ولم يسع الدكتور أبو العلا - بالطبع - إلا أن يعترف في صراحة بأن حالة الصوفي عند «اتصاله بالعالم الروحي» حالة خاصة به؛ إذ يقول: «إن الغاية التي يتجهون إليها ويكرسون حياتهم لها هي البحث عن حالة روحية خاصة ...»
وهنا ينشأ السؤال الآتي، وهو المراد بهذا المقال: هل تصلح الحالات الخاصة أن تكون معرفة؟ •••
أعود فأسأل: «هل تصلح الحالة الخاصة أن تكون معرفة؟» إنني إذا ألقيت بنفسي من نافذة غرفتي، فسأحس عند الهبوط بحالة معينة نشأت عن سقوط الجسم إلى الأرض بفعل الجاذبية، فهل يجوز لي عند أن أقول إني عرفت الجاذبية؟ وإذا لمست سلكا مكهربا أحسست بهزة خاصة، فهل يجوز لي أن أقول إني بهذه الهزة بجسمي قد عرفت الكهرباء؟ وهكذا تستطيع أن تمضي في ضرب الأمثلة لحالات خاصة يحسها فرد معين في ظروف معينة. وتستطيع أن تسأل هل هذه الحالات الخاصة معرفة؟ إنه في الجواب عن هذا السؤال القول الفصل في: هل يعرف الصوفي شيئا أو لا يعرف؛ لأن الصوفي - بحكم تعريفه - يحس حالة خاصة هي التي تجعل منه صوفيا، وبغيرها لا يكون.
ونحب في محاولة الجواب عن هذا السؤال أن نفرق في إدراكاتنا بين جانبين، هما «مضمون» الإدراك من جهة «وهيكله» من جهة أخرى. ولو استمسكنا بهذه التفرقة استمساكا جادا صارما لتبين لنا الجواب عن سؤالنا واضحا؛ لأننا سنجد أن المعرفة لا تكون إلا في هيكل الإدراك. وأما مضمونه فليس من المعرفة في شيء ... لكن هذا الكلام بحاجة إلى شرح وتوضيح.
أنا الآن أنظر إلى بقعة خضراء أمامي، فلو أردت أن أنقل إدراكي هذا إلى سواي، الذي لم ير هذه البقعة الخضراء، قلت له: رأيت بقعة خضراء. فماذا تظنني قد نقلته إليه حين قلت: خضراء؟ بديهي أني لم أنقل إليه «مضمون» الاخضرار الذي اهتزت بتأثيره أعصابي؛ لأن هذا «المضمون» خاص ونقله إلى سواي مستحيل، ولكنني أقدم له بكلمة «أخضر» هيكلا فارغا ليكسوه من ماضي خبرته، أو إن شئت فقل إني أقدم له بهذه اللفظة وعاء فارغا ليملأه بالأخضر الذي عرفه من حياته الخاصة. ولم يكن نقل «مضمون الإدراك» مستحيلا علي؛ لأنني حاولت ذلك وفشلت محاولتي، بل لأن مجرد المحاولة في ذلك ضرب من المحال، كما تطلب إلى شخص أن يترجم عبارة إلى لغة لا يعرفها!
ونحن نعلم أن بيننا نفرا كثيرا يمتعه أن نتغنى بعجز الإنسان وضعفه. ولن أعدم من هذا النفر قارئا يسأل: ألا يمكن أن يجيئنا المستقبل بفيلسوف يدلنا على طريقة نعبر بها عن «المضمون» في إدراكاتنا؟ أين برهانك على أن ذلك مستحيل على كل إنسان وفي كل زمان؟ وجوابي هو ألا برهان؛ لأن البرهان إنما يكون على قضية تحتمل الصواب والخطأ.
وقولي «مضمون الإدراك يستحيل على التعبير» ليس مما يحتمل خطأ أو صوابا؛ لأنه قضية نحصل فيها حاصلا ولا نزعم جديدا. فمضمون الإدراك من معانيه أنه يستحيل على التعبير، فكأننا في قولنا هذا نعرف لفظا بلفظ، كما نقول: إن المثلث سطح مستو محوط بثلاثة خطوط مستقيمة.
فإن كان مضمون إدراكي مستحيلا على التعبير؛ فهو إذن ليس معرفة، لأن شرط المعرفة أن تكون عامة يمكن نقلها من شخص إلى شخص، إني حين أنطبع في أعصابي باللون الأخضر، فهذا الانطباع جزء لا يتجزأ من كياني العضوي، أو قل هذا الانطباع هو «أنا» في هذه اللحظة التي أدرك فيها اللون الأخضر. وليست المعرفة بالجزء الذي لا يتجزأ من كياني، إنما هي على خلاف ذلك يمكن نقلها. وأصدق ما تظهر فيه المعرفة الموضوعية التي يجوز نقلها من شخص إلى آخر، هو العلاقات المكانية والزمانية بين الأشياء، فلو قلت مثلا: إني رأيت طائرا على الشجرة؛ فقد يترجم السامع لنفسه معنى الطائر ومعنى الشجرة بما مر عليه في خبرته من طيور وأشجار، بحيث يختلف تصوره لها عن تصوري. أما العلاقة المكانية «على» فنشترك فيها، وكذلك لو قلت له إن الموسيقى عزفت بعد رفع الستار، فقد يختلف تصوره عن تصوري لصوت الموسيقى ولصورة الستار، أما العلاقة الزمنية «بعد» فنشترك فيها، وهكذا.
المعرفة - إذن - شرطها أن تكون مشتركة بيني وبين سائر الناس، فمعرفة الجاذبية - مثلا - هي علمنا بالمعادلات الرياضية التي تصف ظاهرتها، وليست هي إحساسي الخاص الذي أحسه عند سقوطي. ومعرفة الكهرباء هي كذلك العلم بمعادلاتها الرياضية (والمعادلات تحديد للعلاقات) وليست هي الهزة التي أحسها حين ألمس سلكا فيه كهرباء.
والصوفي ينظر إلى الوجود، أو على الأصح إلى جزء منه، فيبهره على نحو ما يبهرنا - مثلا - النظر إلى جبل شامخ أو شلال دافق، لكن هذا الانبهار وجدان خاص لا يمكن نقله، وبالتالي لا يجوز اعتباره ضربا من المعرفة. فإن تكلم الصوفي عما يحس؛ فهو فنان لا يقصد بقوله شيئا مما يصح أن يقال له فيه صدقت أو كذبت. وهذا هو ما يؤكده أيضا الدكتور أبو العلا في مقالتيه، ولكنه رغم تأكيده لنا بأن التصوف «تجربة شخصية أو حال معينة يعانيها فرد بعينه ... ومثل هذه الحال لا يقال فيها إنها صادقة أو كاذبة، ولا يطالب صاحبها بإقامة الدليل على صحتها.» أقول إنه رغم تأكيده هذا، يعود فيقول إن الصوفي بتجربته الشخصية هذه يعرف الحقيقة! إن الصوفية كما يقول الغزالي «أرباب أحوال لا أصحاب أقوال» أي إنهم يحسون وجدانات خاصة، لكن ليس في وسعهم أن يقولوا شيئا. وما دام الأمر كذلك وجب عليهم الصمت، وإذا كان صمت فلا معرفة، أو كما يقول وتجنشتين «ما لا نستطيع الكلام فيه يجب الصمت عنه.» •••
Shafi da ba'a sani ba