ولم يطل الأمر بالزوجة فقد توفي أبو الزوجة، وأثبت عبد القادر وجوده الرائع في المحافظة على حقوق زوجته؛ فاستخلصها كاملة غير منقوصة، وأراد أن يبيع بيت القاهرة ليشتري بثمنه أرضا، ولكن زوجته التي بدأت ترى بوادر حقيقته الفذة أصرت أن يبقى لها بيت القاهرة. - لا تنس إننا ننتظر ابننا، وسيحتاج إلى تعليم، ولن نبقى في القرية طول عمرنا، واقتنع، أو هو لم يكن يملك إلا أن يقتنع فقد أصرت الزوجة على موقفها. - وشيء آخر. - ماذا أيضا؟ - أريد مائة جنيه شهريا من ريع أرضي. - ماذا؟ - هذا خير من أن أكتب توكيلا لأخي سلامة ليدير هو الأرض. - وكأنما هددته بالموت، بل لعل الموت بالنسبة إليه أهون من هذا التهديد. - ولك هذا، أتريدين شيئا بعد ذلك؟ - افعل بعد ذلك ما تريد.
فقد ضمنت هي أن تعيش ولا شأن لها بزوجها بعد ذلك؛ فقد كان كثير الحديث عن رغبته في التملك وكانت تخشى أن تجوع هي وأولادها في سبيل أن يزيد عبد القادر من أملاكه، وأنجبت ابنها الأول ورآه فهمي بك واطمأن على أن ذريته باقية ثم مات.
مات وانفرد عبد القادر بالأرض ، وبدأت مواهبه تظهر على حقيقتها. - مصاريف البيت يا عبد القادر. - والمائة جنيه التي تأخذينها؟ - هذا من مالي. - وهل لك مال ولي مال؟ - اسمع إما أن تدفع خمسين جنيها في الشهر مصاريف البيت أو ... - لا تكملي. - إذن ... - سأخبرهم في الدائرة أن يصرفوا لك خمسين جنيها كل شهر. - ولماذا لا تعطيني أنت؟ - وأنت ما شأنك؟ - خبايا البيوت لا يجوز أن تعرفها الدائرة. - أنت تأخذين هذا المبلغ رغم أنفي ويدي لا تطاوعني أن أدفعه. - أنت حر.
وأصبحت الدائرة تعطي نفيسة خمسية جنيها فوق المائة، وانطلق عبد القادر يبحث عن الأرض، رحلة طويلة يقطعها كل يوم؛ يمر بالأرض، ويستخلص كل مليم يمكن أن يستخلصه، كل ما يهمه ألا يدفع وأن يجمع.
حين مات ميخائيل كان لا بد له أن يعين كاتبا جديدا. - كم تأخذ يا ابني في الشهر؟ - كم تدفع؟ - ثلاثة جنيهات. - وهل هذا معقول؟ - ستسرق أنت عشرة فليكن مرتبك ثلاثة.
المهم ألا يدفع. وقد كان يدرك أن الكاتب سيسرق على كل حال مهما يغدق عليه في المرتب فليستفد هو من المرتب وليسرق الكاتب بعد ذلك.
كانت الأموال السائلة التي تركها أبوه تكفي لشراء ألف فدان فاشتراها، وأصبحت أملاكه في بني سويف ثلاثة آلاف فدان، وأخذ نفسه ألا ينفق هو على نفسه شيئا، وقد كان رداؤه رداء المشايخ فهو يلبس العمة والجبة والقفطان جريا على عادة أعيان الصعيد، وقد كان أبوه هو الذي يشتري له الملابس فلما مات أبوه أصبح لا يشتري شيئا، وقد جاهدت نفيسة جهدا شاقا أن تجعله يشتري لنفسه بعض الملابس فكان جوابه الوحيد والدائم: لك المائة والخمسون جنيها وليس لك بعد ذلك شيء. وأصبح الأولاد ثلاثة وهو لا شأن له بهم. وضاقت نفيسة بالقرية وبزوجها. - أريد أن أذهب إلى القاهرة. - وأنا. - أنت حر. - لن تأخذي مليما واحدا أكثر مما تأخذين. - لا أريد شيئا، فقط أريد أن أذهب إلى القاهرة.
ومنذ ذلك الحين أصبحت تسلية عبد القادر إذا خلا به الليل أن يفتش عن القمل في ملابسه، ويقتله وأن يرتق هذه الملابس حتى لا تبين عما تحتها من قذارة، أو حتى يسلي نفسه فما كان يهمه أن يبين منه القذر.
وفي يوم اشترى أرضا، وكان لا بد أن يسجلها بالقاهرة؛ فذهب إلى بيت زوجته وصعد إليها في الطابق الأعلى ورأت هيئته الجديدة فصرخت: ماذا بك؟ - ماذا. - ما هذا الذي تلبسه؟ - ملابس. - ألا يغسلها لك أحد. - لقد تركتني. - عشرة قروش لأي فلاحة تغسل ملابسك. - أنت لا شأن لك بي. - إلى هنا ولي شأن، يا محمد، يا حسين.
وجاء الخادمان. - هذا الشيخ لا يصعد إلى الطابق الأعلى إلا بعد أن يستحم بالطابق الأسفل وتغير له ملابسه. - لن أشتري أي ملابس. - سأشتريها أنا.
Shafi da ba'a sani ba