ومن أنواع التسلية - إذا أردت تسلية - أن تتعقب الأدباء وهم يتجمعون في صحيفة بعد صحيفة، كما ينتقل مركز البيع والشراء في المدينة من شارع إلى شارع، كان شارع الموسكي هو مركز الحركة التجارية في عهد مضى، ثم انتقل مركز التجارة إلى شارع فؤاد الأول، وكأني به اليوم ينتقل إلى شارعي قصر النيل وسليمان باشا، وهكذا الصحف والأدباء ترى مجموعتهم في هذه الصحيفة مرة، ثم في هذه الصحيفة أخرى؛ لأن الصحف تتنافس كما تتنافس دكاكين البقالة، فقد يعن لصحيفة منها أن تضارب زميلاتها بالإكثار من أجور الأدباء الكبار، فيجتمع لديها هؤلاء، ثم تعود صحيفة أخرى فتمسك بالزمام، ويعود الأدباء فيرحلون رحلة جديدة، وهكذا. ولسنا نكره بالطبع أن يؤجر الأدباء أعلى الأجور، إنما الذي نكرهه ونتشاءم له أن تكون هذه الأجور ثمنا لطاعة الأدباء؛ فلرؤساء التحرير أن يأمروا وعلى الأدباء أن يطيعوا، كأن الأمر مقاولة وبناء، فأضع التصميم الذي يعجبني وأستأجر البناء لينفذ لي ما أريد دون أن يكون له حق الاعتراض! إذا حدث هذا فلا فن في بناء، وكذلك قل في فن الكتابة وفي أي فن آخر.
جناية الصحافة على الأدب جناية كبرى، لا تعوضها الجنيهات القليلة التي تدفعها لأدبائنا ثمنا بخسا رخيصا، يموتون بعده فقراء - كما مات المازني - فأولا تجنت الصحافة على الأدب فجعلته مقالات قصارا، ولم تفسح من الوقت لأديبنا أن يتفرغ للكتاب المسهب المطول. وثانيا جعلت مدار ما يكتب هو ذوق الجمهور القارئ من حيث الصنعة والأداء، ومن حيث الموضوع والمعنى. ولو سارت الحال على هذا النحو عشرين عاما؛ فلن تدور عجلات المطابع بكتاب واحد ممتاز يخرجه أديب إنتاجا خالصا لوجه الفن الرفيع.
حامد سعيد
هناك، على مبعدة نائية من المدينة وصخبها، وفي أحضان النخيل المتشابك المتعانق، أقام هذا الفنان الشرود لنفسه دارا من الطين تراها بقبابها وسط الزرع، فيخيل إليك أنك دان من مهبط ولي من أولياء الله، نفرت به قداسة روحه عن مطارح العمران. وتدخل الدار فيزداد هذا المعنى شيوعا في نفسك، منذ تنحني راكعا لتدخلها من باب وطيء، إلى أن تدور في قيعانها القليلة البسيطة المترعة بالروح في كل شبر من أرضها وجدرانها وسقوفها ... ويودعك الفنان وزوجه الفنانة، وكأنهما ملكان طاهران قد نظرا إليك نظرة الإشفاق، أن تركت لهما ركنا معمورا بالروح والمعنى؛ لتعود إلى مدينة مزدحمة الأرض والهواء بكل ما تضيق له الصدور وتكتئب النفوس.
أغفل هذا الفنان الشرود النفور مدائننا وشوارعنا وبيوتنا وأسواقنا وموائدنا ومآكلنا ومشاربنا وأطماعنا؛ ليعيش هو وزوجه في تلك العزلة النائية، فينصرف إلى الطبيعة يستمد منها الحياة غزيرة دفاقة، واسمع له يحدثك في هدوئه العجيب الأخاذ، كيف تمتلئ الطبيعة في كل ركن من أركانها بما تهتز له النفوس الحية اليقظى فتنة وإعجابا. ألا خسئت عينان تغضيان عن هذا الغصن، وهذه الصخرة، وتلك الصدفة، وهاته الحشرة. انظر إلى هذه الحشرة يوما ويوما وأياما، تطالع فيها كل يوم جديدا من ترتيب وتنسيق ونظام وجمال وجلال، سبحانك اللهم خالق الخلق!
وفي هذه اللفتات إلى ما يظنه الناس صغائر توافه، وما يرى فيه الفنان موضعا للفتنة ومصدرا للسحر، ثم فيما بين كائنات الطبيعة من وحدة وإخاء، برغم ما يبدو فيها من تباين وخلاف. يدور «حامد سعيد» بفكره وفنه، وعلى هذا الأساس يقيم مدرسته، وبهذا المبدأ يعلم حوارييه.
وأين عسى هذا الفنان المصري الصميم جسما وروحا أن يجد مصدر إلهامه؟ عند أجداده القدماء، عند المصريين الأوائل، فتراه مع تلاميذه في المتحف المصري ينظرون ويتأملون ويستوعبون، ليمتلئوا روحا، ثم يعودون إلى لوحاتهم ليصبوا أرواحهم المترعة آيات من الفن الجميل.
وشعار هذه الجماعة هو تمثال «حتحور»، انظر إليه كيف اتحد فيه الإنسان بالحيوان والطبيعة؟! هذا إنسان واقف تحت عنق البقرة وكأنه جزء منها، وهذه بقرة لها قرنا ثور ليمحى عندك كل تفريق بين ذكور الطبيعة وإناثها، ثم هذه هي الشمس قد استقرت بين القرنين في اتساق وانسجام، بهذه العين ينظر الفنان وتلاميذه إلى الأشياء، فيرون الطبيعة كلا واحدا لا تجزئة فيه. وهذا الكل ماثل في كل جزء كائنا ما كان، ففي هذا الغصن الجاف روح الطبيعة كلها.
وفي هذه الصدفة الخاوية سر الكون كله! انظر إلى هذه الصدفة الخاوية التي قد تصادفك ملقاة على رمل الشاطئ فلا تعيرها التفاتا، تأمل أي ركن شئت من أركانها؛ تر فيه الثنايا والخطوط والتعاريج على اتساق كأنه أنغام اللحن المنسجم. ثم اجمع هذه الألحان بعضها إلى بعض، تجد في الصدفة الخاوية الملقاة على رمل الشاطئ بناء موسيقيا كاملا، قد يشغلك التفكير فيه، وتتبع أجزائه وبنائها واتساقها يوما وأياما ، وتلك هي الطبيعة العامرة!
أو انظر إلى جذع هذه الشجرة ، التي قد تتفيأ بظلها وأنت لا تدري ما هي! انظر إلى هذه الأجزاء المتآخية فيه، كأنما قد تعاقد كل منها مع أخيه على أن يكون له مؤازرا وظهيرا. •••
Shafi da ba'a sani ba