Shubuhat al-Qur'aniyyin Hawla al-Sunnah al-Nabawiyyah
شبهات القرآنيين حول السنة النبوية
Mai Buga Littafi
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة
Nau'ikan
شبهات القرآنيين حول السنة النبوية
إعداد: أ. د/ محمود محمد مزروعة
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين - والصلاة والسلام على رحمة الله إلى العالمين، وعلى إخوانه وآله وأصحابه والتابعين.
أما بعد:
فلقد بعث الله ﷾ محمدًا ﷺ على فترة من الرسل، وأنزل عليه القرآن الكريم، فختم الله - تعالى - به الرسل، وختم برسالته الرسالات، وختم بكتابه الكتب، وجعله مصدقًا لما بين يديه منها ومهيمنًا عليها.
وقد جاء القرآن المجيد مشتملًا على الدين كله، بعضه مفصل والكثير منه مجمل. وقد وكل الله - تعالى - تبيين الكتاب المجيد، وتفصيله إلى رسوله محمد ﷺ، ومن ثم، جاءت سنة رسول الله ﷺ مبينة لما أبهم ومفصلة لما أجمل. يقول الله ﷿: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل: ٤٤)
ولما كان الكتاب المجيد بحاجة إلى السنة تبينه وتفصله، فقد كانت السنة من وحي - الله تعالى - إلى نبيه ﷺ حتى يكون المبيِّن والمبيَّن من مصدر واحد، وعلى مستوى واحد، وحاشا - الله تعالى - أن ينزل الكتاب وحيا، ثم يترك بيان ما فيه لبشر بعيدًا عن الوحي. فإن المبيِّن له نفس أهمية المبيَّن من حيث هو وسيلة الانتفاع به، وسبيل العمل بمقتضاه، من ذلك كان القرآن المجيد والسنة النبوية المطهرة يصدران من مشكاة واحدة، مشكاة الوحي الإلهي المعصوم. يقول الله ﷿ عن رسوله – ﷺ: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم: ٣-٤)
1 / 1
ومنذ جاءت الرسالة الخاتمة وأعداء الله لها بالمرصاد. وقد اتخذت العداوة لله ورسوله ولدينه صورا مختلفة، وتلبست أشكالًا عديدة. ونحن نستطيع أن نجمل هذه الصور والأشكال في نوعين اثنين. الأول، أعداء للإسلام أعلنوا عداءهم في وضوح، ونابذوا المسلمين في جلاء. من أمثال الصليبيين والشيوعيين والعلمانيين وأصناف الملاحدة بعامة، الذين أعلنوا عن إلحادهم، وهؤلاء ضررهم قليل، وخطرهم معروف، لأن عداءهم معلن، وكفرهم سافر، فالمسلمون منهم على حذر، ومن كيدهم ومكرهم على ترقب وتوجس. أما النوع الثاني، فهم المنافقون الذين يظهرون غير ما يبطنون، يتدثرون بعباءة الإسلام، ويصطنعون الحرص عليه، والدعوة إليه والعمل على وحدة الأمة، وبينما يعلنون ذلك يسعون إلى تحقيق أغراضهم الخبيثة من القضاء على الإسلام عن طريق التشكيك في مصادره الموحى بها من عند الله ﷿ وبخاصة السنة النبوية المطهرة. وذلك بإثارة الشبهات ضد سنة رسول الله – ﷺ والزعم بأنها ليست من الدين، ولاصلة لها بالتشريع الإسلامي، ويزعمون أن القرآن هو المصدر الوحيد للشريعة الإسلامية.
وهذه الدعوى قديمة، والعداء لرسول الله ﷺ ولسنته موروث. لكن الجديد هو هذه الفئة من أعداء الله ورسوله والمسلمين، منكري سنة رسول الله ﷺ التي بدأت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين الميلادي في بلاد الهند، ثم انتقلت إلى باكستان بعد استقلالها عن الهند، وما تزال. وأعجب أمر هؤلاء أنهم يُنْسَبون إلى القرآن المجيد، فهم يحبون أن يسموا أنفسهم "القرآنيون" نسبة إلى القرآن كتاب الله المجيد ظلمًا وزورا. وقد اختاروا هذه النسبة إيهامًا للناس بأنهم ملتزمون بكتاب الله القرآن. هذا من جانب ومن جانب آخر يشيرون من طرف خفي إلى أن غيرهم من المسلمين
1 / 2
الذين يؤمنون بسنة رسول الله – ﷺ ويعملون بها ليسوا قرآنيين، وأنهم اشتغلوا بالسنة وتركوا القرآن، - وأيضًا - حتى يجنبوا أنفسهم المؤاخذة، ويقطعوا سبل الاعتراض عليهم، لأنه من ذا الذي يعترض على طائفة أعلنت أنها تنتسب إلى القرآن وتتمسك به؟.
وليس من المستغرب وجود مثل هذه الطائفة، فأعداء الإسلام كُثُر، ومنكرو السنة مضت بهم القرون جيلًا بعد جيل، وقد أخبر عنهم رسول الله ﷺ فعن المقدام بن معد يكرب أن رسول الله ﷺ قال "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله" (١) لكن الغريب من هؤلاء هي تلك الشبهات التي أثاروها ضد سنة رسول الله ﷺ والتي يزعمون أنها أدلة على أن السنة ليست من الدين، ولا الدين منها وقد ملأوا بها مؤلفاتهم - وهي في جملتها أوردية - وندواتهم ومناظراتهم مع الآخرين - وقد كان لنا حظ من تلك المناظرات على مدى ثلاث جلسات بيننا وبين "البرويزيين" بمدينة "كراتشي" في عام ١٩٨٣م. وذلك أثناء عملي أستاذًا بالجامعة الإسلامية العالمية بإسلام أباد بباكستان.
وشبهاتهم هذه المزعومة هي محل الغاية في هذا البحث الموجز الذي عقدناه لمناقشة هذه الشبهات والرد عليها.
نسأل الله - سبحانه - التوفيق والسداد والمعونة والاحتساب، إنه - سبحانه - ولي ذلك والقادر عليه.
_________
(١) رواه أبو داود في كتاب السنة، باب رقم ٦، في لزوم السنة (٥/١١) والترمذي في كتاب العلم، باب رقم ١٠، ما نُهي عنه أن يقال (٥/٣٧) .
1 / 3
المبحث الأول: التعريف بالسنة النبوية
أولًا: السنة في اللغة، هي: الطريقة، وهي السيرة حميدة كانت أو غير حميدة. ومن ذلك قول الرسول ﷺ "من سنّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة". (١) وسنة الله - تعالى - في خلقه: حكمه - سبحانه - في خلقه، وما عودهم عليه (٢) . وذلك كقولهم: سنة الله في خلقه أن يمهل العاصي لعلّه يتوب ويرجع.
ثانيًا: السنة في الاصطلاح: يختلف معنى السنة في الاصطلاح حسب تخصص المصطلحين وأهدافهم واهتماماتهم. فهناك المحدِّثون، وهناك الأصوليون، وهناك الفقهاء.
أما علماء الحديث أو المحدِّثون فإنما يبحثون في السنة عن رسول الله ﷺ الإمام الهادي، النبي الرسول، الذي أخبرنا ربنا ﷾ أنه أسوتنا وقدوتنا، ومن ثم فقد نقلوا كل ما يتصل به ﷺ من أقوال وأفعال وتقريرات، سواء أثبت ذلك حكما شرعيًا أم لم يثبت. كما نقلوا عنه ﵊ أخباره وشمائله وقصصه وصفاته خَلْقًا وخُلُقًا. وهذا ما التأمت عليه كتب الحديث، وأنتجته مجهودات المحدثين. ومن هنا فقد عرفوا السنة بأنها: "كل ما أثر عن النبي -
_________
(١) أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة وأنواعها ٧/١٠٢.
(٢) المعجم الوسيط ٤٥٦ وغيره من المعاجم.
1 / 4
ﷺ من قول أو فعل أو تقرير، أو صفة خَلْقِية أو خُلُقية، سواء كان ذلك قبل البعثة أو بعدها".
وأما علماء الأصول، فإنما يبحثون في السنة عن رسول الله ﷺ المشرع الذي يضع القواعد، ويوضح الطريق أمام المجتهدين من بعده، ويبين للناس دستور الحياة، فاهتموا من السنة بأقوال النبي ﷺ وأفعاله وتقريراته التي تستقي منها الأحكام على أفعال العباد من حيث الوجوب والحرمة والإباحة، وغير ذلك. ولذلك عرفوا السنة بأنها: (ما نقل عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير ". مثال القول، قوله ﵊: - "إنما الأعمال بالنيات" (١) . ومثال الفعل، ما نقل إلينا من فعله ﷺ في الصلوات من وقتها وهيئتها. ومناسك الحج وغير ذلك. ومثال التقرير، إقراره ﵊ لاجتهاد الصحابة في أمر صلاة العصر في غزوة بني قريظة حيث قال لهم: "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة" (٢)، ففهم بعضهم النهي على ظاهره فأخَّر الصلاة فلم يصلِّها حتى فات وقتها، وفهم بعضهم أن المقصود حث الصحابة على الإسراع، فصلوها في وقتها قبل الوصول إلى بني قريظة. وبلغ النبي ﷺ ما فعل الفريقان فأقرهما جميعا (٣) .
_________
(١) رواه البخاري، كيف كان بدء الوحي، ١/٣٢، مكتبة الكليات الأزهرية ط١٣٩٨.
(٢) رواه البخاري، كتاب المغازي، باب مرجع النبي ﷺ من الأحزاب، ١٥/٢٩٤ برقم ٤١١٩.
(٣) السنة ومكانتها من التشريع، د. مصطفى السباعي: ٤٧، السنة قبل التدوين. د. عجاج الخطيب: ١٦.
1 / 5
وأما علماء الفقه فيبحثون في السنة عن رسول الله ﷺ الذي لا تخرج أقواله وأفعاله عن الدلالة على حكم من الأحكام الشرعية. ومن هنا كانت السنة عندهم هي: "ما أمر به النبي ﷺ أمرًا غير جازم". أو "ما ثبت عن النبي ﷺ من غير افتراض ولا وجوب". أو "ما في فعله ثواب، وفي تركه ملامة وعتاب لا عقاب". وهي تقابل الواجب وغيره من الأحكام الخمسة لدى الفقهاء - وقد تطلق السنة عندهم على ما يقابل البدعة، فيقال: فلان على سنة إذا كان يعمل على وفق ما كان عليه النبي ﷺ ويقال: فلان على بدعة، إذا عمل على خلاف ذلك. ويطلق لفظ السنة عندهم - كذلك - على ما عمل عليه الصحابة - رضوان الله عليهم - وجد ذلك في القرآن المجيد أو لم يوجد، لكونه اتباعًا لسنة ثبتت عندهم، لم تنقل إلينا، أو اجتهادًا مجتمعًا عليه منهم أو من خلفائهم. لقوله ﷺ: - "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ" (١) (٢) .
هذه معاني السنة، أو تعريفاتها والمراد بها في مصطلح العلماء، وقد تبين لنا أن علماء كل فن أو علم من العلوم لهم اهتمام وعمل في السنة يتناسب مع اهتمامهم، ويحقق ما يهدفون إليه في علومهم، دون أن تتعارض
_________
(١) أبو داود: كتاب السنة، باب في لزوم السنة ٢/٣٥٩ برقم ٤٥٨٣، وأحمد ٤/١٢٦، والترمذي كتاب العلم باب رقم ١٦، وابن ماجة في المقدمة باب رقم ٦، والدارمي في المقدمة باب ١٦.
(٢) إرشاد الفحول: ٣١، والموافقات: ٤ / ٣، تدوين السنة. د. محمد مطر الزهراني: ١٧ والسنة ومكانتها من التشريع: ٤٩.
1 / 6
هذه العلوم، فالحق أنها كلها في خدمة السنة النبوية وتيسير التعرف عليها والعمل بها، ومن أشرف أهداف القائمين على هذه العلوم هو جمع السنة النبوية وتمحيصها، وتنقيتها مما قد يكون دخيلًا عليها، ثم الدفاع عنها ضد الشاغبين عليها، المعارضين لها، الساعين إلى طرحها والاقتصار في التشريع الإسلامي على مصدر واحد هو القرآن العظيم.
وإذا كنا قد أشرنا إلى عدد من تعريفات العلماء للسنة النبوية الشريفة، فإن التعريف الذي يتوافق مع بحثنا هذا إنما هو تعريف الأصوليين تحديدًا، لأنهم الذين يعنون - بالدرجة الأولى - ببيان حجية السنة، ومكانتها من التشريع، وسوق الأدلة على ذلك. وإن كان المحدثون والفقهاء لم يحرموا أجر البحث في هذه الجوانب، ولم يقصروا في بذل المجهود في سبيلها.
1 / 7
المبحث الثاني: مكانة السنة النبوية من التشريع وأدلة حجيتها
أولًا: مكانة السنة النبوية الشريفة من التشريع
إن السنة النبوية الشريفة هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي. وهذه حقيقة لا يعارضها أو يشغب عليها إلا شقي معاد لله ولرسوله وللمؤمنين، مخالف لما أجمعت عليه الأمة سلفًا وخلفًا وحتى قيام الساعة - بحول الله تعالى.
ذلكم أن المقرر لدى الأمة المسلمة أن الوحي المنزل على الرسول ﷺ من قبل الله - سبحانه - نوعان: الأول: هو القرآن العظيم، كلام الله سبحانه - المنزل على رسوله ﷺ بلفظه ومعناه، غير مخلوق، المتعبد بتلاوته، المعجز للخلق، المتحدي بأقصر سورة منه، المحفوظ من الله - تعالى - أن يناله التحريف، المجموع بين دفتي المصحف الشريف. أما النوع الثاني من الوحي: فهو السنة النبوية المطهرة بأقسامها القولية والفعلية والتقريرية، وسنة رسول الله ﷺ هي من وحي الله ﷿ إلى رسوله ﷺ باتفاق الأمة المسلمة، وذلك لما قام الدليل من كتاب الله - تعالى - على ذلك في آيات كثيرة، ثم لما صرحت به السنة النبوية، ثم لما أجمع عليه الصحابة والتابعون وتابعوهم إلى يوم الدين - بحول الله تعالى.
وإذا كان الشاغبون على سنة رسول الله ﷺ يزعمون أنهم يستمسكون بالقرآن المجيد مكتفين به عن السنة، فلنذكر بعض
1 / 8
ما جاء به القرآن الكريم من الآيات البينات التي تشهد وتصرح بأن السنة وحي من عند الله - سبحانه- إلى رسوله ﷺ ثم الآيات التي تصرح بوجوب طاعته- ﷺ ووجوب حبه، ووجوب اتباعه، ووجوب الاحتكام إليه والتسليم له في كل ما يحكم به، لنا كان الحكم أو علينا، إلى غير ذلك.
فمن الآيات القرآنية التي تدل على أن السنة وحي قول الله ﷿ – ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم:٣-٤) وهذه الآية نص قاطع في أن الرسول ﷺ لا يأتي بشيء من عنده، وأن كل ما ينطق به في مجال التشريع إنما هو وحيٌ من عند الله - تعالى - سواء كان وحيًا من النوع الأول وهو القرآن، أو من النوع الثاني وهو السنة النبوية.
ومن ذلك - أيضًا - قوله ﵎ ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ (آل عمران:١٦٤) . وهذه الآية الكريمة لعلها استجابة من الله - تعالى - للدعاء الذي توجه به إبراهيم وإسماعيل - على نبينا وعليهما الصلاة والسلام - إليه - تعالى - حين كانا يرفعان القواعد من البيت.
وهذا الدعاء ذكره الله في القرآن الكريم في قوله ﷾: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا
1 / 9
مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (البقرة:١٢٧- ١٢٩) . فهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل - على نبينا وعليهما الصلاة والسلام - لقي القبول عند الله - سبحانه - فكان من قدره ﷿ أن جعل من ذريتهما تلك الأمة المسلمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، ثم بعث فيها رسولًا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة.
وقد ذهب أهل العلم والتحقيق إلى أن المراد بالحكمة إنما هو: السنّة النبوية، فإن الله - تعالى - قد مَنَّ على المؤمنين بإرسال الرسول ﷺ الذي جعل رأس رسالته أن يعلم أمته المؤمنة شيئين: الكتاب والحكمة. ولا يجوز أن تكون الحكمة هي الكتاب، فإنها معطوفة عليه، والعطف يقتضي المغايرة، ولا يجوز أن تكون شيئًا آخر غير السنة، فإنها عطفت على الكتاب، فهي من جنسه في المصدر والغاية. وقد منَّ الله - تعالى - بهما على المؤمنين، ولا يمنّ الله - تعالى - إلا بما هو حق وصدق، فالحكمة حق كما أن القرآن حق. وهذه الآية واضحة الدلالة على أن السنة من وحي الله - تعالى - على نبيه ﷺ.
يقول الشافعي - رحمه الله تعالى: " فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت مَن أرضى مِن أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله ﷺ وهذا يشبه ما قال - والله أعلم - لأن القرآن ذُكر، وأُتْبِعَتْه الحكمة، وذكر الله منَّه على الخلق بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز - والله أعلم - أن يقال الحكمة هنا إلا سنّة رسول الله ﷺ وذلك أنها مقرونة بالكتاب، وأن الله افترض طاعة
1 / 10
رسوله ﷺ وحتم على الناس إتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول فرض إلا لكتاب الله - تعالى - وسنة رسوله ﷺ....." (١) .
ومن الآيات التي تقطع بأن السنة وحي من عند الله - تعالى - وأن الرسول ﷺ لا ينطق فيما يتصل بالتشريع إلا بما يوحي الله - تعالى - إليه، قوله - سبحانه - في شأن رسوله ﷺ: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ (الحاقة:٤٤-٤٧) .
فهذه الآيات تدل بوضوح شديد على أن الرسول ﷺ لا يقول شيئًا - فيما يتصل بالدين - إلا بما يوحي إليه الله به - وكذلك لا يفعل، فإن القول أعم من الفعل ودليله - ولو أن الرسول ﷺ قال شيئًا في الدين لم يوح الله - تعالى - به إليه، لأهلكه الله - تعالى - وما من أحد بقادر على أن يمنع الله - سبحانه - من إهلاكه آنئذ، وهذا وعيد من الله - تعالى - ووعد، وعيد لنبيه ﷺ أن يتقول عليه ما لم يوح به إليه - وحاشاه ﷺ أن يفعل ذلك - ووعد للمؤمنين بأنه - تعالى - حافظٌ دينَه من أن يدخل إليه أو يختلط به ما ليس منه على لسان نبيه، وهذه الآيات تعد - في الوقت ذاته - أمرًا من الله - تعالى - جازمًا لأمته أن يؤمنوا ويوقنوا ويسلموا لكل ما يأتيهم به النبي ﷺ حيث إن الله ﷿ ضمن لهم أن نبيه لن
_________
(١) الرسالة: ٧٨. وراجع في ذلك السنة ومكانتها من التشريع. د. مصطفى السباعي: ٥٠.
1 / 11
يتقول عليهم، وأن كل ما ينطق به النبي قولًا، أو يأتيه فعلًا. إنما هو من وحي الله - تعالى - إليه. يقول العلماء: لقد أخبر الله ﷿ بأن رسوله ﷺ لو تقول في الدين قولًا لم يوح - الله تعالى - به إليه لأهلكه الله - سبحانه - وحيث إن الله - تعالى - لم يهلك نبيه، فلم يأخذ منه باليمين، ولم يقطع منه الوتين - نياط القلب - بل سانده وأعانه، وأيده ونصره، وأظهره على أعدائه هو وأصحابه الذين آمنوا به واتبعوه، فإن ذلك دليل قاطع على أن رسول الله ﷺ لم يقل أو يفعل أو يقر شيئًا إلا بوحي من الله ﷾ (١) .
ومن الآيات التي تدل على أن الرسول ﷺ لا يقول أو يفعل شيئًا في الدين إلا بوحي من عند الله ﷿ قول الله - سبحانه - مخبرًا عن رسوله-ﷺ:- ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ (الأعراف:١٥٧) .
فالآية أسندت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحلال الحلال، وتحريم الحرام إليه- ﷺ مباشرة دون أن تقيد ذلك بكونه قرآنًا أو سنة، والإطلاق العام هنا يشمل جميع ما يحله ويحرمه ﷺ أعم من أن يكون ذلك بالقرآن أو بالسنة، فبان من ذلك أن ما يحل
_________
(١) يرجع في تفسير هذه الآيات إلى التفاسير المعروفة وبخاصة: الزمخشري، والرازي، والقرطبي.
1 / 12
رسول الله ﷺ وما يحرم بسنته هو مثل ما يحرم بقرآن الله - تعالى - كلاهما وحي من عند الله - سبحانه.
ومن الآيات التي تدل على أن السنة وحي من عند الله - سبحانه - وتنص على أن ما يحرم رسول الله ﷺ بسنته مثل ما يحرم بالكتاب المجيد، كلاهما من عند الله - تعالى - قول الله ﷿: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ (التوبة:٢٩) . فهذه الآية الكريمة ذكرت نوعين من المحرمات، ما حرم الله - تعالى- وما حرم رسول الله ﷺ وجمعت بين الأمرين في جملة واحدة عاطفة ما حرم رسول الله على ما حرم الله، وذلك يدل بوضوح على أمرين، الأول: أن ما حرم رسول الله ﷺ هو مثل ما حرم الله، وأن الأمرين على منزلة واحدة من حجية التشريع وحكمه، وأن ما شرع الله - تعالى - في كتابه هو مثل ما شرع رسول الله ﷺ في سنته. الثاني: أن ما حرم رسول الله ﷺ في سنته هو وحي من عند الله - تعالى - كمثل ما حرم الله - تعالى - في كتابه، فكلا التشريعين وحي من عند الله - سبحانه -.
ولعل ما ذكرناه كاف في بيان ما قصدنا إليه من الاستدلال بآيات القرآن المجيد على أن السنة وحي من عند الله - تعالى - كما أن القرآن وحي، وأن رسول الله ﷺ لا ينطق عن الهوى. ومن ثم ننتقل إلى ما يترتب على أن السنة وحي من عند لله -تعالى-، نقصد الآيات
1 / 13
القرآنية التي توجب وتأمر بطاعة رسول الله ﷺ وتجعل طاعته ﷺ فيما يأمر وما ينهى فيصلا بين الإيمان والكفر، والنجاة والهلاك. قد قلنا إن ذلك مرتب على ما سبق بيانه في الفقرة السابقة من أن السنة وحي من عند الله - تعالى - إذ لو لم تكن كذلك، وكان رسول الله ﷺ ينطق عن الهوى - حاشاه - لما أمرنا الله - تعالى - باتباعه وطاعته في كل ما يأمر وما ينهي، كما سيبين لنا من الآيات الدالة على ذلك - بحول الله تعالى -. وإن الناظر في كتاب الله المجيد يراه قد أمر بطاعة رسول الله ﷺ في آيات كثيرة وبصيغ متنوعة عديدة.
من هذه الآيات الآمرة بطاعة رسول الله ﷺ ما هو قاعدة عامة في رسل الله أجمعين، وخاتمهم محمد - صلوات الله على نبينا وعليهم - وذلك قول الله ﷿: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ (النساء:٦٤) .
فثمرة إرسال الرسل - صلوات الله عليهم أجمعين - إنما تنحصر في أن يطاعوا، وطاعتهم إنما هي بإذن الله سبحانه - وأمره، فالشاغب عليهم، التارك لسنتهم، الرافض لأوامرهم ونواهيهم، إنما هو محارب لله - سبحانه - ناقض لإذنه، فاسق عن أمره.
ومن ذلك ما هو قاعدة لرسولنا ﷺ شاملة لكل ما يأخذ وما يدع، وما يأمر وما ينهى.
وذلك قول الله ﷿ ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الحشر:٧) .
1 / 14
فهذه الآية تأمر المؤمنين بأن يأخذوا عن رسول الله ﷺ كل ما يأتيهم به، يستوي في ذلك ما كان قرآنًا أو سنة، وكذلك أن ينتهوا عن كل ما نهاهم عنه، ثم توعدت المخالفين لرسول الله ﷺ بالعقاب الشديد.
ومن الآيات الآمرة بطاعة رسول الله ﷺ ما جاء فيها الأمر بطاعة رسول الله ﷺ مقرونًا بطاعة الله - سبحانه - مع تكرار فعل " أطيعوا ". ومن ذلك قول الله ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ (محمد:٣٣) .
ومن ذلك ما جاء فيه الأمر بطاعة رسول الله ﷺ مقرونًا بطاعة الله - تعالى - دون تكرار الفعل "أطيعوا" مما يدل بشكل قاطع على أن طاعة رسول الله ﷺ هي من طاعة الله - سبحانه -، وأنه لا يحل التفريق بين طاعة الله - تعالى - وطاعة رسوله ﷺ ومن ذلك قول الله - سبحانه: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ (آل عمران:٣٢) . وواضح من النص الكريم أن الذي يتولى عن طاعة رسول الله ﷺ هو من الكافرين.
ومن الآيات الآمرة بطاعة رسول الله ﷺ ما جاء فيه الأمر بطاعة الرسول ﷺ ابتداء، دون أن يسبقه الأمر بطاعة الله - سبحانه - وذلك يبين أن طاعة الرسول ﷺ هي في الوقت نفسه طاعة لله - تعالى - وأن طاعة الرسول وحدها
1 / 15
مقياس لطاعة الله ﷿ ومن ذلك قول الله - تبارك وتعال-: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (النور:٥٦) .
ومن علامات طاعة رسول الله ﷺ واتباعه الأخذ عنه، والاحتكام إليه، وتحكيمه في كل ما يعرض لنا من شؤون الحياة، ثم الرضا بما يحكم به، والإذعان والتسليم له ﷺ وقد جعل الله - سبحانه - ذلك من علامات الإيمان، وجعل نفي ذلك وعدم الاتصاف به من علامات الخلو من الإيمان، أي علامات الكفر، يقول الله ﷿: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء:٦٥) .
ولأن الاحتكام إلى رسول الله ﷺ والرضا والإذعان والتسليم له بكل ما يأمر به أو ينهى من علامات الإيمان، فقد كان رفض ذلك والإعراض عنه من علامات النفاق والكفر، مهما قال أولئك المعرضون أو زعموا أنهم مؤمنون. يقول الله ﷿ حكاية عن بعض هؤلاء: ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ (النور: ٤٧-٥٢) . فهذه الآيات الكريمة تتكلم على موقف المنافقين من الاحتكام إلى الله ورسوله، وتكشف
1 / 16
عن زيف ما يزعمون من الإيمان بالله ورسوله، وأن ذلك نفاق وكفر، وتبين عن دليل ذلك وهو الإعراض عن الاحتكام إلى رسول الله ﷺ والرضا بحكمه، ثم تكشف عن دخائل نفوسهم من عدم الإيمان بالله والاطمئنان إلى حكم رسوله، ثم تبين - بالمقابل - موقف المؤمنين وهو السمع والطاعة لله ورسوله، ثم تختم المقام بأن الفوز والنجاة إنما هما لمن يطيع الله ورسوله.
من كل هذا الذي ذكرنا من الآيات القرآنية التي تنص بأسلوب قاطع على أن الرسول ﷺ لا ينطق إلا عن وحي من الله - تعالى - ولا يقول في الدين إلا بما يوحي به الله - تعالى - إليه. وبأن طاعة رسول الله ﷺ فرض على كل مؤمن، وأن من أطاع الرسول فقد أطاع الله، وبأن الاحتكام إلى رسول الله ﷺ والرضا والتسليم له، والأخذ عنه آية الإيمان. نقول: من كل هذا تتضح مكانة السنة النبوية من التشريع الإسلامي، وتتضح حجيتها، وأنها من حيث الحجية هي في منزلة القرآن المجيد، ولا ينبغي أن يفهم من هذا أننا نجعل السنة بمنزلة القرآن في المكانة والشرف، فهذا مما لا يقول به مسلم، فلا ريب أن القرآن يفضل السنة بأمور اتفقت عليها الأمة نشير إلى أهمها - بإيجاز: -
١- القرآن الكريم موحى به من الله ﷿ بلفظه ومعناه، فهو قول الله- سبحانه - أما السنة فهي قول الرسول ﷺ وفعله وتقريره.
٢- القرآن المجيد تكفل الله - تعالى - بحفظه، وليس ذلك للسنة.
٣- القرآن العظيم يتعبد بتلاوته، وليس ذلك للسنة.
1 / 17
٤- القرآن العظيم معجز للبشر، وترتب على ذلك أن الله - تعالى - تحدى البشر، بل والجن أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه، والسنة ليست كذلك.
٥- لا تجوز روايته بالمعنى، ويجوز ذلك في السنة بضوابطه.
٦- لا يجوز أن يمسه إلا المطهرون، وليس ذلك للسنة.
٧- القرآن هو المجموع بين دفتي المصحف الشريف، والسنة موزعة في كتب ودواوين.
فهذه أمور يفضل القرآن فيها السنة، فهو لذلك أشرف منها وأرفع منزلة وقداسة، لكن كلامنا في مجال الاحتجاج بالسنة في أمور الدين وقضايا التشريع، ولا ريب أنها في هذا في منزلة مع القرآن، فكما يقال: الصلاة واجبة بقول الله ﷿: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ (النور:٥٦) . فكذلك يقال صلاة الصبح ركعتان والظهر والعصر أربع والمغرب ثلاث والعشاء أربع. والدليل فعل رسول الله ﷺ والمثال هنا يوضح أن كلا الدليلين على مستوًى واحد في إفادة العلم وإيجاب العمل.
ولهذا المعنى فقد ذهب جلّة العلماء إلى التسوية بين كتاب الله - تعالى - وسنة رسوله ﷺ من حيث الحجية على الأحكام، ومن ذلك أن الخطيب البغدادي قد عنون في كتابه " الكفاية " لهذا الموضوع بقوله: "ما جاء في التسوية بين حكم كتاب الله - تعالى - وحكم سنة رسول الله ﷺ" يشير بهذا العنوان إلى أن القرآن والسنة متساويان في مرتبة واحدة من حيث الحجية في إثبات الأحكام الشرعية. وقد قال الدكتور عبد الغني عبد الخالق في كتابه "حجية السنة" إن السنة والكتاب في مرتبة واحدة من حيث الاعتبار والاحتجاج بهما على
1 / 18
الأحكام الشرعية، ولبيان ذلك نقول: من المعلوم أنه لا نزاع في أن الكتاب يمتاز عن السنة ويفضل عنها في أن لفظه منزل من عند الله ﷾ متعبد بتلاوته، معجر للبشر أن يأتوا بمثله، بخلافها، فهي متأخرة عنه في الفضل من هذه النواحي، لكن ذلك لا يوجب التفضيل بينهما في الحجية، بأن تكون مرتبة السنة متأخرة عن الكتاب، ويعمل به وحده، وإنما كان الأمر كذلك - أي مماثلة السنة للكتاب في مرتبة الحجية - لأن حجية الكتاب إنما جاءت من كونه وحيًا من عند الله - سبحانه - والسنة مساوية للقرآن من هذه الناحية فهي مثله" (١) .
مما تقدم من حديث عن حجية السنة ومكانتها من التشريع تتضح لنا الأمور الآتية:
أولًا: أن الوحي من عند الله - تعالى - إلى رسوله ﷺ وحيان، وحي هو القرآن المجيد، ووحي هو السنة النبوية الشريفة، وقد ذكرنا الأدلة على ذلك من آيات القرآن البينات، كما بينا الفروق بين الوحيين، أي بين القرآن والسنة.
ثانيًا: أن السنة النبوية المطهرة تأتي في المنزلة الثانية بعد القرآن العظيم في مصدرية التشريع، فهي المصدر الثاني بعد القرآن الكريم. أما من حيث الحجية فهي مع القرآن بمنزلة واحدة. بمعنى أن دليل التشريع من السنة يعدل دليل التشريع من القرآن، فكلاهما مفيد للعلم، موجب للعمل بمقتضاه، على أي نوع من الأحكام الخمسة كان العمل.
_________
(١) الكفاية للخطيب البغدادي: ٢٩، وبحوث في السنة المشرفة. د. عبد الغني عبد الخالق. نقلًا عن: تدوين السنة النبوية. د. محمد مطر الزهراني: ١٨.
1 / 19
ثالثًا: أن من رفض سنة رسول الله ﷺ أو شغب عليها، أو رفض أمر رسول الله ﷺ أو نهيه، أو رفض الاحتكام إلى رسول الله ﷺ فيما يعرض له أو لم يقبل حكمه، كل من يفعل ذلك أو شيئًا منه يُعَدُّ فاسقًا عن الملة غير مؤمن، فإن الله - تعالى - قد جعل كل ذلك علامة الإيمان، ورفض ذلك أو شيء منه، آية الكفر والنفاق، وذلك في آياته البينات.
رابعًا: لقد اعتمدنا في بيان ما قدمنا على كتاب الله القرآن المجيد وحده، ولم نتكلم في السنة المطهرة أو آثار الصحابة وإجماع الأمة، ذلك أن هؤلاء الذين نخاطبهم في بحثنا هذا يزعمون أنهم "قرآنيون" لا يأخذون إلا عن القرآن، فآثرنا أن نخاطبهم بالقرآن الكريم. لكنا - بحول الله - سبحانه - سوف نوفي الموضوع حقه من خلال أحاديث النبي ﷺ وآثار الصحابة وإجماع الأمة، حين الرد على شبهاتهم، وذلك بمشيئة الله سبحانه.
1 / 20