4
هو الملجأ الأخير ليس لي غيره، لا يستطيع هو الآخر أن يدعي موتي، أنا الذي صنعته من السهر الطويل والجهد الشاق والضمير اليقظ والعلم والدراسة والفن، صنعته وجعلت اسمه على كل لسان، مكتبي، إذا ذكر اسمه للمتهم فهو أمن، ولصاحب الحق فهو عدل، لم أقبل فيه قضية إلا كنت راضي الضمير عنها، فارغ هو الآن، موعد المكتب لم يأت بعد، الوكيل لم يأت والزبائن لا تجيء إلا بعد موعد المكتب بساعة أو أكثر، ما أعظم ما قمت به، هذه القضايا القديمة كلها تحمل الأعمال الرائعة التي قدمتها في ساحة العدالة، وفي فن المحاماة وفي خدمة الحق. بل إلى أن القضايا التي لم أقبلها كانت أعظم وأضخم. لا أنسى تلك القضية التي اجتمع فيها خمسة شباب ليقتلوا رجلا عجوزا، وجاءني أخو أحدهم يدعوني للمرافعة عن أخيه، وقرأت القضية ووجدت الظروف جميعا تشير إلى موكلي بالاتهام، كان مجرد المرافعة في القضية مهما بالنسبة لي؛ فقد كنت في ذلك الحين محاميا ناشئا يبحث عن القضايا الهامة ليصنع بها اسمه في سجل كبار المحامين، وقد جاءني هذا الموكل لصلة كانت تربط بيني وبين أسرته، وكان طامعا ألا أغلو في الأتعاب وقد كنت خليقا ألا أتقاضى شيئا على الإطلاق. فمثل هذه القضايا يدفع فيها المحامون أتعابا، ولم تكن أصابع الاتهام التي تشير إلى موكلي تهمني في شيء، كل ما كان يهمني هو الحقيقة، لقد أحسست أن موكلي اشترك في الجريمة، أحسست بهذا إحساسا اقترب من اليقين، فحين جاء الأخ يسألني إن كنت سأقبل القضية سألته ذلك السؤال الذي لا يجوز لمحام أن يسأله لمتهم أو قريب لمتهم، ذلك السؤال المباشر الصريح القاطع: هل ارتكب أخوك الجريمة؟
وأطرق الأخ لحظة كأنما كان السؤال لكمة عنيفة موجهة إليه ثم رفع رأسه في حزن وأسى. - نعم.
وهدمت نعم كل آمالي أو معظمها؛ فقد أردت أن أخاطب الأمانة في نفس هذا الأخ. - لقد أقسمنا اليمين ألا نكذب فدفاعي عن أخيك سيكون قائما على طلب التخفيف بناء على الشهادات التي قدمت للمحكمة لإثبات الجنون، وأعتقد أن هذا هو خير سبيل للدفاع، أنا لن أدعي أن أخاك بريء، إن رأيت أن أسير في الدعوى على هذا النحو فأنا تحت أمرك، وإن رأيت أن نبحث عن محام آخر يحاول نفي التهمة جميعا فهذا إليك.
وصمت الأخ قليلا في تلعثم وهو يقول: سر في الدعوى على النحو الذي يرضيك، وفرحت يومذاك ولكن ما لبث فرحي أن تبدد؛ فقد علمت أن الأخ قد وكل محاميا آخر، تبدد فرحي ولكن ما أسرع ما ملكني شعور بالسعادة الطاغية، ذلك الشعور الذي يمتلك من قدم تضحية في سبيل مبدأ، شعور رائع كثيرا ما أحسست به وأنا أقيم صرح هذا المكتب.
شعرت به كلما رفضت قضية كهذه، وشعرت به كلما حاول أحدهم أن يجعل من المحاماة مهنة وساطة رخيصة.
لعل هذا النوع من الشعور أعظم في إسعاده من كسب قضية؛ فكسب القضية يقترن فيها الجهد بالفرح، وتوقع الكسب مع الجهد يجعل الكسب نتيجة قريبة الاحتمال، فالفرح بها لا يكون كبيرا، أما مغالبة النفس وهي أعظم عدو للإنسان ورفض المال الذي نحتاج إليه، رغم حاجتك إليه.
أما هذا فإنه يشيع في النفس نوعا من الرضا والسعادة والاطمئنان إلى نفسك والثقة بها، وأهم ما يحتاج إليه المرء في حياته أن يطمئن إلى نفسه ويثق بها، يثق بأنها تستطيع دائما أن تكون أبية مترفعة فيها كبرياء القناعة واعتزاز أصحاب المبادئ.
ماذا حدث لي حتى بدأت أترافع عن نفسي، لا أدري ماذا حدث، لا أريد أن أذكره وهل أملك إلا أن أذكره؟ وماذا يهمه؟ فما دام مكتبي هذا باقيا لي فكل ما عدا ذلك عبث، أستطيع أن أعيد إلى حياتي كل هؤلاء الذين رفضوا حياتي فهم أيضا قد صنعتهم بمكتبي، وأستطيع أن أعيد صنعهم إذا شئت، زوجتي، السنين الطويلة والطريق الذي قطعناه مع الآمال الهشة الواهنة حتى أصبحت الآمال حقائق وهي في شموخها الصاعد وفي ترفعها الأبي وفي مثاليتها الرائعة القاسية. وإني أحبها وأكبرها وأجلها في كل لحظة في حياتي، إني أعتز بها، أمثل هذه أستطيع أن أعيد صنعها؟ أن أعيد صنع الحياة التي قطعتها معها، ابنتي نبض قلبي وحبي وضعفي وقوتي، في ثقتها بنفسها وبحبها لي تقطع الحياة حرية ونقاء. كيف استطعت أن أجعلها ترفض حياتي، كيف؟ كيف، وكيف تعود إلى مثل هذه البنية.
حبيبتي، لحظات السعادة المزغردة الطاغية، لحظات المتعة الوضيئة في حياتي، القلب، والقلب ينبض واحد، والمخاطرة والخاطرة تتآلفان لهما خاطرة واحدة، مخاوفي عندها أمن وآلامي عندها إلى زوال، ومع ذلك بقي لي مكتبي.
Shafi da ba'a sani ba