وأراني في تأريخ الشعر الوطني أميل إلى سلوك هذا المنهج، فرجعت في بدايته إلى الماضي، ووجدت أن روح الوطنية - بمعناها الحديث - قد بدأت تدخل الشعر المصري، وتبعث فيه من حياتها وبهائها، وتضفي عليه من جمالها وجلالها منذ أوائل القرن التاسع عشر، وأول رائد لهذه النهضة هو رفاعة رافع الطهطاوي، فإلى هذا العهد يجب أن نرجع ظهور الشعر الوطني في مصر، وهكذا يبدو التقارب بين ظهور الحركة الوطنية وظهور الشعر الوطني في تاريخنا الحديث.
فلنبدأ إذن برفاعة رافع الطهطاوي، ولندرس تطور الشعر الوطني من بعده إلى وقتنا الحاضر.
ويطيب لي في صدد التنويه بشعراء الوطنية، أن أعتذر عما فاتني من تأريخهم، وأعوزني الحديث عنهم؛ فإني أقصد من شاعر الوطنية من تغلب عليه النزعة الوطنية في شعره، فإذا كان قد فاتني أن أتحدث عن بعض الشعراء الممتازين، فالأمر لا يعدو أن يكون رأيا تقديريا، وأن يكون شعرهم الوطني قد بدا لي مغمورا في بحر شعرهم الفياض، وهذا لا يغض بداهة من منزلتهم في عالم الشعر والأدب، وحسبي عذرا لي أن رأيي التقديري في تخير شعراء الوطنية كان نتيجة دراسات مستفيضة، عكفت عليها سنين عديدة، ولم أقتصر على ما وعته ذاكرتي من الشعر الوطني في مختلف المناسبات، ولا على دواوين الشعراء، بل ذهبت أستقصي الشعر الوطني في مجاميع الصحف والمجلات، عاما بعد عام، قرابة نصف قرن من الزمان، بحيث اكتملت لدي مجموعة من أشعار الوطنية، بعضها لم ينشر من قبل في كتاب أو ديوان، ومع ذلك فإذا نبهني القارئ الكريم إلى شاعر فاتني الحديث عنه، ضمن شعراء الوطنية، فإني على أتم الاستعداد لتدارك هذا النقص في الطبعة التالية من الكتاب؛ لأني أود حقا أن أستكمل أي نقص بدا مني في هذه الناحية، وليس أحب إلى نفسي من أن أسجل في كتابي كل قصيدة بل كل بيت من الشعر الوطني.
والله أسأل أن يكون في هذه الدراسة ما يعين على نشر الأدب الوطني وإذاعته وتعميمه بين المواطنين، والحمد لله أولا وأخيرا.
عبد الرحمن الرافعي
يونيو سنة 1954
رفاعة رافع الطهطاوي
1801-1873
مصري صميم، من أقصى الصعيد، نشأ نشأة عادية، من أبوين فقيرين، قرأ القرآن، وتلقى العلوم الدينية كما يتلقاها عامة طلبة العلم في عصره، ودخل الأزهر كما دخله غيره، وصار من علمائه كما صار الكثيرون، ولكنه بذ الأقران، وتفرد بالسبق عليهم، وتسامت شخصيته إلى عليا المراتب؛ ذلك أنه كان يحمل بين جنبيه نفسا عالية، وروحا متوثبة، وعزيمة ماضية، وذكاء حادا، وشغفا بالعلم، وإخلاصا للوطن وبنيه، تهيأت له أسباب الجد والنبوغ، فاستوفى علوم الأزهر في ذلك العصر، ثم صحب البعثة العلمية الأولى من بعثات محمد علي، وارتحل إلى معاهد العلم في باريس، واستروح نسيم الثقافة الأوروبية، فزادت معارفه، واتسعت مداركه، ونفذت بصيرته، لكنه احتفظ بشخصيته، واستمسك بدينه وقوميته؛ فأخذ من المدنية الغربية أحسنها، ورجع إلى وطنه كامل الثقافة، مهذب الفؤاد، ماضي العزيمة، صحيح العقيدة، سليم الوجدان، عاد وقد اعتزم خدمة مصر من طريق العلم والتعليم؛ فبر بوعده، ووفى بعهده، واضطلع بالنهضة العلمية تأليفا وترجمة، وتعليما وتربية، فملأ البلاد بمؤلفاته ومعرباته، وتخرج على يديه جيل من خيرة علماء مصر، وحمل مصباح العلم والعرفان يضيء به أرجاء البلاد، وينير به البصائر والأذهان، وظل يحمله نيفا وأربعين سنة، وانتهت إليه الزعامة العلمية والأدبية في عصر محمد علي، وامتدت زعامته إلى عهد إسماعيل، ذلك هو رفاعة رافع الطهطاوي.
1
Shafi da ba'a sani ba