ومضت الأيام وأحس أنور أنه يستطيع أن يكون كما يريد أن يكون؛ فقد طال مكثه في الحي وثبتت أقدامه، وبدأ يعود إلى نفسه التي صحبها معه من القرية.
فوجئ المالك الكبير بأنابيب المياه في بيوته تتفجر كل يوم، وأدرك أن أنور هو فاعلها. - لا أريدك في أرضي. - أنا تحت أمرك. - أنت لا ترعى الجميل. - وأين الجميل؟ - ألم أتركك تسكن في أرضي؟ - كنت أدفع أجرا. - ولكني تركتك تسكن. - بعرقي. - إذا أعفيتك من الأجرة توقف أعمالك. - أنا لم أعمل شيئا. - أستطيع أن أضربك كل يوم علقة حتى تترك الحي جميعه. - ولكني لم أعمل شيئا. - لا تعد إلى ما صنعت ولا تدفع الأجرة. - شكرا ولكني لم أصنع شيئا. ••• - لماذا ضعفت معه؟ - لو أخذته بالشدة لم آمن أن يظل في تخريبه. - تستطيع أن تخرجه من الحي كما قلت. - ويستطيع أن يجيء إليه خلسة فيرتكب جرائمه ويرجع من حيث أتى. هو الآن تحت أعيننا على الأقل. •••
إذن فالحكاية أثمرت. بهذا إذن يستطيع أن يصنع ما يشاء.
ذهب أنور إلى مولد السيدة واصطنع خناقة مع فتوة الحي، فأصبح هو الفتوة وأصبح من الميسور عليه أن: - قطعة الأرض. - ما لها يا معلم أنور؟ - أقبلها هدية من سعادتك. - قطعة الأرض جميعها. - حتى أحافظ على المباني الأخرى. - أليس كثيرا يا معلم أنور؟ - لا بد أن أبني لي بيتا. - فخذ نصفها. - إذن أحافظ على نصف الأملاك. - أمرك، خذها كلها.
وفعلا بدأ أنور يبني بيته، وحتى يعلو البيت لا بد أن يحفر الأرض، وإذا بالأرض تنكشف له عن كنز عظيم، وأصبح أنور في ضربة أرض أغنى أغنياء حي السيدة، ولكن المال لم يخلص إليه هكذا سهلا هينا وإنما نبت له رجل لا يدري عنه إلا أنه بني اللون. - هذا المال ملكي. - أي مال؟ - هذا الكنز الذي وجدت. - أنت الذي خبأته هنا؟ - لا، وإنما أجدادي. - من؟ - أجدادي. - ولماذا لم يدلك أجدادك على مكان الكنز؟ - كان آبائي كلهم يعرفونه، ومات أبي دون أن يخبرني به. - فمن أدراك إذن أنه كنزك؟ - إنه في هذه المنطقة. - وتتوقع مني أن أعطيك إياه. - إذا شئت العدل. - فإن لم أشأ. - فالقوة.
وقتل أنور المطالب بالكنز وثار أهله، وقامت المعارك كثيرة بين أنور وأعوانه وبين أهل القتيل، ولكن هذا لم يمنع المال أن يظل ملكا لأنور، ولم يمنعه أن يقيم بيتا رائعا ويصبح سيدا عظيم الشأن، ويتزوج ويأتي ابنه أسعد ليجد نفسه بك.
وحين يشب أسعد عن الطوق يجد هناك عداوة بين أنور أبيه وبين رجب، ولم يكن يدري أسباب هذه العداوة، ولكنه ما لبث أن عرفها على مرور السنين واتساع الإدراك، وعرف أيضا أنه لا بد أن يكون عدوا لراغب بن رجب لأن طبيعة الأمور تقضي بأن يكون عدوا له.
قدر أنور حين أصبح غنيا أنه لا يليق به أن يكون فتوة فراح ينمي ثروته فأنشأ مصنع خشب، أو هو في الحق اشترى المصنع الذي عمل به حين جاء إلى القاهرة أول ما جاء، وأغراه الربح أن ينشئ مصانع أخرى؛ فزاد ثراؤه زيادة فاحشة، وأصبح مطمئنا أنه أغنى أغنياء المنطقة جميعها إن لم يكن أغنى أغنياء مصر.
ولكن شيئا جديدا بدا في الأفق اسمه رجب، كان رجلا ينتسب إلى العلماء فلم يعره أنور التفاتا أول الأمر، ولكنه فوجئ برجب يجمع حوله المريدين وعلى رأسهم سعيد، وفوجئ أنور برجب يقول لا يجوز أن يكون هناك أغنياء وفقراء وإنما المال مال الناس أجمعين، قالها هو ونفذها سعيد وأعوانه. وأصبح حي البغالة جميعا ملكا لرجب وسعيد، وأصبحا ينافسان أنور في غناه، وحلت بينهما الكراهية منذ ذلك الحين، وقد توثقت الصلة بين رجب وسعيد حتى إن راغب لا يدري إن كان ابن رجب أم ابن سعيد، بل إن أمه نفسها لا تعرف، فهو من الناحية النظرية ابن رجب أما من الناحية الفعلية فهو لا يدري.
دافع الناس عن أموالهم في حي البغالة فكان الموت مصيرهم، فشا فيهم سعيد، أموالهم أو أرواحهم، ومات كثيرون ولكن الأمر استتب له ولرجب، وراح سعيد يتولى توظيف الأموال؛ فأنشأ المصانع هو أيضا بل أنشأ المواخير حتى ينسى الناس ما فقدوه من مال وتاجر في كل شيء، وبالإرهاب يشتري من لا يريد أن يشتري.
Shafi da ba'a sani ba