وقتل يومئذ تذارق أخو هرقل، كما قتل عدد كبير من أمراء الجيش على الروم، وكان الفيقار وطائفة معه من أشراف الروم قد نجوا من الموت، فلما رأوا ما حل بأصحابهم تجللوا برانسهم ونكسوا رءوسهم وجلسوا حيث كانوا فقتلوا، وكان الموت منجاتهم من العار، أما باهان ففر ونجا ليقف أمام المسلمين من بعد في مواقع لا يكون حظه فيها خيرا من حظه في اليرموك.
تمت هزيمة الروم، فدخل المسلمون عسكرهم، واستقر خالد في رواق تذارق، وغنم المسلمون كل ما في عسكر الروم، فكان نفل الفارس منه ألفا وخمسة دراهم، ومن الرواق الذي أقام به شقيق قيصر خلال ثلاثة الأشهر التي انقضت مذ وقف المسلمون والروم وجها لوجه، مد خالد بصره إلى الميدان الذي فر منه الروم فأصبح خلاء ليس لهم فيه نبأة ولا هسيس، ثم رفعه إلى السماء شكرا لله على نعمائه.
ولم يكن عدد القتلى من المسلمين في وقعة اليرموك قليلا؛ إذ بلغ ثلاثة الآلاف، من بينهم عدد من كبار الصحابة والفرسان ذوي المكانة والبلاء، وكان عكرمة بن أبي جهل وابنه عمرو قد أصابتهما الجراح من كل جانب أثناء المعركة، فلما أصبح القوم جيء بهما إلى خالد برواق تذارق، فوضع رأس عكرمة على فخذه ورأس عمرو بن عكرمة على ساقه وجعل يمسح عن وجهيهما ويقطر في حلقيهما الماء حتى استشهدا، وأصيبت عين أبي سفيان بسهم أخرجه منها أبو جثمة.
قضت موقعة اليرموك على كل أمل للروم في استبقاء الشام، فلم يكد هرقل يسمع بهزيمة جيشه حتى جلا عن معسكره بحمص وجعلها بينه وبين المسلمين، وأقام عليها أميرا كما أقام من قبل على دمشق أميرا، أما المسلمون فما لبثوا حين فرغوا من أمر اليرموك أن ساروا إلى أرض الأردن فطهروها من رافضة الروم، ثم لاحقوهم إلى دمشق وحاصروهم بها.
وحصار دمشق وتغلب المسلمين عليها وما تلا ذلك إلى أن تم فتح الشام قد حدث في خلافة عمر، على رواية الطبري ومن إليه.
لم نقف من قصصنا أنباء اليرموك عند نبأ تواترت روايته واختلف مع ذلك فيه، ذلك النبأ أن محمية بن زنيم قدم بريدا من المدينة بعدما بدأت الموقعة، فأخذه الفرسان وسألوه ما وراءه، فأخبرهم بأن الأمداد في طريقها إليهم؛ فجاءوا به إلى خالد فأسر إليه أن أبا بكر قبض، ودفع إليه كتابا أخذه خالد فجعله في كنانته مخافة أن ينتشر الخبر في الجند، وكان هذا الكتاب يحوي استخلاف عمر بن الخطاب وأمرا بعزل خالد عن إمارة الجيش وبتأمير أبي عبيدة بن الجراح، فلما أتم خالد واجبه وظفر بالروم تنحى عن القيادة وتولاها أبو عبيدة مكانه.
هذا نبأ تختلف الروايات فيه مع تواتره، وليس يقع الخلاف على عزل خالد، فهذا أمر مسلم به؛ إنما يقع على تصويره في هذه الصورة التي روينا، فالأكثرون يؤيدونها وبعضهم يذكر أن الأمر بعزل خالد لم يسلم إليه، وإنما أخذه أبو عبيدة فأخفاه حتى تمت المعركة؛ ولم يطالع به خالدا حتى حاصروا دمشق، ويذهب غير هؤلاء إلى أن أبا عبيدة أمسك عن ذكره حتى فتحت دمشق، فلما تم فتحها أظهر إمارته وعزل خالد.
وعزل ابن الخطاب خالدا عن إمارة الجند بالشام على النحو الذي رواه الطبري ومن إليه يثير الدهشة؛ فلم يكن خالد أميرا على جيش بالشام غير جيشه الذي جاء معه من العراق، ولم يكن أبو عبيدة في هذه الرواية أميرا إلا على جيشه، شأنه في ذلك شأن عمرو بن العاص ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة، وإنما قام خالد على إمارة الجيش عامة يوم اليرموك بالاتفاق بينه وبين سائر القواد، ولو أن النصر لم يتم له في اليوم الأول لكانت القيادة لغيره في اليوم الثاني، ولغيرهما في اليوم الذي يليه، والدهشة لعزل ابن الخطاب خالدا تدعونا أن نتلمس في غير رواية الطبري وأصحابه ما يزيلها.
وسترى أن الأزدي والواقدي والبلاذري يخالفون الطبري كذلك في الترتيب التاريخي لوقائع الفتح في الشام، ويختلفون على هذا الترتيب فيما بينهم، فقد قيل: إن أجنادين ودمشق وغيرهما كانت قبل اليرموك، وقيل: إن اليرموك كانت آخر الوقائع، وسنقص هذه الروايات في إيجاز لا يجني عليها ويصور ما تنطوي عليه وما تتفق أو تختلف مع الطبري فيه.
وهذه الروايات تذهب إلى أن الله عزم لأبي بكر فتح الشام بعد أن تمت حروب الردة ولم يكن على تخومه من المسلمين أحد، ثم إنه أصبح يوما ودعا أهل الرأي بالمدينة وأفضى إليهم بما استقر عليه رأيه، فلما اطمأنوا إليه على ما ذكرنا في الفصل السابق، بعث إلى أهل اليمن وإلى غيرهم من المسلمين يستنفرهم لغزو الروم بالشام، وفي انتظار مجيئهم جعل يعد جيوشه من أهل المدينة ومكة والطائف وما جاورها، وقد عين من هؤلاء أربعة ألوية جعل عليها يزيد بن أبي سفيان وأبا عبيدة بين الجراح ومعاذ بن جبل وشرحبيل بن حسنة، وفي رواية أنه عين لكل أمير من هؤلاء منطقة في فلسطين أو الشام، ثم تكون القيادة العامة على الجيوش لمن يقع القتال في منطقته، وفي رواية أخرى أنه جعل أبا عبيدة أميرا على هذه الجيوش جميعا، وجعل يزيد بن أبي سفيان خلفه في الإمارة ،
Shafi da ba'a sani ba