعظيم والتحريض على الإنفاق والذم بتحريم ما لم يحرم واختصاص ما رزقهم بالحلال للقرينة وتمسكوا لشمول الرزق له بما رواه ابن ماجة وغيره من حديث صفوان بن أمية قال: كنا عند رسول الله ﷺ فجاءه عمرو بن قرّة فقال: يا رسول الله إن الله قد كتب عليّ الشقوة فلا أراني أرزق إلا من دفّي بكفي فأذن لي في الغناء من غير فاحشة فقال: لا آذن لك ولا كرامة، كذبت أي عدوّ الله لقد رزقك الله حلالًا طيبًا فاخترت ما حرّم الله عليك من رزقه مكان ما أحلّ الله لك من حلاله» وبأنه لو لم يكن رزقًا لم يكن المتغذي به طول عمره مرزوقًا وليس كذلك لقوله تعالى: ﴿وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها﴾ (هود، ٦) .
تنبيه: تقديم رزقناهم على ينفقون للاهتمام به وللمحافظة على رؤوس الآي وإدخال من التبعيضية عليه للكف عن الإسراف المنهي عنه في حق من لم يصبر على الإضاقة وإلا فليس بإسراف فقد تصدّق أبو بكر ﵁ بجميع ماله ولم ينكر عليه النبيّ ﷺ
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أولئك عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ]
﴿والذين يؤمنون بما أنزل إليك﴾ أي القرآن بأسره والشريعة عن آخرها، وإنما عبر عنه بلفظ المضيّ وإن كان بعضه مترقبًا تغليبًا للموجود على ما لم يوجد فيكون
1 / 18
مجازًا باعتبار تسمية الكل باسم البعض أو تنزيلًا للمنتظر منزلة الواقع فيكون استعارة باعتبار تشبيه غير المتحقق بالمتحقق، وفي كل من هذين الوجهين جمع بين الحقيقة والمجاز وهو جائز عند الإمام الشافعي ﵁ ﴿وما أنزل من قبلك﴾ أي: التوراة والانجيل وغيرهما من سائر الكتب السابقة على القرآن والإيمان بالإنزالين جملة فرض عين وبالأوّل دون الثاني تفصيلًا من حيث إنا متعبدون بتفاصيله فرض ولكن على الكفاية لأنّ وجوبه على كل أحد يوجب الحرج ويشوش المعاش، وهذه الآية في المؤمنين من أهل الكتاب كعبد الله ابن سلام وأمثاله.
فائدة: الكتب المنزلة مائة وأربعة كتب أنزل على السيد شيث ستون صحيفة وعلى السيد إبراهيم ثلاثون وعلى السيد موسى قبل التوراة عشر فهذه مائة والأربعة الأخرى التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم، واختلف القرّاء في مدّ وقصر ما أنزل فقالون والدوري عن أبي عمر يمدّان ويقصران، وابن كثير والسوسي يقصران بلا خلاف وباقي القرّاء وهم ورش وعاصم وحمزة والكسائي يمدُّون بلا خلاف ويتفاوتون في طول المدّ فأطولهم مدًّا ورش وحمزة ودونهما عاصم ودونه ابن عامر والكسائي وهكذا كل مدّ منفصل ﴿وبالآخرة هم يوقنون﴾ أي: يعلمون أنها كائنة لأنّ اليقين هو العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكًا فيه قاله الإمام الرازي، ولذلك لا يوصف به العلم القديم ولا العلوم الضرورية فلا يقال تيقن الله كذا ولا تيقنت أنّ الكل أكبر من الجزء.
فائدة: سميت الدنيا دنيا لدنوّها من الآخرة وسميت الآخرة آخرة لتأخرها وكونها بعد فناء الدنيا وهي تأنيث الآخر صفة الدار وبدليل قوله تعالى: ﴿تلك الدار الآخرة﴾ (القصص، ٨٣) قرأ ورش الآخرة بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها حيث جاء وكذا الأرض، وقد أفلح، ومن آمن، وما أشبه ذلك.
﴿أولئك﴾ الموصوفون بما ذكر ﴿على هدى﴾ أي: رشد ﴿من ربهم﴾ ونكر هدى للتعظيم فكأنه أريد به ضرب لا يبالغ كنهه ولا يقادر قدره وأكد تعظيمه بأنّ الله مانحه والموفق له.
تنبيه: جميع القرّاء يمدّون أولئك بلا خلاف لأنه متصل لكن مرتبة ابن كثير وأبي عمرو دون مرتبة ابن عامر والكسائي في المتصل والمنفصل، وأولاء كلمة معناها الكناية عن جماعة والكاف للخطاب كما في حرف ذلك ﴿وأولئك هم المفلحون﴾ أي: الفائزون بالجنة والناجون من النار كرّر فيه اسم الإشارة تنبيهًا على أن اتصافهم بتلك الصفات يقتضي كل واحد من الاختصاصين وأن كلًا منهما كافٍ في تمييزهم بها عن غيرهم فلا يحتاجون فيه إلى مجموعهما.
فإن قيل: لم وسط العاطف بين هاتين الجملتين دون قوله تعالى: ﴿أولئك كالأنعام بل هم أضلّ أولئك هم الغافلون﴾ (الأعراف، ١٧٩)؟ أجيب: بأن الجملتين هنا مختلفتان باختلاف المسندين فيهما إذ على هدى من ربهم والمفلحون وإن تناسبتا تعلقًا مختلفتان مفهومًا ووجودًا ومقصودًا لأن الهدى في الدنيا والفلاح في العقبى وإثبات كل منهما مقصود في نفسه بخلاف كالأنعام والغافلون فإنهما وإن اختلفا مفهومًا قد اتحدا مقصودًا ووجودًا إذ لا معنى للتشبيه بالأنعام إلا المبالغة في الغفلة في الدنيا فناسب العطف في الأوّل دون الثاني.F
تنبيه: تأمّل كيف نبه ﷾ على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد من وجوه شتى بناء الكلام على اسم الإشارة
1 / 19
للتعليل مع الإيجاز وتكريره وتعريف الخبر وتوسط الفصل لإظهار قدرهم والترغيب في اقتضاء أثرهم وأصل الفلاح القطع والشق ومنه سمي الزراع فلاحًا لأنه يشق الأرض فهم المقطوع لهم بالخير في الدنيا والآخرة.
ولما ذكر الله تعالى خاصة عباده وخاصة أوليائه بصفاتهم التي أهلتهم للهدى والفلاح عقبهم بذكر أضدادهم العتاة المردة الذين لا ينفع فيهم الهدى ولا تغني عنهم الآيات والنذر بقوله تعالى:
﴿إن الذين كفروا﴾ الكفر لغة ستر النعمة وأصله الكفر بالفتح وهو الستر ومنه قيل للزراع والليل كافر ولكمام الثمر كافور، وفي الشرع إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول به، وينقسم إلى أربعة أقسام: كفر إنكار، وكفر جحود، وكفر عناد، وكفر نفاق، فكفر الإنكار هو أن لا يعرف الله أصلًا ولا يعترف به، وكفر الجحود هو أن يعرف الله بقلبه ولا يقرّ بلسانه ككفر إبليس واليهود قال الله تعالى: ﴿فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به﴾ (البقرة، ٨٩) وكفر العناد هو أن يعرف الله بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به ككفر أبي طالب حيث يقول:
*ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا*
*لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحًا بذاك مبينا*
وأمّا كفر النفاق فهو أن يقرّ باللسان ولا يعتقد بالقلب وجيع هذه الأقسام من لقي الله تعالى بواحد منها لا يغفر له قال الله تعالى: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به﴾ (النساء، ٤٨ - ١١٦) .
تنبيه: احتجت المعتزلة بما جاء في القرآن بلفظ الماضي نحو: ﴿إن الذين كفروا﴾ (البقرة، ٦) ﴿إنا نحن نزلنا الذكر﴾ (الحجر، ٩) ﴿إنا أرسلنا نوحًا﴾ (نوح، ١) على حدوث القرآن لاستدعاء ما جاء فيه بلفظ الماضي سابقية المخبر عنه والقديم يستحيل أن يكون مسبوقًا بغيره فأجاب أهل السنة: بأن ما جاء فيه بلفظ الماضي مقتضى تعلق الحكم بالخبر عنه وحدوث مقتضى التعلق لا يستلزم حدوث المخبر عنه فلا يستلزم حدوث كلام الله كما في عمله تعالى فإنه قديم ومقتضى تعلقه بغيره حادث والحاصل أنه لا يلزم من حدوث مقتضى التعلق وهو الكلام اللفظيّ حدوث الكلام النفسيّ. ﴿سواء عليهم﴾ أي متساوٍ لديهم ﴿أأنذرتهم أم لم تنذرهم﴾ أي: خوّفتهم وحذرتهم أم لا والإنذار إعلام مع تخويف وتحذير فكل منذر معلم وليس كل معلم منذرًا وإنما اقتصر عليه دون البشارة لأنه أوقع في القلب وأشدّ تأثيرًا في النفس من حيث أن دفع الضرر أهمّ من جلب النفع فإذا لم ينفع فيهم الإنذار كانت البشارة بعدم النفع أولى ﴿لا يؤمنون﴾ بما جئت به وهذه الآية في أقوام حقت عليهم كلمة الشقاوة في سابق علم الله تعالى كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما فلا تطمع في إيمانهم، واحتجّ بهذه الآية من جوّز تكليف ما لا يطاق فإنه ﷾ أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون وأمرهم بالإيمان فلو آمنوا وقع الخلف في كلامه تعالى وهو محال والحق أن التكليف بالممتنع لذاته جائز عقلًا غير واقع بخلاف التكليف بالممتنع لغيره كالذي تعلق علم الله تعالى بعدم وقوعه فإنه جائز وواقع اتفاقًا.
تنبيه: هاهنا همزتان مفتوحتان من كلمة فقالون وأبو عمرو يسهلان الثانية ويدخلان بينهما ألفًا وكذا ورش وابن كثير إلا أنهما لم يدخلا ألفًا بينهما ولورش وجه آخر وهو أن يبدل الثانية حرف مدّ، وهشام له وجهان: تسهيل الهمزة الثانية وتحقيقها مع إدخال ألف بينهما
1 / 20
والباقون بالتحقيق والقصر وجميع القرّاء يحققون الأولى.
﴿س٢ش٧/ش٩ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ؟ وَعَلَى؟ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ؟ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ ا؟خِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَءَامَنُوا؟ وَمَا يَخْدَعُونَ إِ؟ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾
ثم ذكر سبب تركهم الإيمان بقوله تعالى: ﴿ختم الله على قلوبهم﴾ أي: طبع واستوثق فلا يدخلها إيمان ولا خير، والختم: الكتم، سمي به الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه لأنه كتم له ﴿وعلى سمعهم﴾ أي: مواضعه فلا ينتفعون بما يسمعونه من الحق، وقوله تعالى: ﴿وعلى أبصارهم﴾ أي: أعينهم ﴿غشاوة﴾ مبتدأ وخبر أي: على أعينهم غطاءً من عند الله تعالى فلا يبصرون الحق وعبر الله تعالى عن إحداث هذه الهيئة بالطبع في قوله تعالى: ﴿أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم﴾ (النحل، ١٠٨) وبالإغفال في قوله تعالى: ﴿ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا﴾ (الكهف، ٢٨) وبالإقساء في قوله تعالى: ﴿وجعلنا قلوبهم قاسية﴾ (المائدة، ١٣) وهذه الهيئة من حيث أنّ الممكنات بأسرها مستندة إلى الله تعالى واقعة بقدرته أسندت إليه تعالى ومن حيث أنها مسببة عما اقترفوه بدليل قوله تعالى: ﴿بل طبع الله عليها بكفرهم﴾ (النساء، ١٥٥) وقوله تعالى: ﴿ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم﴾ (المنافقون، ٣) وردت الآية مظهرة عليهم شناعة صفتهم ووخامة عاقبتهم.
فإن قيل: لم وحد السمع دون القلوب والأبصار؟ أجيب: بأنه على حذف مضاف مثل وعلى حواس سمعهم كمواضعه كما مرّ تقديره أو باعتبار الأصل فإنه مصدر في أصله والمصادر لا تثنى ولا تجمع والأبصار جمع بصر وهو إدراك العين وقد يطلق مجازًا على القوّة الباصرة وعلى العضو وكذا السمع، قال البيضاويّ: ولعل المراد بهما في الآية العضو لأنه أشدّ مناسبة للختم والتغطية وبالقلب ما هو محل العلم وقد يطلق القلب ويراد به العقل والمعرفة، كما قال الله تعالى: ﴿إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب﴾ (ق، ٣٧) أي: عقل، وأمال أبو عمرو ألف أبصارهم وكذا كل ألف بعدها راء مكسورة متطرّفة وإنما جاز إمالتها مع الصاد لأنّ الراء المكسورة تغلب المستعلية لما فيها من التكرير ﴿ولهم عذاب عظيم﴾ أي: قوي دائم في الآخرة وهذا وعيد وبيان لما يستحقونه، والعذاب كلّ ما يعيي الانسان ويشق عليه، وقال الخليل: العذاب ما يمنع الإنسان عن مراده ومنه الماء العذب لأنه يمنع العطش وإنما وصف العذاب بالعظيم دون الكبير لأن العظيم فوقه، لأنّ العظيم نقيض الحقير والكبير نقيض الصغير، وإذا كان الحقير مقابلًا للعظيم والصغير، للكبير كان العظيم فوق الكبير لأنّ العظيم لا يكون حقيرًا والكبير قد يكون حقيرًا كما أنّ الصغير قد يكون عظيمًا، وتنكير الغشاوة والعذاب للتنويع لأنهما لما قرنا بالختم على القلوب كان المعنى نوعًا عظيمًا منه أي: على أبصارهم غشاوة ليس وما يتعارفه الناس وهو التعامي عن الآيات ولهم من الآلام العظام نوع لا يعلم كنهه إلا الله.
ونزل في المنافقين حكاية لحالهم قوله تعالى: ﴿ومن الناس﴾ أمال أبو عمرو الألف قبل السين المكسورة إمالة محضة، وهكذا كل ألف مثلها والباقون بالفتح ﴿من يقول آمنا با وباليوم الآخر﴾ أجمع المفسرون على أنّ ذلك وصف المنافقين، قالوا: صنف الله الأصناف الثلاثة من المؤمنين والكافرين والمنافقين فبدأ بذكر المؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم وثنى بأضدادهم الذين محضوا الكفر ظاهرًا وباطنًا وثلث بالصنف الثالث المذبذب بين القسمين وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم تكميلًا للتقسيم، وهذا الصنف أخبث الكفرة وأبغضهم إلى الله
1 / 21