وحين أصبحت في الجامعة أحاط بها الزملاء برغباتهم الجامحة، وأحاط بها الزميلات بغيرتهم المجنونة فلم تعبأ بالرغبة من الفتيان ولا بالغيرة من الفتيات، وظلت كما تحب لنفسها أن تظل مترفعة كريمة على وئام تام مع ضميرها وحريتها.
واستطاعت الرغبة من الشباب والغيرة من الفتيات والكبرياء منها أن تطلق حولها الأقاويل ضاربة مجنونة؛ فمنهم من يقول لها حبيب ولكنها خبيثة عميقة تستطيع أن تخفي أمرها، ومنهم من يقول مجنونة متكبرة، ومنهم من يقول إنها مبذولة لمن يشاء ولكنها تتظاهر بالعفة، ومنهم من يدعي أنها في أمسها القريب كانت معه، وأنه رأى من فجورها ما لم يشهده من المحترفات.
وتجد هذه الأقاويل طريقها إلى أذنيها؛ فالبنات يحببن أن يتظاهرن بالشفقة عليها، ويحببن أيضا أن يتظاهرن بصداقتها، فإن الفتاة التي تستطيع أن تثير كل هذه الأقاويل تصبح صداقتها في أغلب الأمر شيئا حبيبا إلى نفوس الفتيات.
وكانت هذه الأقاويل تصيب من نفسها مكانا قاسيا، ولكنها كانت تستطيع دائما أن تتكبر عليها فكأنما الحديث عن فتاة غيرها لا تعرفها.
وإن كان قول الشاب الذي قال إنه كان معها قد أثار فيها غضبا شديدا، إنها تعرف هذا الفتى ولكنها لم تكلمه في حياتها أبدا، ولقد حاول أن يتقرب منها بالطريقة الساذجة التي يحاول بها غيره فلم تكلف نفسها عناء صده بالحديث، وإنما أشاحت عنه وانصرف دون حديث؛ فهو من ذلك النوع الذي يحب أن يزهو دائما أن النساء أسيرات إشارته.
عرض الفتاة بضاعة لا حارس عليها، يكفي أن يطلق هذا الأفاق قوله الرخيص حتى أصبح أحدوثة بين الطالبات والطلبة، وعن وهم دائما أكثر ميلا إلى الهجوم منهم إلى الحق، لا يعنيهم ما يعرفونه عن كبريائي، وما يعرفونه عن هذا الفتى من كذب وادعاء، وإنما يعنيهم أنهم أصبحوا أمام قالة جديدة حكاية مثيرة يرويها فتى على أنه بطلها، وسنصدق الحكاية بلا تمحيص ولا تفكير؛ فإن النفوس تريد أن تصدقها، وليذهب كبريائي إلى أي جحيم يشاء.
ويتجمع الفتيان والفتيات حول الشاب ويصف، وفي كل يوم يزيد في الوصف ويستطيع في خبث أن يغمز بعينه: لولا وجود الإنسان لسمعتم ما شئتم من التفاصيل. - أنت كذاب.
صوت انبعث من شاب بينهم، والتفتت إليه العيون منكرة عاجبة؛ فقد تعودوا أن يسمعوا هذه الأحاديث من ملقيها هذا دون أن يفكر أحد في وضعها موضوع الاختبار ليحكم عليها آخر الأمر بالصدق أو بالكذب، فما هذه النغمة الجديدة؟ ومنذ متى يفكر واحد منهم في مقدار الحق فيما يسمع؟ - أنا كذاب؟! وما شأنك؟ - أنت كذاب لأن ما تقوله لم يحدث، وحقير؛ لأنه لو كان حصل لكان الأولى بك أن تستره. - خطبة عظيمة في مكارم الأخلاق. - الفتاة التي تروي عنها نعرفها جميعا وهي لم تسمح لأحد أن يأخذ عليها إشارة غير كريمة.
فهي حريصة أن تكون سمعتها في الكلية أحسن سمعة، وهي جميلة، بل هي أجمل فتاة نعرفها، ولو شاءت لوجدت الأصدقاء من كل مكان، ومن الطبيعي أنها إذا أرادت أن تلهو، فإنها ستبحث عن شاب في أي مكان غير الكلية التي حرصت دائما أن تكون فيها شريفة، أنت كذاب.
وكأنما أفاق الجمع الملتف حول القصة والحوار إلى هذه الحقيقة البسيطة الساذجة، إنها حقيقة لو أراد أي شخص منهم أن يفكر فيما يسمع لوصل إليها دون جهد يذكر، ونظروا إلى الفتى الذي كان يروي فوجدوا البهتة على وجهه، إنه في موقف جديد عليه؛ فقد ظل طول عمره يروي فيجد المتعة في وجوه السامعين ولم يجد معارضة في يوم من الأيام، ونظر حوله فوجد الوجوه جميعا تنتظر جوابه وهي أقرب ما تكون تصديقا لهذا الهجوم الذي شنه عليه زميله، كان ذهنه مشغولا بخلق القصة ولم ينشغل أبدا في خلق الحجج التي تدل على صدقها؛ فحين واجهه هذا الإنكار وجد نفسه في صحراء من الدهشة ولم يجد شيئا يقوله، فغر فمه وحملقت عيناه وانطفأ عن وجهه وهج الحماسة وجف ريقه، وراح يدور بعينيه حوله، فإذا العيون التي كانت منذ لحظات ساجية مستمتعة بما تسمع تصبح عيونا متسائلة متهمة قاسية محتقرة، كانت تريده أن يكون صادقا، كانت تريده يحمل الدليل على ما يقول حتى تصبح متعتهم حقيقية لا أثر فيها للخداع، خداعه لهم وخداعهم هم لأنفسهم، ولكنه خذلهم بهذا الصمت وهذه الحيرة، وهذه الحماسة المنطفئة، وهذا الصمت الذاهل الحيران، وهذا الوجوم الكسيف الخزيان. طال صمته فألقى بعينيه إلى الأرض آخر الأمر واستدار للجميع في يأس قائلا في صوت يحاول أن يحمل التهديد فلا يحمل إلا الهزيمة: طيب.
Shafi da ba'a sani ba