مقدمة التحقيق
(1) الحمد لله على سابغ إفضاله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله.
أما بعد، فهذا كتاب «سيرة رسول الله» صلى الله عليه وسلم، الذي استخرجه الإمام أبو محمد عبد الملك بن هشام المعافري، من كتاب «السيرة» لمحمد بن إسحاق المطلبي، وهو أقدم السير الجامعة وأصحها. [ (1) ]
(المغازي والسير) :
لفظتا «المغازي والسير» إذا أطلقتا، فالمراد بهما عند مؤرخي المسلمين تلك الصفحة الأولى من تاريخ الأمة العربية: صفحة الجهاد في إقامة صرح الإسلام وجمع العرب تحت لواء الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، وما يضاف إلى ذلك من الحديث عن نشأة النبي، وذكر آبائه، وما سبق حياته من أحداث لها صلة بشأنه وحياة أصحابه الذين أبلوا معه في إقامة الدين، وحملوا رسالته في الخافقين.
وظهور الرسالة المحمدية أعظم حادث في تاريخ العرب خاصة، والبشر عامة:
لأن حياة العرب سادة ودهماء-أيام الرسول-كانت له ولدينه، فما اجتمع ملأ منهم أو تفرق إلا فيه، ولا تحدثوا في نديهم إلا عنه، ولا تحركت كتائبهم وجيوشهم إلا له، حتى كان قصارى بلائه فيهم اجتماعهم على الإسلام، ونبذهم ما كانوا فيه من الجاهلية الجهلاء، والضلالة العمياء.
[ (1) ]المراجع التي رجعنا إليها في هذا البحث هي:
بغية الوعاة للسيوطي-تاريخ ابن كثير-تاريخ آداب اللغة العربية لجورجى زيدان-تاريخ بغداد للخطيب البغدادي-تهذيب التهذيب للعسقلانى-حسن المحاضرة للسيوطي-ضحى الإسلام لأحمد أمين- الطبقات الكبرى لابن سعد-عيون الأثر في المغازي والشمائل والسير، لابن سيد الناس-الفهرست لابن النديم-كشف الظنون لملا كاتب جلبي-الكمال في معرفة الرجال لابن النجار-معجم الأدباء ومعجم البلدان لياقوت-معجم ما استعجم للبكرى. الوسيط لأحمد الإسكندري ومصطفى عناني-وفيات الأعيان لابن خلكان.
Shafi 3
(1) ثم برزت هذه الأمة العربية، التي كانت قد أنكرتها الأمم، وتخطفهم الناس من حولهم، إلى ميادين الحياة، تؤدى رسالتها في هداية البشر، وتقيم القسطاس بين الناس، وتضرب المثل الأعلى في علو الهمة، والبطولة، والإيثار، ونصرة الحق، والتعاون على البر والتقوى، والاستمساك بمكارم الأخلاق.
هذا مجمل ما تتضمنه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والرعيل الأول من صحابته، الذين تابعوه على الهدى ودين الحق، وسبقوا إلى تدوين صحف المجد والفخار العربى بما خلدوا من أعمالهم على وجه الزمان.
ثم دب إلى بعض من خلف بعدهم من الزعماء التحاسد والتباغض، وقلة التناصر والتعاون، فتشعبت بالأمة السبل، وتفرقت بهم النواحي، فكان لهم إلى جانب ذلك التاريخ تاريخ، وانقسم هذا التاريخ بانقسام الأمة دولا، كان لكل دولة تاريخها الخاص في موقعها الجديد، واتصالها بغيرها من الدول.
(التاريخ عند العرب) :
ولم يكن للعرب قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم من مادة التاريخ إلا ما توارثوه بالرواية، مما كان شائعا بينهم من أخبار الجاهلية الأولى، كحديثهم عن آبائهم وأجدادهم، وأنسابهم، وما في حياة الآباء والأجداد من قصص، فيها البطولة، وفيها الكرم، وفيها الوفاء، ثم حديثهم عن البيت وزمزم وجرهم، وما كان من أمرها، ثم ما كان من خبر البيوتات التي تناوبت الإمرة على قريش، وما جرى لسد مأرب، وما تبعه من تفرق الناس في البلاد، إلى أمثال هذا مما قامت فيه الذاكرة مقام الكتاب، واللسان مقام القلم، يعى الناس عنه، ويحفظون، ثم يؤدون.
ثم ظهر مورد جديد بظهور النبي صلى الله عليه وسلم وظهور دعوته، هي أحاديث الصحابة والتابعين عن ولادته صلى الله عليه وسلم وحياته، وما ملئت به هذه الحياة من جهاد في سبيل الله، واصطدام مع المشركين، ومن ليس على دينه، ودعوة إلى التوحيد، وما كان فيها من أثر للألسنة والسيوف. فهذا وذاك كان مادة للتاريخ أولا، ثم للسيرة ثانيا.
Shafi 4
(1) ولم يدون في تاريخ العرب أو السيرة شيء، إلى أن مضت أيام الخلفاء، بل لم يدون في هذه المدة غير القرآن ومبادئ النحو. فقد رأينا المسلمين يحفزهم حرصهم على حفظ القرآن إلى كتابته في حياة النبي وبعده، كما حفزتهم مخافتهم من تفشي العجمة على الألسنة إلى تدوين النحو، وذلك لما اختلط العرب بغيرهم عند اتساع الرقعة الإسلامية.
(بدء التأليف في السيرة) :
ولما كانت أيام معاوية، أحب أن يدون في التاريخ كتاب، فاستقدم عبيد ابن شرية الجرهمي من صنعاء، فكتب له كتاب الملوك وأخبار الماضين. بعد هذا رأينا أكثر من واحد من العلماء يتجهون إلى علم التاريخ من ناحيته الخاصة لا العامة، وهي سيرة الرسول. ولعلهم وجدوا في تدوين ما يتعلق به عليه الصلاة والسلام شيئا يحقق ما في أنفسهم من تعلق به، وحب لتخليد آثاره، بعد أن منعوا من تدوين أحاديثه إلى أيام عمر بن عبد العزيز، مخافة أن يختلط الحديث بالقرآن، فجاء أكثر من رجل كلهم محدث، فدونوا في السيرة كتبا، نذكر منهم: عروة بن الزبير بن العوام الفقيه المحدث، الذي مكنه نسبه من قبل أبيه الزبير وأمه أسماء بنت أبى بكر أن يروى الكثير من الأخبار والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحياة صدر الإسلام.
وحسبك أن تعلم أن ابن إسحاق، والواقدي والطبري، أكثروا من الأخذ عنه، ولا سيما فيما يتعلق بالهجرة إلى الحبشة، والمدينة، وغزوة بدر. وكانت وفاة عروة -فيما يظن-سنة 92 ه.
ثم أبان بن عثمان بن عفان المدني المتوفى سنة 105 ه. فألف في السيرة صحفا جمع فيها أحاديث حياة الرسول.
ثم وهب بن منبه اليمنى المتوفى سنة 110 ه. وفي مدينة هيدلبرج بألمانيا قطعة من كتابه الذي ألفه في المغازي.
وغير هؤلاء كثير، منهم من قضى نحبه قرب تمام الربع الأول من القرن الثاني،
Shafi 5
(1) كشرحبيل بن سعد المتوفى سنة 123 ه. وابن شهاب الزهرى المتوفى سنة 124 ه.
وعاصم بن عمر بن قتادة المتوفى سنة 120 ه. ومنهم من جاوزه بسنين، كعبد الله بن أبى بكر بن حزم المتوفى سنة 135 ه.
وكان هؤلاء الأربعة ممن عنوا بأخبار المغازي، وما يتصل بها.
ومنهم من عاش حتى أوشك أن يدرك منتصف القرن الثاني، أو جاوزه بقليل، كموسى بن عقبة المتوفى سنة 141 ه، ثم معمر بن راشد المتوفى سنة 150 ه، ثم شيخ رجال السيرة محمد بن إسحاق المتوفى سنة 152 ه.
وجاء بعد هؤلاء غيرهم، نذكر منهم زيادا البكائي المتوفى سنة 183 ه، والواقدي صاحب المغازي المتوفى سنة 207 ه، ومحمد بن سعد صاحب الطبقات الكبرى المتوفى سنة 230 ه . وقبل أن تستأثر المنية بابن سعد عدت على ابن هشام في سنة 218 ه. وابن هشام هو الرجل الذي انتهت إليه سيرة ابن إسحاق، فعرفت به وشاع ذكره بها.
(علم السيرة في أدواره المختلفة) :
ولم تنقطع العناية بالتأليف في السيرة إلى يومنا هذا. إلا أن الموضوع في ذاته ليس أمرا يقوم على التجارب، أو فكرة يقيمها برهان وينفضها برهان، شأن النظريات العلمية التي نرى اتصال العلماء بها اتصال تجديد وتغيير على مر السنين، وإنما هو أمر عماده النقل والرواية.
فكان المشتغلون به أولا محدثين ناقلين، ثم رأينا من جاء بعدهم جامعين مبوبين، ولما استوى للمتأخرين ما جمع المتقدمون، جاء طور النقد والتعليق، كما فعل ابن هشام في سيرة ابن إسحاق.
فكان هذا التراث بين أيدي من جاء بعدهم شيئا غير قابل لجديد في جوهره، كل مجهود فيه كان في الشكل والصورة لا يمس الجوهر إلا بمقدار. وقد رأينا المؤلفين فيه على ضربين: فريق عاش في ظل كتب الأولين، يتناولها بالشرح، أو الاختصار، أو النظم ليسهل حفظها. وفريق صبغ نفسه بصفة المؤلف المبتدع،
Shafi 6
(1) فجمع بين يديه كتب السيرة، وخرج منها بكتاب هو في ظاهره له، وفي حقيقته أنه لغير واحد ممن سبقوه.
نذكر من الفريق الثاني ابن فارس[1] اللغوي المتوفى بالري سنة 395 ه، ومحمد ابن علي بن يوسف الشافعي الشامي المتوفى سنة 600 ه، وابن أبى طى يحيى بن حميد المتوفى سنة 630 ه، وظهير الدين على بن محمد كازروني المتوفى سنة 694 ه وعلاء الدين علي بن محمد الخلاطى الحنفي المتوفى سنة 708 ه، وابن سيد الناس[2] البصري الشافعي المولود سنة 661 ه، والمتوفى سنة 734 ه، وشهاب الدين الرعينى الغرناطي[3] المتوفى سنة 779 ه، وأبا عبد الله محمد بن أحمد ابن علي بن جابر الأندلسي[4] المتوفى سنة 780 ه. ثم محمد بن يوسف الصالحي صاحب السيرة الشامية[5] المتوفى سنة 942 ه، وعلي بن برهان الدين صاحب السيرة الحلبية[6] المولود بمصر سنة 975 ه والمتوفى سنة 1044 ه، وغير هؤلاء نقتصر منهم على ما أوردنا.
ونذكر من رجال الفريق الأول: السهيلي، وأبا ذر، وكلاهما شرح سيرة ابن هشام، وقطب الدين عبد الكريم الجماعيلى[7] المتوفى سنة 735 ه، الذي شرح سيرة محمد بن على بن يوسف، وقاسم بن قطلوبغا ملخص سيرة مغلطاى[8]، [ (1) ]بدار الكتب المصرية نسختان مخطوطتان من سيرة ابن فارس برقمى 460، 494 تاريخ.
[ (2) ]لابن سيد الناس كتابه «عيون الأثر، في فنون المغازي والشمائل والسير» ، وبدار الكتب المصرية نسخ خطبة منه.
[ (3) ]له «رسالة في السيرة والمولد النبوي» بدار الكتب المصرية مخطوطة (برقم 494 مجاميع تاريخ)
[ (4) ]كتابه يسمى «رسالة في السيرة والمولد النبوي» ضمن مجموعة مخطوطة بدار الكتب المصرية مع الرسالة المتقدمة (برقم 494 مجاميع تاريخ) .
[ (5) ]واسمها: «سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد... إلخ» . ومنها بدار الكتب المصرية نسختان مخطوطتان: إحداهما في أربعة أجزاء. والأخرى موجود منها جزءان فقط، وهما: الثالث والخامس.
[ (6) ]واسمها: «إنسان العيون، في سيرة الأمين المأمون، عليه الصلاة والسلام» ومنها بدار الكتب أكثر من نسخة.
[ (7) ]وسمى كتابه: «المورد العذب الهنى، في الكلام على سيرة عبد الغنى» .
[ (8) ]هو الحافظ علاء الدين مغلطاى المولود سنة 689 ه، والمتوفى في شعبان سنة 762 ه وله في السيرة والتاريخ كتاب «الإشارة إلى سيرة المصطفى، وآثار من بعده من الخلفاء» انتهى فيه إلى نهاية الكلام على الدولة العباسية سنة 656 ه. وبدار الكتب منه أكثر من نسخة، كلها مخطوط.
Shafi 7
(1) وعز الدين ابن عمر الكناني، وكان له فيها مختصر، ثم أبا الحسن علي بن عبد الله ابن أحمد المسعودي المتوفى بالمدينة سنة 911 ه.
وممن نظم السيرة وصاغها شعرا عبد العزيز بن أحمد المعروف بسعد الديري المتوفى في حدود سنة 607، ه وأبو الحسن فتح بن موسى القصري المتوفى سنة 668 ه. وابن الشهيد المتوفى سنة 793 ه.
(نشأة الموالد) :
وثم ضرب آخر من التأليف في السيرة، هو من نوع التلخيص، إلا أنه تلخيص لناحية خاصة من نواحي الرسول: عن مولده وما يتعلق بهذا المولد الكريم، وما يسبقه من إرهاصات، وعن نشأته في طفولته، وما إلى تلك الطفولة من خوارق يرتبط حدوثها به صلى الله عليه وسلم، ثم حياته من شبابه إلى بلوغه السن التي حمل فيها النبوة، واضطلع بعبء الرسالة، وما طبع عليه من خلق طيب وصفات حميدة، وبعد عما كان يألفه الشبان في أيامه.
هذا العمل سمه إن شئت ترجمة مختصرة للصدر الأول من حياة الرسول، ولمحة سريعة عن تاريخه بعد الرسالة. وقد يسميه بعض الناس «المولد النبوي» ، وهو من قبيل ما يعده العلماء الدينيون ليلقوه في الموسم الرسمى العام بعد العام في المساجد أو في غيرها. وقد زخرت بهذا النوع خزانة التأليف، حتى أصبحت الرسائل التي وضعت فيها لا تدخل تحت حصر.
(السير والنقد) :
ولعل النظر إلى تراث السالفين ولا سيما ما يتصل منه بعلم السير، نظرة فيها الكثير من التقديس، هو الذي حال دون هؤلاء وهؤلاء من أن يقفوا من هذا العلم موقفا فقدناه في جميع المؤلفين المتقدمين، على اختلاف طبقاتهم. فلم نر منهم من عرض لما تحمله السير بين دفتيها. من أخبار تتصف بالبعد عن الحقيقة، فنقدها وأتى على مواضع الضعف منها.
Shafi 8
(1) ولعل الذين تناولوا السير بالتلخيص والاختصار، حين استبعدوا بعض هذه الأخبار، استبعدوها غير مؤمنين بصحتها، لا تخفيفا من ثقل الكتاب.
هذا ما حرمه هذا العلم في جميع أدواره السالفة إلى ما قبل أيامنا هذه بقليل، إذ رأينا الإيمان بأن في السيرة أخبارا لا تتصل بالحق في قليل ولا كثير، تصحبه الجرأة ثم الإقدام، ورأينا فكرة جديدة تجرى بها أقلام مجددة، يتناول أصحابها الخبر أو الخبرين من السيرة، مما كان يتخذ مطعنا علينا في شخص النبي صلى الله عليه وسلم، أو ما يتصل به، فخلصوه مما لصق به مما ليس منه، وأقاموا حوله سياجا من الحجج والبراهين، صح بها وأصبح حجة على الطاعنين فيه، ومثل هذا ما فعله الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في قصة النبي صلى الله عليه وسلم، وتزويجه زينب بنت جحش من زيد بن حارثة، ثم ما كان من تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم إياها بعد تطليق زيد لها مما أرجف فيه الطاعنون ولغوا لغوا كثيرا.
ومنهم من عرض للكتاب في قصة أو قصتين منه، فصاغها في أسلوب جديد، ومثل للناس الخبر في قالب قصصى، خرج به عن أسانيده وذكر رواته، تلك الطريقة التي هي سر تقديس هذه الأخبار في هذه الكتب، فبدت المعاني في هذا القالب الجديد كما يبدو الجسد في الغلالة الرقيقة لا تكاد تخفى منه شيئا، وهذا الأسلوب الجديد بما يتضمن من التهكم بالفكرة السقيمة والخبر الغث، يخلق به المؤلف في القارئ روح التحفظ في قبول الأفكار وتسلمها.
ومنهم من جرى مع ابن إسحاق في شوطه، فتناول السيرة كما تناولها ابن إسحاق مبتدئا بميلاد الرسول وما سبقه أو عاصره من حوادث، ثم جرى يذكر حياة الرسول إلى أن قبضه الله إلى جواره، ناقلا من الأخبار ما يرى فيها القرب من الحق، ومستبعدا ما لا يجرى في ذلك مع فكرته وما يعتقد، مفندا مزاعم الطاعنين، رادا على المكذبين.
فجاء كتابه سيرة للرسول، جديدة في أسلوبها، نقية من اللغو والهراء.
ونحن إذ نخرج للناس سيرة ابن هشام، نخرجها بما فيها من هذا وذاك، لا نبغى إلا أن نضع بين يدي العلماء نصا صحيحا لأقدم كتاب جامع بين سيرته ومغازيه صلى الله عليه وسلم.
Shafi 9
(1)
(مؤلفون جمعوا بين السيرة والتاريخ) :
وثم مؤلفون آخرون، وصلوا سيرة الرسول بما بعدها من الحوادث والأخبار، في الأزمان التي تعاقبت، والسنين التي توالت، فجاءت سيرة الرسول في كتبهم أمرا غير مقصود لذاته: بل حلقة من حلقات التاريخ العام الذي بدأه بعضهم من بدء الوجود، كابن جرير الطبري، وبدأه فريق آخر بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم كالإمام الحافظ أبى شجاع شيرويه صاحب كتاب رياض الأنس، المتوفى سنة 509 ه.
سيرة ابن إسحاق
(سبب وضع سيرة ابن إسحاق) :
كان ابن إسحاق من بين أعلام القرن الثاني، وكان له علمه الواسع، واطلاعه الغزير في أخبار الماضين، وشاءت المقادير أن يدخل ابن إسحاق على المنصور ببغداد -وقيل بالحيرة-وبين يديه ابنه المهدي، فقال له المنصور: أتعرف هذا يا بن إسحاق؟قال: نعم، هذا ابن أمير المؤمنين، قال: اذهب فصنف له كتابا منذ خلق الله تعالى آدم عليه السلام إلى يومك هذا.
فذهب ابن إسحاق، فصنف له هذا الكتاب، فقال له: لقد طولته يا بن إسحاق، اذهب فاختصره. فاختصره، وألقى الكتاب الكبير في خزانة أمير المؤمنين[1].
ولكن بعض الدارسين يرى أن ابن إسحاق لم يؤلف كتابه بأمر من الخليفة[2]، ولا في بغداد أو الحيرة، وإنما ألفه في المدينة قبل إقامته لدى العباسيين. ويستدل على ذلك بأن جميع من روى عنهم مدنيون ومصريون وليس فيهم أحد من العراق، وأن إبراهيم بن سعد تلميذه المدني روى الكتاب عنه. بل نرى في الكتاب حوادث ما كان العباسيون ليرضوا عنها، مثل اشتراك العباس مع الكفار في غزوة بدر، وأسر المسلمين إياه، ذلك الخبر الذي حذفه ابن هشام بعد خوفا من العباسيين.
[ (1) ]يظن أن من النسخة الأصلية، رواية ابن إسحاق، نسخة في مكتبة كوبريلى بالآستانة.
[ (2) ]انظر كتاب المغازي الأولى ومؤلفوها لهورفتس، ترجمة الدكتور حسين نصار ص 64 وما بعدها.
Shafi 10
(1) وتبين من سيرة ابن هشام، وما اقتطفه الطبري وغيره من سيرة ابن إسحاق أنها كانت أصلا مقسمة إلى ثلاثة أجزاء: المبتدإ، والمبعث، والمغازي. أما المبتدأ فيتناول التاريخ الجاهلي، وينقسم إلى أربعة فصول: يتناول أولها تاريخ الرسالات السابقة على الإسلام، وثانيها تاريخ اليمن في الجاهلية، وثالثها تاريخ القبائل العربية وعباداتها، والرابع تاريخ مكة وأجداد الرسول صلى الله عليه وسلم. ولا يعنى ابن إسحاق في هذا الجزء بأسانيد أخباره إلا نادرا، ويستقى من الأساطير والإسرائيليات.
أما المبعث، فيشمل حياة النبي عليه الصلاة والسلام في مكة والهجرة. ونرى المؤلف فيه يصدر الأخبار الفردية بموجز حاولها، ويدون مجموعات كاملة من القوائم فقائمة لمن أسلم من الصحابة بدعوة أبى بكر، وأخرى بالمهاجرين إلى أرض الحبشة، وثالثة لمن عاد من أرض الحبشة لما بلغهم إسلام أهل مكة، وغيرها. ويعنى بالترتيب الزمنى للحوادث، كما تزداد عنايته بأسانيد الأخبار.
وأما المغازي، فتتناول حياة النبي في المدينة، وأجرى فيها على أن يبدأ الخبر بموجز حاد لمحتوياته ثم يتبعه بخبر من جميع الأقوال التي أخذها من رواته ثم يكمله بما جمعه هو نفسه من المصادر المختلفة. وتكثر القوائم أيضا، من الغزوات المختلفة.
ويلتزم إيراد الأسانيد، والترتيب الزمنى.
(أثر ابن هشام في سيرة ابن إسحاق) :
ثم قيض الله لهذا المجهود-مجهود ابن إسحاق-رجلا له شأنه، هو ابن هشام، المعافري فجمع هذه السيرة ودونها، وكان له فيها قلم لم ينقطع عن تعقب ابن إسحاق الكثير مما أورد بالتحرير، والاختصار، والنقد أو بذكر رواية أخرى فات ابن إسحاق ذكرها، هذا إلى تكملة أضافها، وأخبار أتى بها. وفي هذه العبارة التي صدر بها ابن هشام كتاب السيرة ما يكشف لك عن دستور ابن هشام ونهجه، قال:
«وأنا إن شاء الله مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم، ومن ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولده، وأولادهم لأصلابهم، الأول فالأول، من إسماعيل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما يعرض من حديثهم،
Shafi 11
(1) وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل، على هذه الجهة للاختصار، إلى حديث سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتارك بعض ما يذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب مما ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ذكر، ولا نزل فيه من القرآن شيء، وليس سببا لشيء من هذا الكتاب، ولا تفسيرا له، ولا شاهدا عليه، لما ذكرت من الاختصار، وأشعارا ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض الناس ذكره، وبعض لم يقر لنا البكائي بروايته، ومستقص إن شاء الله تعالى ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له، والعلم به-.
فترى أنه استبعد من عمل ابن إسحاق تاريخ الأنبياء من آدم إلى إبراهيم، وغير هذا من ولد إسماعيل، ممن ليسوا في العمود النبوي، كما حذف من الأخبار ما يسوء ومن الشعر ما لم يثبت لديه، ثم استقصى وزاد بما يملك من علم، ويسترشد من فكرة فجاءت السيرة على ما ترى معروفة به، منسوبة إليه، حتى ليكاد الناس ينسون معه مؤلفها الأول: ابن إسحاق.
(السهيلي وغيره من شراح سيرة ابن هشام) :
وجاء أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي المتوفى سنة 581 ه، فعنى بهذا الكتاب، وتناوله على نحو جديد ونهج آخر، وهو بمنزلة الشرح والتعليق عليه. فوضع كتابه «الروض الأنف» في ظل مجهودي ابن إسحاق وابن هشام، يتعقبهما فيما أخبرا بالتحرير والضبط، ثم بالشرح والزيادة، فجاء عمله هذا كتابا آخر في السيرة بحجمه وكثرة ما حواه من آراء، تشهد لصاحبها بطول الباع، وسعة الاطلاع.
وعلى شاكلة مجهود السهيلي جاء-فيما يظن-مجهود بدر الدين محمد بن أحمد العيني الحنفي، فوضع عليه كتابه «كشف اللثام» ، وكان فراغه منه سنة 805 ه.
وليس بين أيدينا من هذا الكتاب نسخة حتى نحكم لصاحبه، ونتعرف عمله.
ثم لا ننسى مجهود أبى ذر الخشني، فقد تصدى للكتاب، فشرح غريبه، ولم ينس أن يعرض لما فيه من أخطاء، فجاء عمله مع عمل السهيلي متممين لمجهود عظيم، سبق به ابن إسحاق وابن هشام.
Shafi 12
(1)
(مختصر وسيرة ابن إسحاق) :
ولم نر بعد هؤلاء رجلا في علمهم تناول الكتاب بجديد في الشرح والتعليق، بل رأينا الهمم تنصرف من هذا إلى الاختصار، فجاء برهان الدين إبراهيم بن محمد المرحل الشافعي، فاختصر كتاب السيرة، وزاد عليه أمورا، ورتبه في ثمانية عشر مجلسا. وسماه: «الذخيرة، في مختصر السيرة» . وكان فراغه منه سنة 611 ه.
ثم جاء بعده عماد الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الواسطي، فاختصره في كتاب سماه: «مختصر سيرة ابن هشام» ، وفرغ منه-فيما يقال-سنة 711 ه.
(ناظمو سيرة ابن إسحاق) :
ثم رأينا بعد هؤلاء فئة النظاميين الذين لم يكن همهم إلا أن يصبوها في قالب جديد هو الشعر. فنظمها أبو محمد عبد العزيز بن محمد بن سعيد الدميري الديرينى المتوفى في حدود سنة 607 ه، وأبو نصر الفتح بن موسى بن محمد نجم الدين المغربي الخضراوى المتوفى سنة 663 ه، كما نظمها أبو بكر محمد بن إبراهيم بن محمد النابلسي المعروف بابن الشهيد، والمتوفى سنة 793 ه. وسمى كتابه «الفتح القريب» ، ثم أبو إسحاق الأنصاري التلمساني.
هذا هو حظ كتاب ابن إسحاق، تناولته يد بعد يد، مرة بالجمع والتعقيب كما رأيت، وأخرى بالشرح والتفصيل، وثالثة بالاختصار، ورابعة بوضعه في ثوب جديد هو النظم.
فابن إسحاق-في الحقيقة-هو عمدة المؤلفين الذين اشتغلوا بوضع السير بعده، حتى يمكننا أن نقول: ما من كتاب وضع في السيرة بعد ابن إسحاق إلا وهو غرفة من بحرة. هذا إذا استثنينا رجلا أو اثنين كالواقدى وابن سعد.
ابن إسحاق
(نسبه) :
هو محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار، ويقال: ابن كوثان، أبو بكر، ويقال أبو عبد الله، المدني القرشي، مولى قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف.
Shafi 13
(1) كان جده يسار من سبى عين التمر، وهي بلدة قديمة قريبة من الأنبار، غربي الكوفة، على طرف البرية، افتتحها المسلمون أيام أبى بكر سنة 12 ه، على يد خالد ابن الوليد، وبكنيسة عين التمر وجد خالد بن الوليد جد ابن إسحاق هذا بين الغلمة الذين كانوا رهنا في يد كسرى، وكان معه جد عبد الله بن أبى إسحاق الحضرمي النحوي، وجد الكلبي العالم، فجيء بيسار إلى المدينة.
(مولده ووفاته) :
ولد ابن إسحاق في المدينة، وترجح كتب التاريخ أن مولده كان سنة 85 ه.
أما وفاته فالأقوال فيها محصورة بين سنة 150 وبين 153 لا تكاد تعدو هذه السنين الأربع.
(نشأته وحياته) :
وليس من شك في أن ابن إسحاق خلع بالمدينة ثوب شبابه، ويحدثنا الرواة عنه بأنه كان فتى جميلا، جذاب الوجه، فارسى الخلقة، له شعرة حسنة. ومما يتصل بشبابه ومجونه-إن صح ما يقال عنه-ما حكاه ابن النديم من أن أمير المدينة رقى إليه أن محمدا يغازل النساء، فأمر بإحضاره وضربه أسواطا، ونهاه عن الجلوس في مؤخر المسجد.
وترك ابن إسحاق المدينة ورحل إلى غيرها منتقلا في أكثر من بلد، وفي ظننا أن رحلته إلى الإسكندرية-التي كانت سنة 115 ه-هي أولى رحلاته التي بدأ بها.
وفي الإسكندرية حدث عن جماعة من أهل مصر. منهم: عبيد الله بن المغيرة، ويزيد بن حبيب، وثمامة بن شفى، وعبيد الله بن أبى جعفر، والقاسم بن قزمان، والسكن بن أبى كريمة. وانفرد ابن إسحاق برواية أحاديث عنهم لم يروها لهم غيره ثم كانت رحلته إلى الكوفة، والجزيرة، والري، والحيرة، وبغداد، وفي بغداد-على الأرجح-ألقى عصا الترحال، والتقى بالمنصور، وصنف لابنه المهدي كتاب السيرة كما أسلفنا. ورواة ابن إسحاق من هذه البلدان أكثر ممن رووا عنه من أهل المدينة، بل المعروف أنه لم يرو له من أهل المدينة غير إبراهيم بن سعد وعاش ببغداد ما عاش حتى وافته منيته بها، فدفن في مقبرة الخيزران.
Shafi 14
(1)
(منزلته ومكانته) :
إن المتتبع لأخبار الرواة عن ابن إسحاق يجد إلى جانب الإسراف في النيل منه، الإسراف في مدحه، فتجد عالما جليلا كالإمام مالك بن أنس، وآخر كهشام بن عروة بن الزبير، يكادان يخرجانه من حظيرة المحدثين، أهل الصدق والثقة، ولا يدخران وسعا في اتهامه بالكذب والدجل. ذلك إلى اتهامات أخرى رمى بها ابن إسحاق، كالتدليس، والقول بالقدر، والتشيع، والنقل عن غير الثقات، وصنع الشعر ووضعه في كتابه، والخطأ في الأنساب.
كما أنك تجد غير واحد من الأئمة الأعلام، كابن شهاب الزهرى، وشعبة بن الحجاج وسفيان الثوري، وزياد البكائي، يوثقونه ولا يتهمونه بشيء من هذا.
وفي الحق أن جملة الحاملين عليه لم تكن مبرأة عن الغاية، ولم تكن من الحق في شيء. فانا نعلم عن ابن إسحاق أنه كان يطعن في نسب مالك بن أنس، وفي علمه، ويقول: ائتوني ببعض كتبه حتى أبين عيوبه، أنا بيطار كتبه. فانبرى له مالك، وفتش هو الآخر عن عيوبه، وسماه دجالا، وكانت بينهما هذه الحرب الكلامية.
كما غاظ هشام بن عبد الملك من ابن إسحاق أنه كان يدعى روايته عن امرأته، والرواية في ظن هشام لا بد أن تصحبها الرؤية، وهو ضنين بزوجه أن يراها أحد. - ولقد فات هشاما أن الرواية قد تكون من وراء حجاب، أو أن ابن إسحاق حمل عنها صغيرا. ثم ما لهشام يؤذيه هذا، وقد كانت سن زوجه يوم يصح أن يحمل عنها ابن إسحاق لا تقل عن خمسين سنة، فهي تسبقه في الوجود بما يقرب من 37 عاما ، ذلك إلى أنه لم يكن غريبا في ذلك العصر أن يروى رجل عن امرأة.
وأما ما رمى به ابن إسحاق من التدليس وغيره، فقد عقد في ذلك الخطيب في كتابه «تاريخ بغداد» ، وابن سيد الناس في كتابه «عيون الأثر» فصلين عرضا فيهما لتفنيد جميع المطاعن التي وجهت إليه، نلخص منهما ما يأتى:
وأما ما رمى به من التدليس والقدر والتشيع فلا يوجب رد روايته، ولا يوقع فيها كبير وهن. أما التدليس فمنه القادح وغيره، ولا يحمل ما وقع هاهنا من مطلق
Shafi 15
(1) التدليس على التدليس المقيد بالقادح في العدالة، وكذلك القدر والتشيع لا يقتضيان الرد إلا بضميمة أخرى، ولم نجدها هاهنا.
ثم عرضا بعد ذلك للرد على طعن الطاعنين واحدا واحدا، كقول مكي بن إبراهيم، إنه ترك حديث ابن إسحاق ولم يعد إليه، وكقول يزيد بن هارون: إنه حدث أهل المدينة عن قوم، فلما حدثهم عنه (يريد ابن إسحاق) أمسكوا. وكقول ابن نمير: إنه يحدث عن المجهولين أحاديث باطلة، إلى كثير غير هذا نجتزئ منه بما ذكرنا، ونردفه بما قيل في الرد عليه، فالكلام في هذا متشابه، والإكثار منه مملول، وجل ما لنا عن الرجل أن الحكم له أرجح من الحكم عليه، قالا: وأما قول مكي بن إبراهيم: إنه ترك حديثه ولم يعد إليه، فقد علل ذلك بأنه سمعه يحدث أحاديث في الصفات فنفر منه، وليس في ذلك كبير أمر، فقد ترخص قوم من السلف في رواية المشكل من ذلك، ولا يحتاج إلى تأويله، ولا سيما إذا تضمن الحديث حكما أو أمرا آخر، ولقد تكون هذه الأحاديث من هذا القبيل. وأما الخبر عن يزيد بن هارون أنه حدث أهل المدينة عن قوم، فلما حدثهم عنه أمسكوا، فليس فيه ذكر لمقتضى الإمساك، وإذا لم يذكر لم يبق إلا أن يجول فيه الظن، وليس لنا أن نعارض عدالة منقولة بما قد نظنه جرحا.
وأما قول ابن نمير: إنه يحدث عن المجهولين أحاديث باطلة، فلو لم ينقل توثيقه وتعديله لتردد الأمر في التهمة بما بينه وبين من نقلها عنه، وأما مع التوثيق والتعديل فالحمل فيها على المجهولين المشار إليهم لا عليه.
بقيت مسألة، وهي اتهام ابن إسحاق بأنه كانت تعمل له الأشعار، ويؤتى بها، ويسأل أن يدخلها في كتابه في السيرة، فيفعل.
وفي الحق أن هذا مأخذ على ابن إسحاق، إن لم يكن في طريقة النقل والتحمل، فهو مطعن في مقدار علمه بالشعر، وأنه يقبل الأشعار عنها وسمينها، باطلها وصحيحها ولو أن ابن إسحاق حكم ذوقه، ووقف من هذه الأشعار وقفة الناقد، لخلص كتابه من أشعار أكثر الظن فيها أنها موضوعة، ولخلص نفسه من مطعن جارح يسجله الكتاب عليه على مر السنين.
Shafi 16
(1) وإذا كنا قد انتهينا إلى هذا من حياة ابن إسحاق، فلا نجد بين أيدينا ما نختم به هذا المقال خيرا من عبارة ابن عدى، إذ يقول:
«ولو لم يكن لابن إسحاق من الفضل إلا أنه صرف الملوك عن الاشتغال بكتب لا يحصل منها شيء للاشتغال بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومبعثه، ومبتدأ الخلق، لكانت هذه فضيلة سبق بها ابن إسحاق، وقد فتشت أحاديثه الكثيرة فلم أجد ما تهيأ أن يقطع عليه بالضعف، وربما أخطأ واتهم في الشيء بعد الشيء كما يخطئ غيره.
ولم يتخلف في الرواية عنه الثقات والأئمة، أخرج له مسلم في المبايعات، واستشهد به البخاري في مواضع، وروى له أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة»
ابن هشام
(نسبه) :
هو أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميرى، ومن الرواية من يرده إلى معافر بن يعفر، وهم قبيل كبير، نزح إلى مصر منهم جمهرة كبيرة، ومنهم من يرده إلى ذهل، كما يرده آخرون إلى سدوس. لا تكاد تجد في ذلك رأيا فاصلا. وهذا شأن كل رجل تنازعه أكثر من بلد، ولم يعش حيث نشأ بيته، وقرت أسرته، ثم لم يكن بيته-فوق هذا-من النسب بالمنزلة التي يحرص الناس على حفظها وروايتها.
(نشأته) :
نشأ ابن هشام بالبصرة، ثم نزل مصر. هكذا يحدثنا الرواة عنه، ولا يذكرون له حياة في غير هذين البلدين، ولكننا نظن أن حياة ابن هشام لم تكن محصورة في هذين المصرين، وخاصة في عصر كان العلم فيه يؤخذ سماعا، وكانت الرحلة في طلبه ديدن العلماء.
(مولده ووفاته) :
والقول في وفاة ابن هشام غير مقطوع فيه برأي، فبينما يذهب فريق إلى أن وفاته كانت سنة 218 ه. إذا بفريق آخر يحدثك أن وفاته كانت سنة 213 ه.
Shafi 17
(1) وإذا كان هذا حديث وفاته، فما بالك بالحديث عن ميلاد رجل نازح، أقرب الظن أنه عرج على غير بلد قبل أن ينزل مصر. من أجل هذا ظل ميلاد ابن هشام سرا دفينا في ضمير الأيام.
(منزلته) :
وقد كان رحمه الله إماما في النحو واللغة والعربية. ويحدثنا عنه الذهبي وابن كثير، أنه حين جاء إلى مصر اجتمع به الشافعي، وتناشدا من أشعار العرب أشياء كثيرة. وغريب أن نسمع هذا، ونحن نعلم أن ابن هشام كان حين ينقل عن ابن إسحاق أشعارا في هذا الكتاب، ظاهرة الوضع فاسدة، لا يستطيع أن يقطع فيها برأي ويقول: هكذا حدثنا أهل العلم بالشعر، ناقلا عنهم، غير محكم ذوقا اكتسبه من هذا شأنه في استيعاب الأشعار.
(آثاره) :
ولابن هشام أكثر من مؤلف في أكثر من فن، فله غير أثره في سيرة ابن إسحاق: شرح ما وقع في أشعار السير من الغريب، وكتاب التيجان، لمعرفة ملوك الزمان، وقد طبع حديثا.
هذه كلمتنا عنه، وقد أسلفنا عنه كلمة أخرى خلال الحديث عن السير، وأنه كان رجل السيرة الذي انتهت إليه سيرة ابن إسحاق، وغلب اسمه عليها فعرفت به، وأن فضله فيها كان لا يقل عن فضل ابن إسحاق.
السهيلي
(اسمه ولقبه) :
هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن أصبغ بن الحسين بن سعدون بن رضوان بن فتوح، الإمام الحبر أبو القاسم، وأبو زيد، ويقال: أبو الحسن، بن الخطيب أبى محمد بن الخطيب أبى عمرو بن أبى الحسن الخثعمي السهيلي الأندلسى المالقي.
Shafi 18
(1)
(موطنه والبلاد التي تنقل فيها) :
وسهيل الذي ينسب إليه عبد الرحمن، واد بالأندلس من كورة مالقة ، فيه قرى، وفي إحدى هذه القرى ولد عبد الرحمن[1]. وأقام في الأندلس عمرا طويلا نهل من بحار العلم ما نهل، وتزود من المعارف ما تزود، وأصبحت له مكانة عالية وسعى إليه الناس يطلبون العلم عليه، فطارت شهرته إلى مراكش، فطلبه واليها، وأحسن إليه، وأقبل عليه. وولاه قضاء الجماعة، وحسنت سيرته، وأقام السهيلي بمراكش أعواما ثلاثة، ثم وافته منيته، فمات بها.
(مولده ووفاته) :
تحدثنا المراجع بأن السنة التي ولد فيها أبو القاسم كانت سنة 508 ه، وتحدثنا أيضا بأنه توفى سنة 581 ه. ويذكر ابن العماد الحنبلي في كتابه «شذرات الذهب» أن أبا القاسم ممن توفوا سنة 581، ويذكر إلى جانب هذا أن وفاته كانت في شعبان من تلك السنة، وأنه عاش اثنتين وسبعين سنة.
(مؤلفاته وعلمه وأخلاقه) :
أشهر تواليف السهيلي كتابه: الروض الأنف، قال الصفدى في نكت الهميان: «وهو كتاب جليل جود فيه ما شاء، وذكر في أوله أنه استخرجه من نيف وعشرين ومائة ديوان» . وله كتاب التعريف والإعلام بما في القرآن من الأسماء الأعلام، وكتاب نتائج النظر، ومسألة رؤية الله عز وجل ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، ومسألة السر في عور الدجال. وشرح آية الوصية، وشرح الجمل-ولم يتم-ومسائل كثيرة غير هذه اكتفى المترجمون بالإشارة إليها دون التصريح بأسمائها.
ولم يقع في أيدينا للسهيلى غير الروض الأنف، الذي ألفه في مالقة قبل رحلته إلى مراكش، إذ كان بدء إملائه له في شهر المحرم عام 569 ه، وكان الفراغ منه في جمادى الأولى من ذلك العام.
وبحسب السهيلي هذا الكتاب، فقد دل فيه على إلمام واسع، واطلاع غزير [ (1) ]قال الصفدي في نكت الهميان: ولا يرى سهيل في جميع المغرب، إلا من جبل مطل على هذه القرية.
Shafi 19
(1) بمناح مختلفة، وتمكن في ألوان كثيرة من العلوم، فكان فيه المؤرخ واللغوي والأديب والنحوي والأخباري والعالم بالقراءات. وكان السهيلي فوق هذا شاعرا، يؤثر له أبياته المشهورة في الفرج:
قال ابن دحية عن السهيلي: «أنشدنيها وقال: ما يسأل الله بها في حاجة إلا قضاه إياها » . وهي:
يا من يرى ما في الضمير ويسمع # أنت المعد لكل ما يتوقع
يا من يرجى للشدائد كلها # يا من إليه المشتكى والمفزع
يا من خزائن رزقه في قول كن # امنن فان الخير عندك أجمع
ما لي سوى قرعى لبابك حيلة # فلئن رددت فأى باب أقرع
ما لي سوى فقري إليك وسيلة # وبالافتقار إليك فقري أدفع
من ذا الذي أدعو وأهتف باسمه # إن كان فضلك عن فقيرك يمنع
حاشا لمجدك أن تقنط عاصيا # الفضل أجزل والمواهب أوسع
وله غير هذه أشعار كثيرة، ذكر ذلك ابن العماد، ولم يزدنا على أبياته في الفرج شيئا. وذكر الصفدى «في نكت الهميان» ، والمقري في «نفح الطيب» بعض مقطوعات له.
وإن نظرة واحدة إلى مؤلفات السهيلي كفيلة بأن تعطيك فكرة عن اتجاهه الخلقي وإن رجلا عاش للدين، فوهب له حياته: ما بين درس له، وتأليف فيه، لخليق بأن يعرف بين الناس بالصلاح، ويشتهر بالورع والتقوى، وهكذا كان السهيلي.
وكان فوق هذا عفا قنوعا يرضى بالكفاف.
ومما يعرف عنه أنه كان مالكي المذهب، وأنه كان ضريرا، أضر في السابعة عشرة من عمره، وأخذ القراءات عن جماعة، وروى عن أبى بكر بن العربي وكبار رجالات العلم بالأندلس في أيامه، وأخذ اللغة والآداب عن ابن الطراوة، وناظره في كتاب سيبويه.
Shafi 20
(1)
أبو ذر الخشني
(نسبه) :
هو مصعب بن محمد بن مسعود بن عبد الله بن مسعود الجيانى الخشني، المعروف أيضا بابن أبى الركب.
والجيانى: نسبة إلى كورة واسعة بالأندلس، تجمع قرى كثيرة، وتتصل بكورة إلبيرة، مائلة عنها إلى ناحية الجوف، في شرقى قرطبة، وبينهما وبين قرطبة سبعة عشر فرسخا. والخشني: نسبة إلى خشين كقريش قرية بالأندلس، وقبيلة من قضاعة، وهو خشين بن النمر بن وبرة بن تغلب[1].
والمعروف أن أبا ذر بقي بجيان حتى شب، وقد سمع على أبيه، وأخذ عنه، وأنه لم يترك جيان إلا بعد أن تحول أبوه إلى غرناطة في آخر أيامه، وأن سنه عند ذاك كانت سن غلام إن أدرك العاشرة فلا يعدوها إلا بقليل -فالمدة بين ميلاد أبى ذر ووفاة أبيه أحد عشر عاما تقريبا-ثم رحل إلى فاس يسمع بها عن أبى عبيد الله النميري وأبى الحسن بن حسين وأبى عبد الله بن الرمامة، ثم إلى تلمسان يسمع بها عن أبى القاسم عبد الرحمن بن يحيى بن الحسن القرشي، وأبى مروان عبيد الله بن هشام الحضرمي، ثم إلى بجاية يسمع بها عن أبى بكر بن رزق وأبى العباس الخروبى وأبى إسحاق بن ملكون وأبى محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الإشبيلي.
ويظهر أن رحلاته إلى هذه البلاد الثلاثة كانت على الترتيب الذي سقناه، لا يرجح هذا لدينا مرجح، غير أن ابن الأبار هكذا ساقها مرتبة على هذا النحو، عند الكلام على شيوخ أبى ذر، فبدأ بفاس، ثم ثنى بتلمسان، ثم ختم ببجاية.
وسواء أكان هذا أم غيره، فقد عرفنا أن هذه البلاد الثلاثة نزلها أبو ذر. ثم نزل بعدها إشبيلية، لا مستمعا، ولكن خطيبا لمسجدها، وبقي فيها مدة، وكان إلى جانب الخطابة يقوم بتدريس العربية، ويقصده الطلاب الكثيرون. ثم ترك إشبيلية إلى جيان [ (1) ]انظر الجزء الثاني من خزانة الأدب في شرح الشاهد الثاني والثلاثين بعد الأربعمائة ص 529 من طبعة بولاق.
Shafi 21
(1) بعد أن غاب عنها هذا العمر الطويل، فولى قضاءها وجلس فيها للحكومة بين الناس، والفصل في خصوماتهم. ثم حن إلى فاس ثانية، فترك جيان إليها، وأقام بها، وكان فيها شيخ العربية والحديث يأخذ عنه الناس، حتى وافته منيته بها.
(منزلته ومؤلفاته وشيء عنه) :
علك، وقد حدثناك عن شيوخ أبى ذر الذين سمع عنهم، وكلهم من جلة العلماء، ورحلته إليهم، قد عرفت طموح هذه النفس إلى الاستزادة من العلم والتمكن فيه، وأن صاحبها لم يقنع منه بقليل، وأنت إذ عرفت المراتب التي تقلب فيها أبو ذر بعد الحياة الأولى، حياة الدرس والتحصيل، تدرك معنا أنه وصل من العلم إلى غاية رفعته إلى تولى خطابة جامع إشبيلية أولا، ثم قضاء جيان ثانيا، ثم إلى أن يجلس مجلسه الأخير في فاس يتمتع بصيت بعيد، وذكر واسع .
ولقد نعته رجال التراجم فيما نعتوه به بأنه صاحب التصانيف التي سارت بها الركبان، ومثل هذا ليس بكثير على أبى ذر، إلا أنا لم نظفر له إلا بكتابه المطبوع في شرح غريب سيرة ابن إسحاق، الذي سمعه ابن فرتون عليه، وكتاب آخر في العروض، ذكره ابن الآبار ولم يسمه، وكتاب ثالث ذكره السيوطي في البغية في أثناء حديثه عن أبى ذر، فقال: «... تكرر في جمع الجوامع من تصانيفه الإملاء على سيرة ابن هشام» .
هذا كل ما عرفناه عن مؤلفات أبى ذر، إلا أنا لا ننسى أنه كان حامل لواء العربية بالأندلس، وأنه كان عارفا بالآداب واللغات، وأنه أحد من قرض الشعر، وكان له نقادا، كما كان مطلق العنان في معرفة أخبار العرب وأيامها وأشعارها ولغاتها، متقدما في كل ذلك، وأنه لم يكن في وقته أضبط منه، ولا أتقن في جميع العلوم، حفظا وقلما.
وأما أخلاق أبى ذر المالكي المذهب، فقد كان ذا سمت ووقار، وفضل ودين ومروءة، كثير الحياء، وقور المجلس، معروفا بالهدى على سنن السلف. يحكى عنه أنه كان يمنع تلاميذه من التبسط في الأسئلة، وأنه كان يقصرهم على ما يلقى إليهم ولم يكن ذلك لأحد من عصره، هيبة له، وخشية منه.
Shafi 22