ثم ما له لا يفعل وقد رأى النبي يقف صبح حنين في عدد قليل من أصحابه ينادي في جيش المسلمين إذ يولون الأدبار: «أين أيها الناس، أين!» وهذه الألوف المؤلفة تفر تولاها الفزع، فلما عرف الناس موقف النبي وسمعوا نداء العباس: «يا معشر الأنصار الذين آووا ونصروا، يا معشر المهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة، إن محمدا حي فهلموا.» تصايحوا من كل جانب: «لبيك، لبيك»، وارتدوا إلى المعركة مستبسلين!
أي تأس كهذا التأسي يلهم المرء أن الإيمان قوة لا يغلبها غالب ما تنزه المؤمن عن كل غرض إلا ابتغاء الحق لوجه الحق وحده!! وأي رجل له من الإيمان ما لأبي بكر لا يضاعف تأسيه بالرسول قوة نفسه فيجعله من عناصر الوجود الحاسمة القاهرة! هذه هي القوة الروحية التي لا سلطان لشيء في الحياة عليها، والتي لا تعرف الضعف ولا التردد، ولا يغلبها لذلك غالب!
وهذه الأسوة الروحية التي التمسها أبو بكر في رسول الله، والتي جعلت للمسلمين الغلب على المرتدين من سائر العرب، قد دفعت إلى نفوس المسلمين جميعا حمية سمت بهم إلى إيمان بأنهم لا غالب لهم من دون الله، وحببت إليهم الاستشهاد في سبيل الحق، وجعلتهم يرون هذا الاستشهاد نصرا دونه كل نصر، وأنت ستقرأ في هذا الكتاب من آيات ذلك ما قل في التاريخ نظيره، لقد كان المسلمون في عهد رسول الله مطمئنين إلى النصر؛ لأن الله وعد به رسوله، فكان يمده بالملائكة، وكان يوحي إليه ما يحقق وعده جل ثناؤه، أما في عهد أبي بكر، وقد انتهى الوحي باختيار الله إليه رسوله، فقد أصبح الإيمان وحده، وأصبح التأسي برسول الله وبخليفته في السمو بهذا الإيمان إلى ما فوق كل اعتبار في هذه الحياة الدنيا، وأصبح الاستشهاد في سبيل هذا الإيمان، سر القوة، وسر النصر، وسر الرقي بما تنطوي عليه نفوسنا من معان إنسانية رفيعة إلى غاية الكمال الإنساني.
هذه حقيقة روحية استلهمها الصديق من تأسيه بالنبي، فجلتها لنا أعمال المسلمين في خلافته وبتوجيهه على نحو من الوضوح يجعلنا نلمسها وكأنها أمر مادي تقع عليه الحواس بمقدار ما تمتثله الروح، ونحن نلمس هذه الحقيقة الروحية في حروب الردة كما نلمسها في فتح العراق وفي فتح الشام، فلولا هذا الإيمان ما استطاع المسلمون، على قلتهم، أن يتموا في عهد الخليفة الأول ما تم من جلائل الأعمال، وما مهد للإمبراطورية الإسلامية العظيمة.
وقد استلهم أبو بكر من تأسيه بالرسول، إلى جانب هذه الحقيقة الروحية، حقيقة اجتماعية بعيدة الأثر في حياة الأمم، فكل أمة تعتز بنفسها، وتطمئن إلى قوتها، وتشعر بأن عليها رسالة واجبة الأداء للعالم، وبأن العالم يجب أن يسمع لهذا الرسالة - مثل هذه الأمة التي لا يقف في سبيلها سلطان وإن عظم، ولا تصدها عن أداء رسالتها قوة من القوى.
وتضافر هاتين الحقيقتين، الروحية والاجتماعية، قد كان في كل العصور والأمم أساسا لفوز الشعوب التي تندفع متأثرة بسلطانهما ولنجاح الرسالة التي تدعو هذه الشعوب لها.
والأمر كذلك بخاصة إذا قامت هذه الرسالة على أساس من الدعوة إلى نبذ العلم، والحرص على عدل قوامه المساواة الصحيحة بين الناس، ولطالما قامت إمبراطوريات على هذه الأساس في مختلف حقب التاريخ، ولطالما تداعت إمبراطوريات بعد قيامها؛ لأنها حادت عن هذه الطريق، فاتخذ خصومها انحرافا عنها وسيلة لمناوأتها ومقاومتها.
والمساواة سدى الإسلام، وهو لذلك إمبراطوري اللحمة، هذه حقيقة ندركها اليوم بعقولنا كما أدركها كثير ممن سبقونا بعقولهم، ثم لم يستطيعوا ولم نستطع أن نحتفظ بالإمبراطورية الإسلامية في العالم لظروف خاصة بنا أو خارجة عن إرادتنا، أما أبو بكر فأدركها بإلهامه وآمن بها عن يقين، فدفع المسلمين لتنفيذها، فأقروها في العالم فاستقرت أجيالا وقرونا.
أدرك أبو بكر بإلهامه أن الإسلام في صفاء جوهره دين مساواة بين الناس جميعا، فالدعوة به لم توجه إلى قوم بعينهم، وإنما وجهت إلى الناس كافة، وقد اصطفى رسول الله في حياته موالي رفعهن إلى أعز مكانة وأسماها، كما أقر جماعة من العجم على حكم العرب، فسلمان الفارسي كان من خاصته المقربين، وزيد بن ثابت، مولاه الذي اشترته خديجة ثم وهبته له فأعتقه وتبناه، كان القائد في غزوة مؤتة، كما كان على رأس أعمال كثيرة قبلها، وأسامة ابنه هو الذي عقد له الرسول قبل مرضه الأخير لواء جيش يضم جلة المهاجرين والأنصار، ومن بينهم أبو بكر؛ وقد أقر
صلى الله عليه وسلم
Shafi da ba'a sani ba