وهو الآن على شاطئ الفرات يحلم حلما جميلا، فهل يمحو بعمل واحد آثامه ومظالمه كلها؟
ولكنه لا يزال في بحر من الهواجس مضطرب الأمواج، فتراه واللون في وجهه يتحول أصفر أحمر فينم على ما هو فيه من الاضطرابات؛ هو مركب تتقاذفه الرياح، بل هو ذبابة في عنكبوت رتيلاء الحيرة، أتقتله الرتيلاء أم يخرج من عنكبوتها فائزا الفوز المبين؟
زمجر الأسد في عرينه فاستفاق نبوخذنصر، وكانت الشمس قد تكبدت السماء، وتحولت أشعتها العمودية على وجه النهر حجارة كريمة تشع كالألماس، واشتد في اشتداد الحر صرير الجنادب.
ما عدا ذلك فالسكون كان عميقا، وقد استقر في كل شيء كأنه الفصل الأول من فصول الحياة، أو كأنه يعد للطبيعة المقيل، ففرش لها أغصان الدلب الذهبية، وأغصان الحور الفضية، وحشايا القصب اللازوردية، وسكن لها حتى النسيم الذي كان يلاعب الأسل على الشاطئ والكلأ في الحقول.
وكان الملك لا يزال تعبا، فجلس يتأمل ما كان عليه في الصيف الماضي من الكدر والغم، ولكن غمه في الصيف الماضي كان قصير الأجل، ولم يكن سيئ العاقبة، فأولئك الذين أثاروا غضبه أخرجوا سريعا من مسرح الوجود، وما كان ليسكن غضب نبوخذنصر إلا مثل هذا الانتقام العاجل. وأما الآن فبالادان على ما يظهر من المحبورين، وتفلاط من المغبوطين؛ لأنه بعيد عنه، والآلهة على العروش خالدون، وملوك بابل مع رؤساء الكهنة في النار، ونبوخذنصر. آه ثم أواه!
استفاق وهو يتأوه، ونهض وهو يلطم جبينه بيده، ثم سار مسرعا مستبشرا وعاد إلى القصر، فجمع أمامه الوزراء والموظفين والعبيد ورؤساء الكهان وخاطبهم قائلا: اعلموا أن للآلهة القوة كل القوة، والعظمة كل العظمة، والعلم كل العلم، وما ملوك بابل وكهانها غير خدم للآلهة، وإني آمر الآن بأن تطلقوا سراح المسجونين في مملكتي كلها، وتطلقوا كذلك سراح الحريم في القصر، وترسلوا إلى وزيري الأكبر تفلاط أن يرجع بأمر مليكه إلى منصبه، وتدفنوا بالادان بكل احترام في المعبد الملكي، وليكن زمام الملك بيدك أيها الوزير إلى أن يعود تفلاط، هذه هي أوامري، هذه هي مشيئتي.
ثم أم المعبد فدخل إلى مخدع رئيس الكهنة فيه، وأقام هناك حتى المساء، فعاد إذ ذاك إلى القصر، وكان قد أمر أحد العبيد بأن يجيئه بقميص من الخيش، فخلع أثوابه الدمقسية والأرجوانية، واستشعر القميص الخشن. لبس نبوخذنصر المسح وصار من النساك الزاهدين المتعبدين.
وظل على هذه الحال يأكل قليلا ويصلي كثيرا، فنحل جسمه، وخارت قواه، واحتل منه مقر الفكر والنهى، وبينما كان عائدا ذات يوم من المعبد أغمي عليه أمام القصر وتحت الشرفة التي كان يطل منها على بابل، فنقله العبيد إلى داخل القصر، وبادر إليه الأطباء، ولكن الطبيب الأكبر سبقهم جميعا فشفى نبوخذنصر من أمراض الحياة كلها ... ودفنوه عملا بمشيئته الملكية في المعبد الملكي إلى جانب بالادان.
عبد الحميد في سجن الآستانة
المشهد الأول
Shafi da ba'a sani ba