فإذا أنت تابعت السير على الفرات قابلتك المدائن عاصمة الفرس ومهد الترف والنعمة لذلك العهد في العالم كله، فقد بلغ الفرس يومئذ من الترف ما تبلغه الأمم حين تنحدر إلى ناحية التدهور والانحلال.
لعل الأسماء التي ذكرنا قد أثارت في نفسك صورة من العظمة التاريخية لهذه البقعة التي تقع شمالي دلتا النهرين، وأثارت كذلك فيها ذكر ما كان حول هذه المدن من حدائق وكروم وزروع تمتد إلى الأفق زاهية الخضرة، يبعث أريج زهرها أروح العطر إلى الهواء الذي تتنفسه.
أما وذلك بعض ما في هذه البقاع من خصب جعل الناس يطلقون عليها اسم «جنة الأرض» لكثرة غلالها ووفرة خيراتها وبعض ما فيها من جمال يعدل ما في الشام أو يزيد عليه، فقد رأى أبو بكر صدق ما يذكره المثنى الشيباني، ورأى أن من الواجب على المسلمين أن يقوموا بتأمين العرب من أهلها، فإذا استجاب هؤلاء العرب من بعد للدعوة الإسلامية ولم يصرفهم الفرس عنها فذاك، وإلا قاتل المسلمون الفرس ليكون الميدان لحرية الرأي فسيحا، وكلمة الحق منتصرة لا محالة بالحجة والموعظة الحسنة.
واستشار أبو بكر أصحابه وعرض عليهم ما جاء به المثنى من الأنباء، وقوله له: «أمرني على من قبلي من قومي أقاتل من يليني من أهل فارس وأكفيك ناحيتي.»
وتداول القوم المشورة بينهم، فرأوا أن الأمر في حاجة إلى رأي خالد بن الوليد يكشف لهم عما يجب إذا قاوم أهل فارس المسلمين، وكان خالد باليمامة مقيما مع زوجتيه أم تميم وبنت مجاعة، يستجم بعد غزوة عقرباء، ويطمئن إلى العيش بينهما، وقد استدعاه أبو بكر على عجل فحضر، ولم يتردد خالد حين عرف ما جاء المثنى فيه عن الإشارة إلى ما قد يترتب من النتائج على مقاومة الفرس لجيش بن حارثة، فقد يدعوهم انتصارهم إلى التفكير في استرداد نفوذهم في البحرين وما جاورها، فأما إن أعد الخليفة للحرب عدتها، وجعل ما قام به المثنى من قبل طليعة فتح يلقي إلى المسلمون بفلذ أكبادهم فلا ريب عنده في أن العراق سيفتح أبوابه، وفي أن العرب المقيمين به عاملين في الزراعة سيكونون من عوامل النصر لبني جنسهم.
وأتم أولو الرأي المداولة فيما بينهم، وأقروا أبا بكر على تأمير المثنى، عند ذلك أمره أن يتابع ما بدأ بين العرب من عهد ودعوة إلى الحق، فكان أمره هذا الخطوة الأولى في فتح العراق، فأما الخطوة الحاسمة فكانت توجيه خالد بن الوليد على القيادة العامة لجيوش الفتح، وفعال خالد في العراق وانتصاراته على الفرس موضع حديثنا في الفصل التالي. •••
هذه الرواية في التمهيد لفتح العراق هي الراجحة في رأينا، على أن طائفة من المؤرخين يذهبون إلى أن المثنى لم يذهب إلى المدينة ولم يقابل أبا بكر، وأنه أمعن في السير بجيشه في دلتا الفرات، فلقيه هرمز، فكانت بينهما وقعات نمى خبرها إلى أبي بكر فلما سأل عن المثنى وعرف من هو وماذا كانت فعاله في البحرين أثناء حروب الردة، أصدر أمره إلى خالد بن الوليد كي يخف إليه، ويعينه على هرمز، وينصره والعرب الذين آزروه ليريحهم من هذا الطاغية الفارسي، وهذه الرواية مرجوحة عندنا وإن كنا لا نقطع بعدم صحتها، فقد انتصر المثنى على الفرس ولم يكن في حاجة إلى مدد، وشجع انتصاره أبا بكر على التفكير في غزو العراق، فأمر خالدا أن يذهب إلى دلتا الفرات يعزز المثنى، ثم يسير حتى يفتح الحيرة عاصمة العرب اللخميين، وأمر عياض بن غنم أن يسير إلى دومة الجندل يخضع أهلها الذين تمردوا وارتدوا ثم يسير من هناك إلى الحيرة، وأي القائدين سبق صاحبه فله القيادة العليا وله الأمر في تلك البلاد.
وإنما ذكرنا أن الرواية الثانية مرجوحة، ولم نقل إنها غير صحيحة، لما في الروايات التي انتهت إلينا عن ذلك العهد من الاضطراب، ولقد بلغ من اضطرابها حين الحديث عن فتح العراق ومقدماته أن تردد الطبري وابن الأثير وغيرهما فلم يرجحوا رواية على أخرى.
ويرى بعض المتأخرين من المؤرخين أن خالدا حين ذهب إلى دلتا الفرات لم تكن أمامه خطة مرسومة ولا غاية معينة، وإنما ذهب مددا للمثنى ينقذه وينقذ جيشه، فلما انتصر على الفرس وتقدم إلى الشمال وبعث إلى الخليفة بالأخماس وبأنبائه كان هو الذي صور الفتح كيف يكون، وهو الذي اتجه إلى الحيرة فما شمالها، ولقد يضعف من هذه الرواية أن أوامر أبي بكر إلى قواده كانت صريحة دائما في ألا ينتقل أحدهم من غزاة إلى ما بعدها إلا بإذنه، ذلك ما رأيناه في حروب الردة، وذلك ما كان من بعد في فتح العراق والشام فليس من الممكن مع هذا أن يكون فتح العراق فلته، أو أن يسير خالد بن الوليد مستقلا عن أوامر أبي بكر.
والآن فلنسر مع المثنى إلى دلتا النهرين، وعما قريب يلحقنا خالد هناك ليضرب الفرس في العراق، ولينتقل منه إلى الشام فيمهد للقضاء على دولة الروم في آسيا القضاء الأخير.
Shafi da ba'a sani ba