وبادر الروم المسلمين بالقتال، وكان خالد قد أمر رجاله أن يؤخروه إلى صلاة الظهر، ورأى سعيد بن زيد كثرة القتلى من المسلمين فنادى يستعجل المعركة، هنالك تقدم خالد الفرسان وأمرهم أن يحملوا معه، ثم حمل الناس بأجمعهم، فانهزم الروم وأنصارهم وقتلهم المسلمون كيف شاءوا وأصابوا عسكرهم وما فيه.
وارتد خالد بالمسلمين فحاصروا دمشق، فنزل هو دير خالد مما يلي الباب الشرقي، ونزل أبو عبيدة على باب الجابية، ونزل عمرو بن العاص على باب توماء، ونزل شرحبيل على باب الفراديس، ونزل يزيد على الباب الصغير الذي يعرف بكيسان، وأحاط المسلمون بالمدينة وضيقوا عليها الحصار، ولا يخامرهم الريب في أنها ستفتح لهم أبوابها وتسلمهم مفاتحها.
وكتب أهل دمشق إلى هرقل يستنصرونه ويذكرون له تضييق المسلمين عليهم وشدتهم في محاصرتهم، فأرسل هرقل إليهم جيشا لقيه خالد والمسلمون بمرج الصفر فهزموه فارتد مدبرا، وعادوا إلى حصار دمشق.
ودافع أهل دمشق عن مدينتهم ما استطاعوا، تحصنوا بأسوارهم، ورموا المسلمين بالنبل من أعلاها، وبالغوا في تحصين أبوابها؛ لكن ذلك كله لم يصد المسلمين عن الشدة في الحصار، وعاد أمراء دمشق فكتبوا إلى هرقل يذكرون أنه إن لم ينجدهم فلا سبيل لهم إلا مصالحة عدوه وعدوهم، وكتب هرقل إليهم يحرضهم ويشجعهم ويذكر لهم أنه مرسل المدد وراء رسوله إليهم، لكن المدد طال غيابه عنهم، فلم يكن لهم بد من التسليم.
وصالح أهل دمشق المسلمين. تجري بعض الروايات بأن أبا عبيدة صالح أهل دمشق القريبين من باب الجابية، فلما دخل المدينة بعد توقيع الصلح كان خالد قد فتح الباب الشرقي عنوة، والتقى الأميران، هذا يقول إنه صالح أهل المدينة، وهذا يقول إنه فتحها بقوة الجند، ثم أجيز الصلح، وتجري بعض الروايات بأن خالدا هو الذي صالح أهل دمشق القريبين من الباب الشرقي، وأن أبا عبيدة دخل من باب الجابية عنوة، والمتفق عليه أن الأمر انتهى بالصلح بين الفريقين.
والروايات تجري كذلك بأن أبا بكر قبض وتولى عمر بن الخطاب أمر المسلمين وجيوشهم لا تزال على حصار دمشق، وأن ابن الخطاب بعث إلى أبي عبيدة بوفاة أبي بكر وبولايته وبعزل خالد بن الوليد، فلم يفض أبو عبيدة إلى خالد بعزله حتى فتحت دمشق أبوابها، وقيل: بل أفضى إليه بأمر العزل فلم يغير ذلك من نشاط خالد، وأن خالدا صالح أهل دمشق حين دخل أبو عبيدة من باب الجابية عنوة، فلما قيل لأبي عبيدة: والله ما خالد بأمير فكيف يجوز صلحه، قال: إنه يجيز على المسلمين أدناهم، وأجاز صلحه.
هذه رواية الأزدي والبلاذري والواقدي عن فتح الشام، أوجزنا تفاصيلها ولم نطل الوقوف عند اختلاف الروايات فيها، وهي تختلف كما رأيت عن رواية الطبري في الترتيب التاريخي للوقائع، وتختلف كذلك معه في أمر خالد بن الوليد وإمارته على الجند وعزله عن هذه الإمارة.
على أن أمرين أساسيين لا يقع عليهما خلاف؛ أولهما أن أبا بكر هو الذي قرر غزو الشام كما قرر غزو العراق، وهو الذي جيش الجيوش وسير الأمداد إليهما، وأن ما تم للمسلمين من نصر على الروم وعلى الفرس في عهده كان أساس الإمبراطورية الإسلامية. والثاني أن سيف الله خالد بن الوليد كان القائد المظفر في فتح الشام، كما كان القائد المظفر في فتح العراق، وأن عزل عمر إياه عن إمارة الجند لم يغض من مكانته ولا من عبقريته في الحرب، هذه العبقرية التي عرفها رسول الله فيه فسماه سيف الله، وأقرها له أبو بكر فقال: «ما كنت لأشيم سيفا سله الله على الكافرين.»
أما اختلاف المؤرخين في ترتيب الوقائع فليس يسيرا تحقيقه، لقد رأيت من رواية الطبري ومن إليه أن خالد بن سعيد ما لبث حين أمره أبو بكر بالتقدم في الشام أن اجتاز حدوده فانسحب الروم وأنصارهم من العرب أمامه دون قتال، وأن باهان قائد الروم جعل يتراجع بجيوشه نحو دمشق فيتبعه خالد حتى كانا على مقربة من مرج الصفر؛ هنالك ارتد باهان فأحاط به وقطع عليه خط رجعته وقتل فرقة من عسكره فيها ابنه سعيد بن خالد بن سعيد، عند ذلك فر خالد في كتيبة من أصحابه حتى بلغ ذا المروة على مقربة من المدينة، أما سائر قوات المسلمين فتقهقر بها عكرمة بن أبي جهل إلى حدود الشام، وهناك أقام حتى أمده أبو بكر بالأمراء والجيوش الذين تقدموا معه إلى اليرموك دون أن يلقوا الروم، وعسكر الروم على ضفة اليرموك الأخرى، ولم يقع بين القوتين قتال طيلة شهرين سئم الخليفة جمود الموقف أثناءهما فأمد المسلمين بخالد بن الوليد، وأقام خالد مع القوم حتى هزم جيوش هرقل هزيمة نكراء، ويوم تم لخالد هذا النصر قدم محمية بن زنيم بريدا من المدينة يحمل النبأ بأن أبا بكر قبض وأن عمر استخلف، وأنه عزل خالدا عن إمارة الجيش.
هذه رواية الطبري ومن إليه أما البلاذري ومن شاكله فيذكرون أن اليرموك حدثت في عهد عمر، وهي في رأي بعضهم آخر الوقائع في فتح الشام، كما يذكرون أن أبا بكر جعل أبا عبيدة أميرا على المسلمين لفتح الشام، وأنه أمده بجيوش كان خالد بن سعيد في بعضها وقد فتح أبو عبيدة الجابية ثم أبطأ في تقدمه وألح على الخليفة بالكتب يستمده ويذكر له من بأس الروم وقوتهم ما جعل أبا بكر يوفد خالد بن الوليد من العراق أميرا على جيوش المسلمين بالشام، ويعزل أبا عبيدة عن هذه الإمارة، وسار ابن الوليد حتى انضم إلى قوات المسلمين على قناة بصرى، ومن هناك التقى المسلمون بقوات الروم العظيمة التي اجتمعت بأجنادين فغلبوها، ثم إنهم حاصروا دمشق وطال حصارهم إياها قبل أن تفتح أبوابها، ويوم فتحت هذه الأبواب جاء بريد بوفاة أبي بكر واستخلاف عمر وعزل خالد.
Shafi da ba'a sani ba