1 - يوم أن ماتت صحافة مصر
2 - لما كانت الصحافة محتقرة
3 - الصحافة تلقى عنتا وتعسفا
4 - كيف أفسدت الحكومة الصحافة المصرية
5 - الإعلانات في الصحف
6 - الأسلوب في الصحافة
7 - رذيلة صحفية: تملق الجماهير
8 - الصحافة المصرية في نصف قرن
9 - الكفاح في صحيفة اللواء
10 - الكفاح في صحيفة الجريدة
11 - كفاحي في الصحافة
12 - صحافة المقالة وصحافة الخبر
13 - المرأة في الصحافة
14 - الفن الكاريكاتوري
15 - الصحافة والرأي العام
16 - كيف نرفع الصحافة إلى مقام الأدب
17 - الصحفي كما يجب أن يكون
1 - يوم أن ماتت صحافة مصر
2 - لما كانت الصحافة محتقرة
3 - الصحافة تلقى عنتا وتعسفا
4 - كيف أفسدت الحكومة الصحافة المصرية
5 - الإعلانات في الصحف
6 - الأسلوب في الصحافة
7 - رذيلة صحفية: تملق الجماهير
8 - الصحافة المصرية في نصف قرن
9 - الكفاح في صحيفة اللواء
10 - الكفاح في صحيفة الجريدة
11 - كفاحي في الصحافة
12 - صحافة المقالة وصحافة الخبر
13 - المرأة في الصحافة
14 - الفن الكاريكاتوري
15 - الصحافة والرأي العام
16 - كيف نرفع الصحافة إلى مقام الأدب
17 - الصحفي كما يجب أن يكون
الصحافة حرفة ورسالة
الصحافة حرفة ورسالة
تأليف
سلامة موسى
الفصل الأول
يوم أن ماتت صحافة مصر
في سنة 1930 كان يبدو للمتأمل أن الصحافة قد باتت من الفنون التي ينجح فيها سوى غير المصريين، وقد ينتهي من تأمل الواقع - في انتشار الصحف غير المصرية، وانخذال الصحف المصرية، وغنى الصحفيين الأجانب وامتلاكهم الدور الفخمة والضياع الخصبة، وفقر الصحفيين المصريين، وتشردهم في الشوارع لا يملكون كوخا ولا قيراطا - أن الكاتب الأجنبي في مصر أذكى عقلا، وأبعد نظرا، وأدق تحريرا للصحف، مجلات كانت أو جرائد، من الكاتب المصري.
ولكن هذا الاستنتاج سرعان ما ينقلب إلى النقيض عندما كان يتعمق القارئ في تأمله ويربط النتائج بأسبابها؛ فالحقيقة أن الظروف السياسية كانت مدة الاحتلال الإنجليزي (أي سنة 1920) تعمل لكبت الروح الوطنية بمساعدة الجرائد الموالية للإنجليز، ومعاكسة تلك التي تناوئهم، فنحن نرى عقب الثورة العرابية أن الحكومة تدفع تعويضا ضخما لأصحاب جريدة غير مصرية، لأن الثائرين كسروا المطبعة لانضمام هذه الجريدة إلى الخديو، وكان هذا فاتحة اليسر والخير لتلك الجريدة، ثم نجد الإنجليزية بعد ذلك يسندون بنفوذهم جريدة المقطم التي أصبح أصحابها بهذا السند القوى من أغنياء القطر المعدودين؛ وعلى هذا كان يرى القارئ في سنة 1930 أن تفوق الصحف غير الوطنية لا يعزى إلا لأسباب لا يرضاها مصري لنفسه.
ثم جاءت الحركة الوطنية سنة 1919، وحدثت الانشقاقات في الوفد بعد ذلك وصار لكل حزب جرائده، والصحفيون غير الوطنيين في مصر يعيشون كالملوك «فوق الأحزاب» فهم يتمصرون ولكن تمصرهم لا يحملهم على الغلو في الوطنية؛ ولذلك فهم يستفيدون من الوطنية المصرية لأنهم يتحامون ما فيها من غلو، هذا الغلو الذي جعل الأستاذ عبد القادر حمزة يصدر منذ سنة 1920 إلى سنة 1930 «14» جريدة تقفل كلها، بعضها إقفالا نهائيا وبعضها لبضعة أشهر.
فلنفرض أننا قابلنا بين صحفي غير وطني وبين الصحفي المصري عبد القادر حمزة، فهل من الإنصاف أن نقيم هذه المقابلة على النتيجة الحاضرة، وهي موت البلاغ وإفلاس صاحبه، بينما كانت الصحف المحايدة في سنة 1930 حية تملأ الشوارع، وأصحابها قد تكدست خزائنهم بالمال؟
نظن أن ذلك ليس من الإنصاف، والذي كان يقول بعجز المصري عن تحرير الصحف وإدارتها لا يمكنه أن يضرب المثل بالبلاغ والصحف المحايدة التي كانت تنافسها في ذلك الوقت، فإنه يفتح أعيننا للطرق التي كان يعيش بها الصحفي الأجنبي من الصحافة، وهي طرق لا يرضاها مصري.
ومن البديهي أنه لا يمكن لمصنع في العالم أن يعيش إذا كان يعرض للإغلاق 14 مرة في عشرة أعوام، كما حدث للجرائد التي أصدرها الأستاذ عبد القادر حمزة.
وهكذا أوشكت صناعة الصحافة في ذلك الحين أن تفلت من أيدينا وتمسي صناعة غير مصرية يحتكرها غير المصريين، وليس للصحفي الأجنبي ميزة علينا فيها سوى أنه لا يغضب عندما يجب الغضب، ولا يبالي مصلحة مصر تعرض للضياع ما دام هو يربح هذا الضياع ما يزيد دخله بض مئات من الجنيهات، وهو على كل حال يمتاز بوطن آخر يمكنه أن يذهب إليه ويعيش فيه إذا لم يوافقه العيش في وطننا، ولكن أين نذهب نحن؟!
وكان عارا علينا أكبر العار أن يوكل تكوين الرأي العام المصري إلى أقلام غير مصرية، غريبة عنا في المزاج، لا يشغل قلوب أصحابها ما يشغل قلوبنا من أماني وآمال، ولا يؤلمها ما يؤلمنا.
وظهر نوع من الصحف المحايدة، وكان على رأس إحدى هذه الصحف صحفي قارح، وكانت توارب وتراوغ فلا تستطيع إلا أن تشمئز منها؛ فهي تكتب أحيانا مقالا مستور اللهجة والغاية، تخرج منه بأن حكومة معينة حسنة وحزبا معينا حسن، وكان هذا هو النفاق الذي يشمئز منه الإنسان.
وكانت هناك جريدة غير مصرية تهاجم حزبا، ولكنها كانت تخشى أن يفلت منها القراء المائلون إليه، فهي تشطر نفسها شطرين لتضمن القارئ، فتجعل نفسها حكومية، وتجعل مجلة أسبوعية أخرى تصدر عن نفس الدار حزبية، فمن يكره الجريدة اليومية لحكوميتها يقرأ المجلة الأسبوعية لحزبيتها!
وكانت هذه المجلات والجرائد تعيش في بلادنا، ويربح أصحابها الألوف من الجنيهات، وتستقر لهم بها صناعة يثرون منها مع ما فيها من الأذى، بينما كتابنا المصريون أمثال محمود عزمي يبحثون عن عمل آخر غير الصحافة يستطيعون أن يعيشوا منه؛ لأن صحفنا المصرية كان قد مضى عليها عشرون سنة وهي تعطل ويخرب أصحابها ويشتت محرروها، أما الصحف الأجنبية فلا تعل ولا يمس أصحابها أذى.
وكان علينا جميعا أن نقرأ كل يوم ما يكتبه لنا الصحفيون غير المصريين فيما يجب علينا وما لا يجب أن نتبعه في سياسة بلادنا من الخطط، كأن الصحفي الأجنبي هو الوحيد الذي كان يؤتمن على مصلحة مصر في الصحف، أما المصري فلا يؤتمن على ذلك.
وكان هذا شقاء.
وكان هناك صحفي غير مصري يكتب صباح مقالا افتتاحيا للمصريين عن فوائد الاحتلال البريطاني، وجهالات الوطنيين الذين لا يعرفون ما يقولون، وكان هذا الصحفي يسمي الزعيم مصطفى كامل «شحاذ بردنجوت»، وكان قبل ذلك يكتب في جريدة في الخرطوم، يشتم المصريين ويمدح الانجليز، وكان يكتب كل يوم مقالا عن الأوباش المجرمين الذين يطالبون بتحرير المرأة ومساواتها بالرجل في مصر، ويدعو الرجعيين إلى أن يملئوا صحيفته بآرائهم، فإذا وجد من ذلك فائدة مالية تملأ اليد فذاك، وإلا فإنه يدعو المجددين للكتابة في صحيفة ويحثهم على شتم الرجعيين ، ثم يدعو فيقول إن هذه الوزارة حسنة وتلك سيئة، وإن النظام البريطاني لا يفيد المصريين كثيرا، وإنما يفيدهم بناء الموانئ وصنع السفن إلخ. وعاشت تلك الجريدة طول عمرها تقول إن احتلال الإنجليز لمصر خير من استقلالها، وكانت صحيفة غير مصرية أخرى في الصراع الذي قام بين الخديو توفيق والحزب الوطني تمالئ الخديو وتساعده على الأمة التي نكبت به.
وكان كل هذا مسبة لذكائنا ووطنيتنا وعارا بل فضيحة لتغلب هذه الصحف على صحافتنا.
وهكذا كان أولئك الصحفيون غير المصريين أغنياء، وكنا نحن الصحفيين المصريين فقراء، وليس ذلك لأنهم أذكياء ونحن بلداء؛ لأننا كنا نكتب بضمير وطني، ونغضب عندما نعتقد أن الغضب واجب، وهم يكتبون بضمير غير وطني ولا يغضبون لأية نكبة تنزل بنا، لأن الوطن ليس وطنهم بالعاطفة والقلب.
وكانوا لا يبالون بالأذى يصيب عقولنا، وهم أغنياء يملكون دورا كالقصور، ويعيشون في ترف قد لا يبلغه الوزراء، ولم تكن هذه الجرائد والمجلات غير المصرية تخشى تعطيلا من الحكومة، ولم يكن أحد من التجار يتوقع لها موتا قريبا أو بعيدا؛ ولذلك كانت تنال إعلاناتهم وتستحوذ بذلك على آلاف الجنيهات التي يحرم منها الصحفي المصري لأن التجار لا يثقون بصحفه إذ هي عرضة للتعطيل في كل وقت.
ونترك هذه الصحف غير الوطنية ونقصد إلى حيث كان يعيش الصحفيون المصريون، فكأنك انتقلت من مدينة الأحياء إلى جبانة الأموات. كنت تجد أحدهم قابعا في غرفة أو شقة وقد تأخر علية إيجاره لخمسة أو ستة أشهر، أو كنت تجده يصدر الصحيفة وهو لا يملك المطبعة، أو هو يملك المطبعة ولا يملك الصحيفة، وكنت تقرأ الصحيفة المصرية فلا تجد بها أخبارا لأنها عطلت مرارا حتى تركها المخبرون وبحثوا لهم عن عمل آخر يستطيعون أن يعيشوا منه.
ودار الصحيفة مصنع، تكتسب الخبرة فيه بالتجارب المتكررة ويحظى بعطف التجار بالاستمرار، فالصحيفة إذا عطلت 14 مرة في 10 سنوات، كما عطلت جرائد عبد القادر حمزة ومحمد التابعي وأحمد حافظ عوض وتوفيق دياب، لا تستطيع أن تحظى باعتماد التاجر في إعلانه، بينما كان الصحفي الأجنبي المحايد يمكنه أن يختار أحسن المخبرين ويشتري الورق بالثقة، وكان لا يمكن للصحفي المصري أن يفعل ذلك، كان قد مضى عليه عشرون سنة وهو مزعزع، تقفل داره في أي وقت، ويطرد إلى الشارع في أي وقت؛ ولذلك لم يكن يثق به أحد. عشرون سنة مضت من الاضطهاد للصحافة المصرية قضت علينا وجعلتنا فقراء.
وكانت لنا خصومات داخلية أسدلت على عيوننا غشاوة، فصرنا لا نفقه الحق ولا نستطيع تمييزه من الباطل، حتى بتنا ينبذ بعضنا بعضا بالخيانة، فصار الدستوري لا يقرأ جرائد الوفد، وصار الوفدي لا يقرأ جرائد الدستوريين؛ فانتهت القصة أو المهزلة بأن التجأنا إلى الجرائد المحايدة نقرأها لأنها ليست وفدية ولا دستورية.
ومضى علينا أكثر من عشرين سنة وجرائدنا ومجلاتانا تقفل بحزبية عمياء وعصبية صماء، وسقطت الصحافة المصرية بذلك، وخسرت في ذلك الحين كل شيء إلا الشرف، فصار الغنى في جانبهم والفقر في جانبنا، والوجاهة لهم والاحتقار لنا؛ وكل ذلك لأننا كنا نخلص لمصر وطننا.
وكنا نصدر الجريدة أو المجلة فلا يثق بنا تاجر ويأتمننا على إعلان واحد، وكانت تفتح الجريدة الأجنبية في مصر فتراها حافلة بالإعلانات التي تعود على أصحابها بعشرات الألوف من الجنيهات، ولكنك كنت تفتح المجلة أو الجريدة المصرية فلا تجد بها إعلانا واحدا يستحق الذكر.
وهكذا انهزمت الصحافة المصرية، وأصبح الصحفي المصري شخصا ساخطا فقيرا، أضاع ماله كما أضاع عمره في صناعة اعتقد أنه سيجد فيها المجال للخدمة الصادقة لأمته؛ فعادت عليه هذه الصناعة بخسارة العمر وخسارة المال. وكنت أينما سرت، من الاسكندرية إلى أسوان، لا تجد إلا جرائد ومجلات مصرية في النزع الذي تستقبل فيه الموت القريب.
مثل هذه الحال كان يجب أن ندرسها وأن نتعرف أسبابها، لأنها حال لم تتفق وكرامتنا الوطنية أو مصلحتنا الاقتصادية.
الصحيفة هي مرآة الأمة، مرآتها اليوم تريها نفسها كما هي الآن، ثم هي مرآتها في الغد تريها نفسها كما يجب أن تكون في المستقبل.
وهي لهذا السبب يجب ألا يقوم بها أجنبي غريب عنها في الدم أو المزاج أو الرجاء، ولكل أمة مزاجها التي تتميز به من سائر الأمم، فنحن نضحك من النكتة التي لا يضحك منها الأجنبي لأن لنا مزاجا هو خلاصة آلاف السنين من الوراثة ليس لأحد أبناء الأمم الأخرى. ولكل أمة فكاهتها التي تضحكها ولا تضحك غيرها، فقد يأخذ أحدنا مجلة بنش الإنجليزية أو سمبلسموس الألمانية ويقلب صفحاتها فلا يفتر ثغرة بابتسامة، بينما يجد الإنجليزي أو الألماني فيها ما يجعله يقهقه.
فهذا المثال البسيط يدلنا على أن لكل أمة ذوقا لا يستجيب للغريب في النكتة والفكاهة، وهي كذلك لا يمكنها أن تستجيب للغريب في الأدب أو الصحافة، بل هي إذا استجابت له في ذلك فاستجابتها برهان على أن ذوقها قد فسد ونفسها قد وهنت لطول ممارستها لهما، وهذه الصحف والمجلات الأجنبية في مصر لم تكن تعبر عن النفس المصرية أو الذوق المصري، لأننا كما نختلف عن الأجانب في النكتة والفكاهة كذلك نختلف في الروح الصحفية، ومن الإفساد الكبير لأذواقنا ونفوسنا المصرية أن نطبعها بطابع أجنبي.
ولكل أمة رجاء تقصد إليه بقلبها وعقلها، ونحن لنا رجاء الاستقلال والحرية والإصلاح الاجتماعي، وهو رجاء لا يؤنس قلب الصحفي الأجنبي، ولو أنه آنسه لكانت بلاده أولى به منا.
لقد مات مصطفى كامل فكان شبابنا يبكون في الشوارع، ومات بعد ذلك سعد زغلول فكانت نساؤنا قبل رجالنا يبكينه في البيوت، فهل بكى الأجنبي من أجل مصطفى أو سعد؟
وكان لنا مسائل اجتماعية، منها مسألة المرأة ومسألة الفلاح، وهي مسائل كانت تشعرنا بالضفة والانحطاط كلما رأينا الشقاء الذي يعيشان فيه، وكنا نحن راضيين بالتضحية والجهاد من أجل إصلاحها، فهل كان يرضى الصحفي الأجنبي في مصر بأن يضحي بشيء من ماله أو نفسه من أجل ذلك؟ كلا؛ لأن رجاءنا كان يختلف عن رجائه.
والصحافة هي بعد ذلك نوع من الأدب الجديد، أدب الجماهير والعامة، فهل نحن نبغي منه أدبا مصريا أو أدبا أجنبيا؟
ليس شك أننا كنا نريد أدبا مصريا. كنا نريد من الصحفي المصري أن يخاطبنا بلغتنا، وأن يحرض في نفوسنا الأماني المصرية، ولم ننتظر من الصحفي الأجنبي أن يؤدي لنا هذا الواجب؛ بل هو لا يستطيعه لو أراده لأن نفسه غير نفسنا، فلم نكن ننتظر من الجرائد والمجلات الأجنبية أن تطالبنا بدرس الحضارة الفرعونية كما فعل الدكتور محمد حسين هيكل، وأن يثبت على هذه الدعوة بينما المجلات الأجنبية تتهمه بالإلحاد من أجلها، ولم نكن ننتظر منها أن تدعونا إلى وطنية مصرية، كما فعل الأستاذ لطفي السيد في الجريدة، مع الإهانات المتكررة التي لقيها من العامة على ذلك.
والخلاصة أن الصحيفة التي يقرأها المصري يجب أن تكون مصرية بالدم والروح والمزاج، لأنها مرآة نفسه في اليوم والغد، وتمثل رجاءه في الاستقلال والحرية، وتنشد له أدبا مصريا يتفق ومزاجه ولغته وبيئته ومصريته.
وكانت الصحافة تجارة مثل أي التجارات، ولكن كانت قيودها أثقل من سائر التجارات، وكان الصحفي المصري يحمل هذه القيود راضيا وينزل على شروطها صاغرا، لأنه كان يراها تتفق ومصلحة وطنه التي هي أكبر من مصلحته، ولكن الصحفي الأجنبي لم يكن يبالي بهذه القيود، فهو كان ينشد من هذه التجارة الربح، والربح فقط.
لهذا السبب مضت علينا ثلاثون سنة والجرائد المصرية تعطل بينما الجرائد الأجنبية لا تعطل، وانتهت هذه الحال بأن أصبحت الصحافة في مصر صناعة أجنبية كاد ينساها المصري، ونحن نعرف من الشبان المصريين عشرات هجروا الصحافة لأنهم وجدوا من تعرضها المستمر للتعطيل ما يجلب عليهم الجوع والحرمان، فتركوها ساخطين.
والصحفي الأجنبي المحايد لم تتعرض جريدته للتعطيل لأنه كان يسير مع كل حزب ويمشي وراء الغالب، وهو لم يكن يشعر بالعار يلحق بالإنسان إذا استبدل بآرائه وخططه السياسية خططا وآراء أخرى كما يستبدل الإنسان حذاءه؛ وذلك لأن مصر ليست وطنه، وهو إنما هاجر إليها يبغي منها المال ولم يبغ منها وطنا؛ ولهذا السبب لم تكن تجد أجنبيا ينضم إلى حزب معين من الأحزاب السياسية المصرية، وقد تسمع منه أنه متمصر وأنه لا يعرف من الأوطان سوى مصر، ولكنه مع ذلك لم يكن يرضى أن يكون وفديا أو دستوريا لأن مصلحته التجارية كانت تدفعه إلى أن يبقى خارج الأحزاب يستغلها كما يشاء، ولأنه كان يخشى اذا هو تقيد بأحد الأحزاب أن يتعرض للتضحية، ثم هو إلى الأغراض المالية والكسب المادي كان يسير على الدوام مع الكثرة من العامة في الشئون الاجتماعية.
وكنا نحن في مصر نطالب بحرية المرأة، ولكنه كان يرى أن العامة تكره هذه الحرية، فهو يسير مع العامة ويدافع عن الحجاب، مع أنه في بيته وبين أهله وبني وطنه كان يضحك منا وينسب تأخرنا إلى الحجاب، وهذا هو السبب في المقالات الكثيرة التي كان يكتبها الرجعيون في الجرائد المحايدة الأجنبية في الدفاع عن الحجاب وتفشي الإلحاد في مصر.
هذا إلى هذر وهذيان وسخف من القصص والحكايات والخرافات كان يكتب في الصحف الأجنبية لتسميم العامة وإضعاف عقولها.
وبينا كنا نرى الصحف المصرية معطلة والأقلام المصرية مقصوفة، نرى المجلات الأجنبية تنساب بين العامة كأنها الحيات السامة، تشرح لهم كيف أن «الأستاذ» حافظ نجيب كان ينصب على الناس، وكيف أن بطلا من أبطال الأوباش كان يأكل حذاء كاملا، وكيف استطاع شحاذ أن يشتري بالشحاذة عقارا ضخما، وكيف يدخن الحشيش، وأين؟
وكان يكتب هذا في مجلات أنيقة الطبع، تستهوي العين بالصور الجميلة وبالطبع الحسن، فيقرأها الشاب المصري ويضعف عقله ويختل نظره للأشياء، حتى ليظن العبقرية في النصب والشحاذة والسخافة.
ولنضرب مثلا على الأجنبي في مصر بواحد منهم جعل الصحافة المصرية هذرا وهذيانا، يجمعون منها قروش العامة ويثرون، بينما عبد القادر حمزة ومحمد التابعي وعباس العقاد وحافظ عوض وتوفيق دياب ومحمد أبو طايلة وأحمد حلمي وغيرهم، تقصف أقلامهم وتخرب بيوتهم.
كان هذا «الأستاذ» يكتب في المجلات الأجنبية قصصا يتكرر بعضها عشر مرات أحيانا عن فتح الله بركات باشا، الذي يختلف عن سائر الناس أجمع من حيث إنه لا يأكل المدمس وانما هو يغمس اللقمة في مرق المدمس فقط، ويذكر «الأمير» فاروق فيقول عنه: إنه لا يخاطب جلالة والده أو والدته بقوله «يا صاحب الجلالة» أو «يا صاحبة الجلالة»، وإنما يقول كما يقول سائر الأطفال في العالم: يا «بابا» ويا «ماما»، ثم يذكر الامير عمر طوسون فيقول عنه: إنه يدخن الشيشة قبل الظهر ويدخنها أحيانا بعد الظهر وأحيانا لا يدخنها قبل الظهر أو بعد الظهر، ثم هو - أي الأمير - يأكل في الغذاء أكثر من العشاء، وأحيانا يأكل في العشاء أكثر من الغذاء.
ثم يقول إن الأستاذ لطفي السيد تقابل مع علي الشمسي باشا فبدلا من أن يبدأ التحية علي باشا بدأها الأستاذ لطفي السيد.
هذا هو الكاتب المثالي الأجنبي الذي كان يكتب للعامة هذا الهذر ليضعف عقولهم، بينما كتابنا المخلصون كانت أقلامهم قد قصفت، وكان بعضهم يبحث عن عمل آخر غير الصحافة يمكنه أن يعيش منه دون أن يتعرض للجوع.
وفي سنة 1930 أصدر إسماعيل صدقي باشا قرارا بإقفال ثلاثة مصانع مصرية، هذه المصانع هي: (1) «البلاغ» لصاحبه عبد القادر حمزة. (2) «الكوكب» لصاحبه أحمد حافظ عوض. (3) «اليوم» لصاحبه توفيق دياب.
وكل من هذه الجرائد كان مصنعا يحتوي على آلات كبيرة، ومواد كيماوية، ويحتاج إلى عمال ميكانيكيين وكيماويين يفهمون الآلات ويدرون بالأصباغ، ولا يمكن لأحد هذه المصانع أن يرتقي ويبلغ درجة من الإتقان تجذب عين القارئ إلا بعد تجارب وتضحيات كبيرة، وقد كان يعيش في كل من هذه الجرائد وحولها نحو خمسمائة أسرة مصرية.
ولكن هذه المصانع المصرية أقفلت، فوثبت الصحف المحايدة الأجنبية إلى الأمام وأخذت مكانها، والجريدة ترسخ بالزمن لأنها مصنع يرتقي بالتجارب الفنية، والزمن وحده هو الذي يجعلها تنال حظوة التجار في الإعلان عن بضائعهم، والتاجر لا يمكنه أن يأتمن جريدة على إعلانات وهي معرضة للموت في أي يوم.
وهذه الخطة في إقفال الجرائد المصرية قد مضى عليها عشرون سنة بل أكثر، وكانت تسير نحو هدم الصحافة باعتبارها صناعة مصرية وإحيائها باعتبارها صناعة أجنبية، حتى بتنا نحن الصحفيين المصريين نرى الهزيمة واضحة في جانبنا والفوز ظاهرا في جانب الأجانب، وبينما كانت الحكومة تسن القوانين لمساعدة المصانع الأخرى، تعمد إلى المصانع الصحفية المصرية فتقتلها؛ فكنا في حاجة إلى تغيير الخطة كلها للمحافظة على هذه الصناعة .
ونحن نضرب مثلا عن شناعة هذه الخطة بجريدة البلاغ، فهذا «البلاغ» قد اشترى في سنة 1930 ماكينة للطبع لا يقل ثمنها عن سبعة آلاف جنيه ويبلغ قسطها الشهري 700 جنيه، وكانت هذه الماكينة تستطيع إخراج البلاغ بالألوان والصور، وقد عطله إسماعيل صدقي بعد تجارب مضى عليها أشهر، كانت كلها خسارة في انتظار الربح القادم، أي لما أوشك كل شيء أن يتم وبعد التضحيات الكثيرة عطلت الجريدة، ولم يكن على الأستاذ عبد القادر حمزة سوى أن يبيع هذه الماكينة بأبخس ثمن أو أن يعلن إفلاسه، وفي إفلاسه إفلاس العمال الذين تعلموا هذه الصناعة، بل إفلاسنا جميعا.
ثم كانت إحدى الجرائد الأجنبية التي تسير مع كل حزب وتجري مع كل ريح، وتضحك منا جميعا، قد اشترت ماكينة للطبع بالألوان أيضا ونجحت بها، ولم تخش الجريدة الخسارة لأن صاحبها لم يصدم بأية قوة غالبة في البلاد، وعندما عاد البلاغ إلى الظهور كانت الصحف الأجنبية المتفرجة قد رسخت ونالت حظوة القراء، وحظوة التجار في الإعلانات، فلم يستطيع البلاغ أن يزحزحها عن مكانها.
والمغزى أن مصنعا أجنبيا كان يتغلب على مصنع مصري ويقتله، والنتيجة أني أنا وأنت أيها القارئ المصري كنا نخسر بهزيمة الصحف المصرية التي يعطلها الحاكم.
والعلاج الوحيد هو أن ننقل العقاب من الصحيفة إلى الصحفي؛ فالصحيفة المصرية مصنع يجب ألا يقفل بأية حال، فإذا حدثت عن سبيلها جناية فلنعاقب الجاني وهو الشخص الكاتب، ولا نعاقب الصحيفة. فلنفرض أن جريدة البلاغ مثلا ارتكبت جناية، فلنقبض على المرتكب ونعاقبه، أما الجريدة فيجب أن تصدر كل يوم لأنها في نفسها لا ترتكب الجناية وإنما هناك شخص أو أشخاص يرتكبونها وهم الذين يستحقون العقاب.
وقد كان القدماء يعاقبون الآلة التي ارتكبت بها الجريمة فيتلفونها، ولكننا ارتقينا عليهم وقصرنا العقاب على الشخص الجاني.
أما الآلة فشيء نافع يجب أن يستمر في العمل، فإذا فرضنا أن قاطرة داست بعض الناس وقتلتهم فنحن لا نتلف القاطرة بل نعاقب السائق، ونترك القاطرة تؤدي خدمتها للجمهور بعد أن يتسلمها سائق آخر خبير بالسياقة ، وهكذا يجب أن تكون الحال في الصحافة عندما ترتكب إحدى الصحف جناية، نعمد إلى الكاتب فنجلده أو نحسبه أو نشنقه، ولكن يجب أن تترك الصحيفة تصدر كل يوم وتؤدي خدمتها للناس لأنها هي الآلة، وهي حديد وحبر وورق، لا يمكنها وحدها أن ترتكب جناية، وإنما المرتكب شخص يمكن استبداله وعقابه، ثم في إقفال الجريدة أو المجلة قتل لصناعة مصرية يجب أن تشجع وتعيش مثل سائر الصناعات.
الفصل الثاني
لما كانت الصحافة محتقرة
أذكر أني في 1923 احتجت إلى أن أستأجر مسكنا بالقاهرة، وقصدت إليه وعاينته وارتضيته بأجرة شهرية قدرها سبعة جنيهات، وشرعنا في كتابة عقد الإيجار، وما هو أن فهمت مالكة المسكن أني صحفي حتى انتفضت من مقعدها وهي تقول: «جرنالجي» ويدفع منين سبعة جنيهات في الشهر؟
ورفضت التوقيع على العقد، ولم تجد معها المناقشة والشرح، وخرجت وأنا أتعثر في ثوب الخيبة.
واستطعت، بعد أن تشفعت بقريب لها، وبعد أن دفعت مقدما أجرة ثلاثة أو ستة شهور، أن أحصل على رضا المالكة وعلى المسكن.
وقد مضى على هذه الحادثة 35 سنة، ولكني أذكرها كي أبين للقارئ المكانة المحتقرة التي كان الصحفي يحتلها في المجتمع المصري، وكانت كلمة «غازيتجي» من الكلمات التركية التي تعني «صحفي»، وكانت مألوفة عند الطبقة الحاكمة في بداية هذا القرن، وكانت تحمل معنى التشرد والفقر والصعلكة.
ولما تزوج الشيخ علي يوسف صاحب «المؤيد» ابنة الشيخ السادات أقام الأب دعوى عليه يطلب إلغاء الزواج بدعوى أنه صحفي، وأن الصحافة محتقرة، ولا يليق بمن تنسب إلى «الأشراف» مثل ابنته أن تصاهره، وحكمت المحكمة الشرعية بإلغاء الزواج على هذا الأساس؛ أي إن الصحافة مهنة غير شريفة، ومحترفها لا يليق لمصاهرة أسرة «شريفة».
وقبل نحو ثلاثين سنة كان صادق سلامة صحفيا في المنيا يراسل جرائد القاهرة، وكان يكتب في انتقاد المدير وسائر الموظفين المسئولين في المديرية، وغاظهم نقده، وذات صباح جاءه رجل البوليس يقوده إلى مأمور البندر، وهناك ووجه بتهمة التشرد، وتسلم «إنذار» التشرد، وكان هذا الإجراء بعض ما يلاقيه الصحفيون من رجال الإدارة والسياسة في مصر في تلك الأيام.
ولكن صادق سلامة كان رجلا إلى نخاع عظامه، فقصد إلى القاهرة، وسعى حتى حصل على رخصة بإصدار صحيفة أسبوعية أسماها «الإنذار» تخليدا للفضيحة التي ارتكبها رجال الإدارة معه في المنيا، وقد شرفني بالتحرير فيها فيما بين 1948 و1952.
والواقع أن الصحافة قبل نحو أربعين أو خمسين سنة كانت من المهن المحتقرة، إذا اعتبرنا أن نوع النجاح الذي يعترف به المجتمع هو النجاح المالي، فإني أذكر أني اشتغلت في «اللواء» سنة 1909 بأجر شهري قدره سبعة جنيهات، وخرجت لعجز الجريدة عن دفع أجري، بل خرجت ولي عندها متأخر شهرين أو ثلاثة شهور.
ونستطيع أن نعزو انحطاط الصحافة المصرية إلى جملة أسباب:
أولها أن الحكومة الاستعمارية الاستبدادية كانت تطاردها باعتبار أنها تحمل راية النقد لإدارة يجب أن تبقى مستترة عن أعين الجمهور، وكانت أيضا تدعو إلى جلاء الإنجليز المحتلين لبلادنا.
ثم كان تأخر التعليم، وتحديد عدد المدارس الحكومية، يعمم الأمية أو يكاد بين طبقات الشعب، فكان جمهور القراء صغيرا لا يغذو جريدة يومية أو أسبوعية كثيرة النفقات؛ فكانت أجور الصحفيين - تبعا لذلك - منخفضة.
ولذلك كانت جرائدنا على الدوام في إفلاس، بين التعطيل والغرامة وحبس المحررين والمخبرين، ولم تكن في حالها هذه تتيح للصحفي أن يتربى التربية الصحفية، وقد مات اللواء، ومات بعده المؤيد، ثم الدستور، ثم الجريدة، وهذا غير عشرات المجلات، وأصبح الاعتقاد العام أن الصحافة مهنة خطرة تؤدي إلى الحبس، كما هي مهنة المفلسين أو الموشكين على الإفلاس؛ ولذلك لك يكن يقبل عليها الأكفاء الذين يجدون عملا آخر يتيح لهم الطمأنينة والكسب إلا أولئك الهواة المهووسين بالفن، وهؤلاء كانوا على الدوام قلة.
ولهذه الأسباب جميعها كثيرا ما كنا نجد الشبان يلجئون إلى الصحافة كما لو كانت معبرا يعبرون منه إلى وظيفة حكومية، وكثيرا ما حدث هذا فإن المحرر أو المخبر باتصالاته بالموظفين كان يجد الفرصة لأن يثب من الصحافة إلى الوظيفة ويترك الصحافة في غير أسف.
وبقي إحساس الخطر من مهنة الصحافة قائما عند كثير من الصحفيين إلى وقت قريب، فإن الصحفي لم يكن لينتظر من مهنته أن تكون رسالة حياته أو على الأقل مورد رزقه طيلة حياته، فكان يجمع منها ما يستطيع من مال كي يشتري ضيعة أو يقتني منزلا، وهو بهذا العمل كان يخرب صحيفته إذ يكف عن ترقيتها بالإنفاق عليها حتى تزداد خدمتها للجمهور؛ ولذلك كثيرا ما ماتت الصحف لأن أصحابها لم يرعوها بالتحسين والتوسع.
وواضح أن هذا الإحساس بالخطر من مهنة الصحافة كان يعود في الأكثر إلى القوانين الغاشمة التي ذكرناها والتي كانت تحمل الصحفي على أن يبحث عن عمل آخر، أو يقتني ما يكفل له العيش من مرتزق آخر، وخاصة إذا كانت صحيفته من تلك الصحف المكافحة، وليست من تلك الصحف المتفرجة؛ أي تلك الصحف التي وضعت نصب عينها مكافحة الاستعمار ومكافحة الاستبداد، فإن موقفها كثيرا ما كان يقضي عليها بالإلغاء، أي الموت أو الحبس المؤذي المهين، أو الغرامة الفادحة.
ويمكن أن نعد الصحف المصرية التي ظهرت ثم ماتت لموقف الكفاح هذا بالمئات منذ عرفت مصر الصحافة، وهي لم تمت إلا بعد أن بعثت في قرائها روح الكفاح، وبعد أن نادت وأطلقت صرخاتها من أجل الحرية والاستقلال ونزاهة الحكم؛ ولذلك لن ننسى فضلها. •••
كانت الصحافة مهنة محتقرة، كما كانت أيضا خطرة ولكنها كانت أيضا فقيرة.
وكان مرجع فقرها إلى أنها كانت مهددة بالإفلاس في كل وقت، فلم تكن تؤدي من الأجور والمرتبات للذين يعملون فيها إلا أخس المبالغ، ثم كان موقف العداء الدائم الذي كانت تقفه منها الحكومات الاستبدادية يحرم المشتغلين فيها أي ضمان من الإقالة أو حرمان المكافأة.
وكان هناك من أصحاب الصحف استغلاليون، دخلوا في هذه الحرفة بنفس الروح التي يقدم بها التاجر على تجارة ما، لا يبغي سوى الربح؛ ولذلك كانوا يرهقون عمالهم من المحررين إلى الطباعين بالعمل الشاق الذي كثيرا ما أودى بصحتهم.
وجميع الصحفيين يعرفون كيف أن إحدى الدور الصحفية القديمة في القاهرة كانت ترهق محرريها بالعمل حتى كانوا يخرجون منها وهم في انهيار نفسي، لو أنه طالت مدته لكان قد حملهم على الانتحار أو قضى عليهم بالجنون، وكيف أن كثيرا من عمال الجمع والطبع أصيبوا بالسل لمشقة العمل، زد على هذا أنه لم تكن هناك مكافآت للصحفي عن سني عمله إذا استقال، وقد عملت أنا سبع سنوات في دار صحفية مشهورة، وخرجت دون أن أحصل على مليم واحد مكافأة.
وكانت خسة الأجور والمرتبات من دواعي الاحتقار عند الشعب للصحفي؛ فإننا نعيش في نظام ثرائي اقتنائي يحسب فيه مقام الفرد بمقدار ثروته وما يقتني من عقار وما يحصل عليه من دخل.
الفصل الثالث
الصحافة تلقى عنتا وتعسفا
بعض ما أكتب في هذا الفصل قد أشرت إليه في مواضع أخرى موجزا عابرا، ولكني أحتاج هنا إلى الإيضاح والتركيز.
فالصحف هي عين الشعب على الحاكمين، فإذا كان هؤلاء من المستعمرين والمستبدين فإنهم لا يطيقون هذه العين الناقدة البصيرة التي تعين الأخطاء وتفضح الخيانات وترتب المسئوليات، وقد كان كثير من الحاكمين في مصر منذ 1882 إلى 1952 خونة ولصوصا، ترتشي ضمائرهم عن الحق والعدل، وترضى نفوسهم نهب البلاد، وقد رأيت كثيرا في حياتي الصحفية من جرائم هؤلاء الحاكمين.
أذكر، قبل أكثر من عشرين سنة، أني كنت في دكان حلاق كنت أوثره على غيره لأنه كان يستخدم حلاقا يدعى «المصري» كانت له اتصالات بالصحافة، وكان يجيد الكتابة في شئون العمال، وبينما هو يشتغل بقص شعري إذا بشرطي يدخل ويلقي القبض عليه ويقيده، وكانت التهمة التي سيق بها إلى مركز البوليس هي «التشرد».
التشرد وفي يده المقص يقص شعر الزبون.
وقد كانت تهمة «الشرد» من التهم المحبوبة المأثورة عند البوليس أيام الحاكمين المدنسين، يتهمون بها الصحفي من وقت لآخر كلما عجزوا عن إثبات تهمة صحفية واضحة عنه.
فقد ألقي القبض في المنيا على صادق سلامة وسلم «إنذار»، وكان كل ما ارتكبه أنه كان يراسل صحف القاهرة وينتقد المدير والوكيل في المديرية، وأصدر بعد ذلك صحيفته الأسبوعية باسم «الإنذار» في ذكرى هذا الحادث على ما ذكرنا قبلا وبقيت صحيفته بهذا الاسم إلى أن توفي في 1955.
وأسوأ من هذا في باب الظلم، ما حدث لأحد أصحاب الصحف، فقد كان في أوروبا وكتب أحد محرري صحيفته كلمة استوجبت تحقيق النيابة، ولم يقرأ صاحب الصحيفة ما كتبه هذا المحرر، ولم يعرف موضوع التهمة، فلما وصل إلى ميناء الإسكندرية ألقي القبض عليه وحوكم، وحبس بسبب ما نشره في هذا المحرر وهو غائب في أوروبا، وقد كان قانون الصحفيين في ذلك الوقت ينص على مسئولية صاحب الصحيفة لما يكتب في جريدته حتى ولو كان غائبا عنها، وكان هذا بعض العنت الذي اخترعته الأمخاخ السوداء في رءوس المستبدين والمستعمرين في مصر في وقت ما.
ومن هذا العنت أيضا أن تختص محاكم الجنايات بمحاكمة الصحفيين في قضايا الجنح، وفي هذا الاحتيال العجيب لإيذاء الصحفيين إشارة واضحة إلى الفساد الذي كان هؤلاء الحاكمون الفسدة يحاولون التسلل به إلى إفساد نزاهة القضاة.
وكانت «المطبعة» التي تطبع بها الصحيفة المعارضة موضوعا آخر للمعاكسات؛ ذلك أنها تعد «مصنعا» ينطبق عليه تعريف الإنجليز بقانون 1904 للمصانع المصرية، وهو أنه «محل مقلق للراحة أو مضر بالصحة أو خطر».
وأذكر أني كنت مع شريك قد أقمنا سنة 1950 مطبعة في قسم الأزبكية لطبع صحيفة، فلم نحصل في مدى أربعة شهور على الترخيص بإدارتها، مع أننا كلفنا مهندسا متمرنا على شئون المباني كي يقوم بالرسم ويعين المواضع، وجاء طبيب قسم الأزبكية فوافق على الترتيبات جميعها، ولكنه عاد إلينا بعد ذلك يقول إن الوزارة تطلب نقل النافذة نافذة المرحاض من الجهة الشمالية إلى الجهة الشرقية، وإنه لا يعرف علة هذا الرأي، ويسألنا: هل نحن نعرفه؟
ولم نكن نعرف سوى العنت الذي كانت الوزارة تهدف منه إلى إقفال المطبعة، ونجحت في ذلك.
وفي تلك السنة بالذات فكر وزير الداخلية فؤاد سراج الدين في اتخاذ جملة خطوات مشئومة، ليست لتقييد حرية الصحف فقط بل أيضا لإخفاء جرائم فاروق ورجال قصره الدنس حتى لا يقف الجمهور المصري على الحقائق السوداء التي تمس رجال الحكم في القصر، وذلك بأن أعد مشروعا لمنع الصحف من نشر أخبار القصر ، أي أخبار فاروق ونازلي وبولي وكريم ثابت، وأخبار الراقصات اللائي كن يرافقن فاروق في رحلاته إلى الإسكندرية أو الصحراء، وينزل معهن في الأوبرج بالفيوم أو غير هذا الفندق في الأماكن الأخرى.
وأذكر أنه جيء بي من بورسعيد محروسا برجل البوليس إلى القاهرة؛ كي تحقق معي النيابة العامة بشأن جملة وردت في مقال لي بجريدة «الشعلة» هذه كلمتها بالنص: «الأوبرج وما أدارك ما الأوبرج»!
وكان المحقق الأستاذ إسماعيل عوض الذي استطاع أن ينقذني، ثم ينذرني. وكانت كلمة الأوبرج من الكلمات الحساسة عند فاروق لما كانت قد شاع وقتئذ لأنه يسلك سلوكا شائنا في هذا الفندق.
ولما هاج الصحفيون في شجاعة وشهامة على مشروع هذا القانون، فكر فؤاد سراج الدين في مشروع آخر في 1950 أيضا هو «قانون الاشتباه السياسي» كي يصبح الصحفي مشتبها حين لا يمكن إثبات تهمة عليه، واستطاع الصحفيون أيضا أن يئدوا هذا المشروع.
وأذكر أن إحدى الشركات التي كانت تطبع الكتب الشهرية قد تعاقدت معي حوالي 1948 بشأن كتاب قديم لي كانت دار الهلال قد نشرته سنة 1926، فلما كان بالمطبعة يجري طبعه، أوقف الطبع بدعوى أن الكتاب واسمه «أشهر قصص الحب التاريخية» يحتوي فصلا عن حب الملوك، وأن في هذا تعريضا بفاروق.
وفي سنة 1945 ألفت كتيبا بعنوان «حرية العقل في مصر» دعوت فيه إلى منع مثل هذا العنت في معاملة الصحفيين والأحرار والمؤلفين.
وعلى القارئ لهذا الفصل أن يذكر أسماء الصحف المكافحة التي ماتت جميعها لأن المستبدين والمستعمرين لم يطيقوا صدورها، وقد ماتت بمثل هذه المعاكسات، في حين أن الصحف المتفرجة، التي لم تكن تبالي فحش فاروق، أو سرقات الوزراء، أو نهب الاستعمار لكنوز بلادنا، أو تأخر بلادنا في جميع الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، هذه الصحف عاشت وأثرى أصحابها حتى أصبحوا يملكون من العقارات وغير العقارات ما تبلغ قيمته مئات الألوف من الجنيهات.
الفصل الرابع
كيف أفسدت الحكومة الصحافة المصرية
كانت الحكومة المصرية أيام الاستعمار والاستبداد تمارس ألوانا من الفساد أو الإفساد الصحفي يتجاوز الخيال، وهو فساد أو إفساد لم تعرفه أمة أخرى في هذا العالم كله.
فمن ذلك مثلا المصروفات السرية التي كانت ترشو بها الوزارات المتعاقبة الصحفيين حتى ينكروا الحق وينشروا الباطل، والذي ابتدع هذه البدعة هو عدلي يكن الذي هدف منها إلى محاربة سعد زغلول بتضليل الرأي العام وشق الأمة عليه عن طريق الصحافة، ولم تلغ هذه المصروفات السرية إلا بعد ثورة 1952، وكان في إلغائها تطهير وتنظيف.
وكان الغرور والزهو يحملان بعض الوزراء على أن يسخوا سخاء الإغداق على أحد الصحفيين لأنه كان ينشر صورهم في جمال ساحر وإن يكن زائفا، ويصف مآثرهم وإن لم تكن مآثر، ويروي القصة تلو القصة بشأن إصلاحاتهم التي لم يكن يعرفها الجمهور إلا في الصحف. واتضح من الكشف الذي أذاعته حكومة الثورة في 1952 أن إحدى الصحف الأسبوعية التافهة حصلت على أكثر من 26 ألف جنيه.
وكانت صفحاتها وقفا على الثناء على وزراء الاستبداد، فلا مقال عن العلم أو الأدب أو الصناعة أو الزراعة أو السياسة، وإنما كل ما كان فيها كلمات رنانة وجمل مرصعة في الثناء على الذين يمنحونها هذه «المصروفات السرية».
ثم كانت هناك رشوة أخرى لإفساد الصحفيين هي الإعلانات الحكومية، فصاحب الجريدة المستقل المعارض الذي يهدف إلى الإصلاح ولا يفتأ ينادي بقمع الفساد، يحرم الإعلانات أو لا يحصل منها إلا على التافه، في حين أن الصحفي الذي يمدح ويتغنى بعدل المستبدين ينال الألوف من الجنيهات، بل إن إحدى الصحف الأسبوعية التي لا يزال يذكرها الصحفيون نالت من إعلانات الحكومة في عدد واحد ما تزيد قيمته على نحو ثلاثمائة جنيه.
وهذا في الوقت الذي لم تنل فيه صحيفة يومية في أربعة شهور كاملة تصدر فيها كل يوم، وتباع، وتذاع، لم تنل سوى ما قيمته أربعون جنيها أي بمتوسط عشرة جنيهات في الشهر. ولم يكن لهذه الصحيفة من ذنب سوى أن محررها كان رجلا حرا يأبى الثناء الرخيص الكاذب على وزير الداخلية المتصرف.
وكانت الإعلانات الحكومية - التي كان هدفها في الأصل خدمة الحكومة بتنبيه الجمهور أو المقاولين أو غيرهم - وسيلة لإفساد الجريدة أو المجلة، وأذكر أني حين أخرجت مجلة المصري في 1930، وعارضت فيها إسماعيل صدقي في سياسته، عمد إلى التوسل إلى إفلاسي بحرماني هذه الإعلانات، ولم يحرم «المصري» فقط بل حرمت 12 مجلة أخرى أصدرتها بعد إلغائه.
وكنت في تلك الأيام عرضة لزيارات لا تنقطع، غايتها أن أخضع، مع عرض المكافأة السخية وهي الإعلانات، ولم أخضع؛ ولذلك أفلست جميع المجلات التي أصدرتها.
ومثال آخر لرشوة وإفساد الصحفيين، هو اشتراك وزارة «المعارف» وغيرها من الوزارات في بعض المجلات والجرائد دون بعض، فقد كان المقياس هنا ليس منفعة الطلبة والتلاميذ أو الموظفين، ولكن موقفها إزاء السياسة التي تتبعها الوزارة، فإذا كانت الصحيفة معارضة وتنتقد فإنها تقاطع، وإذا كانت موالية تمدح فإن الوزارات تشترك فيها، وكثيرا ما كانت المدارس «تختزن» المجلات التافهة بألوف النسخ التي لا تفض غلافات البريد عنها لهذا السبب. وقد أثرى صحفيون تافهون كثيرون بهذه الوسيلة.
ووسيلة أخرى عرفتها الحكومة أيام الحرب الكبرى لإفساد الصحف، هي الورق، فإن مقدار المخزون منه في البلاد كان محدودا، ومقدار ما كان يرد إلينا من الأقطار الأجنبية كان أيضا محدودا، وتعللت الحكومات بهاتين العلتين وتدخلت لتوزيع الورق «بالعدل»، وكان من هذا العدل أن عومل الموالون الخاضعون بالسخاء وعومل المعارضون بالتقتير. ويعرف الصحفيون في أيامنا كيف اقتنى بعض الصحفيين مئات الألوف من الجنيهات حصلوا عليها ببيع الورق في السوق السوداء.
وشاع هذا البيع حتى صار فضيحة مكشوفة، وحتى صار كثيرون من الصحفيين تجارا، يحصلون على ورق الصحف فيبيعونه لأصحاب المكتبات الذين كانوا يحتاجون إليه لطبع الكتب.
وألف المرحوم أمين عثمان الوزير الوفدي جمعية «للصداقة» الإنجليزية المصرية، كان شعارها أننا نحن المصريين قد تزوجنا الأمة الإنجليزية زاوجا كاثوليكيا لا تفصم عراه، وكان كل من ينضم إلى هذه الجمعية من الصحفيين يجد أجود الورق بأرخص الأثمان، بشرط الإبقاء على الزواج الكاثوليكي.
ولا أكاد أتخيل صورة أفظع من هذه الصورة في إفساد الصحف المصرية، وقد فسدت أو فسد الكثير منها، كما يدل على ذلك هذا الحادث التالي:
ذات يوم دعاني أحد أصحاب الصحف، فلما قعدت إليه وأخذنا في الحديث فهمت أنه يرغب في أن أتولى رياسة التحرير، وشرع يثني علي كثيرا، ولم يكن عندي ما يمنع من قبول هذا العرض، وجعلنا نتحدث قرابة الساعة عن وجوه الإصلاح في الصحيفة، ونتناولها صفحة بعد أخرى بالنقد والاقتراح هنا وهناك، ونقترح أسماء لمحررين نحتاج إليهم، وانتهى اجتماعنا بأن أفهمني بأنه سيكالمني بالتليفون في اليوم التالي، وودعته وخرجت.
ومضت أيام لم يكلمني فيها ولم يعتذر، وصادف لقائي لأحد الوزراء وكانت له به علاقة متينة، فشكوت إليه هذه المعاملة التي بخسني بها، فكان جوابه السريع الصريح: «اسمع يا أستاذ، فلان هذا لا يوظف محررا في صحيفته إلا بعد استئذان السراي، وأنت تعرف رأي السراي عنك؛ فلا بد أنه استشارهم فأشاروا عليه بألا يجعل لك صلة بصحيفته».
ولا أنسى أن أقول إن هذه الصحيفة كانت وقتئذ تفهم الجمهور أنها معارضة للسراي.
وكان منصب «مدير المطبوعات» من المناصب العليا في الدولة، ولكن الحكومة الفاسدة كثيرا ما كانت تعين أفسدت الناس وأجهلهم لهذا المنصب؛ لأنها كانت تخشى الرجل المستقل النزيه المثقف الذي قد يأنف مما يطلب منه من اتباع خطط سافلة مؤذية للجمهور أو للصحفيين.
وأذكر أني قصدت ذات يوم إلى واحد من مديري هذه الإدارة لشأن صحفي، فلما هممت بالدخول إلى غرفته منعني سكرتيره وأفهمني أن هناك مسائل خطيرة جدا يشتغل بها مدير المطبوعات، وأني يمكن أن أنتظر حتى ينتهي منها.
وقعدت مع السكرتير، وطال انتظاري، فسئمت وأخذت استفسر منه عن هذه المسائل «الخطيرة» التي يشتغل بها مدير المطبوعات الذي كنت قد خبرته من قبل ووجدت فيه أتفه رجل عرفت.
ولكن السكرتير رفض أن يبوح، وعندئذ لم أباله، وهممت إلى الباب واقتحمته، فماذا وجدت؟
وجدت مدير المطبوعات هذا، الذي يشرف على الصحف، ويوجه الرأي العام، ويطلب إنذار صحيفة وإلغاء أخرى، ويقدم الصحفيين للنيابة العامة، ويعين مقدار الإعلانات والمصروفات السرية، وجدت هذا المدير قاعدا وأمامه عراف مشهور في القاهرة بأنه يرى الحظ ويتكهن عن المستقبل عن طريق النجوم والودع ، وكان الموضوع الذي حضر من أجله هو أن يخبر المدير عن التاريخ الذي ستقال فيه الوزارة أو تستقيل حتى يتهيأ بخطط معينة للوزارة القادمة.
هذا بعض مما لاقاه الصحفيون من فساد الحكم أيام الوزارات التي سبقت الثورة.
الفصل الخامس
الإعلانات في الصحف
ليس شك في أن الإعلانات التجارية والصناعية والترويحية تنفع القراء وترشدهم، فإن ربة البيت تعرف منها ما يجد من المخترعات التي تخفف الأعباء المنزلية، كما يجد جمهور القراء فيها دليلا عن المسارح والدور السينمائية ونحوها، وهذا غير ما يجده كل منا بشأن لباسه وطعامه وسكناه وسائر حاجاته.
والإعلانات، من زاوية أخرى، تخدم الروح وتزيد الاستهلاك، فلا تركد حركة الأسواق.
ثم هي بعد ذلك تصل بين الصحيفة وبين حركات الإنتاج في شتى السلع، فهي من هذه الزاوية تنطوي على عوامل تنويرية لمحرري الصحف أنفسهم لأنها تدلهم على الأحوال الاقتصادية المتغيرة المتطورة.
وفي نظام إنتاجي مثل نظامنا الحاضر يقوم على المباراة، تحتاج المتاجر إلى الإعلان، وأقرب الوسائل إلى ذلك هو الصحيفة؛ ولذلك أصبحت الإعلانات أعظم الموارد لحياة الصحيفة، حتى لقد عرف أحد المتهكمين الصحف، جرائد ومجلات، بأنها «أوراق» قد كتبت عليها إعلانات وفي ظهر هذه الإعلانات أخبار.
وعندما نتصفح إحدى جرائدنا الكبرى، مثل الجمهورية أو الأخبار أو الأهرام أو الشعب، غير المجلات الأسبوعية العديدة، نجد أن مقدار الورق أحيانا يزيد ثمنه على الثمن الذي تباع به الجريدة أو المجلة، وعلة ذلك هي الإعلانات؛ لأن قيمة الإعلان تعوض الدار الصحفية وتجعل الخسارة في ثمن الورق كسبا في قيمة الإعلان.
ونحن القراء نضيق أحيانا بكثرة الإعلانات، ولكن الجريدة التي تبلغ صفحاتها 16 أو 20 صفحة لا يمكن أن تباع بأثمانها الحاضرة لولا هذه الإعلانات العديدة التي تسد النقص في أبواب أخرى من نفقات الصحيفة.
وقد حاول أحد الصحفيين الأمريكيين أن يتحدى القواعد الصحفية في الولايات المتحدة فأصدر صحيفة في واشنطن كان يبلغ عدد صفحاتها 16 (في نصف قطع جرائدنا اليومية)؛ فلم يعتمد في عدد واحد على سطر من الإعلانات، ولكنه وقفها بعد أقل من سنتين لوفرة ما خسره في إصدارها من مال، وصحيح أن الجمهور عند صدورها أقبل عليها، ولكنه عزف عنها بعد ذلك، لأنه وجد أن الجرائد التي تستعين بالإعلانات تتوسع في عدد صفحاتها وتزيد من أخبارها وسائر مرافقها وخدماتها الصحفية أكثر مما تستطيع جريدة بلا إعلانات.
وللإعلانات في نظامنا القائم قيمة تنويرية كبيرة لا تقل أحيانا عما تنشره الصحيفة من أخبار أو مقالات، فإن الشركة الجديدة - في تجارة أو صناعة - تحتاج إلى شرح أعمالها القادمة، وهي لا تنتظر الخدمة المجانية من الصحيفة في هذا الشرح؛ ولذلك تقوم هي بنشره إعلانا أو إعلانات متكررة حتى تقف الجمهور على مشروعاتها ويقدم على شراء أسهمها، وكثيرا ما تظهر هذه الإعلانات في صيغة مقالات، والجمهور يستنير بهذه الإعلانات والشركة تنتفع.
وقد يقال هنا إن الشركة أو المؤسسة التجارية أو الصناعية التي تغزو إحدى الصحف بإعلاناتها تستطيع أن تؤثر في سياستها وتحددها بالحرمان إذا هي أقدمت على انتقادها بما يؤدي إلى إيذائها ماليا.
واعتقادنا أن هذا صحيح، وقد مرت بي اختبارات صحفية من هذا النوع؛ فإني أذكر أن إحدى البواخر ارتطمت، وكان عليها مسافرون مصريون، وتسلمت الخبر بالإنجليزية من إحدى شركات الأخبار وترجمته، ولكن بعد أقل من عشر دقائق جاءنا رسول من مكتب الشركة التي تملك هذه الباخرة وطلب أن نمتنع عن النشر، وكان التهديد المضمر أننا إذا نشرنا الخبر أسأنا إلى سمعة الشركة، وعندئذ تقطع إعلاناتها عن الجريدة التي كنت أعمل فيها محررا ومترجما، وامتنعت الجريدة عن النشر خاضعة ذليلة، بل حدث ما هو أفدح من هذا، فقد كانت هناك شركة تأمين في التصفية، فرشت الصحف حتى لا تنشر خبر التصفية، واستطاعت أن تنتهي من التصفية قبل أن تؤدي التزاماتها للمؤمنين عندها، ونستطيع أن نزيد.
حدث هذا قبل نحو ثلاثين سنة.
وبالطبع هذا الامتناع من الصحيفة عن نشر الحقائق خشية أن تخسر الإعلانات يعد إجراما صحفيا يترفع عنه ويأباه الصحفي الأمين المخلص، كما يجب أن تترفع عنه وتأباه الشركة التجارية أيضا سواء أكانت شركة بواخر أم شركة تأمين.
ولكن في نظامنا الاجتماعي الحاضر مفاسد، تكاد تكون أصيلة فيه، وإن يكن هناك من الرجال الأشراف من يستطيعون من وقت لآخر أن يستعلوا وأن يأبوا الخضوع لهذه المفاسد.
اعتبر مثلا جريدة المقطم، فإننا كلنا نعرف الضرر الفادح الذي أنزلته بالشعب المصري حين عاشت حياتها وهي تؤيد الاستعمار البريطاني، ولكن كانت لها فضيلة أخرى لا يعرفها الجيل الجديد الذي سمع عنها ولم يرها؛ ذلك أنها طيلة سبعين سنة أو أكثر من عمرها رفضت نشر إعلان واحد عن المشروبات الكحولية، وخسرت بالطبع بهذا الرفض نحو مئة أو مئتي ألف جنيه، ولكنها ارتضت هذا الخسار التزاما لمبدئها وهو جحد الخمور.
وشبيه بذلك أيضا ما حدث في أيامنا، ففي 1953 كتبت الصحف بشأن إحداث التدخين لسرطان الرئة، وكان الأطباء الذين يصدرون مجلة «بريتش مديكال جيرنال» قد بحثوا هذا الموضوع واقتنعوا بصحته؛ فأعلنوا في يناير من 1954 أنهم يرفضون نشر الإعلانات عن السجاير، مع أن أقل ما كانت تحصل عليه هذه المجلة الطبية من هذه الإعلانات لم يكن لينقص عن خمسة أو عشرة آلاف جنيه في السنة.
ان لبعض الصحفيين أخلاقا عالية.
وأعود فأكرر القول بأن نظامنا الاقتصادي الحاضر، نظام المباراة يحتاج إلى الإعلانات، وربما لا يستطيع البقاء بدونها، ولكن في نظام آخر مثل روسيا ليست هناك حاجة إلى إعلانات في الصحف؛ ولذلك تصدر جميع جرائدها ومجلاتها بلا إعلان واحد، ونظامها الاقتصادي لا يحتاج إلى ذلك، فإن أحد الأسس الذي تنهض عليه فكرة الإعلان هي أن «سلعتي أفضل وأرخص من السلع التي يبيعها غيري».
وليست هناك مباراة في البيع في روسيا؛ وإذن لا حاجة إلى الإعلانات. وقد ذكرت مثالين عن إساءة الاستعمال في الإعلانات، وهما مثال شركة التأمين ومثال شركة البواخر، ولكن في ظني بل يقيني أن أعظم من أساء الاستعمال للإعلانات في الصحف هو الحكومة المصرية في عهدها اللعين البائد أيام الوزارات الإقطاعية.
فقد كانت الإعلانات توزع على الصحف المصرية، لا للانتفاع بانتشارها حتى تصل إلى المحتاجين إليها فيعرف منها المقاول مثلا أخبار المزايدة أو المناقصة أو نحو ذلك، وإنما كانت توزع بالمحاباة الصريحة بحيث تعود هدية أو رشوة من أحد الوزراء لأحد الصحفيين فحسب، أما خدمة الدولة في مصالحها المالية فلا شأن لها أي شأن في نظر الوزير. بل كانت هناك مجلات أسبوعية لا يتكلف إصدار العدد الواحد منها خمسين قرشا يحمل من الإعلانات الحكومية ما كانت تبلغ قيمته عشرين جنيها أو أكثر.
وبعض الجرائد في بعض الأحيان يزيد ثمن الورق الذي تطبع به على ثمنه وهو جريدة مطبوعة، بل يزيد أضعافا في بعض الأحيان، وإنما يحصل أصحاب الجريدة على الربح من الأجور العالية للإعلانات.
بل يحدث أكثر من ذلك، فإن بعض المصانع والمتاجر والمؤسسات المالية تؤسس الجرائد وتغذوها بالمال حتى تنتشر، ويكون القصد خدمة هذه المصانع والمتاجر والمؤسسات، وإلى الآن لا أعرف مثل هذه الحالات - لحسن الحظ - في مصر، ولا ينتظر أن يحدث مثل ذلك في مصر إلى سنين عديدة قادمة، فإن رأس المال في أوروبا وأمريكا من القوة والحيلة والدراية، بحيث تمتد شباكه إلى الصحف فيستغلها، ولكنه لا يزال ضعيفا في مصر.
وقد قلت إن الإعلان كثيرا ما يؤدي إلى التنوير، خاصة إذا كان بشأن مشروع جديد يحتاج إلى الدعاية، ولكني أعتقد أن الإعلانات في مجموعها تنتهي إلى التغرير وليس إلى التنوير، وإن تكن مع ذلك ضرورية في نظام المباراة الذي نعيش فيه، ولو أن حكومة ما من حكومات رأس المال، حزمت رأيها ومنعت الإعلانات في الصحف لكانت شكوى القراء أكبر من شكوى أصحاب رأس المال، إذ ليس لنا طريق إلى الوقوف على السلعة التي نريد شراءها غير الجريدة والمجلة في الوقت الحاضر.
ولعل من المفيد أن نقول إن تدريس فن الإعلان يلقى في بعض الجامعات اهتماما أكبر من تدريس فن الصحافة، وهذا معقول؛ إذ هو يتفق ونظام مجتمعنا القائم على المباراة في التجارة والصناعة.
الفصل السادس
الأسلوب في الصحافة
حين أعود بذاكرتي إلى الستين سنة الماضية في حياتي، أي منذ شرعت أقرأ وألتفت إلى الصحف، أجد أن الأسلوب السهل المنير الذي وصلنا إليه في الكتابة بلغتنا العربية، لا يعود الفضل فيه إلى معلمي اللغة في المدارس، بل لا يعود الفضل فيه حتى إلى الكتاب «الأدباء» القدامى، وإنما الفضل في هذا الأسلوب يعود إلى الصحف.
ذلك أنها - لاضطرارها إلى السرعة في إيراد الخبر - احتاجت إلى أن تختار من الكلمات والعبارات ما تسهل كتابته وقراءته معا؛ إذ لم يكن يتسع الوقت للخبر أو المحرر أن ينظر بكلمات السجع أو المجاز أو أن يتبختر بالعبارات الموسيقية المزيفة التي كان يعتقد أنها فنية.
وربا كان خير من ألف بأسلوب عربي سهل في غير الصحافة هو قاسم أمين، وإن كنت أنا أعد مؤلفاته من الصحافة، إذ هي جميعها تعالج مشكلاتنا المصرية العصرية، يليه لطفي السيد في الأسلوب الدقيق المحكم.
وصحفنا تكتب هذه الأيام بلغة شعبية، ولو شئت أن أعين شخصا كان له فضل هذا التوجيه لقلت إنه محمد التابعي؛ فإنه هو الذي اخترع لنا «الخبر المقالي» أو «المقالة الخبرية» فاحتاج إلى أن يجعل الكتابة أقرب ما تكون إلى الكلام، فأحدث أسلوبا يغري بالقراءة، وزاد عدد القراء للصحف.
وليس معنى هذا أنها ابتذلت في أسلوبها وأخبارها حتى صارت عامية، وإنما هي جذبت بسهولة الأسلوب الكتابي الذي اتبعته وطريقة إيراد الخبر، والتنويع في وسائل الإمتاع الصحفي بالصورة الفوتوغرافية والصورة الكاريكاتورية، والعناية بالأخبار النائية، جذبت فريقا من القراء لم يكونوا يعنون قبل صدورها بالسياسة العالمة والأخبار الصحفية؛ فكانت لهم بمثابة المدرسة التي شغلتهم بثقافة جديدة ترفعهم عن اللهو الرخيص الذي كانوا يمارسونه حين لم يكونوا يجدون ما يجذب من الصحف.
وليس هذا نزولا إلى العامة وإنما هو رفع العاملة إلى مستوى الشعب. ونحن جميعا شعبيون، نطالب الحكومة بأن تكون شعبية، كما نطالب بتعليم الشعب كله، بل نطالب بأن يكون الشعب هو صاحب الكلمة العليا في تقرير السياسة الداخلية أو الخارجية.
ولذلك يجب علينا نحن الصحفيين أن نتحمل مسئولية تنوير الشعب، وأولى الوسائل لهذا التنوير أن نكتب بلغة يفهمها الشعب، لغة سهلة نبلغ بها المعنى العميق دون أن نحتاج إلى الغريب الحوشي من الكلمات التي تصد القارئ.
وقد كانت صحفنا - أيام اللواء والمؤيد - تكتب بلغة تعلو أحيانا على فهم أفراد الشعب، ولكن السرعة التي تطبع الصحافة بطابعها جعلت الكتاب كما قلنا يكتبون كما يتحدثون، فكان هناك اتجاه يقوى عاما بعد عام نحو أسلوب شعبي انتقل بعد ذلك من الصحافة إلى الأدب.
والصحفي العظيم - كما أحب أن أكرر القول - هو ذلك الذي يرفع الصحافة إلى الأدب؛ إذ إن الصحافة يمكن في اعتبارات عديدة أن تعد من الأدب، وهي واقعية شعبية بطبيعة أهدافها ووسائلها، ولا يكاد يوجد أديب في مصر لم يعمل في الاثنين: الأدب والصحافة.
ولكن كما أن عندنا أدباء غير شعبيين يحبون «الصعب» من الأسلوب، ويبحثون عن موضوع لدراستهم في مجتمعات نائية في التاريخ غير مجتمعنا، كذلك كان عندنا كتاب صحفيون يحاولون أن يكتبوا بأسلوب «صعب» وكأنهم ينظرون إلى الصحيفة كما لو كانت مقصورة على الخاصة دون الشعب.
وقد استطاع محررو الصحف أن يهتدوا إلى أسلوب شعبي، لا هو عامي ولا خاص، يفهمه جمهور الشعب ويغريه بالقراءة اليومية.
وهذا التوخي للسهولة هو أيضا الذي بعث إلى إيجاد الألوان المبسطة للعلوم والأدب والشئون النسوية، بل إن الأطفال أيضا قد وجدوا نصيبا في هذا التبسيط.
وهناك قاعدة يجب ألا ننساها، هي أننا نكتب وفق ما نشأنا عليه من اتجاه أخلاقي، وأيضا وفق الأحوال السيكلوجية التي نتكون بها ونسير في تياراتها، فإذا كنا من الشعب، نكتب للشعب، فإنه لا مفر من أن نكتب بلغته، ولكن ليس معنى هذا أننا نكتب بالعامية؛ لأن الكاتب فنان قبل كل شيء والعامية تخلو من الفن.
والكاتب الذي يلتزم أسلوب الجاحظ أو ابن المقفع من الكتاب القدامى يحيا في مناخ قديم؛ ولذلك أيضا تجد أن أهواءه وأغراضه تنأى عن الشعب، بل هو حين يؤلف كتابا يتخذ موضوعا من موضوعات القدماء التي لا تمت إلى الشعب، وهو ينعت هذه الموضوعات بأنها «ثقافة».
والثقافة عند هؤلاء الكتاب أن تهتم بثورة الخوارج على الخلفاء وتؤلف عنها، ولكن لا تهتم بثورة مصر ، بل ثوراتها، ولا تبالي أن تكتب عنها شيئا. وعندما تكتب عن الخوارج فإنك تتخذ الأسلوب الذي في هذا المناخ النائي عنا.
وقد كان هذا حال صحفنا قبل نحو ثلاثين سنة حين كنا نجد فيها أبحاثا ودراسات عن مشاكل تاريخية قديمة، أما مشاكلنا نحن فلم يكن هؤلاء الكتاب يعنون بها أقل عناية، بل كانوا حين يكلفون كتابة مقال افتتاحي، يتجهون في عناية خاصة إلى اتخاذ أسلوب قديم يتميزون به، كأنهم يأنفون لغة الشعب واهتمامات الشعب. •••
لقد قرأت اللواء والمؤيد وأنا طالب في المدارس الثانوية، وعرفت المقال يكتب مسهبا بلغة عكاظية في نحو خمسة أو ستة أعمدة، والخبر ينشر بلا عنوان، وأحداث الدنيا تنحى في زاوية تحت عنوان واحد وهو: تلغرافات خارجية. ولا تزيد على ربع عمود.
ثم جاءت ثورة 1919 فأكسبت الشباب أهدافا، وارتفعت بهم إلى معان جديدة من الفهم وبسطت أمامهم آفاقا، وظهرت صحف تغذوهم وتحاول إشباعهم بالصورة والخبر والمقال.
ولكن الصحف المصرية التي تعد السياسة موضوعها الأول اصطدمت بالسياسة، فلم تكن ترفع برأسها وتشهر أقلامها لمكافحة الاستعمار أو الاستبداد حتى كان المستعمرون والمستبدون يسددون إليها سهامهم القاتلة، وقتلوا عشرات من الجرائد اليومية والمجلات الأسبوعية، وما هو أن كانت الحكومات الماضية تعرف في إحدى هذه الصحف نزعة قومية أو تطرفا وطنيا حتى كانت تتعقبها هي ومحرريها إلى أن تقتلهم جميعا.
فقتلت جرائد الحزب الوطني كلها، وقتلت «الأخبار» التي كان يحررها الرجل الأمين أمين الرافعي، ولا أنسى أنه عطلت لي في سنة واحدة هي سنة 1930 اثنتا عشرة مجلة أسبوعية، وعطلت جرائد المرحوم عبد القادر حمزة جملة مرات، وأصدرت قوانين جعلت احتراف الصحافة يشبه احتراف الجريمة في نظر القضاء.
ومرت على مصر سنوات سود لم يكن يظهر فيها من الصحف سوى تلك التي كانت تنحني رءوس أصحابها ومحرريها، وكاد الصحفي المصري يلغى من الوجود؛ إذ هو متهم على الدوام بتهمة الوطنية.
ولكن رويدا رويدا تغيرت الدنيا، دنيا الصحافة في مصر، ورويدا رويدا رأينا شبابا جديدا يأخذ بألوان من النشاط الصحفي لم نعرف مثله قبل 1930 و1940، وحرث الأستاذ التابعي حقلا بالخبر المقالي أو المقال الخبري، وبالصورة الكاريكاتورية التي ليس لها عنوان، ولكنها تنطق بل تصرخ بالمعنى أو تطعن ضحيتها كما لو كانت سكينا، ثم جاء بعده، ونقل عنه، من زرعوا هذه الأرض المحروثة.
الفصل السابع
رذيلة صحفية: تملق الجماهير
يقرأ أفراد الجمهور الصحف كي يستنيروا بالأخبار ويسترشدوا بالمقالات ويستمتعوا بالصور والطرف، فالصحيفة إرشاد وتربية إمتاع.
ولكن إذا كانت الصحيفة تعمد إلى التضليل بدلا من الإرشاد فإن حقها في البقاء يسقط، ويجب أن تجد الصدود الذي يؤدي إلى سقوطها.
والصحافة في يد الكاتب الصحفي العظيم ترتفع إلى مقام الأدب، بحيث تهدف في أخبارها ومقالاتها وسائر وسائلها إلى الإنسانية، فلا تدعو إلى البغض، ولا تحرك حوافز الحرب، ولا تقول بتعصب عنصري أو ديني، ولا تغري القراء بمخاطبة غرائزهم السفلى.
ولكن هناك رذائل كثيرا ما يقع فيها الصحفي أو بالأحرى ينزلق إليها؛ فإنه - لحرصه على أن يصل إلى أكبر عدد من القراء - يميل بسليقته الصحفية إلى أن يقول ما يرضيهم ويتجنب ما يكرهون من الأخبار، بل هو قد يسرف في هذا الاتجاه حتى ليتملق الجماهير، فيطبخ الأخبار الكاذبة وينشرها كما لو كانت حقائق، وهنا الضرر العظيم.
وبكلمة أخرى نقول إن هذا الصحفي، بدلا من أن يربي الجماهير، ويرتفع بهم، ويصلح نفوسهم ويرشدهم، بدلا من هذا يعمد إلى تملقهم ويكذب عليهم ويضللهم.
وقد رأينا كثيرا من هذا التضليل في الصحف المصرية في السنوات القليلة الماضية، فإني ما زلت أذكر تلك الأضاليل التي كانت تنشر على القراء في صحف يومية كبيرة بشأن الحرب بين إيطاليا وإثيوبيا قبل الحرب الكبرى الثانية؛ فإن بعض الصحفيين أحسوا بأن جمهورنا يستنكر العدوان الإيطالي - أيام موسوليني - على هذه الدولة الصغيرة، وكان بالطبع يحزن لكل خبر يصدم إحساسه وحبه لإثيوبيا؛ وعندئذ شرعت بعض الصحف تغذو هذا الإحساس بأكاذيب مخترعة تقول فيها إن الإثيوبيين قد هزموا الإيطاليين، وإن عدد القتلى من الإيطاليين يعد بالمئات والألوف بينما عدد القتلى من الإثيوبيين لا يزيد على الآحاد والعشرات ، وكان القراء المساكين يصدقون هذا القول وينخدعون.
وبالطبع كان هناك من القراء من يعرف أن دولة عصرية، بل فاشية حربية، مثل إيطاليا لها من الطائرات والدبابات ووسائل النقل والقنابل والجنود المنظمين، لا يمكن أن تنهزم أمام دولة بدائية لا تزال تفهم الشجاعة والانتصار على أنهما يقتضيان المهارة في الفروسية، كما كانت الحال في إثيوبيا حوالي 1936، حتى ولو كانت إثيوبيا على حق وإيطاليا على باطل، ثم جاءت النهاية المحزنة بالهزيمة المنكرة التي أدهشت القراء الواهمين المخدوعين، وكان يجب على هذه الصحف التي تملقت الجماهير وخادعتها أن تصرح بالحقائق، وأن تنذر وتحذر وتوضح العبرة لنا من الهجوم الإيطالي على إثيوبيا، وأعظم العبر لنا في مصر من هذه الحرب أن الشجاعة والوطنية والفروسية والتضحية ليست لها قيمة كبيرة في الحروب العصرية، إزاء الاستعداد بالطائرات والدبابات والمدافع والأساطيل وإيجاد المصانع التي تصنع هذه الأسلحة والأعتدة، بحيث لا تحتاج الدولة المحاربة إلى أن «تتسول» وتتضرع في أسواق العالم كي تشتري ما تحتاج إليه منها، وقد تتعرض للرفض.
وحدث بعد ذلك شيء قريب من هذا، ولكنه كان أكبر خطورة علينا، ذلك أننا في عام 1948، عندما دفعنا فاروق المجرم إلى حرب فلسطين بلا أدنى استعداد، ودون أن يستشير حتى وزراء الدولة وقتئذ، ولا نذكر البرلمان، وعندما انهزمنا في هذه الحرب، بقيت الصحف توهم الجمهور أننا منتصرون، واتفقت على أن تصف إسرائيل بأنها الدولة «المزعومة»؛ أي إنها بدلا من أن تصارح الجمهور بالحقائق، وأن توضح لنا أننا انهزمنا لأننا كنا غير مستعدين للحرب، وأن فاروق وطغمته الفاسقة كانت تتجر بالأسلحة الفاسدة وتسلمها لأبنائنا فيقتلون، أصرت على أن توهم الجمهور بأننا انتصرنا.
أعلن فاروق الحرب على إسرائيل دون أن يستشير الوزراء أو البرلمان، وكان هذا الإجراء وحده يكفي لخلعه أو محاكمته والحكم عليه بالإعدام، فقد زج بنا هذا الوغد في حرب ونحن على غير استعداد، وإنما كنا على غير استعداد لأنه هو؛ أي فاروق وطغمته، كانوا يتجرون بشراء الأسلحة الفاسدة ويفسقون، وكانوا مطمئنين إلى هذا السلوك لأنهم لم يجدوا الصحفيين أو الكتاب الذين يجرءون على أن يقولوا لهم: قفوا. بل أكثر من ذلك، فإن فاروق وجد كتابا وأدباء يمدحونه ويرفعونه إلى السماء.
هذه الرذيلة، رذيلة الصحفي أو الكاتب حين يخدع الجمهور ويكذب عليه ويضلله، هي أسوأ الرذائل الصحفية والأدبية؛ لأن الصحافة تغدو عندئذ وسيلة لنشر الأوهام والجهالات بدلا من نشر المعارف والأخبار.
وقد عادت الصحف المصرية - وأعني بعضها - إلى مثل هذه الأكاذيب في معركة القنال، حين شرعنا نضيق على الإنجليز المحتلين حتى نضطرهم إلى الجلاء عن بلادنا، ولم نكن في حاجة إلى أن نخترع الأكاذيب؛ فإن الشعب أبدى من الشجاعة ما يتجاوز الوصف، ولو أن الإنجليز كانوا يقتلون منا عشرة أو مئة إزاء جندي إنجليزي واحد نقتله نحن لكان لنا الفخر والمجد، ولأننا كنا عزلا أو نكاد نكون كذلك إزاء قوات قد أعدت ودربت لسفك الدم في كل مكان في هذه الدنيا التي كابدت وما تزال تكابد كوارث الإنسانية في الإمبراطورية البريطانية.
فقد نشرت صحيفة يومية كبرى في 21 من نوفمبر من 1951، أن الفدائيين المصريين قتلوا 82 بريطانيا، وكانت كاذبة مضللة لأن جميع من قتلناهم في معركة القنال في ثلاثة شهور لم يزد على 11 جنديا.
وكتبت هذه الصحيفة نفسها في اليوم التالي، أي 22 نوفمبر، تقول إن الفدائيين المصريين قد دربوا الأفاعي على الهجوم على الإنجليز؛ بل دربوا القطط.
وكان هذا قمة التهتك الذي تبلغه صحيفة في التضليل بالجمهور، وهو لا يقل عما سبق أن ذكرته الصحف بشأن الجمل الذي فر من مجزر مصر القديمة، ومازال يعدو حتى وصل قصر عابدين يستغيث بفاروق فأغاثه. وأنشأ أحد «الشعراء» من أعضاء مجمع اللغة العربية قصيدة يشيد فيها بعظمة فاروق، ويذكر هذا الحادث دليلا ناصعا على هذه العظمة.
أي تضليل أكبر من هذا للجمهور المصري مما كتبه هؤلاء الصحفيون والأدباء؟
وأعجب من هذا كله أنه في الوقت الذي كان بعض الصحف يشيد بما يقوم به الفدائيون المصريون من ألوان الشجاعة والتضحية في مكافحة الجنود الإنجليز في القنال، كان وزير الداخلية فؤاد سراج الدين يلقي القبض عليهم وينقلهم إلى القاهرة.
لقد كان التضليل عظيما، ودفعنا ثمنه بعد ذلك غاليا، بل غاليا جدا، في يوم 26 يناير من 1952 عندما حرقت مدينة القاهرة.
الفصل الثامن
الصحافة المصرية في نصف قرن
أن أول وجداني بالصحافة حوالي 1897 أو بعد ذلك بقليل، فقد كان المؤيد واللواء يباعان ويقرأهما الوطنيون ويتحدثون عنهما، كما كان المقطم مقروءا من طبقة الموظفين المصريين، وكانوا يقرءونه كي يقفوا منه على أخبار الحكومة من مشروعات أو ترقيات أو تنقلات.
ولم يكن المؤيد واللواء من صحف الأخبار، إذ كان كلاهما يعتمد على المقالة، أما الخبر فكان له المحل الثاني، وكانت مقالة نارية تستفز وتستثير الجمهور بشأن الإنجليز والاستعمار، في حين كان المؤيد وقورا رزينا؛ ولذلك كان الإقبال على اللواء عظيما من الشبان والطلبة.
وربما كان أعظم ما تتهم به الصحف المصرية في السنين العشر الأولى من هذا القرن تقصيرها في نشر الأخبار الخارجية، بحيث كان القراء يجهلون التطورات العالمية ويعجزون عن وضع مشكلة الاستقلال المصرية في أبعادها العالمية الصحيحة.
وإني لأذكر أني كلفت التحرير في اللواء في سنة 1909 ولا أكاد أذكر أنه كان يعاوننا وقتئذ مخبر؛ إذ كنا كلنا نكتب المقالات، وعلى كل حال إذا كان هناك في ذلك الوقت مخبرون فإن غيابهم عن ذاكرتي يدل على أنهم كانوا في مكانة ثانوية لا يلتفت إليهم كثيرا.
كما أننا لم نكن نعنى بالأخبار الخارجية؛ فإن شركة روتر كانت تزودنا ببعض هذه الأخبار فننشر منها نحو ثلث أو نصف عمود، ولا كنا نعنى برسائل يومية مسهبة من طنطا أو كفر الزيات أو أسيوط.
وظهرت في السنين الأولى من هذا القرن مجلة فكاهية تدعى «حمارة منيتي»، وكان موضوعها الأساسي سب الشيخ محمد عبده؛ لأنه كان على خلاف مع الخديو عباس باشا، ولكن لم تكن بها صورة كاريكاتورية واحدة، وبقينا أكثر من خمس عشرة سنة بلا مجلة كاريكاتورية حتى أخرج المرحوم سليمان فوزي مجلة «الكشكول»، وكان موضوعها الأساسي سب سعد زغلول وكبار الوفديين، وهي أولى المجلات التي صورت بالألوان، ولكن إخراجها لم يكن متقنا ذلك الإتقان الذي عهدناه من مجلاتنا المصورة في السنوات العشر الأخيرة.
وفي السنوات الخمس الأولى من هذا القرن كانت الآفاق السياسية والاجتماعية في المجتمع المصري مقصورة على التيارات الجديدة التي أوجدها الشيخ محمد عبده في ضرورة تعميم الروح العصري في الأزهر وفي دعوة قاسم أمين إلى تحرير المرأة وإلغاء الحجاب، ثم في تنبيه الرأي العام إلى مكافحة الإنجليز بقلم مصطفى كامل. ولم يكن القارئ يجد موضوعا في الصحف يكاد يخرج عن الاهتمامات التي كانت تهم هؤلاء الثلاثة، وكان لنا الحق في ذلك لأن هؤلاء الثلاثة مسوا النفس المصرية في أعماقها وسكبوا الضوء على مشكلاتها الأساسية.
ولكن الوجدان السياسي في ذلك الوقت كان ناقصا جدا؛ فإن كلا من مصطفى كامل صاحب اللواء وعلي يوسف صاحب المؤيد كان يفهم الاستقلال على أنه إخراج الإنجليز مع البقاء داخل السلطنة العثمانية.
وكانت رسالة الآستانة أي إستامبول تنشر كل يوم تقريبا في المؤيد أو اللواء، بل إن المؤيد حين أنشئ البرلمان التركي تساءل: لماذا لا نرسل نوابا مصريين إلى هذا البرلمان؟ وكان هذا حوالي سنة 1907. وكان المقطم نفسه ينشر كل يوم مناقشات البرلمان التركي ويملأ بها صفحته الأولى، وكان لا بد إذن من أن يصحح هذا الوجدان السياسي بحيث تتنزه الدعوة إلى الاستقلال من هذا الانحراف نحو الحماية التركية؛ ولذلك وجد أحمد لطفي السيد إقبالا عظيما من الجمهور المستنير عندما دعا إلى أن تكون مصر للمصريين لا للأتراك ولا للإنجليز، ومع أن هذه الدعوة تكاد تكون في وضوحها وصحتها تافهة لا تستحق مناقشة فإنها وجدت مكافحة من كثيرين من القراء الذين لم يسمعوا بها قبل ذلك والذين تعودوا على أن مصر جزء من السلطنة العثمانية اغتصبه الإنجليز.
وكان ظهور الجريدة التي أنشأها أحمد لطفي السيد للدفاع عن هذه البديهة في سنة 1907، وقد ربت الرأي العام تربية جديدة. وحاولت أن توجد في مصر اتجاها في السياسة والاجتماع يشبه ذلك الاتجاه الذي قام به الحريون في أوروبا في القرن التاسع عشر، أي الحكم الدستوري ونشر التعليم العام وحرية الضمير وسفور المرأة، وهذا المذهب هو وسط بين المحافظين والاشتراكيين.
ولكن «الجريدة» ماتت في سنة 1915 ليس لأنها كان ينقصها القراء، ولكن لأن الأحكام العرفية جعلت بقاءها محالا، وهنا يجب أن أقول إنه من سنة 1914 إلى الآن خضعت الصحف المصرية للرقابة التي كانت تمنع نشر سطر واحد غير مصدق عليه، ست عشرة سنة كانت فيها سجينة، بل كان الذكاء المصري فيها مقيدا، وذلك في أثناء الحرب الكبرى الأولى والحرب الكبرى الثانية اللتين خيمت فيهما الأحكام العرفية على بلادنا.
وبالطبع لا يمكن أن ينتظر للصحافة تطور أو ارتقاء وهي خاضعة للرقابة قد أصلت على رأسها سيف الأحكام العرفية؛ ولذلك يجب أن تقتطع هذه السنين من عمرها كأنها لم تعش فيها، بل يجب أن تقتطع من عمرنا نحن رجال الذهن، وفي الحرب الأولى الكبرى ظهرت أولى المجلات المصورة، وهي «اللطائف» للأستاذ إسكندر مكاريوس، وربما كانت هي الأولى في اتخاذ الفن الصحفي وحده أساسا لنجاح الصحيفة؛ إذ لم تتخذ دعاية معينة بل كان كل اهتمامها محصورا في نشر الأخبار والمقالات المصورة.
وأدخل أصحاب «الهلال» آلات الروتوغرافور لأول مرة في مصر حوالي 1923، فأحدثوا بذلك نهضة بل وثبة في الطباعة أدت إلى نهضة عامة في الصحافة؛ فإن الارتقاء الفني شرع يجذب إليه جميع الصحفيين، وكان لهذا أثر كبير في توجيه الصحفي وتكوين ثقافته، فإن المقالة غابت عن أنظار القراء وأخذ مكانها الخبر الساذج أو الخبر المصور، بل إن ألوف القراء الذين جذبتهم هذه المجلات المصورة الجديدة لم يكونوا قبل ذلك من قراء الصحف، ولم تكن لهم ألفة بالمناقشات الصحفية والخصومات السياسية؛ ولذلك قنعوا من المجلة المصورة بالصور والتافه من الأخبار، وظهرت عقب ذلك صحف الطرائف التي تنشر خبر الذي يعض الكلب بدلا من الكلب الذي يعض الرجل.
وهذا عامل آخر لا نستطيع إهماله فإن الدور السينمائية التي جذبت ألوف الأفراد من الشعب، أميين وعاميين وقارئين، هذه الدور بما لها من قوة مالية بالإعلان في الصحف ومن إغراء جنسي لا يمكن التغاضي عنه، هذه الدور السينيمائية قد أثرت في الصحف تطورا وارتقاء، وقد يكون هناك من يقول عكس ذلك.
فإن الصحف شرعت تجاري الفن السينمائي بنشر الصور الرائعة للممثلات والتحدث عن التمثيل، وليس شيء يساعد على نشر المجلة مثل صورة بالروتوغرافور لإحدى الممثلات المحبوبات التي تجمع بين جمال الوجه وبراعة التمثيل.
والحق أن اعتماد الصحف على الصورة الجميلة قد جعل الكاتب العظيم في المكانة الثانوية، بل أصبح الشاب الذي يرشح نفسه للصحافة ويبغي احترامها يقنع بدراسة موجزة ولا يتعب نفسه بالعمق الثقافي؛ لأنه يعرف أن صاحب المجلة لن يطلبه ولن يكافئه بأكبر الأجر لأنه مثقف وإنما لأنه قادر على جذب القراء وبيع أكبر عدد ممكن من المجلة باختيار الصور المشرقة والأخبار المقلقلة.
وهنا أستطيع أن أذكر - للمقارنة - أن العتبة الأولى التي وضعت قدمي عليها كي أحترف الصحافة كانت مقالا فلسفيا في المقتطف عن «نيتشه وابن الإنسان» في سنة 1909، وإني واثق أن هناك عشرات من الصحفيين في المجلات الأسبوعية المصورة، بل من رؤساء التحرير لهذه المجلات، لا يدرون شيئا عن هذا الموضوع الذي كتبت عنه قبل أربعين سنة وجعلته مدخلا في الصحافة المصرية.
وليس شك في أن الارتقاء الفني في الطباعة بالروتوغرافور قد أحدث إهمالا إلى حد بعيد للتحرير، وقد تقهقرت مجلة المقتطف، وتغير الهلال من مجلة جديدة لا تبالي أن يبلغ المقال فيها خمس عشرة صفحة من القطع الكبير إلى مجلة مصورة لا يزيد المقال فيها على ثلاث أو أربع صفحات، وماتت مجلة المصري، ومن قبل ذلك ماتت المجلة الجديدة.
وكل هذا لأن هذا الاتجاه الذي ذكرت بشأن الارتقاء الفني قد جعل العناية بالتحرير الذي لا يتصل بالصورة معدوم القيمة، كما أن المقالة قد ألغيت أو أوشكت على الإلغاء من الميدان الصحفي كله، على أنه تلقاء هذا التقهقر في التحرير قد تحققت ميزات جديدة للصحافة المصرية غير ما أشرت إليه من الارتقاء الفني في الطبع، فمن ذلك مثلا العناية الكبيرة بأنباء العالم، والفضل في ذلك للحربين الأخيرتين؛ فإنهما أثارتا الاستطلاع وأصبحت أخبارهما مقدمة على الأخبار الداخلية، وثبتت من ذلك عادة جديدة عند القراء هي الاهتمام بأخبار العالم، وأصبح الاستقلال أو رقينا السياسي والاجتماعي ينظر إليهما في ضوء هذه الأخبار العالمية، ولم ينقص هذا من روح الكفاح للاستقلال، ولكن الصحيفة القديرة مثل اللواء أو المقطم أو المقطم أو المؤيد قبل سنة 1910 كانت تعد قروية محلية بالمقارنة إلى جرائدنا اليومية الكبرى هذه الأيام.
للأشخاص منطقهم الذي يحكمون به على الأشياء والناس، ولكن للحوادث منطقها الذي يتغلب على منطق الأشخاص، هذا هو ما يجب أن نذكره حين نتأمل صحافتنا في الخمسين أو الستين سنة الماضية، فإن الصحفي قد ينشئ صحيفة يومية أو أسبوعية، وينوي أحسن النيات، ويعتقد أنه سيجعلها الجريدة أو المجلة المثلى، ولكن لا يكاد ينتهي العام الأول من صدورها حتى يجد أن منطق البيع (أي القراء) ومنطق الإعلانات (أي المتاجر) يتغلبان على منطقة هو، ولن يستطيع الصمود إزاء الخسارة إذا رفض الخضوع لهذين المنطقين الآخرين.
ثم هناك الطبقة الجديدة من القراء التي لم تتعلم إلا في المدرس الابتدائية والإلزامية، كيف نغريها بالقراءة؟ إن وسيلة ذلك هي الخبر والصورة وليس المقال والأرقام، إني عندما أقارن بين اللواء (الذي عملت فيه محررا سنة 1910) والمؤيد والجريدة، وبين جرائدنا الآن، أحس الفارق العظيم في ارتقاء صحفنا الحاضرة على الرغم من كل ما توصف به من التجارية والمنفعية.
وأعظم ما خدمت به جرائدنا الحاضرة جمهور الشعب عنايتها بالخبر ثم ربطها الخبر بالمقال.
فالمقال خبري والخبر مقالي، وبهذا العمل بعثت بين القراء تنبها جديدا ووعيا للحوادث ما كان ليعرفه جمهورنا قبل نصف قرن، واستنار الشعب بذلك.
وظني أن هذا الاتجاه سيزداد قوة واندفاعا عندما نجد قبل عشر سنوات نحو نصف مليون قارئ للجرائد والمجلات في مصر؛ لأن أربعة أخماس من هؤلاء سيكون من خريجي المدارس الابتدائية الذين يحتاجون إلى الصورة المغرية والخبر والقصير والمقال الموجز المثير.
وعندي أن الصحفي العظيم يجب أن يعرف لغتين أجنبيتين، وأن يزور نحو عشرة أقطار كبرى ويمكث فيها السنوات للتعلم ولمراسلة الصحف، وأن يتعلم الآداب والعلم والسياسة كما يتعلم كتابة الخبر واستقصاء الخبر، وتحسن صحفنا كل الإحسان إذا بعثت بكتابها ومخبريها كل منهم نحو ستة شهور أو سنة كاملة في قطر أجنبي، بل لماذا لا تتبادل الصحف كتابها ومخبريها كما تتبادل الجامعات؟
اعتقادي أن الفكرة حسنة ولكننا لم نرتفع إليها بعد.
الفصل التاسع
الكفاح في صحيفة اللواء
أكاد أقول إن كل صحيفة ليس لها كفاح معين تفقد حقها في البقاء، ولست أنكر أن للخبر - محض الخبز بلا توجيه - قيمة تربوية كبيرة، ولكن شرور الدنيا كثيرة، والجريدة التي تقنع بالوقوف منها موقف المحايدة المتفرج، والتي تقنع بإيراد الأخبار فحسب، هذه الجريدة توحي إلى قرائها حيادا ذهنيا وفلسفيا يؤذيهم في حياتهم ويجعلها منفصلين من شئون الدنيا ومشكلاتها.
فما بالك إذن بصحافة تحايد وتتفرج على مصر وأحداثها في سني كوارثها، منذ شرع الإنجليز يفتكون بروحها وثروتها، ومنذ شرع رجال الخديو الخائن توفيق ينتقمون من الوطنيين الذين انضموا إلى زعيم الشعب أحمد عرابي!
وكيف يستطيع مصري أن يحايد في شأن الاستقلال، أو وثبة سنة 1925، أو وثبة إسماعيل صدقي سنة 1930، على الدستور؟ إن معنى الحياد هنا هو الرضا بالاستبداد.
والذي نراه في تاريخ الصحافة في مصر أن جميع الصحف التي كافحت المستبدين والمستعمرين ماتت لأنها لم تقو على الحياة إزاء الضغط والظلم والتشريد وسائر المظالم التي عومل بها أصحابها.
وأعظم مثال للصحيفة المكافحة في بلادنا هو اللواء الذي أسسه مصطفى كامل وأشرف على تحريره، وكان اللواء صحيفة ودعاية وكفاحا، اندغمت حياة صاحبه فيه، وكانت حياة الكفاح لاستقلال الوطن، وكان كفاحا مرا انتهي بموت مصطفى كامل وهو دون الثانية والثلاثين، وكان موته أقرب إلى القتل العنيف منه إلى الموت الهادئ، لفرط ما كابد من مرارة هذا الكفاح.
ظهر اللواء في 1900 فكان منبرا نقرأ فيه كل يوم خطبة بقلم مصطفى كامل بشأن الاستقلال، ولم يكن الشعب يقرأ هذه الخطبة اليومية، وإنما كان يتلقنها، ويتحفظ معانيها، ويتأمل مستقبله إزاء هذه المعاني، فكان منها بعث الوعي الوطني.
كانت صحيفة اللواء تحث الشعب على المطالبة بالاستقلال، وكانت أيضا تطالب بالإصلاح داخل البلاد؟ انظر إلى ما يقول في عدد 16 نوفمبر من 1940 بشأن الحكم الدستوري:
وعندي أن هذه الأدوار المختلفة والأدواء المتنوعة دالة كلها على شدة حاجة هذه البلاد إلى مجلس نيابي تكون له السلطة التشريعية الكبرى، فلا يسن قانون بغير إرادته، ولا تحور مادة إلا بمشيئته، ولا يزعزع نظام بغير أمره، ولا تعلو كلمة على كلمته، وإلا فإن بقاء السلطة المطلقة في يد رجل واحد سواء كان مصريا أو أجنبيا يضر بالبلاد كثيرا ويجر عليها الوبال.
وكتب تحت عنوان «إنشاء مجلس نيابي» في عدد 9 مارس سنة 1904 من اللواء ما يأتي:
لعل قراء اللواء وغيرهم من أفراد الأمة المصرية يذكرون ما قلناه من فوق المنابر وكتبناه في هذه الجريدة وغيرها عن وجوب إنشاء مجلس نيابي منذ عشر سنوات كاملات، ويسرهم كما سرنا أن هذا المطلب العزيز صار على ألسنة الكثيرين من أهل القطر، لأنه الأنشودة التي يجب أن يترنم بها المصريون بعد طلب الاستقلال، وسواء كان سابقا أو لاحقا لتخلص البلاد من رق الاحتلال؛ فإنه الضمانة الوحيدة والكفالة الصحيحة لسلامة القوانين والحرية الخاصة والعامة.
إلى أن قال:
ليس للاحتلال مصلحة في إيجاد مجلس نيابي لهذه البلاد، ولكن صوت الأمة يعلو على صوته إذا تمسكت به ودعت إليه وطالبت وجاهدت بقوة الرأي والفكر والثبات التي هي أكبر القوى الفعالة في حياة الأمم، فلتفعل؛ فإنما هي تخطو بالوصول إليه أكبر خطوة في طريق الاستقلال.
وكانت الدعوة إلى الحكم النيابي - مع احتلال الانجليز لبلادنا - لا تنقص في قيمتها عن الدعوة إلى الاستقلال؛ ولذلك وجدت المقاومة من المستعمرين الإنجليز ومن المستبدين المصريين بقيادة الخديو.
وفي 1904 عقد ما يسمى «الاتفاق الودي» بين بريطانيا وفرنسا: الأولى تقنع بسرقة مصر، والثانية تقنع بسرقة مراكش، ولا تتدخل إحداهما في شأن ما تسرقه الأخرى من مصر أو مراكش. فكتبت اللواء مئات المقالات لتنبيه الشعب إلى أن ينهض لمكافحة هذا الاتفاق. وفي 18 أبريل كتبت اللواء هذه الكلمات التالية التي تعد مثالا لغيرها، فخاطبت الشعب قائلة:
انظر إلى الشعوب التي أصابها ما أصاب شعبك، تجد البولوني وقد مزق وطنه وعلت فيه كلمة دول ثلاث، يجد ويعمل مفكرا كل يوم بل كل لحظة «بولونيا» يذكر تاريخها ويبكي أيامها الخالية، ويربي ابنه على حبها والتمسك بحقوقها، والفنلندي وقد لبس هو وبقية أفراد أمته ثياب الحداد يوم قررت روسيا ضم جيش فنلندا لجيشها، وهو محو بقية استقلال هذه الأمة، والأيرلندي وقد عارض إنجلترا في ضغطها على بلاده وسلبها لحقوقه، واستمر يعارض ويجاهد حتى حملها على تجريد اللوردات عن أملاكهم بثمن بخس ورد الأراضي الأيرلندية إلى أصحابها الأصليين.
وانظر إلى غيرهم وغيرهم، لتعلم أن الأمم، كبيرة كانت أو صغيرة، حاكمة أو محكومة، لا تسمو فيها الأخلاق والصفات، ولا ينشأ بينها رجال الفكر العالي والعمل الكبير إلا بالشعور الوطني؛ فكل عامل على إطفاء نوره محارب لأمته وقومه وذويه، وكل داع إليه مجد في سبيل الحياة القومية الصحيحة والرقي الخالد.
وتنبه مصطفى كامل إلى سوء التعليم وفساد توجيهه للشباب، ففكر في إنشاء جامعة مستقلة عن الحكومة، وكتب في اللواء بتاريخ 26 أكتوبر من 1904 مقالا فيه:
مما لا يرتاب فيه إنسان أن الأمة المصرية أدركت في الزمان حقيقة المركز الذي يجب أن يكون لها بين الأمم، وأبلغ الأدلة على ذلك نهضتها في مسألة التعليم، وقيام عظمائها وكبرائها وأغنيائها بفتح المدارس وتأسيس دور للعلم بأموالهم ومجهوداتهم، ولكن قد آن لهم أن يفكروا في الوقت الحاضر في عمل جديد، الأمة في أشد الحاجة إليه، ألا وهو إنشاء جامعة للأمة بأموال الأمة.
وجاءت حادثة دنشواي 1906 فهبت صحيفة اللواء تناشد الشعب أن يتنبه لهذه المأساة، ولم يكتف عندئذ مصطفى كامل الصحفي المكافح الأول في مصر بجريدة اللواء، بل سافر إلى أوروبا وجعل يخطب وينبه الإنجليز والفرنسيين إلى فضائح الحكم البريطاني في مصر، وينشر عليهم التفاصيل المسهبة عن التوحش الذي عومل به سكان دنشواي.
وكان من أثر هذه الحملات الصحفية والخطابية لمصطفى كامل أن تنبه الشعب إلى وعي وطني قوي لم يجد الإنجليز إزاءه إلا أن يقيلوا كرومر المعتمد البريطاني في القاهرة، فأقيل في صورة استقالة.
إن حياة جريدة اللواء هي حياة الشرف والتضحية لخدمة الشعب المصري، بل هي أعظم مثال للصحيفة الهادفة المكافحة.
الفصل العاشر
الكفاح في صحيفة الجريدة
لم يكن مفر من أن تكون صحفنا الأولى - حين كنا نكافح الاستعمار - شخصية؛ إذ لم نكن ننشد في الصحيفة أخبارا أو فنونا في الطبع والتصوير، أو دروسا سياسية عن شئون العالم، أو شرحا للآداب أو العلوم، وإنما كنا ننشد شيئا واحدا أصيلا، هو تحرير بلادنا من المستعمر، وما عدا ذلك فقيمته ثانوية.
وكان يمكن بالطبع أن تشمل جرائدنا الأولى كل ما تحتويه الصحف الراقية، ولكن الاستعمار لم يترك لصحف الكفاح مجالا للرقي، إذ كان يتعقبها بالقضايا والمعاكسات الاقتصادية والإدارية حتى تفلس، وقد أنشئ «قلم المطبوعات» لهذه الغاية المفردة.
كنا نقرأ اللواء لشخصية الزعيم الشاب مصطفى كامل، وكنا نقرأ المؤيد لشخصية علي يوسف، وكنا نقرأ الجريدة لشخصية أحمد لطفي السيد.
وكانت «الجريدة» تكافح في ثلاث جبهات فيما بين 1906 و1915:
الجبهة الأولى:
هي مقاومة الاستعمار البريطاني.
الجبهة الثانية:
هي مكافحة الخديو عباس.
الجبهة الثالثة: - وهنا أدت الجريدة رسالتها الأولى - هي مقاومة الرجعية الاجتماعية.
وكان لطفي السيد رجلا قد صيغ عقله في القالب الفلسفي، يفكر في إحاطة، وينظر النظرة الاستيعابية لشئون مصر. وكثيرا ما كانت كلماته تحريرا للنفوس من ظلام القرون الماضية، وكان مع جراءته معتدلا في لهجته؛ ولذلك وجد الاحترام أكثر مما وجد الغضب من خصومه.
والاحترام هو الكلمة اللائقة لإحساس الجمهور نحوه؛ فإنه لم يجد الحب الذي وجده مصطفى كامل حين كان يخاطب قلوبنا ويثير عواطفنا الحامية، ولكنه - أي لطفي السيد - وجد الاحترام لأنه كان يخاطب عقولنا الباردة.
وليس بين الصحفيين المصريين من جمعت مقالاته بالعناية التي جمعت وطبعت بها مقالات لطفي السيد في الجريدة؛ وذلك لأنها كتبت بلهجة الأديب وتفكير الفيلسوف ورزانة السياسي وحذر المصلح الاجتماعي.
وهأنذا أنقل نماذج من تفكير لطفي السيد وتعبيره عن بعض شئوننا السياسية والاجتماعية، فهو يقول عن عرابي:
ولولا عرابي لم يكن الدستور؛ فالدستور المصري من عمله ومن صنع يده ومن آثار جرأته، طلبه عرابي لا بوصف أنه عسكري ثائر، ولكن بوصف أنه وكيل وكلته الأمة في ذلك، فإن عريضة طلب الدستور كانت ممضاة من آلاف من وجهاء الأمة ومشايخها، فأما كون القوة العسكرية هي التي كانت الآلة لتنفيذ إرادة الأمة في ميدان عابدين، فذلك إن لم يكن مشروعا قانونيا فإنه مشروع بتقاليد الأمم، لأنه هكذا جرى في كل بلد من البلاد، وكان القائد للحركة الدستورية في كل بلد يحمل على الأكتاف ويهتف باسمه في الشوارع والنوادي والمجالس، ويعتبر أكبر بطل من الأبطال، فعرابي حقق آمال الأمة بالدستور ولم يرتكب في ذلك جريمة، ولم يسفك دما؛ بل كانت الحركة في حقيقتها سلاما لابسا كسوة حربية.
ولا يجوز لنا أن نغمط حق الرجال في إنالتنا الدستور، بل يجب علينا أن نردد له شكر آبائنا يوم صدر قانون الانتخاب وقانون مجلس النواب، فإن كانوا بنا لم يستطيعوا حفظ مراكزهم، أو إذا كانت إنجلترا أغلقت المجلس وألغت قانونه يوم دخولها، فمما لا شك أن ذلك ليس من خطأ عرابي ولا من ذنبه، ومع ذلك إذا كان عرابي في أخريات الأمر أو في عهد الثورة لم يحترم استقلال المجلس وضغطه بقوة السيف، فذلك عمل آخر يحسب عليه بعد أن يحسب له الدستور.
وهو يكتب عن المرأة المصرية حوالي 1910 فيقول في شأن الحجاب والزواج:
تخطب السيدة المصونة، والجوهرة المكنونة، على الطريقة التي نعرفها جميعا لعبة في علبة، لا تشترط فيها إلا أن تروي عنها السيدات المكنونات أيضا ما شئن من الجمال الذي لا يعرفن له معنى إلا السمن والبياض، والأدب الذي لا يعرفن له صورة إلا غض الطرف ووضع اليدين بانتظام على الركبتين كتماثيل سقارة، ثم تنقل هذه الشابة التي عقد عقدها إلى بيت زوجها كما تنقل البضاعة التي حصل اتفاق المتعاقدين عليها عقدا عاما، ليس فيه شرط ولا خيار عيب ولا خيار رؤية، وكان الأزواج في هذه الحال عمي يحبون بالسماع، ويختارون بالسماع، ويعولون في سعادتهم الزوجية على السماع، قد تكون الصدفة سعيدة فيحصل كلا الزوجين على ما كان يحب، ولكن الصدفة أبعد جدا من أن تصلح نظاما عمليا للروابط الاجتماعية، فإنها تسعد مرة، وتخبث مرارا.
إن هذه السيدة كانت مكنونة في الحجب في دار أبيها، مكنونة في بيت زوجها، وجهها عورة يجب ستره، وصوتها عورة يجب كتمانه، وملكاتها عورة يجب خنقها تحت الحجاب، واسمها عورة، وكلها كذلك. ثم يطلب منها بعد ذلك أن تكون إنسانا حرا تام الشخصية، عليه للاجتماع أثقل الواجبات، وهو واجب تربية البنين والبنات.
يبين لبعض الذين يأخذون بظواهر الأشياء أن السيدة المحجوبة هي موضوع الاحترام والإجلال، أو في نظر أبيها وزوجها أكثر احتراما ورعاية من تلك الفلاحة التي لا حجاب عليها، ولكن ذلك خطأ محض؛ فان الفلاحة ملحوظ فيها أنها إنسان أمين على نفسه، أي إنسان تام الخلقة، له من الحرية ما وهب الله لكل مخلوق، أما السيدة أو الهانم فإنه ملحوظ فيها أنها ليست أمينة على نفسها، لا قوام لها بغير المراقبة الشديدة، أو لا وجود لها إلا بصفتها متعلقة بإنسان آخر، هو وليها أو زوجها.
وهو يتحدث عن اللغة العربية فيقول:
ولقد نتج من ذلك أن علماءنا الذين لا يعرفون العربية الصحيحة قد تقطعت بهم أسباب التأليف بلغتنا، وعدم وسائل ترجمة العلوم المختلفة من اللغة الأجنبية التي تعلموا العلم بها.
ومن نوابغنا في العلم من كتب آراءه بالفرنساوية دون العربية، ومن محامينا الفصحاء من إذا جادلته في مسالة قانونية استسهل أن يخرج لك كثيرا من المعاني لابسة صورتها الفرنساوية بألفاظها الفرنساوية، كأن المعنى قار في ذهنه كذلك.
لهذا الاعتبار دعتنا حاجة البيان إلى أن نفكر في غرض مزدوج هو الكلام في جعل اللغة العربية لغة العلم الحديث في القرن الحديث، وجعلها فوق ذلك حية متداولة على الألسن، مستعملة يوميا في الخطب والمرافعات وأحاديث السمر، بل في مساومة السلع في الأسواق.
إننا ندع إلى جانب ما يتهموننا به من حب القضاء على اللغة العربية، وما يدعون علينا من أننا نريد إحلال اللغة المريضة محل اللغة الصحيحة ، ندع ذلك إلى جانب، ونرجو خصومنا أن يرجعوا النظر فيما كتبناه في جميع فصولنا الماضية في هذا الموضوع ونبين من جديد هذا الغرض المزدوج.
اللغة العربية لا تكون لغة العلم الا إذا كانت هي لغة التعليم واشتملت على موسوعات العلوم العصرية المختلفة، وقد كان الطريق العادي القريب لذلك هو الترجمة، كذلك بدأت نهضتنا العصرية، ولقد قابلت أحد الذين يشتغلون بالترجمة قبل أن أكتب أول مقالة (في اللغة) وسألته عن حاله، فأجابني: تلك حال لا تسر، وصعوبة تكاد لا تتخطى في ترجمة العلوم إلى اللغة العربية.
قلت: لا بأس عليك، إن في اللغة العربية كلمات كثيرة، فاستخدم منها ما شئت لما شئت من المسميات التي ليس لها في القاموس أسماء، استخدم بعلاقة النسب قال: فإن لم أجد؟ قلت له: انحت اسما من وظيفة المسمى. قال: فإن لم أستطع. قلت: ما عليك إلا أن تثبت الاسم الإفرنجي في العربية كما هو في اللاتينية أو اليونانية مع المحافظة على موازين اللغة بقدر المستطاع. •••
أني أعزو كثيرا من تربيتي الصحفية إلى لطفي السيد، فقد كنت أوالي قراءة مقالاته سواء وأنا في مصر أو في إنجلترا، وكانت لي بمثابة الكشف الذهني لمعاني السياسة الوطنية في مصر؛ ذلك أن المقطم كانت تؤيد سياسة الإنجليز تأييدا تاما، وكانت الأهرام تؤيد سياسة فرنسا وتعارض السياسة البريطانية، وكانت اللواء والمؤيد كلتاهما تعارض الاستعمار ولكن مع الزعم بأن مصر جزء من الدولة «العلية» أي العثمانية.
وكنت أجد حرجا في هذا الموقف السياسي، ولم أكن على نضج وفهم بحيث أفهم أن مصطفى كامل باعث الوطنية المصرية إنما كان يستند إلى الدولة العثمانية توسلا وحيلة فقط لمكافحة الاستعمار البريطاني، كما اتضح ذلك في الشهرين الأخيرين قبل وفاته، حين حمله ضميره على أن يصارح الأمة، فكتب يقول وكرر القول بأن مصر نهب لبريطانيا وتركيا معا، وعارضته المؤيد ووبخته بقولها: إنه يكتب كما لو كان عرابي.
وكان ظهور الجريدة بقيادة لطفي السيد انفصالا صريحا من هذه الخطة التي اتبعتها اللواء والمؤيد؛ فإنها - في صراحة لا تشوبها شبهة - قالت: إن مصر للمصريين وليست لتركيا أو بريطانيا.
ومع أن هذا المنطق واضح مقبول في أيامنا فإنه لم يكن كذلك فيما بين 1906 و1916؛ ولذلك وجد لطفي السيد معارضة غير صغيرة، ليس من الصحف فقط، بل من الشعب أيضا، ولكنه وجد تأييدا تاما من الطبقة المثقفة، كما وجد مثل هذا التأييد من الأقباط الذين لم يكونوا يفهمون معنى لاستقلال ندعو إليه تكون فيه السلطة المشرفة على البلاد سلطة الأتراك.
وهنا فضل لا ينسى إلى جنب أفضال كثيرة للطفي السيد على الصحافة المصرية؛ إذ ليس شك أنه المجدد الأول في الوطنية كما هو المجدد الأول في الصحافة المصرية.
الفصل الحادي عشر
كفاحي في الصحافة
سأكتب هذا الفصل لا على أني رجل خطير في الصحافة المصرية، بل للتمثيل على عدد كبير من الصحفيين الذين هدفوا من الصحافة إلى الكفاح، فخدموا الشعب وعودوه الفكرة والأسلوب والهدف في مكافحة الاستعمار الأجنبي والاستبداد الداخلي. وإذا كنت أكتب عن نفسي بدلا من أن أكتب عنهم فلأني أعرف نفسي أكثر، وليس لأني خدمت أكثر.
في 1914 أنشأت أولى المجلات الأسبوعية في مصر، وهي مجلة «المستقبل»، وكنت في بداية العقد الثالث من عمري قد أسكرتني الحضارة الأوروبية كما شاهدتها واختبرتها في عواصم أوروبا، فدعوت - في وجه المعارضة الاجتماعية قبل المعارضة الحكومية - إلى الأخذ بالآراء العصرية والحريات العصرية، وعطلت مجلة المستقبل في بداية الحرب الكبرى الأولى.
ثم عملت محررا في مجلات دار الهلال وجريدة البلاغ، وكانت دعوتي - كما هي الآن - الأخذ بالعلوم العصرية والصناعات العصرية، كما يتضح ذلك من الكتب التي ألفتها فيما بين 1924 و1930 مثل: «مختارات سلامة موسى» و«نظرية التطور وأصل الإنسان» و«اليوم والغد» و«العقل الباطن» إلخ. وجميعا تصطبغ بالصبغة العلمية وتهدف إلى التغير الفكري، كما أن معظمها كان قد نشر مقالات مستقلة في الجرائد والمجلات التي عملت فيها.
وفي أواخر 1930 أخرجت مجلتين، إحداهما شهرية وهي «المجلة الجديدة»، والأخرى أسبوعية وهي «المصري»، ولم تكد تظهر الأعداد الأولى حتى كانت الانقلابات التي دبرها إسماعيل صدقي بشأن إلغاء الدستور بإملاء فؤاد الملك وقتئذ، وكان هذا الأخير - لجهله وفساد ذهنه - يتعقد أن من حقه أن يحكم مصر حكما منفردا لا شأن للأمة فيه.
وكان وراء هذه الحركة الاستعمار الذي أراد معاقبة الوفد الهيئة الوطنية المتماسكة الوحيدة وقتئذ لأنه رفض عقد معاهدة ترسخ أقدام الإنجليز في بلادنا؛ وعندئذ وجدتني في غمرة كفاح عنيد ضد ثلاثة أعداء، هم:
المستبدون:
فؤاد وإسماعيل صدقي ومن انضم إليهما.
المستعمرون:
الإنجليز.
الرجعيون:
الذين لا يأخذون بالآراء العصرية ولا يدركون قيمة الصناعات العصرية التي هي علة التفوق الأوروبي على الشرقيين، ولا علة غيرها.
فأما المستبدون فقد كافحتهم على صفحات المصري كفاحا مريرا، ثم بعد تعطيل المصري ثابرت على الكفاح في نحو اثنتي عشرة مجلة أسبوعية، كنا نستأجرها من أصحابها ونصدرها في صورة مجلة «المصري» ورسمه، إلى أن أصدر إسماعيل صدقي قانونا جديدا للصحافة وقفنا عن هذا النشاط، وذلك في 1931.
وأذكر أني كتبت في مجلة «المصري» بتاريخ 4 ديسمبر مقالا افتتاحيا بعنوان «تربية الملوك»، يفهم منه القارئ أنه موجه إلى «فؤاد» الملك وقتئذ، وصفت فيه الخديو إسماعيل ثم الخديو توفيق بأنها كانت تنقصها التربية، وبرهان ذلك أن الأول عمد إلى خمسة أو ستة من المجرمين، الذين لم تستطيع محكمة إثبات ما اتهموا به، فدس لهم السم في السجن، فماتوا.
وذكرت توفيق بأنه كان يقف على سطح قصره بالإسكندرية ليرى ضرب الإنجليز للإسكندرية، فكان يفرح ويهلل كلما أصابت إحدى قنابل أسطولهم منازل المدينة. وإليك بعض الكلمات التي وردت بالمقال: ... وقد رأينا في تاريخنا الماضي كيف توفيق باشا آثر دخول الإنجليز مصر وخيانة الوطن على أن يقسر نفسه أو يذللها للروح الدستورية ويخضع لمجلس النواب الذي اختارته الأمة، ولو أن هذا الرجل كانت قد أحسنت تربيته منذ الصغر، وأنشأه أبوه على الإقلاع عن طبيعة الاستبداد والتطبع بالروح الدستورية، لما جنينا كل هذا الذي جنيناه من المصائب. ... وقد ذكرت الصحف كيف أن إسماعيل باشا الخديو كان يأمر أحد المديرين بتسميم المتهمين بالإستركنين كما تسمم الكلاب الضالة الآن، وهذا العمل هو على فظاعته ليس إلا نتيجة هذه الطبيعية الاستبدادية التي نشأ عليها إسماعيل، حتى إنه لم يكن يستطيع أن يروض نفسه على الصبر ومحاكمة المتهمين أمام المحاكم؛ لأن استبداده كان يدفعه إلى التعجيل بالقضاء عليهم، وكل أمة في العالم كائنة ما كانت تسمح للملك المتولي الحكم عليها أن يستبد بها، جديرة بأن تجد منه مثلما وجدنا من توفيق أو إسماعيل: الأول ينضم إلى العدو على البلاد، والثاني يستخدم رجال يسمون الناس بالإستركنين.
ونشرت خمس صور لخمسة ملوك مخلوعين، وقلت إن السبب لخلعهم أنهم لم ينزلوا على إرادة الشعوب، وكان الهدف المقصود واضحا، ولو بالبناء للمجهول.
ولم يكن عدد واحد من مجلة «المصري» يخلو من الهجوم على إسماعيل صدقي الذي ألغى دستور 1923 وألف دستورا ينكر سيادة الشعب ويفتح الأبواب للغش والخدعة في الانتخابات للبرلمان.
هذا هو كفاحي السياسي الذي أستطيع أن أقول إني خدمت به الشعب فنبهته إلى حقوقه وإلى ضرورة المقاومة لطغيان المستبدين.
ثم كان لي أيضا في 1930 كفاح آخر للمستعمرين، وقد جعلته إيجابيا بنائيا، وذلك بإنشاء «جمعية المصري للمصري».
ذلك أن فهمي للاستعمار كان وما يزال ينطوي على أنه نظام يقوم لاستغلال المستعمرات، وذلك بتشجيع أبنائها على الإنتاج الخام في استخراج المواد الخامة زراعية أم معدنية، ثم حرمانها الصناعة، وعندئذ تشتري الأمة المسلطة منتجات المستعمرة الخامة بأتفه الأثمان، ثم تعود فتبيعها لها، بعد استصناعها، بأغلى الأثمان. وألفت جمعية «المصري للمصري» كي نضرب الاستعمار البريطاني في أساسه هذا، وكان قانون الجمعية يشترط على أعضائها ألا يشتروا سلعة أجنبية ما دام هناك ما يقابها من السلع المصرية، وأن يقاطعوا المصنوعات الإنجليزية، وأن يتجروا مع التجار المصريين دون التجار الأجانب.
ودعوت إلى إيجاد متجر مصري في شارع 26 يوليو (فؤاد كما كان يسمى وقتئذ) ولم يكن به متجر مصري واحد، واحد فقط.
هل تصدق هذا أيها القارئ؟ هل تصدق أنه لم يكن في هذا الشارع متجر مصري واحد في 1930؟
واستطاعت جمعية «المصري للمصري» أن تحمل بنك مصر على إنشاء «محل بيع المصنوعات المصرية » في هذا الشارع، وكان عرضنا الأول على المرحوم طلعت حرب مبلغا مقداره ألف جنيه قدمه وكيل الجمعية (وكنت أنا الرئيس) شيكا باسم هذا المتجر، وكان هذا الشيك بداية المشروع.
وسارت حركة «المصري للمصري» فيما يشبه الالتهاب، وانتشر الوعي الاقتصادي بين الشعب، فصار «التاجر المصري» هو المقصود الأول، وكان من أعضائها الوزير فتحي رضوان والوزير نور الدين طراف وأحمد حسين.
وكان هذا كفاحي للاستعمار.
ثم كان لى كفاح ثالث هو الرجعية، التي تستسلم للغيبيات، ولا تسلم بحرية المرأة، ولا تقبل على الآراء العصرية، ولا تحتضن العلم، وكان من أثر هذا الكفاح أن شيخ الأزهر وقتئذ (1930) كتب إلى وزارة المعارف يحذرها من خطري، وأنها يجب ألا تشترك في «المجلة الجديدة» التي كنت أنشرها، وأطاعته الوزارة في جبن وجهل.
هذه هي أنواع الكفاح الثلاثة كما مارستها في 1930، وقد أدت إلى تعطيل مجلاتي جميعها: ما كنت أملكه وما كنت أستأجره، فهل فشلت؟ إن النظرة السطحية توهم الفشل، ولكن النظرة العميقة توضح النجاح كما يجب أن يكون.
ذلك أنه كان في مستطاعي أن أجعل مجلاتي «متفرجة» محايدة، تنشر الخبر والصورة والمقالة والقصة، وتقرأ للتسلية والترويح على المقهى أو في القطار، ينصفها القارئ فلا يجد ما يبعث فيه حزنا أو غضبا أو حافزا على عمل أو جهد أو باعث على اتجاه وتسديد إلى هدف، وعندئذ يكون النجاح العرفي نجاح المال والاقتناء.
ولكن الصحافة رسالة، وهي كفاح، وقد كافحت من أجل الدستور، وكافحت الإنجليز بالعمل الإيجابي الصالح الباقي، وهو الدعوة إلى التجارة والصناعة المصريتين، وكافحت الرجعيين الذين يكرهون العلم، ويحتقرون المرأة، ويسبون الشباب.
واعتقادي أني نجحت في كل ذلك، وإن كانت مجلاتي قد ماتت.
كان نجاحي صحفيا، ولكني فشلت ماليا، بل إني بعت بعض ممتلكاتي كي أتجاوز الأزمة التي أحدثها لي إسماعيل صدقي في 1930.
ولكني عندما أسير الآن، في 1956، في شارع 26 يوليو (فؤاد سابقا) وأرى على صفيه متاجر مصرية كبيرة وصغيرة أحس بالفرح بل الطرب يغمرني، حين أذكر أني كنت أسير في هذا الشارع في 1930 وقبلها فلا أجد متجرا مصريا واحدا؛ لأن التجارة المصرية وقتئذ كانت محدودة محصورة، بل محبوسة، في خان الخليلي، لا نزيد على بعض التحف من النحاس الأصفر وفسيفساء العظم أو الصدف، وكان الإنجليز قد نجحوا في إيهامنا بأن «بلادنا زراعية»، حتى إن مقاعد التلاميذ في المدارس كانت تستورد من إنجلترا، وكان المصنع المصري لا يجد تعريفا في قوانيننا غير أنه «محل مقلق للراحة أو مضر بالصحة أو خطر». •••
وفي بداية هذا العام قدم إلى القاهرة أديب إنجليزي من الطراز الاستعماري القديم هو سومرست موم، وقد حزن عندما رأى متاجرنا في شارع 26 يوليو، وأسف على أننا تركنا خان الخليلي.
وبعض الفضل في أسفه الاستعماري - إن لم أقل كل الفضل - لجمعية المصري للمصري التي أرصدت صحفي في 1930 لخدمتها والدعوة لها.
الفصل الثاني عشر
صحافة المقالة وصحافة الخبر
كانت بلادنا في أيام إسماعيل مركزا عالميا لهجوم رأس المال الأوروبي، ومن هنا مشروعات إسماعيل الكثيرة التي انتفعنا ببعضها كما وقعنا في الإفلاس بعد ذلك بسبب بعضها الآخر، وفي أثر هذه المشروعات، وفي تزاحم الدول والشركات، وفي التنبه العام الذي أنتجه تصادم الطبقة الحاكمة بالأجانب، ظهرت بعض الصحف.
ثم في أيام توفيق زاد التنبه العام للتصادم بين المصريين المحكومين وبين بقايا الأتراك والشركس الحاكمين، فظهرت صحف أيضا تشايع الشعب، ثم جاء الاحتلال فأوعز الإنجليز لبعض الكتاب بإيجاد صحف أخرى تشايع الاحتلال ضد الدولة العثمانية.
ولذلك نرى روسيا القيصرية تؤسس جريدة يومية بالإسكندرية تجعل من دأبها الطعن في الدولة العثمانية والدعاية لروسيا القيصرية، وكانت تنوي القضاء على الدولة العثمانية بالاستيلاء عليها واختراق إلى البحر المتوسط
ثم نرى بعد ذلك، أيام الاحتلال البريطاني، جريدة يومية أخرى ينشئها الانجليز، ويغذونها بأموالهم، للطعن في الدولة العثمانية أيضا والإكبار من نزاهة وعدل الدولة البريطانية.
وبقي الميدان الصحفي في مصر، باستثناء فترة قصيرة ظهرت فيها صحف الدعاية للثورة العرابية، وقفا على هاتين الجريدتين.
ثم رويدا رويدا ظهرت الصحف الوطنية التي تدعو إلى الإحساس المصري والوعي القومي بالدعوة إلى الاستقلال، فكانت المؤيد ثم اللواء ثم الجريدة.
ولما كانت الدعاية هي الهدف، فإن هذه الصحف جميعها، مع الصحيفتين السابقتين، قبل الاحتلال وبعده، كانت صحف المقالة؛ لأن الدعاية ليست أخبارا بقدر ما تكون مقالات.
المقالة الإنشائية في مدح روسيا، ثم فرنسا، ثم بريطانيا، ثم بعد ذلك على أيدي الوطن المصريين: علي يوسف، ومصطفى كامل، ولطفي السيد. المقالة الإنشائية في مكافحة الإنجليز، والدعوة بقلم لطفي السيد إلى الإصلاح الاجتماعي ومكافحة الرجعية.
وأصبحت «المقالة» أساس الفن الصحفي، أما الخبر فقد تقهقر إلى حد الإهمال التام أحيانا، وبقينا على هذه الحال إلى حوالي سنة 1930 حين اتخذ الفن الصحفي ميدانا آخر للمباراة والتفوق بالخبر والصورة، وكان للتقدم المطبعي فضل كبير في ذلك؛ لأن للصورة بأناقة طبعها قوة جاذبية كبيرة، وهي في صميمها خبر.
كان موقعنا الوطني، فيما بين الثورة العرابية إلى حوالي سنة 1930، موقف الكفاح السياسي للاستعمار البريطاني، وأيضا للاستبداد الوطني الذي كان يمثله أمراء وملوك من أسرة محمد علي، والواقع أن كل كاتب مصري على شيء من الذكاء كان على وعي تام بأننا منذ الحركة العرابية إلى 1952 كنا نكافح عباس أو حسين أو فؤاد أو فاروق، كما كان أسلافنا يكافحون توفيق والطغمة المحيطة به من أتراك وشركس.
وكلمة الكفاح تعني في النهاية تنبيها وتحميسا وتحريضا، وكل هذه المعاني كانت تستوعبها المقالة، وظهرت مقالات مصطفى كامل الالتهابية في التحميس لتنبيه الشعب إلى ضرورة السعي والجهاد للاستقلال، ومقالات علي يوسف المنطقية ضد الإنجليز، وأخيرا مقالات لطفي السيد في مكافحة الرجعية والدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي، وعلى هذه الأقلام نشأ عبد القادر حمزة، فنقل المقالة إلى المناقشة الحزبية.
وأصبحت المقالة من تقاليد الصحف المصرية، لا ينشد صحفي التفوق بدونها، ولا يفكر أحد في البراعة الصحفية عن طريق الخبر الداخلي أو درس السياسة الخارجية. وما زلنا - نحن المسنين - نذكر كيف كانت الأخبار الخارجية أخبار العالم والإنسانية، تهمل إهمالا كبيرا في صحفنا القديمة، اللواء والمؤيد والجريدة، حتى كانت تلغرافات رويتر توجز في نحو عشرين سطرا في عمود ناء خفي من أعمدة الصحيفة.
وظهرت فيما بين الاحتلال الإنجليزي و1930 مدرسة الصحافة المقالية، يكتبها كتاب برعوا في الأسلوب والجدل المنطقي، واستوعبوا مقدار كبيرا من الثقافة العامة التي يجهلها كثير من الصحفيين المحدثين في وقتنا؛ ولذلك كان معظم هؤلاء الكتاب مؤلفين أو كانت مقالاتهم الصحفية من القيمة والخطورة بحيث صارت تجمع وتضم بين دفتي كتاب، وما زال بعضها يقرأ إلى الآن كما نرى مثلا في مقالات لطفي السيد في الجريدة أو غيره من الكتاب القدامى.
وفضل هؤلاء الصحفيين المقاليين أنهم استطاعوا أن يبتدعوا أسلوبا كتابيا سهلا يستطيع أفراد الشعب الذين لم يحصلوا على مقدار كبير من الثقافة أن يفهموه ويسيغوه، وصار لهذا الأسلوب قيمته في إيجاد القراء للصحف، كما أن لغتنا لانت ومرنت بعد ذلك للتأليف الشعبي.
ويمكن أن نصف صحف المقالة بأنها كانت صحفا «شخصية»؛ ذلك لأنها حين أهملت الخبر وعنيت بالمقال أصبح صاحب المقال «بطلا» عند القراء، يشترون الصحيفة من أجله لقراءته وحده ثم يطرحونها بعد ذلك. ثم هو كان - لتوالي مقالاته - عرضة لاضطهاد المستعمرين والمستبدين؛ ولذلك كثيرا ما كان يحبس فيعود شهيدا أمام الجمهور. ولم نكن نشتري اللواء أو المؤيد مثلا فيما بين 1900و1910 إلا لنقرأ مقالات مصطفى كامل أو علي يوسف.
ويجب أن أنبه هنا أيضا إلى أن صحف المقالات سبقت صحف الأخبار لأنها كانت تعاني ضعفا في ممكناتها ومقتنياتها، فلم يكن جمهور القراء كبيرا، وخاصة عندما نذكر أن التعليم كان محدودا، وكانت اللغة الإنجليزية تعلم بدلا من العربية منذ السنة الأولى الابتدائية؛ ولذلك لم يكن دخل الجريدة يمكنها من استخدام عشرات المخبرين الذين تستخدمهم الصحف في وقتنا، كما أن التقدم المطبعي لم يكن قد تحقق ولهذا التقدم قيمته الكبرى في جعل الصحيفة خبرية بدلا من أن تكون مقالية، وفي وصولها إلى أكبر عدد ممكن من القراء للقوة الإغرائية فيها.
ومع أني لا أنكر أن للخبر قيمته في تربية القارئ، وأن الصحيفة العصرية تستطيع بالخبر الدال أن تربي قراءها، فإني مع ذلك آسف على أن صحيفة المقال قد اختفت واختفى معها الكتاب الكبار الذين كانت تجمع مقالاتهم الصحفية كتبا تقرأ وتحفظ، وأمامي هذه اللحظة أربعة مجلدات للطفي السيد هي بعض مقالاته الصحفية في الجريدة، ولي أنا ستة مجلدات عن موضوعات ثقافية مختلفة نشرت جميعها بالصحف اليومية حين كانت صحف مقالات، ثم جمعت كتبا تقرأ وتحفظ لقيمتها الثقافية، وكذلك الشأن مع غيري من الكتاب القدامى.
كنا نكتب للتفسير والتثقيف والتعليم، وكانت بضاعتنا رائجة، ولا أنكر أن الصحف العصرية «الخبرية» لا تزال تقدرنا، ولكني أحس أنها تفعل ذلك تفضلا وليس ضرورة؛ لأنها تستطيع أن تستغني عنا إذا كان الهدف هو الانتشار وعدد ما يطبع من الصحيفة فقط.
ثم إن هناك ذلك الشطط الذي يحيل صحيفة الخبر أحيانا إلى اختيار الخبر المغري لغرابته، وإن لم يكن له أي مغزى أو دلالة؛ وذلك جريا وراء المثل الصحفي المعروف، وهو أن خبر الرجل الذي يعض الكلب خير من خبر الكلب الذي يعض الرجل، وقد شاع هذا الطراز من الأخبار في أيامنا، وكان خبر الجمل الذي فر من المجزر إلى قصر عابدين كي يستغيث بفاروق حتى لا يذبح، بعض هذه الأخبار. •••
وانتقلت الصحافة في مصر من صحافة المقالة إلى صحافة الخبر، وكان هذا تطورا أو انتقالا طبيعيا؛ وذلك أننا منذ الثورة العرابية كنا في كفاح لا ينقطع لأعداء هذه الثورة.
وكان احتلال الانجليز للقاهرة قد صعق الشعب وجمد إحساسه، كأنه قد ارتضى الهزيمة يأسا؛ ومن هنا التفسير لرواج الإشاعات التي أشاعها أعداء الشعب بأن عرابي كان خائنا. وصحيح أن جمهور الشعب لم يصدق هذه الإشاعات، ولكن إلحاح الطبقة الحاكمة من الأتراك والشركس على ترويجها جعلها مستساغة عند بعض الوطنيين الذين تساءلوا عقب الهزيمة عن مقدار الحكمة في رجال الثورة، ومن هنا اجتراء الشاعر شوقي عل ذم عرابي ومدح الخديو توفيق، وإن يكن هذا الشاعر نفسه قد عاد، في الطبعة الثانية لديوانه فخذف أبيات السباب التي سب بها عرابي. وذلك بضغط الرأي العام.
وفي هذه الحال تعين على الصحفيين المصريين، عبد الله نديم ومصطفى كامل وعلي يوسف، أن يعيدوا الثقة إلى الشعب ، وأن يحملوه على استئناف الكفاح ليس ضد الخديو فقط بل ضد الإنجليز أيضا، وسبيل ذلك المقالة.
وازدادت قيمة المقالة في ثورة 1919؛ فإن جميع جرائدنا وقتئذ كانت جرائد الدعوة الوطنية لا أكثر، ولم نكن نشتري الصحيفة كي نقرأ خبرا بقد ما نشتريها كي نقرأ مقالا لأحد الكتاب، الا إذا كان هذا الخبر خاصا بالثورة.
كان الصحفي الفذ في 1919 وما قبلها هو كاتب المقالة، في حين أن الصحفي الفذ في 1958 هو راوي الخبر، وكانت الصحيفة المصرية إلى 1919 تفتتح صفحتها الأولى بمقال وطني في حين هي في 1958 ترصد هذه الصفحة للأخبار الداخلية والخارجية.
ثم هناك سبب آخر لإيثار المقال على الخبر في صحفنا القديمة؛ ذلك أن قدرتها المالية وإمكانياتها الفنية المطبعية كانت صغيرة، فقد كان القراء قليلين لقلة المدارس، وكانت الأمية فاشية تعم نحو 90 في المئة من أفراد الشعب أو أكثر؛ لأن الاستعمار كان يحرص على ألا يفشي التعليم بيننا حتى لا يؤدي إلى وعي وطني ينقلب إلى عداء شعبي عام للمستعمرين، وحسب القارئ أن يعرف أن وزارة «المعارف» لم تنشئ مدرسة ثانوية للبنات إلا سنة 1925.
ولما كانت صحيفة الخبر تتكلف من النفقات نحو خمسين بل مئة ضعف ما تتكلفه صحيفة المقالة، فإن الصحف القديمة قبل انتشار التعليم كانت صحفا فقيرة لا تجد العدد الكبير من القراء الذين يمكنونها من الإنفاق بسخاء على جميع الأخبار؛ فكانت لذلك صحف المقالات هي الصحف العامة.
ولكن ثورة 1919 أوجدت وعيا صحفيا جديدا لاهتمام الشعب بحركة الاستقلال وما تخللها من حوادث القمع والحبس والنفي والإعدام التي قام بها الإنجليز، وكانت هذه الحوادث أخبارا تواليها الصحف بالعناية وتنشر تفاصيلها يوما بعد يوم، وتخلل هذه الحوادث دسائس قام بها القصر لتحطيم الحياة النيابية البازغة بمؤازرة الكتاب المارقين، ومع أن هؤلاء الكتاب كانوا متخصصين في المقالات فإن للتقزز العام ويقظة الشعب احتاج كلاهما إلى صحف جديدة للأخبار تغدو تلهف القراء على الجديد في الحركة الوطنية.
وظهر حوالي 1925 نوع جديد من المقالات، ذلك أننا كنا نقرأ المقالة قبل ذلك فنجد تحمسا وتنبيها يشبه إلى حد كبير مقالات مصطفى كامل ، وكانت اللهجة الخطابية تغلب عليها؛ إذ كان الكاتب يخاطب عواطفنا كي يلهب إحساسنا لمكافحة الاستعمار وتحقيق الدستور، ولكننا شرعنا حوالي هذا التاريخ نقرأ المقالة الخبرية أو الخبر المقالي.
وكان بطل هذا الابتداع محمد التابعي الذي أستطيع أن أصفه بأنه أبو الصحافة المصرية الحديثة بكل ما فيها من ميزات وعيوب؛ ذلك أنه شرع في مجلة «روز اليوسف»، ثم بعد ذلك مجلة «آخر ساعة»، يجذب أكبر عدد من القراء بنشر التفاصيل المغرية عن المسرح والطبقة العليا من الشعب، أو ما يسمى المجتمع الراقي، ثم انتقل من هذه الموضوعات إلى الأخبار السياسية التي لم يكن ينشرها أخبارا وإنما مقالات مفصلة، وبهذه الطريقة ربط بين الشعب وبين السياسة وأوجد المقال الخبري بدلا من المقال الخطابي، وعاونه على ذلك التقدم الفني في الطبع.
ذلك أن المقال الخطابي العاطفي الذي كنا نجده في توفيق دياب، أو المقال السياسي النقاشي الذي كنا نجده في عبد القادر حمزة، لم يكن أحدهما يحتاج إلى الصورة أو اللون، ولكن الخبر الذي يحتاج إلى الصورة الكاريكاتورية، ثم صورة الممثلة التي تتلألأ في جمالها المطبوع أو المصنوع، وإتقان الطبع والإخراج بالآلات المطبعية الحديثة، كل هذا قد رفع من شأن الصحف الخبرية وجعل لها المقام المفضل على الصحف المقالية، وهنا ظهرت طائفة الصحفيين المخبرين.
وليس معنى قولي هذا أن صحف المقالات، مثل اللواء والجريدة والبلاغ، لم تكن تبالي بالأخبار وتعنى بها، فقد كان لها مخبرون ولكن مراكزهم الصحفية كانت ثانوية إلى جنب مكانة المحرر كاتب المقال الافتتاحي أو المقال الأوسط أو المقال الأدبي، وكان معظم نشاطهم يتجه نحو موظفي الحكومة، وتنقلاتهم وترقياتهم، وما يستطيعون الحصول عليه من دوائر البوليس والنيابات، يكتبون ذلك كله في إيجاز وجفاف ليس فيها أي إغراء فني صحفي، ولكن بعد حوالي 1925 برزت الأخبار وتفوقت على المقالات، بل أخذت صيغة المقالات، وصارت الجريدة توفد أحد مخبريها لحادث يقع في السويس أو أسوان، بل في بغداد أو الظهران، فيوافيها بتفاصيل أحد الحوادث يوما بعد يوم، ويرسل إليها الصور، التي لم تكن تعرفها صحفنا القديمة، والتي تشوق القارئ مثلما تشوقه سائر التفاصيل، وهذا المخبر لم يعد يكتب الخبر في الإيجاز الذي كان يكتبه سلفه، إذ هو يحيله إلى مقالة أو مقالات.
وظهرت المجلات الفنية التي تحيا على الأخبار فقط، ولكن كل خبر داخلي أو خارجي يستغرق الصفحة الواحدة أو الصفحتين أو أكثر مع الصور؛ ولذلك لا نكاد نجد مقالا واحدا في «آخر ساعة» مثلا من تلك المقالات التي كنا نجدها في الصحف قبل 1925، وإنما نجد أخبارا مقالية أو مقالات خبرية.
وقد يسأل القارئ هنا هل هذا خير أم شر؟ هل هو كسب أم خسارة؟
والجواب أنه كلا الاثنين، ومع ذلك أنا أؤثر صحفنا الحديثة التي تعنى بالأخبار على صحفنا القديمة التي كانت تعنى بالمقالات؛ فان للأخبار قيمتها الكبرى في زيادة الوعي الإنساني، فضلا عن الوعي الوطني، وقد يقال إن الصحف العصرية تعنى كثيرا وتسرف في نشر الأخبار الخاصة بالجرائم والجنس، وهذا صحيح. ولكن يقابله انعدام هذه الأخبار من الصحف القديمة، وما دامت الأخبار صحيحة فنحن نحتاج إلى الوقوف عليها، ولكن بلا إسراف في التفاصيل التي لا تزيدنا نورا وفهما.
ثم إن عناية الصحف العصرية بالأخبار قد حملتها على العناية بأخبار العالم، وهي أخبار لم نكن نعرفها في جرائدنا القديمة؛ ولذلك صارت تخص صفحتها الأولى بهذه الأخبار وصرنا نجد كل صباح صورة حية لأحوال العالم الذي نعيش فيه والذي يجب ألا نجهله، والصحفية هي - بعد كل شيء - للعالم وليست للوطن وحده.
ثم هناك ميزة أخرى لصحف الأخبار الحديثة، هي أنها لاعتمادها على المخبرين المتصلين بالشعب في أحواله الارتزاقية والثقافية والسياسية والاجتماعية، قد أوجدت أسلوبا شعبيا في الكتابة لم يكن يعرفه كتاب المقالات القديمة الذين كانوا يستلهمون الكتب أكثر مما كانوا يستلهمون الشعب، وهذا كسب كبير.
الفصل الثالث عشر
المرأة في الصحافة
عندما نتأمل الحال التي كان يعيش فيها نساؤنا قبل أربعين سنة، حين كان الحجاب عاما والفصل بين الجنسين تاما، ونقارنها بحالنا الحاضرة ونحن نجد المرأة السافرة بل العاملة، نحس أن أجمل ما في نهضتنا وأبعثها على السرور والغبطة هو هذا التطور الذي يشبه الوثبة.
لقد ارتقينا في التعليم وأصبح عندنا من طلبة الجامعات ما يساوي - بالمقارنة إلى السكان - عدد الطلبة في أوروبا.
وارتقينا في الصناعة فأصبح عندنا بعض المصانع، وكان الاستعمار يحظر علينا إنشاء المصانع كما نحظر نحن بيع الحشيش أو سائر المخدرات.
وارتقينا في شئون وطنية مختلفة، ولكن أجمل الأنواع في هذا الارتقاء هو انتقال المرأة المصرية من الأسلوب الشرقي في العيش إلى الأسلوب الغربي، وهذا الارتقاء قد استتبع تغيرات عديدة في العلاقات الاجتماعية، فأصبحت كلمة «الحب» من الكلمات المحترمة التي لا يخجل منها الشاب أو الفتاة.
واقتحمت المرأة الميادين المختلفة في النشاط المصري، ومن أجمل اقتحاماتها هذه أنها طرقت أبواب الصحف التي فتحت لها مع الترحيب والتقدير.
وإني أعود بالذاكرة الآن إلى أول امرأة مصرية كتبت في الصحف، فأذكر «باحثة البادية» التي كانت تكتب حوالي 1910 في الجريدة حين كان يرأس تحريرها الأستاذ أحمد لطفي السيد، وكانت تكتب بأسلوب عربي متين، ولم يكن هذا عجيبا، إذا هي ابنة اللغوي المشهور حفني ناصف، ولكنها كانت تكتب وكأنها تنظر إلى قلمها فإنها كانت زوجة لأحد الوجهاء من العرب في الفيوم، ولكن إقدامها على الظهور بقلمها في صحيفة يومية كان بدعة تبعث على اليقظة والنهوض على الرغم من دعوتها إلى المحافظة على التقاليد.
ولكن جاءت في عقبها الآنسة مي، وهي فتاة فلسطينية أو سورية (قبل التجزئة الوطنية التي ابتدعها الاستعمار الإنجليزي) قد نشأت في بيئة مسيحية وتعلمت في مدراس غربية؛ ولذلك عندما أقدمت على الكتابة في الصحف لم تجد العائق السيكولوجي الذي كانت تجده باحثة البادية، وكانت مع ذلك على معرفة باللغتين الفرنسية والإنجليزية وتعمق لآدابهما، فكانت مقالاتها في الأدب والاجتماع والحياة عامة ظاهرة جديدة في الصحافة، بل كانت حياتها الحرة بصالونها الأدبي في القاهرة ظاهرة اجتماعية كبيرة القيمة، وكانت تدعو إلى الحياة العصرية مع اعترافات هنا وهناك تجري على سن قلمها في مديح الشرق، ولم يكن هذا المديح سوى الضريبة التي كانت تؤديها للرجعيين والمحافظين حتى لا يناصبوها العداء ويكرهوها على ترك الصحافة.
وقد جرأت مي الكثيرات من الكاتبات المصريات واللبنانيات على الكتابة في الصحف؛ وذلك أنها أجادت، وتناولت الموضوعات المختلفة، ولقيت احتراما، فهيأت الميدان لغيرها من بنات جنسها اللائي أقبلن على الكتابة في الصحف وهن لا يخشين لوما أو عيبا.
ثم خف عنا - عقب نهضة 1919 - كابوس الاستعمار، وإن لم يزل. فعدنا ننشئ المدارس الابتدائية والثانوية للبنات بعد أن كان الإنجليز قد أقفلوها عقب الاحتلال في 1882، بل أنشأنا الجامعة و«زحلقنا» الفتاة المصرية إليها خلسة من وراء ظهور المحافظين والرجعيين، وما هي إلا سنوات حتى كان عندنا ألف من الفتيات في المدارس الثانوية ثم مئات منهن في الجامعة، وما زالت هذه المئات في التكاثر حتى أصبح عندنا منهن في 1956 نحو ستة آلاف طالبة في ثلاث جامعات.
وقد ضنت الحكومات على خريجات الجامعة بوظائفها الا مع الشح، ولكن الأعمال الحرة رحبت بهن. وكانت الصحف في مقدمة المرحبات بهن.
ووجدت الفتيات المتعلمات إغراء كبيرا في الصحف، وخاصة عندما ظهرت المجلات المصورة التي عنيت بتصوير الأخبار والنابغات السينمائيات، بل حين أسرفت في هذا التصوير حتى فتنت به عقول الشبان والفتيات معا، فكان الإقبال على القراءة أولا ثم الإقبال على الكتابة ثانيا، وأصبحت كل فتاة تحس شيئا من الاستعداد الصحفي تؤلف القصة أو المقال وتجرب قلمها في النقد أو الوصف.
وأحب أن أشير هنا إلى أن اختلاط المرأة بالرجل كثيرا ما يرفع من أخلاق الجنس الخشن من حيث الارتفاع بالحديث إلى الكلمات المهذبة؛ ذلك أننا نحن الرجال، حين تغيب عنا المرأة، نترخص في استعمال الكلمات الغليظة ولا نبالي النكتة النابية، ولكننا نحذر ذلك عندما نجد معنا امرأة.
الفصل الرابع عشر
الفن الكاريكاتوري
مما يذكر عن جريدة «نيويورك تيمس» الأمريكية أن مديرها وجد في انتشارها ركودا أو تخلفا عن سائر الجرائد التي تباريها في السوق، فشرع يتصفحها كي يهتدي إلى علة هذا الركود، وبعد دارسة للصفحات والأبواب قصد إلى رئيس التحرير واقترح عليه أن يبحث عن محرر قد اعتاد الشراب يكتب كل يوم حديثا للقراء يتألف من خطرته «السكرانة».
فلما سأله رئيس التحرير عما بعثه على هذا الاقتراح أجابه بأن علة الركود في بيع الجريدة هي أنها مسرفة في الجد ليس فيها كلمة مزاح أو نكتة مضحكة، وأن القراء يسأمون الجد ويحتاجون إلى شيء من الهزل من وقت لآخر.
وعلى هذا الأساس اتجهت الصحف الكبرى إلى أن تخصص جزءا من أعمدتها للكتاب المرحين، ولا تكاد تخلو جريدة من مثل هؤلاء الكتاب الذين يرفهون عن القراء بأحاديثهم.
والصورة الكاريكاتورية هي ترفيه أنيق، يحتاج إلى إعمال الفكرة واستخلاص النكتة في صورة تنطق أحيانا عن معناها، بحيث لا تحتاج إلى كتابة شيء يفسرها ويوضحها أو هي تحتاج إلى أقل الكلمات.
وقد ظهرت الصورة الكاريكاتورية عندنا منذ حوالي 1920 واختصت بها مجلة الكشكول التي كان يصدرها المرحوم سليمان فوزي، وكان يهدف منها في كثير من الأحوال إلى غير ما خصصت له، فكان ينتقل بها من الترويح إلى التشهير بالوفديين، ولكنه مع ذلك فتح الباب وشق الطريق.
ثم جاء محمد التابعي فجعل منها دراسة في مجلاته التي كان يصدرها مثل روز اليوسف وآخر ساعة، وشاعت بعد ذلك في بعض مجلاتنا، ولكن جرائدنا اليومية لم تأخذ بها إلا منذ قريب، وهي مع ذلك لم تعم جرائدنا حتى الآن.
والصورة الكاريكاتورية خاصة وعامة، فهي خاصة حين تتناول إحدى الشخصيات فتبرز فيها سمتها أو موقفها في شأن عام، وهي عامة حين تجعل من معناها نكتة لها قيمتها الاجتماعية، وهي بهذين النوعين تعالج السياسة كما تعالج الاجتماع، وتوضح الأخبار والاتجاهات.
والغاية من الصورة الكاريكاتورية هي - كما قلت - التخفيف من جدية الجريدة، وهي تروح عن القارئ لأنها تضحكه، ولكن لماذا يضحك؟
إن للضحك تفسيرات عديدة ربما كان أقربها إلى فهمنا أنه يجعل من الشخص أو الأشخاص آلات قد غاب عنها التعقل، فهي تسلك سلوكا آليا، وهذا هو تفسير «برجسون»، ومع أني أجد فيه شيئا من الصدق فإني لا أجد فيه كل الصدق .
فليس شك أن نكات جحا تنطوي على أنه ينطق ويسلك كما لو كان عقله قد غاب عنه فترة ما، كما في قوله - مثلا - عندما رأى جلبابه يطير من حبل الغسيل، بأنه يحمد الله على أنه لم يكن على جسده. والنكتة هنا ساذجة نضحك منها لأننا نحس خطأ جحا وحسبانه شخصه كما لو كان مثل الجلباب سيطير معه إذا دفعته الريح.
ولكن معظم النكات ينطوي على سخرية تعلو على السذاجة، مثال ذلك الصورة الكاريكاتورية التي نشرتها مجلة بنش الإنجليزية، ذلك أن الإنجليز يصفون الإسكوتلانديين بالبخل، وأيضا ببطء الفهم.
ونحن نجد في الصورة رجلا إسكوتلانديا يلعب التنس، وبعد أن انتهى من الدور أراد أن يعطي غلام الكرة الذي يجلبها له حين تنأى عن ميدان اللعب قروشا، ولكنه لبخله أعطاه شيئا ضئيلا غاظ الغلام الذي أراد الانتقام، فاقترح على الإسكوتلاندي أن يرى بخته من كفه، ونظر الغلام إلى الكف وقال: «أنت إسكوتلاندي» والمعنى هنا أنه بخيل، ووافق الإسكوتلاندي على ذلك، ثم قال الغلام بعد نظرة ثانية إلى الكف: «وأنت أعزب»، ووافق الإسكوتلاندي على هذا القول أيضا، ثم نظر الغلام النظرة الثالثة إلى الكف وقال: «وأبوك أيضا كان أعزب».
والذي يضحكنا هنا جملة أشياء، منها أن الإسكوتلاندي يبدو في الرسم مديد القامة ناضج الرجولة في حين أن الغلام صبي لا يزيد على الثانية عشرة، وإحساسنا بأن الصبي قد غلب الرجل يثير الضحك، وهو يثيره أكثر حين نعرف أن الصبي أخذ من الرجل عوضا عن حقه هذه السبة التي وجهها إليه، ثم نضحك أيضا عندما نجد الإسكوتلاندي مرتبكا بشأن الإجابة الأخيرة، فقد كان ينتظر كلمات حلوة منعشة فإذا به يجد لطمة.
وهنا لا يسعفنا برجسون بتفسيره الآلي للضحك.
الفصل الخامس عشر
الصحافة والرأي العام
حضارتنا القائمة هي حضارة الغرب أي حضارة رأس المال، ومعنى هذا أن كل إنسان حر في أن يقتني ويدخر ثم يشتري العقار ويستغله، ومعنى الاستغلال أن نكسب منه إما بتأجيره كما نفعل في المسكن، وإما باستخدام عمال يعملون فيه بالأجر فنكسب في الحالتين، وكسبنا يعود إلى مال ادخرناه ثم استغللناه، ونعيش بذلك على عمل الآخرين.
وحضارة الغرب الاستغلالية هي التي أدت إلى الاستعمار بكل ما جلبه على السكان في المستعمرات من ظلم، ونهب، وتوحش، ومرض، وفقر، وجهل.
يفعل رأس المال هذا في المستعمرات حين يستغل السكان بما يشبه السخرة، بحيث لا يزيد أجر العامل على مليمات أو قروش حتى يكبر كسب صاحب أو أصحاب رأس المال، وهو يحاول أن يفعل أو يسلك هذا السلوك حتى في بلاده التي نشأ فيها، ولكن نظم العمال النقابية هناك تقاومه وتكفه عن الفتك بالعمال، ثم هناك قوانين عديدة تخفف من طغيانه، كما أن الرأي العام على تنبه دائم لمحاولاته في الاستغلال الإجرامي.
ووسيلة التنبيه للرأي العام هي الصحف؛ ذلك أن الصحافة حرفة ورسالة: هي حرفة من حيث إن أصحابها ومحرريها ومخبريها وسائر موظفيها وعمالها ينشدون منها الكسب أو الأجر كي يعيشوا مثلهم في ذلك مثل جميع من يعملون ويكسبون.
ولكنها أيضا رسالة، لها شرف الرسالة وواجب التضحية وشهامة الإنسانية والوطنية؛ ومن هنا مواقفها الخطرة التي ربما تؤدي إلى إفلاسها، ولم تفلس جرائدنا المكافحة إلا لمثل هذه المواقف التي اعتقد فيها الصحفيون أن الإنسانية والوطنية تطالبهم فيها بالكفاح.
وماتت صحفنا المكافحة وعاشت الصحف المتفرجة المحايدة. •••
وفي تاريخ الصحافة المصرية كثير من هذه المواقف المشرفة؛ فإن جريدة السياسة مثلا حاربت إسماعيل صدقي، بل حاربت الملك الأسبق فؤاد بشأن الدستور الذي ألغياه وسنا بدلا منه دستورا آخر، وكذلك حاربت السياسة الوزارة في إقدامها على اضطهاد علي عبد الرازق لأنه نشر كتابه «الإسلام وأصول الحكم» وكان اضطهاد المؤلف اضطهادا لحرية الفكر في مصر. •••
والاستعمار هو كارثة الإنسانية في القرن العشرين، وهو في كل زمان ومكان كارثة، ولكنه يعود أكرث وأنكب حين يقع في حرب؛ ذلك أن الدولة المستعمرة تحس الخطر على ما انتهبته من أقاليم وثروات، وتحس - مع الخطر - أن حقها في هذا الانتهاب المغصوب لا يزيد على حق الدولة التي تحاربها إذا تغلبت عليها، إذ لن يكون لها أي حق في هذا الحال في أن تناشد العالم العدل أو الشرف أو الحق، إذ هي - بالاستعمار - قد داست جميع هذه القيم، ولا يمكن ن يكون هناك عدل أو شرف أو حق مع الاستعمار.
ولهذا السبب يطغى الاستعمار في أثناء الحروب على المستعمرات، ولا يبالي قتل الناس وخطف الأموال وتعطيل القوانين، بل لقد رأينا كيف كان الإنجليز يخطفون الناس ويبعثونهم إلى فلسطين بدعوى أنهم «متطوعون»، مع أن هذا التطوع كان يحتاج إلى ربطهم بالحبال حتى لا يفروا وهو يقادون إلى فلسطين مكتوفين.
ولا يمكن أن ننتظر من المستعمر رأفة، بل الحق الذي نعترف به أنه مضطر إلى القسوة وممارسة الوحشية التي لعله قد يستنكرها وقت السلم؛ ذلك أنه يرى أبناء بلاده يقتلون ويمزقون، وأن مصير وطنه في كفة القدر الذي ربما ينتهي ليس بالهزيمة فقط بل بالفناء أيضا، فكيف وهو في هذه الحال نطالبه بالرأفة مع بلادنا وأبنائنا مدة الحرب؟
ولكننا، مع هذه التقديرات، يجب أن نكافح ولا نستسلم. •••
والرجل المتمدن المثقف في عصرنا يقرأ جريدته للاستنارة عن شئون العالم، وقد ازداد وجداننا العالمي في السنين الأخيرة بالاشتباكات السياسية والاقتصادية، كما جعلت الطائرات والتلغرافات عالمنا هذه صغيرا في أبعاده كبيرا في نفوسنا، فأصبحنا نتهم بأخبار هونج كونج ونيويورك وموسكو ولندن ودمشق وبغداد كما نهتم بأخبار أسيوط والإسكندرية، بل ربما يزيد اهتمامنا بهذه المدن الخارجية أكثر من اهتمامنا بمدننا المصرية.
ولذلك فإن الجريدة أو المجلة التي تقصر اهتمامها على شئون وطنها فقط إنما تعد قروية في عصرنا، تتحدث أحاديث القرية وتجهل الآراء العالمية بشأن العالم.
ثم إن تطور العلاقات المصرية بالدول العربية قد حمل الصحف مسئوليات جديدة بشأن التنوير والتعريف والتقريب.
الفصل السادس عشر
كيف نرفع الصحافة إلى مقام الأدب
من الحوادث التي يجدر بكل أمريكي أن يفخر بها أن أحد الناقدين في الولايات المتحدة كتب ذات مرة يقول إن «كرستيان سينس مونيتور» وهي من كبريات الصحف اليومية الأمريكية قد انحط شأنها لأنها لم تعد تبالي بالآداب والعلوم، وإنها كانت تعنى قبلا بتثقيف قرائها أكثر مما تعنى الآن .
ولم ترد عليه هذه الجريدة بالإنكار، ولكنها عمدت إلى العدد الذي صدر في اليوم الذي فيه هذا النقد، فجمعت ما فيه من آداب وعلوم وفنون، وطبعت كل ذلك في كتاب مستقل يحوي أكثر من مئة صفحة، فكان كتابا رائعا لا يزال يباع إلى الآن، وهذا محصول يوم واحد من جريدة يومية.
والحق أني لا أعرف في العالم كله جريدة تعلو على هذه الجريدة، فإنها قد رفعت الصحافة إلى مقام الأدب، وهي تختار لكتابة أخبارها ومقالاتها أدباء وعلماء واجتماعيين وفنانين، والقارئ الذي يتناولها لا يجد الأسلوب الأدبي فحسب وإنما يجد الدلالة الاجتماعية في الخبر الساذج، ويجد الإرشاد والتوجيه الفلسفيين في المقال التحريري.
وما أجدرنا نحن الصحفيين المصريين بأن نلتفت إلى هذه المرتبة العالية التي بلغتها الصحف الأوروبية والأمريكية، أو بلغها بعض الممتاز على الأقل، وخاصة بعد أن تفشت بيننا صحف تثير الاشمئزاز والألم سواء بنشر الكاذب من الأخبار أو الزائف من الآراء أو الفاحش من الصور والكلمات.
إن الصحفي الممتاز هو الذي يكون قد وصل إلى الصحافة بعد أن انصهر في بوتقة الأدب والعلوم والفنون، بحيث يعالج حوادث اليوم بميزان الآداب ويكتب بالأسلوب الأدبي الذي يريد الفهم ويصقل الذهن، والصحفي الممتاز هو الذي يبصر بقيمة العلوم في التطور العالمي الحاضر، فيكون على معرفة وتقدير لتولستوي وجيته، وعلى دراية بالآمال والمخاوف بشأن الطاقة الذرية، والصحفي الممتاز هو الذي يفكر بعقل فولتير حين يتحدث عن قانون المطبوعات الحاضرة في مصر وعن سائر القيود التي تصاغ للحرية، والصحفي الممتاز هو الذي يدرس مشكلات مصر في ضوء المشكلات والتيارات العالمية، وأخيرا الصحفي الممتاز هو الفيلسوف الأديب العالم الفنان.
وقد كان أعظم الصحفيين العالميين من هذا الطراز، ولا يزال هذا شأنهم في الجرائد الكبرى، بل إن بلادنا تستطيع أن تفخر بأن صحافتها جذبت إليها - في بعض الأحيان - الأذهان الحية التي ترشد وتوجه؛ فإن «أحمد لطفي السيد» فيلسوف، وقد كان من حظي أن أوالي في شبابي قراءة الجريدة، وهو يحررها ، نحو ثماني سنوات، وكان «عبد القادر حمزة » أديبا وكتابه عن «حضارة الفراعنة» يدل على الآفاق الواسعة المتراحبة التي كان يتطلع إليها من خلال المناقشات السياسية والحزبية في السنوات الماضية، وكان «أنطون الجميل» أديبا، يتحدث عن بيت من الشعر باهتمام وعناية كما لو كان ينطوي على تغيير في الوزارة، ومن وقت لآخر نجد لطه حسين نزوات صحفية تتسم بطابع الأدب السامي.
وأحيانا أستسلم لخيال عابر وأسأل نفسي: كيف تكون حال هذه المجلة الأسبوعية أو هذه الجريدة اليومية لو أننا سلمنا رياسة التحرير فيها للطفي السيد؟ لطفي السيد مترجم أرسطوطاليس؟
أرسطو طاليس في الصحافة؟
أجل ... ولم لا؟
لا. لا نستطيع أن نحتقر هذه الآراء إذا كنا عقلاء؛ ولذلك إني آسف أشد الأسف على أن مثل لطفي السيد لا يوجد الآن في صحافتنا.
الفصل السابع عشر
الصحفي كما يجب أن يكون
ليس شك أن الصحيفة اليومية تحيا وتصدر للخبر.
الخبر هو أول ما ننشد في أية صحيفة يومية، وهناك من يستصغرون شأن الأخبار مع أن قيمتها التربوية بل الإنسانية للحياة كبيرة جدا؛ إذ هي الصلة الروحية بيننا وبين الوطن الذي ننتمي إليه كما هي كذلك بيننا وبين العالم؛ ذلك أننا حين نوالي قراءة الأخبار اليومية عن أحداث العالم نحس قرابتنا لهذا العالم، ونشتبك في مشكلاته، ونهتم بشئونه في الإصلاح والتعمير، فنجد معنى لارتقاء الصين، ودلالة في مشروعات الري في مسيسبي بالولايات المتحدة، ونفرح للتقدم الصناعي في الهند، وفي كل ذلك نزداد إنسانية، وتتراحب آفاق جديدة متزايدة كل يوم لنمو الذهن ونضح النفس.
ولكن الخبر مع ذلك ليس كل شيء في الصحيفة اليومية، وخاصة بعد أن ظهرت الإذاعة والتلفزة، فإن الصحيفة تصدر مرة واحدة في اليوم فلا نعرف منها أحداث العالم إلا مرة واحدة في اليوم أيضا، ولكن الإذاعة والتلفزة كلتاهما تستطيع أن توالينا بالأخبار طول النهار والليل، فهما من ناحية الخبر أقدر من الصحيفة على الوصول إلى المستمعين والرائين.
ولهذا نحن ننتظر التنوير والتعليق والتفهيم والتبصير في الصحيفة بأقلام الكتاب الممتازين، وهو ما لا نجده في المذياع أو التلفزيون، بل حتى حين نجد هؤلاء الكتاب الممتازين فيهما فإننا لا نلتفت إليهما بالعناية التي نلتفت بها إلى كتاب الصحيفة.
وهنا يجب أن نلاحظ أننا نفهم بالعين وبالقراءة أكثر مما نفهم بالأذن والاستماع، ثم تمتاز الصحيفة بعد ذلك بأنها قيد الطلب، نقرأها حين نريد بلا مواعيد معينة لا نستطيع تغييرها، نقرأها في الفراش، وفي المكتب، وفي القطار، وقت راحتنا وفراغنا دون أن نقسر على ميعاد لا يتفق وأعمالنا اليومية.
وأحسن الصحفيين هو من عمل مخبرا في بداية حياته الصحفية، وأحسن الكتاب المعلقين هو من اعتاد، لسبق خدمته في إيراد الخبر، أن يصل بين الأخبار والمقالات أو يكتب المقال الخبري أو الخبر المقالي، إذ هو عندئذ يكسب تعليقاته حيوية الخبر، ويبقى على الدوام متصلا بالمجتمع والإنسانية والبيئة، ولا يشطح في أبحاث تنأى عن اهتمامات الجمهور. أجل، ولا يحتقر الجمهور كما هو الشأن في كثير من الكتاب الصحفيين الذين لم يتمرسوا بالخبر قبل كتابة المقال.
الأدب يجب أن يكون للشعب وللإنسانية وللمجتمع، ولا نقصد بكلمة الشعب تلك العامة من الغوغاء، فننزل إلى أفرادها بمغريات وضيعة ننشد منها رواج القصة أو الكتاب أيا كان موضوعه. وإنما نؤلف للشعب كله خاصته وعامته، وهذا ما يجب أيضا أن تكون وجهة الصحيفة، بحيث تكتب للشعب لا للخاصة ولا للعامة.
بل إن الشعب الأمثل، الشعب المتمدن، يجب ألا يميز بين الخاصة والعامة؛ إذ يجب أن يؤدي نظامه الديمقراطي السوائي إلى تعميم الثقافة ورفع مستوى التعليم، بحيث لا يحتاج الصحفي، كما لا يحتاج الأديب، إلى الزعم بأنه يكتب للخاصة أو يتوسل بإغراءات وضيعة إلى النزول إلى ما يسميه مستوى العامة.
ولأن الصحيفة - مثل الأدب أيضا - تخاطب الشعب كله بمختلف اتجاهاته الثقافية والفنية والاقتصادية، فإنها يجب أن تستوعب جميع ألوان النشاط الذهني السياسي والاجتماعي والفني والعلمي، وهي حين تفعل ذلك تربي قراءها كما أنها تقرب بين طوائف الشعب.
ولكن الذي يجب أن نؤكده هنا أن الصحيفة لا يمكن أن تحايد، أي إنها يجب أن يكون لها مذهب أو مذاهب في الوطنية والسياسة، فإن في الدنيا خيرا كثيرا وشرا كثيرا، والصحفي الذي يقول إنه ينقل الخبر، وإنه لا شأن له بالعدل أو الاستبداد، وبالاستعمار أو الاستقلال، وبفساد الحكم أو صلاحه، إنما هو صحفي عاهر يفسق بذهنه، ولعله أيضا يساوم على ضميره.
فالصحفي، مثل الأديب، لا يمكن أن يكون متفرجا، يروي الأحداث، ويقتصر على الرواية، غير معني بما يصيب الأمة أو الإنسانية من خير أو شر.
لا. ليس هناك برج عاجي سواء في الأدب أو الصحافة، وليس هناك في المجتمع الحسن متفرجون في الصحافة.
والصحفي، كما يجب أن يكون، يحتاج لهذا السبب أن يدرس كثيرا ويختبر كثيرا، وهو إذا كان قد بدأ حياته الصحفية بالمرانة على كتابة الخبر، فإن اختباراته ستتكاثر طيلة حياته، لأن الخبر سيبقى بارزا في ذهنه يحركه إلى التفكير الذي يبني ويعمر، وإلى التعليق الذي يرشد ويهدي.
أليست هذه الدنيا حوادث؟ ثم أليست الحوادث أخبارا؟
إن كل إنسان متمدن يحيا في مجتمع متمدن، يجب أن يشتبك في شئون هذا المجتمع، والصحفي أولى الناس بهذا الاشتباك، وأنا هنا أنظر إلى أخلاقه قبل أن أنظر إلى حرفته؛ إذ هو قد ينجح النجاح المالي إذا بقي متفرجا محايدا لحوادث بلاده والعالم، ولكنه لن ينجح النجاح الإنساني، النجاح الشريف الذي يجب أن يهدف اليه كل صحفي، إلا إذا اشترك مع مجتمعه في كفاح للخير والشرف والإنسانية والعدل والاستقلال.
وبعد هذه الكلمات العامة عن الصحفي «كما يجب أن يكون» نحتاج إلى كلمات خاصة تمس الحرفة مسا خاصا.
ومع أنه يمكن أن يكون هناك تعليم خاص لتخريج الصحفي فإني لا أتمالك الإحساس بأن الصحافة هواية قبل كل شيء، وقد ترجع في جذورها المختبئة إلى ما يسمى في السيكولوجية «العرض» أو في التعبير المألوف «حب الظهور»، وقل أن يخلو صبي أو شاب من ذلك؛ ولهذا كثيرا ما نجد الإغراء قويا بين الشبان للكتابة في الصحف فيما بين سن العشرين وسن الثلاثين فيرسلون بمقالاتهم أو قصصهم إلى الصحف فإذا صادفوا نجاحا احترفوا الصحافة، أو هم يكفون بعد أن يتحققوا أن كفاءتهم لا تعينهم على ذلك.
الصحافة - كالشعر والأدب والفن - هواية، ولكن الهاوي يحتاج إلى التربية والتعليم حتى يمهر ويحذق، ويحتاج إلى ظروف مؤاتية أيضا في الجمهور أو البيئة، وإني لأجد - من اختباراتي الماضية التي تزيد على نصف قرن - أن خير ما يؤهل للصحافة الراقية في بلادنا وسائر الأقطار العربية إتقان لغة أجنبية على الأقل، ولغتين خير من لغة؛ وذلك أن الاتصال بلغتين أجنبيتين، مثل الفرنسية والإنجليزية، أو الألمانية والروسية، يصل بين الصحفي العربي وبين التمدن العصري، كما يتيح له الرحلة كل سنة أو سنتين إلى أقطار أجنبية ينتفع بزيارتها ودارسة مؤسساتها وتجديداتها، ومن الغرور الكاذب أن نزعم أننا - نحن الصحفيين المصريين مثلا - في «اكتفاء ذاتي» لا نحتاج إلى اللغات والآداب الأوروبية أو الأمريكية؛ فإن حاجتنا إلى هذه اللغات لا تقل في الصحافة الراقية عن حاجتنا في الطعام للغذاء الصحي.
وكما نحتاج إلى اللغات الأجنبية ندرسها بإتقان، نحتاج أيضا إلى زيارة الأمم الأجنبية وإلى الإقامة شهورا أو سنوات في باريس وبرلين ولندن ونيويورك وموسكو؛ كي نتعمق البواعث والحوافز في السياسة والاجتماع والاقتصاد والارتقاء؛ ذلك لأن الاستعمار والاستبداد كلاهما قد أخرنا عن اللحاق بموكب الحضارة العصرية، فنحن في حاجة لا تنقطع عن استملاء هذه الحضارة من الأمم المتمدنة المتقدمة، وأسوأ ما تعانيه الصحافة المصرية في وقتنا من حيث تفاهة موضوعاتها وأخبارها يعود في النهاية إلى أن المحرر أو المخبر لم يدرس لغة غربية.
وأعني أنه لم يدرسها دراسة الإتقان، ولا أعني أنه لم يعرفها، فإن المعرفة قد تكون رطانة لا تغني.
ثم يجب أن يكون للصحفي - كما للأديب والفنان والشاعر - كفاح، وبكلمة أخرى يجب ألا يكون متفرجا متسليا بالكتابة وبالدنيا، وقد رأينا في مصر في الخمسين سنة الماضية عشرات من الصحف والصحفيين المتفرجين المتسلين الذين كانوا ينشدون «النجاح» بالإحجام عن التورط في مشكلاتنا السياسية والاقتصادية، فلا ينتقدون وزيرا ولا يبرزون فضيحة دارية، ولا يعارضون خطة استعمارية أو استبدادية، بل رأينا كتابا مدحوا جميع الأحزاب، وأثنوا على السادة العظماء، من فاروق إلى الأذناب، بقصائد ومقالات.
يجب على الصحفي الشريف أن يشتبك، وألا يبالي أن يؤدي به هذا الاشتباك إلى التورط في الحبس، وأن يقع في الاضطهاد؛ إذ عليه أن يتحمل كل ذلك باعتباره جزءا من حرفته، بل من شرف حرفته، وأن ينهض في وجه الظلم والفساد ولو أدى هذا إلى إفلاسه ودماره.
ذلك أن لكل حرفة مقتضياتها التي يقتضيها الشرف، شرف الحرفة. فإذا وفد وباء كالكوليرا أو الطاعون على مصر فإننا ننتظر من الأطباء أن يهرعوا إلى مكان العدوى ويكافحوا هذا الوباء، حتى مع يقيننا ويقينهم بأن الموت يمكن أن يكون جزاء خدمتهم وإسعافهم للمرضى، ولا يمكن أن نقر طبيبا على الفرار من الكفاح أو الوقوف موقف المحايد المتفرج.
كذلك الشأن في الصحافة، فإذا واجه الصحفي ظلما أو فسادا أو استعمارا فإن عله أن يكافح، حتى ولو وثق بأن كفاحه قد ينتهي بدماره وسجنه وإفلاسه؛ لأن شرف الحرفة يقتضي ذلك.
والصحيفة المثلى هي - بعد كل شيء - معهد عام وليست مشروعا خاصا؛ أي إنها تنصب نفسها وتنذر كتابها للخير والتربية والتطور والتجديد، توسع من صفحاته للكاتب الناضج، وتوسع من اختباراتها للكاتب البادئ، وتبقى أمام الشعب مصباحا يهدي في الظلمات وعنوانا لمعاني الشرف والخدمة.
ويجب ألا ننسى أن لهجة الكاتب وأسلوب تفكيره واتجاهه وهدفه، كل هذا ينتقل إلى القارئ، فيعين مزاجه بل يعين أخلاقه، فإذا كان الكاتب مكافحا فإن القارئ سيكون أيضا مكافحا، وإذا كان متفرجا محايدا فإن القارئ سيكون أيضا متفرجا محايدا.
وفي عصرنا هذا حيث تتعدد المذاهب والأفكار، وتتصارع الديمقراطية مع الأوتوقراطية، وتنتصب الحرية ضد الطغيان، وينهض الاستقلال ضد الاستعمار، ويجابه الفقر الفاحش الثراء الفاحش، في هذا العصر لا ينبغي أن يكون هناك إنسان محايد أو صحيفة محايدة.
وبعد كل هذا الذي ذكرنا، مما يوهم أن الصحافة مهنة شاقة كثيرة المسئوليات، نحتاج إلى أن نقول إنها ليست مهنة فحسب وإنما هي حياة أيضا؛ فالذي يختار الصحافة لا يختار مهنة للكسب فقط، بحيث يقصد إلى عمله في الصباح ثم يعود إلى بيته في المساء، وقد نسي مهنته، واشتغل بشئون عائلية أو اجتماعية أو ترويحية أخري.
لا ليست الصحافة كذلك؛ إذ هي مهنة وحياة معا، وأقرب الأشياء إليها، من حيث اندغام المهنة في الحياة، هو مهنة الزراعة أو مهنة التأليف، فالزراع لا يحترف الزراعة فقط ويفصلها من حياته، وإنما هو يحيا حياة الزراعة التي لا يقتصر اهتمامه بها على اقتصادياتها وما يكسب منها له ولعياله، وإنما هو يجد فيها أسلوبا للعيش وأهدافا للسعادة لا يجد مثلها ساكن المدينة، فهو يحب رؤية الأرض المحروثة يسير عليها ويتشمم منها أرج الخصوبة، وهو يألف البقرة والحمار والخروف ويحس صداقة إنسانية نحوها، وهو يخرج في ظلام الفجر الأبيض كي يرى الدنيا وهي صامتة قبل طلوع النهار، وهو يقنع بما يزرع ويحيا في بطء بلا عجلة أو هرولة، وطعامه ساذج، ولباسه ساذج، إذ هو إلى حد بعيد لا يزال ابن الطبيعة. الزراعة حياة كما هي حرفة.
وكذلك الشأن في الصحافة؛ فإن الصحفي العظيم يجد أنه مكلف دراسة الدنيا، وتلغرافات الصباح التي يقرأها، والتي ترد إليه من أنحاء العالم، يكاد يحس أنها رسالات شخصية إليه، والأسماء الجغرافية عنده تكتسب ألوانا إنسانية، وهو يدرس الدنيا والمجتمع والسياسة والجريمة والحرب والتاريخ والأدب والعلم، كما لو كانت جميعها ضرورية لحرفته أي لحياته، وهو لهذا السبب يحس ارتقاء متواصلا يقرأ، ويختبر، ويبحث عن الحادث الخطير، كي يتخلل أشخاصه ووقائعه ويعرف منه الأسرار في البواعث، وهو يزور الأقطار الأجنبية بنفس الإحساس الإنساني الذي يزور به المدن والقرى في وطنه، وهو - كما هي الحال عند محترفي التأليف للكتب - يقتني الكتب كي يقرأ ويستنير. أجل، ويؤلف.
وإذن يجب أن نقول إن أعظم ما يعوض الصحفي العظيم من مشاقه أنه يحس ارتقاء متواصلا عاما بعد آخر؛ أي يحس أنه ينمو، ويزداد نضجا، بل إيناعا، في الإنسانية.
Shafi da ba'a sani ba