هذا تقسيم خرافي أخذ به أصحابه؛ لأنه يشبع في أنفسهم رغبة الاستعلاء والسيادة، فحين ذهب «رديارد كبلنج» إلى الهند حيث أقام أعواما، ثم عاد إلى بلاده ليقول عبارته المشهورة: «الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا»؛ لم يكن بالطبع يقصد أن اختلاف الهند عن إنجلترا هو اختلاف النظائر الأنداد، بل أراد أن يقول إنه اختلاف الأبيض عن الأسود، والسيد عن المسود. وكذلك فيما أعتقد، يرمي «ديورنت» إلى شيء كهذا من قوله إن التاريخ لم يزل منذ بدايته يجري في مسلك يبدو فيه أهل الشمال سادة على أهل الجنوب، على الرغم من أن «ديورنت» - على نقيض كبلنج الاستعماري المتعصب الضيق الأفق - من أشد الناس في عالمنا المعاصر تسامحا وأوسعهم ثقافة، وأرحبهم صدرا لما بين شعوب الأرض من أنواع الخلاف.
هم يقولون ذلك ليشبعوا في أنفسهم رغبة الاستعلاء والسيادة، فماذا يقول أدباؤنا؟ يعترفون لهم بالتقسيم، ثم يأخذون في الدفاع عن شرقهم أو جنوبهم؛ ليظهروا ما فيه من حسنات بينات. ولست أدري لماذا نلزم أنفسنا بالدفاع عن قضية خاسرة؟! لماذا نتورط في تقسيم خرافي يزعمه سوانا لغرض في نفسه؟! لماذا نضرب على النغمة التي تؤكد في أنفسنا معنى التدهور والتأخر؟!
إن أعجب العجب في موقفنا؛ هو أنا نختار لأنفسنا أسوأ الفروض؛ إذ الفروض ها هنا ثلاثة: الأول أن يكون التقسيم باطلا من أساسه لخلوه من المعنى، ومن شاء فليدلني على الموضع من وجه الأرض، الذي يبدأ عنده التقسيم شرقا وغربا أو شمالا وجنوبا. والفرض الثاني هو أن يكون التقسيم صحيحا، لكننا نقع من الأقسام في الغرب دون الشرق، وفي الشمال دون الجنوب، وهذا هو ما اختاره الخديوي إسماعيل حين أراد أن يجعل مصر قطعة من أوربا، وما يجب أن يختاره كل عاقل مخلص إذا أخذ بمبدأ التقسيم إطلاقا. فلو كانت الدنيا أقساما؛ فلسنا أقرب إلى السنغال ويوغندة والتبت منا إلى اليونان ويوغسلافيا وإيطاليا. والفرض الثالث هو أن يكون التقسيم صحيحا أيضا، غير أننا نقع في الشرق دون الغرب، وفي الجنوب دون الشمال . وهذا ما قد جرى به العرف، وما قد استسلم له أدباؤنا وثبتوه وأكدوه، كأنما هو شرف نسعى إليه!
ليس الأمر هنا أمر ألفاظ، وإلا لهان الخطب واحتملنا البلاء. لكنه يصيب حياتنا ووجهة نظرنا وطرق إصلاحنا ونهضتنا في الصميم، إذا أردنا دستورا سياسيا، أو تعليما، أو إصلاحا للأسرة أو المجتمع بأي صورة من الصور؛ فأي طريق نختار؟ إذا أراد الشاعر أن ينظم، والفنان أن يرسم أو ينحت التماثيل، والموسيقي أن يعزف، فأي طريق يختار؟
عندي أن الجواب واحد واضح، لا تردد فيه ولا غموض لمن أراد أن ينظر إلى الأمور نظرة جادة حازمة، وهو الجواب الذي أجابت به تركيا صريحة جريئة مخلصة. الجواب الواحد الواضح هو أن نندمج في الغرب اندماجا؛ في تفكيرنا وآدابنا وفنوننا وعاداتنا ووجهة نظرنا إلى الدنيا. الجواب الواحد الواضح هو أن تكون مصر قطعة من أوروبا كما أراد لها إسماعيل، وكل من يريد لها النهوض الذي لا يكبو ولا يتعثر، ليس من العزة القومية في شيء أن نحتفظ لأنفسنا بطابع إذا كان هذا الطابع مما يصم صاحبه بالعجز والقعود والبلاهة. فإذا اختلفنا عن أمم أوروبا وأمريكا؛ فلا ينبغي أن يجاوز هذا الاختلاف مقدار ما تختلف به تلك الأمم بعضها عن بعض.
إنني في ساعات حلمي، حين أحلم لبلادي باليوم الذي أشتهيه لها، وإنني أصورها لنفسي، وقد كتبنا من اليسار إلى اليمين كما يكتبون، وارتدينا من الثياب ما يرتدون، وأكلنا كما يأكلون؛ لنفكر كما يفكرون، وننظر إلى الدنيا بمثل ما ينظرون.
لسنا شرقا إن كانت الدنيا إلى غرب وشرق، ولسنا جنوبا إن كانت الدنيا إلى شمال وجنوب ... والتقسيم كله باطل من أساسه على كل حال.
جناية الصحافة على الأدب
لا أظنني مسرفا في التقدير إذا زعمت أن تسعة أعشار الأدب المصري تكتب مقالات في الصحف والمجلات، ولو أردت أن أفرق بين الأديب المصري والأديب الأوروبي بكلمة واحدة؛ قلت إن أديبنا يكتب مقالة وأديبهم يكتب كتابا؛ فطريقة الكتابة عندنا - في أغلب الأحيان - هي أن يكتب الأديب مقالة هنا ومقالة هناك، حتى إذا ما تجمع له مما كتب مقدار يصلح أن يكون كتابا، جمعه في كتاب واختار له اسما، يوهم القارئ أنه كتاب، وهو في الحق كتاب إذا كانت الوحدة فيما كتب هي وحدة القلم والكاتب. أما إن جعلت وحدة الكتاب موضوعه؛ فليس هو بالكتاب إلا على سبيل المجاز، والمجاز هنا أساسه أن مجموعة الأوراق قد ضمها غلاف.
هذه حقيقة واقعة، وليس بالشاق العسير عليك أن تتبين صدقها باستعراض ما أنتجه الأدباء: طه حسين، أحمد أمين، العقاد، المازني، توفيق الحكيم، وغيرهم؛ لتعلم أن الكثرة الغالبة مما يخرجون للناس من كتب، هي مجموعات من مقالات أو فصول ... حتى المسرحية، هذا اللون الأدبي الذي كان يمكن أن يفلت وينجو؛ لم تلبث أن طواها الاتجاه العام، فإذا هي في الأعم الأغلب مسرحية ذات فصل واحد. وكذلك القصة عندنا في معظم الأحيان هي القصة القصيرة التي تنشر في الصحيفة على دفعة واحدة.
Shafi da ba'a sani ba