وسنسمح لأنفسنا أن نستعمل كلمة «الذوق» في تأثر الإنسان بما هو فريد من المشاعر، على نحو ما أطلقناها على تأثره بما هو فريد من الإحساسات. فمثلا إذا أصيب إنسان بموت ولده، فسيحزن، لكنه لن يحزن «حزنا عاما» بل حزنا خاصا فريدا في ظروفه وفي الشعور به، وإذا رأيت منظرا جميلا، شروق الشمس أو غروبها مثلا؛ فستشعر بفرحة قوية حسب استعدادك، لكنك لن تفرح «فرحا عاما»، بل فرحك فريد فذ يتعلق بمنظر فريد فذ كذلك. وحتى لو فرحت بشروق الشمس أو غروبها كل يوم، فالمنظر في كل مرة من هذه المرات واحد متميز، لا ينطمس مع أقرانه في سائر الأيام.
هذا التأثر الفريد المتميز، الذي تنطبع به نفسك استجابة لموقف فريد متميز كذلك؛ هو الذوق، وهو كما ترى شيء خاص بك، يستحيل أن تنقله إلى سواك، يستحيل أن تنقل إلي ما تشعر به أنت من ألم في ضرسك أو حزن على فقيدك الذي تحبه وتعزه، كما أنه يستحيل أن تنقل إلي تذوقك للطعام، وكل ما في مستطاعك أن تقول لي كلمات؛ لتثير في نفسي إحساسات ومشاعر أستمدها من تجاربي الخاصة أيضا. فإن قلت لي مثلا: إني حزين على ولدي الذي مات، فربما حزنت لحزنك، لكني سأحزن حزنا ثانيا خاصا بي، سأستثير من ذكرياتي شعور الحزن، إنك لم تنقل إلي حزنك، وإنما أثرت في نفسي جانبا من سابق خبرتي.
هذا هو الذوق، وأما العقل يا سيدي القارئ؛ فلسنا نريد أن نصوره سحرا غامضا، ليرتع كل متكلم وكل كاتب في معانيه كيف شاء. العقل هو ألا يكون في قولك تناقض، هو ألا تقول قولا ينقض بعضه بعضا.
وبديهي أن التناقض لا يعني شيئا إذا طبقناه على الأفراد؛ إذ لا معنى لقولك إن هذا الكتاب الذي أمامي يناقض هذا القلم، أو إن شعوري بالحزن في هذه اللحظة يناقض شعوري بالفرح عصر الأمس. أقول إن التناقض لا يكون بين المفردات الواقعة، وإذن فهو لا يكون أبدا فيما أتلقاه عن العالم بالذوق؛ لأن الذوق - كما أسلفنا - هو وسيلة تأثرنا (بالحس أو بالشعور) بتلك المفردات الواقعة. من هنا استحال علينا أن نقول لشاعر صدقت أو كذبت. هذا إن كان الشاعر شاعرا حقيقيا يعبر عن أثر شعوري فريد.
وإنما يكون للتناقض معنى في التعميمات المشتركة؛ فإذا قلت عن شيء إنه فوق المنضدة، فمن التناقض أن تعود فتقول إنه تحتها. و«فوق» و«تحت» وأشباههما من المعاني مشتركة عامة، وليست هي بالإحساسات الفذة الفريدة. •••
وبعد، فهل يكون النقد الأدبي للذوق أو للعقل ؟ هل يكون فنا أو علما؟ هذه هي المشكلة، كما يقول هاملت.
وأعتقد أن الأمر لم يعد عسيرا بعد تحديد الألفاظ الذي أسلفناه. فهبك قرأت قصيدة فأشاعت في نفسك لذة، إلى هنا أنت بمثابة المتذوق الذي يتأثر بشعور فريد خاص به، ولسنا نحرمك ولا نحرم أحدا من هذه اللذة الذوقية بأي معنى من معاني الحرمان، لكن اذكر - أستحلفك الله - أن ذلك التذوق يستطيعه الأبكم؛ فلا تقل: إنني ما دمت قد قرأت القصيدة، وذقت فيها حلاوة فأنا ناقد! لا تقل ذلك بربك العظيم؛ لأن الأبكم يستطعم القصيدة كما استطعمتها أنت، ثم لا ينطق، والناقد بالطبع لا بد فيه من كلام يقوله لنسمع.
لكنك لست مصابا بالبكم، وتريد أن تتكلم بعد استمتاعك بما قرأت. عندئذ أنت بين أمرين؛ فإما أن تقول ما شئت من كلام تقصد به أن تثير في نفس سامعك مثل الأثر الذي وجدته أنت، وقد تفلح وقد لا تفلح في تحقيق بغيتك، لكنك - على فرض توفيقك بمثابة الأديب المبدع، لا الناقد؛ لأنك تؤدي ما يؤديه الأديب. وهو أن يقول كلاما يرصه على الصورة التي يهوى؛ ليؤثر في السامع وقد نجحت، وسم هذا الضرب إن شئت نقدا تأثريا، إذا ضمنت لنفسك حرصا لا ينسيك أنه لا يصف حقيقة القطعة الأدبية، بل يصف وقعها في نفسك.
وأعجب العجب في هذا الصدد أن نفتح «منهج البحث في الأدب واللغة» للانسون، وهو الذي يوصينا به الدكتور مندور لنهتدي سواء السبيل، فترى الرجل يفتتح بحثه قائلا: «فالنقد التأثري نقد مشروع لا غبار عليه، ما ظل في حدود مدلوله، ولكن موضع الخطر هو أنه لا يقف قط عند تلك الحدود؛ فالرجل الذي يصف ما يشعر به عندما يقرأ كتابا مكتفيا بتقرير الأثر الذي تخلفه تلك القراءة في نفسه، يقدم بلا ريب للتاريخ الأدبي وثيقة قيمة ... ولكن مثل هذا الناقد قلما يمسك عن أن يزج بأحكام تاريخية خلال وصفه لأثر الكتاب في نفسه، أو أن يتخذ من ذلك الأثر وصفا لحقيقة الكتاب الذي يقرؤه ... ولذا كان من أهم وظائف المنهج أن يطارد هذا النقد التأثري.»
كلا، أيها القارئ الكريم، لسنا نحرمك بأي معنى من معاني الحرمان، أن تقرأ وتتذوق ثم تسكت، فلا تكون شيئا بالنسبة إلينا، ولسنا نحرمك بأي معنى من معاني الحرمان أن تقرأ وتتذوق، ثم تكلمنا لتثير فينا أثرا مثل الذي تأثرت به، وعندئذ تكون أديبا من المرتبة الثانية؛ فليس هنالك فرق جوهري في طبيعة الموقف بين تأثر الأديب الأصلي بالطبيعة مباشرة فيكتب، وبين أن تتأثر أنت بالأثر الأدبي فتكتب. وفضله عليك هو أنه أسبق منك إلى إدراك الجمال في الطبيعة، لكن كليكما مع ذلك أديب يتأثر، فينشئ ليحدث في القارئ أثرا شبيها بأثره.
Shafi da ba'a sani ba