بعث أسامة
لم تكن نذر الانتقاض في بلاد العرب لتخفى على أبي بكر وأصحابه من المهاجرين والأنصار بالمدينة، وكيف تخفى عليهم وقد كان ما شجر بينهم في سقيفة بني ساعدة جديرا بأن ينبئهم إلى خطرها!! أفيلقي خليفة رسول الله كل باله إليها، ويعدل عن سياسة رسول الله في شأنها؟ أم تراه يجري على خطة الرسول في تأمين التخوم بين العرب والروم، تاركا أمر هذه الفتنة الداخلية إلى تطور الحوادث؟
لقد كان أول أمر أصدره بعد أن تمت له البيعة بالخلافة أن قال: «ليتم بعث أسامة.»
وأسامة هو قائد الجيش الذي أمر النبي بتجهيزه من جلة المسلمين مهاجريهم والأنصار لغزو الروم، بعد الذي كان بينهم وبين المسلمين في مؤتة وفي تبوك، ذلك أنه (عليه السلام) كان يخشى دائما أن يدهم الروم المسلمين، متأثرين بما بين الدين الناشئ ودينهم المسيحي من خلاف، متأثرين أكثر من ذلك بتحريض اليهود الذين نزحوا إلى فلسطين بعد أن أجلاهم النبي عن المدينة وعن تيماء وفدك وعن أكثر المواطن التي كانوا يقيمون بها، ولعل ما حدث بمؤتة وتبوك جعله يضاعف العناية بحماية التخوم العربية الرومية، فقد سار جيش المسلمين إلى مؤتة فاستشهد من قواده زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، ثم داور خالد بن الوليد بالجيش حتى عاد به إلى المدينة سليما وإن لم ينتصر، وقد سار (عليه السلام) على رأس المسلمين إلى تبوك، فكانت مسيرته نذيرا حمل خصومه على التراجع إلى ما وراء حدودهم دون قتال، لا عجب وقد أثارت هاتان الغزوتان الثارات بين المسلمين والروم أن يجهز النبي جيش أسامة بن زيد بن حارثة، وأن يكون تجهيز هذا الجيش بعض سياسته في تأمين تخوم شبه الجزيرة من الروم ذوي البأس في ذلك العهد.
وكان أسامة حدثا لما يبلغ العشرين، وإنما ولاه رسول الله على الجيش ليجعل له من فخار النصر ما يجزي به استشهاد أبيه بمؤتة، وما يعود الشباب الاضطلاع بجسام التبعات، ولقد أمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، وأن ينزل على أعداء الله وأعدائه في عماية الصبح، وأن يمعن فيهم قتلا، وأن يحرقهم بالنار، وأن يتم دراكا حتى لا تسبق إلى أعدائه أنباؤه فإذا تم له النصر فليسرع بالعودة غانما مظفرا.
تذمر كثيرون منذ اليوم الأول من تعيين حدث كأسامة على رأس جيش يضم جلة المهاجرين والأنصار وتحدثوا في ذلك، صحيح أن أسامة كان موضع عطف النبي منذ طفولته، وأنه لقب لذلك «حب النبي وابن حبه»، ولقد بلغ من إعزاز النبي إياه أن أردفه وراءه عند ذهابه إلى مكة في العام الثامن للهجرة وأدخله معه الكعبة، وصحيح أن أسامة كان الشجاعة والإقدام منذ نشأته، حتى لقد انضم إلى جيش المسلمين في طريقهم إلى أحد، وإنما أعيد إلى المدينة قبل الموقعة لصغر سنه، ثم إنه أبلى من بعد في حنين أحسن البلاء وثبت فيها ثبات الأبطال الصناديد، لكن المتذمرين كانوا يرون ذلك شيئا، وتولي إمارة جيش فيه أبو بكر وعمر وكبار المسلمين شيئا آخر، ولقد بلغ تذمرهم النبي وهو في مرضه الأخير، وجيش أسامة مقيم بالجرف يتأهب للمسير، فأمر نساءه فأراقوا عليه سبع قرب من ماء حتى تنزل عنه الحمى، ثم خرج إلى المسجد وقال بعد أن حمد الله وصلى على أصحاب أحد: «أيها الناس، أنفذوا بعث أسامة، فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله، وإنه لخليق للإمارة وإن كان أبوه لخليقا لها.»
ولما اشتد المرض بالرسول لم يتحرك جيش أسامة من الجرف، روي عن أسامة أنه قال: «لما ثقل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
هبطت وهبط الناس معي إلى المدينة، فدخلت على رسول الله وقد أصمت فلا يتكلم، فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها علي، فأعرف أنه يدعو لي.» وفي ساعة الصحو الذي سبق وفاة الرسول صبح يوم الوفاة استأذنه أسامة في السير بالجيش فأذن له، لكن حدوث الوفاة بعد سويعات رد أسامة والجيش إلى المدينة كرة أخرى، ثم كان أسامة مع أهل البيت الذين تولوا جهاز الدفن، فكان هو وشقران مولى النبي يصبان الماء على جثمانه وعلي يغسله وعليه قميصه.
فلما أمر أبو بكر بإنفاذ بعث أسامة بعد أن تمت بيعته عاد المسلمون إلى تذمرهم وأخذوا يلتمسون الوسيلة للخلاص من موقف لم يرضوا عنه، ورأى بعضهم ما كان من خلاف بين المهاجرين والأنصار على الخلافة، وما ترامى إلى المدينة من أنباء العرب واليهود والنصارى وتحفزهم بعد موت النبي للوثبة بالمسلمين وبدينهم، فقالوا يوجهون الكلام إلى أبي بكر: «إن هؤلاء جل المسلمين، والعرب على ما ترى قد انتفضت بك، فليس ينبغي أن تفرق عنك جماعة المسلمين.» قال أبو بكر: «والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر رسول الله
Shafi da ba'a sani ba