بسم الله الرحمن الرحيم الفن السادس من الطبيعيات وهوكتاب النفس
Shafi 1
قد استوفينا فى الفن الأول اللام عى الأمور العامة فى الطبيعيات، نم تلوناه بالفن الثانى فى معرفة السماء والعالم والأجرام والصور والحركات الأولى فى عالم الطبيعة، وحققنا أحوال الأجسام التى لا تفسد والتى تفسد، ثم تلوناه بالكلام على الكون والفساد وأسطقساته ثم تلوناه بالكلام على أفعال الكيفيات الأولى وانفعالاتها والأمزجة المتولدة منها، وبقى لنا أن نتكلم على الأمور الكائنة فكانت الجمادات وما لا حس له ولا حركة إرادية أقدمها وأقربها تكونا من العناصر فتكلمنا فيها فى الفن الخامس، وبقى لنا من العلم النظر فى أمور النباتات والحيوانات، ولما كانت النباتات والحيوانات، متجوهرة الذوات عن صورة هى النفس ومادة هى الجسم والأعضاء وكان أولى ما يكون علما بالشىء هو ما يكون من جهة صورته رأينا أن نتكم أولا فى النفس ولم نر أن نبتر علم النفس فنتكلم أولا فى النفس النباتية والنبات ثم فى النفس الحيوانية والحيوان ثم فى النفس الإنسانية والإنسان، وإنما لم نفعل ذلك لسببين أحدهما أن هذا التبتر مما يوعر ضبط علم النفس المناسب بعضه لبعض والثانى أن النبات يشارك الحيوان فى النفس التى لها فعل النمو والتغذية والتوليد ويجب لا محالة أن ينفصل عنه بقوى نفسانية تخص جنسه ثم تخص أنواعه، والذى يمكننا أن نتكلم عليه من أمر نفس النبات هو ما يشارك فيه الحيوان، ولسنا نشعر كثير شعور بالفصول المنوعة لهذا المعنى الجنسى فى النبات، وإذا كان الأمر كذلك لم يكن نسبة هذا القسم من النظر إلى أنه كلام فى النبات أولى منه إلى أنه كلام فى الحيوان إذ كانت نسبة الحيوان إلى هذه النفس نسبة النبات إليها، وكذلك أيضا حال النفس الحيوانية بالقياس إلى الإنسان والحيوانات الأخر، وإذ كنا إنما نريد أن نتكلم فى النفس النباتية والحيوانية من حيث هى مشتركة وكان لا علم بالمخصص إلا بعد العلم بالمشترك وكنا قليلى الاشتغال بالفصول الذاتية لنفس نفس ولنبات نبات ولحيوان حيوان لتعذر ذلك علينا فان الأولى أن نتكم فى النفس فى كتاب واحد، ثم إن أمكننا أن نتكلم فى النبات والحيوان كلاما مخصصا فعلنا، وأكثر ما يمكننا من ذلك يكون متعلقا بأبدانها وبخواص من أفعالها البدنية، فلأن نقدم تعرف أمر النفس ونؤخر تعرف أمر البدن أهدى سبيلا فى التعليم من أن تقدم تعرف أمر البدن ونؤخر تعرف أمر النفس، فإن معونة معرفة أمر النفس فى معرفة الأحوال البدنية أكثر من معونة معرفة أمر البدن فى معرفة الأحوال النفسانية على أن كل واحد منهما معين على الآخر، وليس أحد الطرفين بضرورى التقديم إلا أنا آثرنا أن نقدم الكلام فى النفس لما أبليناه من العذر، فمن شاء أن يغير هذا الترتيب فعل بلا مناقشة لنا معه، فهذا هو الفن السادس، ثم نتلوه فى الفن السابع بالنظر فى أحوال النبات وفى الفن الثامن بالنظر فى أحوال الحيوان، وهناك نختم العلم الطبيعى، ونتلوه بالعلوم الرياضية فى فنون أربعة، ثم نتلو ذلك كله بالعلم الإلهى ونردفه شيئا من علم الأخلاق ونختم كتابنا هذا به.
Shafi 3
المقالة الأولى
فصل 1 (فى إثبات النفس وتحديدها من حيث هى نفس)
Shafi 4
نقول إن أول ما يجب أن نتكلم فيه إثبات وجود الشىء الذى يسمى نفسا، ثم نتكلم فيما يتبع ذلك، فنقول إنا قد نشاهد أجساما تحس وتتحرك بالإرادة، بل نشاهد أجساما تغتذى وتنمو وتولد المثل وليس ذلك لها لجسميتها فبقى أن تكون فى ذواتها مبادىء لذلك غير جسميتها والشىء الذى يصدر عنه هذه الأفعال وبالجملة كل ما يكون مبدأ لصدور أفاعيل ليست على وتيرة واحدة عادمة للإرادة فإنا نسميه نفسا، وهذه اللفظة إسم لهذا الشىء لا من حيث جوهره ولكن من جهة إضافة ما له أى من جهة ما هو مبدأ لهذه الأفاعيل، ونحن نطلب جوهره والمقولة التى يقع فيها من بعد، ولكنا الآن إنما أثبتنا وجود شىء هو مبدأ لما ذكرنا وأثبتنا وجود شى، من جهة ما له عرض ما، ونحتاج أن نتوصل من هذا العارض الذى له إلى أن تحقق ذاته لنعرف ماهيته، كانا قد عرفنا أن لشىء يتحرك محركا ما. ولسنا نعلم من ذلك أن ذات هذا المحرك ما هو، فنقول: إذا كانت الأشياء، التى نرى أن النفس موجودة لها، أجساما، وإنما يتم وجودها من حيث هى نبات وحيوان بوجود هذا الشىء لها، فهذا الشىء جزء من قوامها، وأجزاء القوام كما علمت فى مواضع هى قسمان جزء يكون به الشىء هو ما هو بالفعل، وجزء يكون به الشىء هو ما هو بالقوة وهو بمترلة الموضوع، فإن كانت النفس من القسم الثانى ولا شك أن البدن من ذلك القسم فالحيوان والنبات لا يتم حيوانا ولا نباتا بالبدن ولا بالنفس، فيحتاج إلى كمال آخر هو المبدأ بالفعل لما قلنا فذلك هو النفس وهو الذى كلامنا فيه، بل ينبغى أن يكون النفس هو ما به يكون النبات والحيوان بالفعل نباتا وحيوانا، فإن كان جسما أيضا فالجسم صورته ما قلنا، وإن كان جسما بصورة ما فلا يكون هو من حيث من حيث هو جسم ذلك المبدأ، بل يكون كونه مبدأ من جهة تلك الصورة، ويكون صدور تلك الأحوال عن تلك الصورة بذاتها وإن كان يتوسط هذا الجسم فيكون المبدأ الأول تلك الصورة، ويكون أول فعله بوساطة هذا الجسم ويكون هذا الجسم جزأ من جسم الحيوان لكنه أول جزء يتعلق به المبدأ، وليس هو بما هو جسم إلا من جملة الموضوع،
Shafi 5
فبين أن ذات النفس ليست بجسم بل هي جزء للحيوان والنبات، هى صورة أو كالصورة أو كالكمال، فقول الآن إن النفس يصح أن يقال لها بالقياس إلى ما يصدر عنها من الأفعال قوة وكذلك يجوز أن يقال لها بالقياس إلى ما تقبله من الصور المحسوسة والمعقولة على معنى آخر قوة، ويصح أن يقال لها أيضا بالقياس إلى المادة التى تحلها فيجتع منهما جوهر مادى نباتى أو حيوانى صورة، ويصح أن يقال لها أيضا بالقياس إلى استكمال الجنس بها نوعا محصلا فى الأنواع العالية أو السافلة كمال، لأن طبيعة الجنس تكون ناقصة غير محدودة ما لم تحصلها طبيعة الفصل البسيط أو الغير البسيط منضافا إليها، فإذا انضاف إليها كمل النوع، فالفصل كمال النوع بما هو نوع، وليس لكل نوع فصل بسيط، قد علمت هذا، بل إنما هو للأنواع المركبة الذوات من مادة وصورة، والصورة منها هو الفصل البسيط لما هو كماله ثم كل صورة كمال وليس كل كمال صورة، فإن الملك كمال المدينة والربان كمال السفينة وليسا بصورتين لمدينة والسفينة، فما كان من الكمال مفارق الذات لم يكن بالحقيقة صورة للمادة وفى المادة، فإن الصورة التى هى فى المادة هى الصورة المنطبعة فيها القائمة بها، أللهم إلا أن يصطلح فيقال لكمال النوع صوة النوع، وبالحقيقة فإنه قد استقر الاصطلاح على أن يكون الشىء بالقياس إلى المادة صورة وبالقياس إلى الجملة غاية وكمالا وبالقياس إلى التحريك مبدأ فاعليا وقوة محركة، وإذا كان الأمر كذلك فالصورة تقتضى نسبة إلى شىء بعيد من ذات الجوهر الحاصل منها وإلى شىء يكون به الجوهر الحاصل هو ما هو بالقوة وإلى شىء لا تنسب الأفاعيل إليه، وذلك الشىء هو المادة، لأنها صورة باعتبار وجودها للمادة، والكمال يقتضى نسبة إلى الشىء التام الذى عنه تصدر الأفاعيل لأنه كمال بحسب اعتباره للنوع، فبين من هذا أنا إذا قلنا فى تعريف النفس إنها كمال كان أدل على معناها، وكان أيضا يتضمن جميع أنواع النفس من جميع وجوهها ولا تشذ النفس المفارقة للمادة عنه، وأيضا إذا قلنا إن النفس كمال فهو أولى من أن نقول قوة وذلك لأن الأمور الصادرة عن النفس منها ما هو من باب الحركة ومنها ما هو من باب الإحساس والإدراك، والإدرك بالحرى أن يكون لها لا بما لها قوة هى مبدأ فعل بل مبدا قبول، والتحريك بالحرى أن يكون لها لا بما لها قوة هى مبدأ قبول بل مبدأ فعل، وليس أن ينسب إليها أحد الأمرين بأنها قوة عليه أولى من الآخر، فإن قيل لها قوة وعنى به الأمران جميعا كان ذلك باشتراك الاسم، وإن قيل قوة واقتصر على أحد الوجهين عرض من ذلك ما قلنا، وشىء آخر وهو أنه لا يتضمن الدلالة على ذات النفس من حيث هى نفس مطقا بل من جهة دون جهة، وقد بينا فى الكتب المنطقية أن ذلك غير جيد ولا صواب ثم إذا قلنا كمال اشتمل على المعنيين، فإن النفس من جهة القوة التى يستكمل بها إدراك الحيوان كمال، ومن جهة القوة التى تصدر عنها أفاعيل الحيوان أيضا كمال، والنفس المفارقة كمال والنفس التى لا تفارق كمال، لكنا إذا قلنا كمال لم يعلم من ذلك بعد أنها جوهر أو ليست بجوهر، فإن معنى الكمال هو الشىء الذى بوجوده يصير الحيوان بالفعل حيوانا والنبات بالفعل نباتا وهذا لا يفهم عنه بعد أنه جوهر أو ليس بجوهر، لكنا نقول لا شك لنا فى أن هذا الشىء ليس جوهرا بالمعنى الذى يكون به الموضوع جوهرا ولا أيضا بالمعنى الذى يكون به المركب جوهرا، فأما جوهر بمعنى الصورة فلننظر فيه، فإن قال قائل إنى أقول للنفس جوهرا وأعنى به الصورة ولست أعنى به معنى أعم من الصورة، بل معنى أنه جوهر معنى أنه صورة، وهذا مما قاله خلق منهم، فلا يكون معه موضع بحث واختلاف البتة، فيكون معنى قوله إن النفس جوهر أنها صورة، بل يكون قوله الصورة جوهر كقوله الصورة صورة أو هيئة أو الإنسان إنسان أو بشر، ويكون هذيانا من الكلام، فإن عنى بالصورة ما ليس فى موضوع البتة أى لا يوجد بوجه من الوجوه قائما فى الشىء الذى سميناه لك موضوعا البتة فلا يكون كل كمال جوهرا، فإن كثيرا من الكمالات هى فى موضوع لا محالة، وإن كان ذلك الكثير بالقياس إلى المركب ومن حيث كونه فيه ليس فى موضوع، فإن كونه جزءا منه لا يمنعه أن يكون فى موضوع، وكونه فيه لا كالشىء فى الموضوع لا يجعله جوهرا كما ظن بعضهم لأنه لم يكن الجوهر ما لا يكون بالقياس إلى شىء على أنه فى موضوع حتى يكون الشىء من جهة ما ليس فى هذا الشىء على أنه فى موضوع جوهرا بل إنما يكون جوهرا إذا لم يكن ولا فى شىء من الأشياء على أنه فى موضوع، وهذا المعنى لا يدفع كونه فى شىء ما موجودا لا فى موضوع فإن ذلك ليس له بالقياس إلى كل شىء حتى إذا قيس إلى شىء يكون فيه لا كما يوجد الشىء فى موضوع صار جوهرا وإن كان بالقياس إلى شىء آخر بحيث يكون عرضا بل هو اعتبار له فى ذاته، فإن الشىء إذا تأملت ذاته ونظرت إليها فلم يوجد لها موضوع البتة كانت فى نفسها جوهرا، وإن وجدت فى ألف شىء لا فى موضوع بعد أن توجد فى شىء واحد على نحو وجود الشىء فى الموضوع فهى فى نفسها عرض، وليس إذا لم يكن عرضا فى شىء فهو جوهر فيه، فيجوز أن يكون الشىء لا عرضا فى الشىء ولا جوهرا فى الشىء كما أن الشىء يجوز أن لا يكون واحدا فى الشىء ولا كثيرا لكنه فى نفسه واحد أو كثير، وليس الجوهرى والجوهر واحدا، ولا العرض بمعنى العرضى الذى فى إيساغوجى هو العرض الذى فى قاطيغورياس، وقد بينا لك هذه الأشياء فى صناعة المنطق، فبين أن النفس لا يزيل عرضيتها كونها فى المركب كجزء بل يجب أن تكون فى نفسها لا فى موضوع البتة وقد علمت ما الموضوع، فإن كان كل نفس موجودة لا فى موضوع فكل نفس جوهر، وإن كانت نفس ما قائمة بذاتها والبواقى كل واحدة منها فى هيولى وليست فى موضوع فكل نفس جوهر، وإن كانت نفس ما قائمة فى موضوع وهى مع ذلك جزء من المركب فهى عرض، وجميع هذا كمال، فلم يتبين لنا بعد أن النفس جوهر أو ليست بجوهر من وضعنا أنها كمال، وغلط من ظن أن هذا يكفيه فى أن يجعلها جوهرا كالصورة،
Shafi 10
فنقول إنا إذا عرفنا أن النفس كمال بأى بيان وتفصيل فصلنا الكمال لم نكن بعد عرفنا النفس وماهيتها بل عرفناها من حيث هى نفس، وإسم النفس ليس يقع عليها من حيث جوهرها بل من حيث هى مدبرة للأبدان ومقيسة إليها، فلذلك يؤخذ البدن فى حدها كما يوخذ مثلا البناء فى حد البانى وإن كان لا يؤخذ فى حده من حيث هو إنسان، ولذلك صار النظر فى النفس من العلم الطبيعى لأن النظر فى النفس من حيث هى نفس نظر فيها من حيث لها علاقة بالمادة والحركة، بل يجب أن نفرد لتعرفنا ذات النفس بحثا آخر، ولو كنا عرفنا بهذا ذات النفس لما أشكل علينا وقوعها فى أى مقولة تقع فيها، فإن من عرف وفهم ذات الشىء فعرض على نفسه طبيعة أمر ذاتى له لم يشكل عليه وجوده له كما أوضحناه فى المنطق، لكن الكمال على وجهين كمال أول وكمال ثان، فالكمال الأول هو الذى يصير به النوع نوعا بالفعل كالشكل للسيف، والكمال الثانى هو أمر من الأمور التى تتبع نوع الشىء من أفعاله وانفعالاته كالقطع للسيف وكالتمييز والروية والإحساس والحركة للانسان، فإن هذه كمالات لا محالة للنوع لكن ليست أولى، فإنه ليس يحتاج النوع فى أن يصير هو ما هو بالفعل إلى حصول هذه الأشياء له بالفعل، بل إذا حصل له مبدأ هذه الأشياء بالفعل حتى صارله هذه الأشياء بالقوة بعد ما لم تكن بالقوة إلا بقوة بعيدة تحتاج إلى أن يحصل قبلها شىء حتى تصير بالحقيقة بالقوة صار حينئذ الحيوان حيوانا بالفعل، فالنفس كمال أول، ولأن الكمال كمال لشىء فالنفس كمال لشىء وهذا الشىء هو الجسم، ويجب أن يوخذ الجسم بالمعنى الجنسى لا المادى كما علمت فى صناعة البرهان، وليس هذا الجسم الذى النفس كماله كل جسم، فإنها ليست كمال الجسم الصناعى كالسرير والكرسى وغيرهما بل كمال الجسم الطبيعى، ولا كل جسم طبيعى فليست النفس كمال نار ولا أرض بل هى فى عالمنا كمال جسم طبيعى تصدر عنه كمالاته الثانية بآلات يستعين بها فى أفعال الحياة التى أولها التغذى والنمو، فالنفس التى نحدها هى كمال أول لجسم طبيعى آلى له أن يفعل أفعال الحياة،
Shafi 12
لكنه قد يتشكك فى هذا الموضع بأشياء ، من ذلك أن لقائل أن يقول إن هذا الحد لا يتناول النفس الفلكية فإنها تفعل بلا آلات، وإن تركتم ذكر الآلات واقتصرتم على ذكر الحياة لم يغنكم ذلك شيئا فإن الحياة التى لها ليس هو التغذى والنمو ولا أيضا الحس وأنتم تعنون بالحياة التى فى الحد هذا، وإن عنيتم بالحياة ما للنفس الفلكية من الإدراك مثلا والتصور العقلى والتحريك لغاية إرادية أخرجتم النبات من جملة ما يكون له نفس، وأيضا إن كان التغذى حياة فلم لا تسمون النبات حيوانا، وأيضا لقائل أن يقول ما الذى أحوجكم إلى أن تثبتوا نفسا ولم لم يكفكم أن تقولوا إن الحياة نفسها هى هذا الكمال فتكون الحياة هى المعنى الذى يصدر عنه ما تنسبون صدوره إلى النفس،
Shafi 13
فلنشرع فى جواب واحد واحد من ذلك وحله، فنقول أما الأجسام السماوية فإن فيها مذهبين، مذهب من يرى أن كل كوكب يجتمع منه ومن عدة كرات قد دبرت بحركته جملة جسم كحيوان واحد فتكون حينئذ كل واحدة من الكرات يتم فعلها بعدة أجزاء ذوات حركة فتكون هى كالآلات، وهذا القول لا يستمر فى كل الكرات، ومذهب من يرى أن كل كرة فلها فى نفسها حياة مفردة وخصوصا ويرى جسما تاسعا ذلك الجسم واحد بالفعل لا كثرة فيه، فهؤلاء يجب أن يروا أن إسم النفس إذا وقع على النفس الفلكية وعلى النفس النباتية فإنما يقع بالاشتراك، وأن هذا الحد إنما هو للنفس الموجودة للمركبات، وإنه إذا احتيل حتى تشترك الحيوانات والفلك فى معنى إسم النفس خرج معنى النبات من تلك الجملة، على أن هذه الحيلة صعبة، وذلك لأن الحيوانات والفلك لا تشترك فى معنى إسم الحياة ولا فى معنى إسم النطق أيضا لأن النطق الذى هاهنا يقع على وجود نفس لها العقلان الهيولانيان وليس هذا مما يصح هناك على ما ترى، فإن العقل هناك عقل بالفعل، والعقل بالفعل غير مقوم للنفس الكائنة جزء حد للناطق، وكذلك الحس هاهنا يقع على القوة التى تدرك بها المحسوسات على سبيل قبول أمثلتها والانفعال منها، وليس هذا أيضا مما يصح هناك على ما ترى، ثم إن اجتهد فجعل النفس كمالا أول لما هو متحرك بالإرادة ومدرك من الأجسام حتى تدخل فيه الحيوانات والنفس الفلكية خرج النبات من تلك الجملة، وهذا هو القول المحصل، وأما أمر الحياة والنفس فحل الشك فى ذلك على ما نقول إنه قد صح أن الأجسام يجب أن يكون فيها مبدأ للأحوال المعلومة المنسوبة إلى الحياة بالفعل، فإن سمى مسم هذا المبدأ حياة لم تكن معه مناقشة، وأما المفهوم عند الجمهور من لفظة الحياة المقولة على الحيوان فهوأمران، أحدهما كون النوع موجودا فيه مبدأ تصدر تلك الأحوال عنه أو كون الجسم بحيث يصح صدور تلك الأفعال عنه، فأما الأول فمعلوم أنه ليس معنى النفس بوجه من الوجوه، وأما الثانى فيدل على معنى أيضا غير معنى النفس، وذلك لأن كون الشىء بحيث يصح أن يصدر عنه شىء أو يوصف بصفة يكون على وجهين، أحدهما أن يكون فى الوجود شىء غير ذلك الكون نفسه يصدر عنه ما يصدر مثل كون السفينة بحيث تصدر عنه المنافع السفينية وذلك مما يحتاج إلى الربان حتى يكون هذا الكون، والربان وهذا الكون ليس شيئا واحدا بالموضوع، والثانى أن لا يكون شىء غير هذا الكون فى الموضوع مثل كون الجسم بحيث يصدر عنه الإحراق عند من يجعل نفس هذا الكون الحرارة حتى يكون وجود الحرارة فى الجسم هو وجود هذا الكون، وكذلك وجود النفس وجود هذا الكون على ظاهر الأمر إلا أن ذلك فى النفس لا يستقيم، فليس المفهوم من هذا الكون ومن النفس شيثا واحدا، وكيف لا يكون كذلك والمفهوم من الكون الموصوف لا يمنع أن يسبقه بالذات كمال ومبدأ ثم للجسم هذا الكون، والمفهوم من الكمال الأول الذى رسمناه يمنع أن يسبقه بالذات كمال آخر لأن الكمال الأول ليس له مبدأ وكمال أول، فليس إذن المفهوم من الحياة والنفس واحدا إذا عنينا بالحياة ما يفهمه الجمهور، وإن عنينا بالحياة أن تكون لفظة مرادفة للنفس فى الدلالة عل الكمال الأول لم نناقش، وتكون الحياة
Shafi 15
إسما لما كنا وراء إثباته من هذا الكمال الأول، فقد عرفنا الآن معنى الإسم الذى يقع على الشىء الذى سمى نفسا بإضافة له، فبالحرى أن نشتغل بإدراك ماهية هذا الشىء الذى صار بالاعتبار المقول نفسا، ويجب أن نشير فى هذا الموضع إلى إثبات وجود النفس التى لنا إثباتا على سبيل التنبيه والتذكير إشارة سديدة الموقع عند من له قوة على ملاحظة الحق نفسه من غير احتياج إلى تثقيفه وقرع عصاه وصرفه عن المغلطات، فنقول بجب أن يتوهم الواحد منا كأنه خلق دفعة وخلق كاملا لكنه حجب بصره عن مشاهدة الخارجات، وخلق يهوى فى هواء أو خلاء هويا لا يصدمه فيه قوام الهواء صدم ما يحوج أن يحس، وفرق بين أعضائه فلم تتلاق ولم تتماس، ثم يتأمل أنه هل يثبت وجود ذاته فلا يشك فى إثباته لذاته موجودة ولا يثبت مع ذلك طرفا من أعضائه ولا باطنا من أحشائه ولا قلبا ولا دماغا ولاشيئا من الأشياء من خارج بل كان يثبت ذاته ولا يثبت لها طولا ولا عرضا ولا عمقا، ولو أنه أمكنه فى تلك الحالة أن يتخيل يدا أو عضوا آخر لم يتخيله جزءا من ذاته ولا شرطا فى ذاته، وأنت تعلم أن المثبت غير الذى لم يثبت، والمقربة غير الذى لم يقربه، فإذن الذات التى أثبت وجودها خاصية له على أنها هو بعينه غير جسمه وأعضائه التى لم يثبت، فإذا المتنبه له سبيل إلى أن يتنبه على وجود النفس شيئا غير الجسم بل غير جسم، وأنه عارف به مستشعر له وإن كان ذاهلا عنه يحتاج أن يقرع عصاه،
Shafi 16
فصل 2 (فى ذكر ما قاله القدماء فى النفس وجوهرها ونقضه)
Shafi 17
فنقول قد اختلف الأوائل فى ذلك لأنهم اختلفوا فى المسلك إليه فمنهم من سلك إلى علم النفس من جهة الحركة، ومنهم من سلك إليه من جهة الإدراك، ومنهم من جمع المسلكين، ومنهم من سلك طريق الحياة غير مفصلة، فمن سلك منهم جهة الحركة فقد كان يخيل عنده أن التحريك لا يصدر ألا عن متحرك وأن المحرك الأول يكون لا محالة متحركا بذاته، وكانت النفس محركة أولية إليها يتراقى التحريك من الأعضاء والعضل والأعصاب، فجعل النفس متحركة لذاتها وجعلها لذلك جوهرا غير مائت معتقدا أن ما يتحرك لذاته لا يجوز أن يموت، قال ولذلك ما كانت الأجسام السماوية ليست تفسد والسبب فيه دوام حركتها، فمنهم من من منع أن تكون النفس جسما فجعلها جوهرا غير جسم متحركا لذاته، ومنهم من جعلها جسما وطلب الجسم المتحرك بذاته، فمنهم من جعلها ما كان من الأجرام التى لا تتجزأ كريا ليسهل دوام حركتها، وزعم أن الحيوان يستنشق ذلك بالتنفس وأن التنفس غذاء للنفس، وأن النفس يستبقى النفس بإدخال بدل ما يخرج من ذلك الجنس من الهباء التى هى الأجرام التى لا تتجزأ التى هى المبادى، وأنها متحركة بذاتها كما ترى من حركة الهباء دائما فى الجو، ولذلك صلحت أن تحرك غيرها، ومنهم من قال إنها ليست هى النفس بل إن محركها هو النفس وهى فيها وتدخل البدن بدخولها، ومنهم من جعل النفس نارا ورأى أن النار دائمة الحركة، وأما من سلك طريق الإدرك فمنهم من رأى أن الشىء إنما يدرك ما سواه لأنه متقدم عليه ومبدأ له، فوجب أن تكون النفس مبدأ، فجعلها من الجنس الذى كان يراه المبدأ إما نارا أو هواء أو أرضا أو ماء، ومال بعضهم إلى القول بالماء لشدة رطوبة النطفة التى هى مبدأ التكون، وبعضهم جعلها جسما بخاريا إذ كان يرى البخار مبدأ الأشياء، وعلى حسب المذاهب التى عرفتها، فكل هؤلاء كان يقول إن النفس إنما تعرف الأشياء كلها لأنها من جوهر المبدأ لجميعها، وكذلك من رأى أن المبادى هى الأعداد فإنه جعل النفس عددا، ومنهم من رأى أن الشىء إنما يدرك ما هو شبيهه وأن المدرك بالفعل شبيه المدرك بالفعل فجعل النفس مركبا من الأشياء التى يراها عناصر، وهذا هو أنبادقليس فإنه جعل النفس مركبة من العناصر الأربعة ومن الغلبة والمحبة، وقال إنما تدرك النفس كل شىء بشبيهه فيها، وأما الذين جمعوا الأمرين فكالذين قالوا إن النفس عدد محرك لذاته، فهمى عدد لأنها مدركة ومحركة لذاتها لأنها محركة أولية، وأما الذين اعتبروا أمر الحياة غير ملخص فمنهم من قال إن النفس حرارة غريزية لأن الحياة بها، ومنهم من قال بل برودة وإن النفس مشتق من النفس، والنفس هو الشىء المبرد ولهذا ما نتبرد بالاستنشاق لنحفظ جوهر النفس، ومنهم من قال بل النفس هو الدم لأنه إذا سفح الدم بطلت الحياة، ومنهم من قال بل النفس مزاج لأن المزاج ما دام ثابتا لم يتغير صحت الحياة، ومنهم من قال بل النفس تأليف ونسبة بين العناصر وذلك لأنا نعلم أن تأليفا ما يحتاج إليه حتى يكون من العناصر حيوان، ولأن النفس تأليف فلذلك تميل إلى المؤلفات من النغم والأرابيع والطعوم وتلتذ بها، ومن الناس من ظن أن النفس هو الإلهى - تعالى عما يقوله الملحدون - وأنه يكون فى كل شىء بحسبه فيكون فى شىء طبعا وفى شىء عقلا وفى شىء نفسا - سبحانه وتعالى عما يشركون،
Shafi 19
فهذه هى المذاهب المنسوبة إلى القدماء الأقدمين فى أمر النفس، وكلها باطل، فأما الذين تعلقوا بالحركة فأول ما يلزمهم من المحال أنهم نسوا السكون، فإن كانت النفس تحرك بأن تتحرك وكان لا محالة تحركها علة للتحريك فلم يخل تسكينها إما أن يصدر عنها وهى متحركة بحالها فتكون نسبة تحركها بذاتها إلى التسكين والتحريك واحدة، فلم يمكن أن يقال إنها تحرك بأن تتحرك، وقد فرضوا ذلك، أو يصدر عنها وقد سكنت، فلا تكون متحركة بذاتها، وأيضا قد عرفت مما سلف أنه لا متحرك إلا من محرك وأنه ليس شىء متحركا من ذاته، فلا تكون النفس شيئا متحركا من ذاته، وأيضا فإن هذه الحركة لا يخلوا إما أن تكون مكانية أو كمية أو كيفية أو غير ذلك، فإن كانت مكانية فلا يخلوا إما أن تكون طبيعية أو قسرية أو نفسانية، فإن كانت طبيعية فتكون إلى جهة لا محالة فيكون تحريك النفس إلى جهة واحدة فقط، وإن كانت قسرية فلا تكون متحركة بذاتها ولا يكون أيضا تحريكها بذاتها، بل الأولى أن يكون القاسر هو المبدأ الأول وأن يكون هو النفس، وإن كانت نفسانية فالنفس قبل النفس، وتكون لا محالة بإرادة فتكون إما واحدة لا تختلف فيكون تحريكها على تلك الجهة الواحدة، أو تكون مختلفة فتكون بينها كما علمت سكونات لا محالة، فلا تكون متحركة لذاتها، وأما الحركة من جهة الكم فأبعد شىء من النفس، ثم لا يكون شىء متحركا من جهة الكم بذاته بل لدخول داخل عليه أو استحالة فى ذاته، وأما الحركة على سبيل الاستحالة فإما أن تكون حركة فى كونها نفسا، فتكون النفس إذا حركت لا تكون نفسا، وإما حركة فى عرض من أعراض كونها نفسا، فأول ذلك أن لا يكون تحركها من نحو تحريكها بل تكون ساكنة فى المكان حين تحرك فى المكان، والثانى أن الاستحالة فى الأعراض غايتها حصول ذلك العرض وإذا حصل فقد وقفت الاستحالة، وأيضا فقد تبين لك أن النفس لا ينبغى أن تكون جسما، والمحرك الذى يحرك فى المكان بأن يتحرك نحو ما يحرك فهو جسم لا محالة، ولو كان للنفس الحركة والانتقال لكان يجوز أن تفارق بدنا ثم تعود إليه وهؤلاء يجعلون مثل النفس مثل زيبق يجعل فى بعض الأجسام فإذا ترجرج تحرك ذلك الجسم، ويدفعون أن تكون الحركة حركة اختيار، وأيضا فقد علمت أن القول بالهباآت هذر باطل، وعلمت أيضا أن القول بوحدة المبدأ الأسطقسى جزاف، ثم من المحال ما قالوه من أن الشىء يجب أن يكون مبدأ حتى يعلم ما وراءه، فإنا نعلم وندرك بأنفسنا أشياء لسنا بمبادلها، وأما بيان ذلك من طريق من ظن أن المبدأ أحد الأسطقسات فهو أنا نعلم أشياء ليست الأسطقسات بوجه من الوجوه مبدأ لها، ولا هى مبدأ للأسطقسات، وهى أن كل شىء إما أن يكون حاصلا فى الوجود وإما أن لا يكون، وأن الأشياء المساوية لشىء واحد متساوية، فهذه الأشياء لا يجوز أن يقال إن النار والماء وغير ذلك مبادلها فنعلمها بها ولا بالعكس، وأيضا إما أن تكون معرفة النفس بما هى مبدأ له إنما تتناول عين ذلك المبدأ أو تتناول الأشياء التى تحدث عن المبدأ وليست هى المبدأ أو تكون بكليهما، فإن كانت إنما تتناول المبدأ أو تتناول كليهما وكان العالم بالشىء يجب أن يكون مبدأ له فتكون النفس أيضا مبدأ للمبدأ وأيضا مبدأ لذاتها لأنها تعلم ذاتها، وإن كانت ليس تعلم المبدأ ولكن تعلم الأحوال والتغيرات التى تلحقه فمن الذى يحكم بأن الماء أو النار أو أحد هذه مبدأ، وأما الذين جعلوا الإدراك بالعددية فقالوا لأن المبدأ لكل شىء عدد بل قالوا ماهية كل شىء عدد وحده عدد وهؤلاء وإن كنا قد دللنا على بطلان رأيهم فى المبدأ فى موضع آخر وسندل فى صناعة الفلسفة الأولى أيضا على استحالة رأيهم هذا وما أشبهه فإن مذهبهم هاهنا قد يفسد من حيث النظر الخاص بالنفس، وذلك بأن ننظر ونتأمل هل النفس إنما تكون نفسا بأنها عدد معين كأربعة أو خمسة أو بأنها مثلا زوج أو قرد أو شىء أعم من عدد معين، فإن كانت النفس إنما هى ما هى بأنها عدد معين فما يقولون فى الحيوان المجزر الذى إذا قطع تحرك كل جزء منه وأحس، وإذا أحس فلا محالة هناك تخيل ما، وكذلك كل جزء منه يأخذ فى الهرب إلى جهة وتلك الحركة عن تخيل ما لا محالة، ومعلوم أن الجزئين يتحركان عن قوتين فيهما وأن كل واحد منهما أقل من العدد الذى كان فى الجملة، وإنما كانت النفس عندهم العدد الذى فى الجملة لا غير، فيكون هذان الجزءان يتحركان لا عن نفس، وهذا محال، بل فى كل واحد منهما نفس من نوع نفس الآخر، فنفس مثل هذا الحيوان واحدة بالفعل متكثرة بالقوة تكثرا إلى نفوس، وإنما تفسد فى الحيوان المجزر نفساه ولا تفسد فى النبات لأن النبات قد شاعت فيه الآلة الأولية لاستبقاء فعل النفس ولا كذلك فى الحيوان المجزر، بل بعض بدن الحيوان المجزر لا مبدأ فيه لاستبقاء المزاج الملائم للنفس، وفى بعضه الآخر ذلك المبدأ ولكنه يحتاج فى استبقاءه ذلك إلى صحبة من القسم الآخر، فيكون بدنه متعلق الأجزاء بعضها ببعض فى التعاون على حفظ المزاج، وإن لم تكن النفس عددا معينا بل كانت عددا له كيفية ما وصورة فيشبه أن تكون فى بدن واحد نفوس كثيرة، فإنك تعلم أن فى كثير من الأزواج أزواجا وفى كثير من الأفراد أفرادا وفى كثير من المربعات مربعات، وكذلك سائر الاعتبارات، وأيضا فإن الوحدات المجتمعة فى العدد إما أن يكون لها وضع أو لا يكون لها، فإن كان لها وضع فهى نقط، وإن كانت نقطا فإما أن تكون نفسا لأنها عدة تلك النقط أو لا تكون لذلك بل لأنها قوة أو كيفية أو غير ذلك، لكنهم جعلوا الطبيعة النفسية مجرد عددية، فيكون العدد الموجود للنقط طبيعة النفس، فيكون كل جسم إذا فرض فيه ذلك العدد من النقط ذا نفس، وكل جسم لك أن تفرض فيه كم نقطة شئت فيكون كل جسم من شأنه أن يصير ذا نفس لفرض النقط فيه، وإن كانت عددا لا وضع له وإنما هى آحاد متفرقة فبماذا تفرقت وليس لها مواد مختلفة ولا قرن بها صفات أخر وفصول أخرى، وإنما تتكثرالأشياء المتشابهة فى المواد المختلفة، فإن كان لها مواد مختلفة فهى ذوات وضع ولها أبدان شتى، ثم فى الحالين جميعا كيف ارتبطت هذه الوحدات أو النقط معا لأنه إن كان ارتباطها بعضها بعض والتيامها للطبيعة الوحدية والنقطية فيجب أن تكون الوحدات والنقطات مهرولة إلى الاجتماع من أى موضع كانت، وإن كان لجامع فيها جمع واحدة منها إلى الاخرى وضام ضم بعضها إلى بعض حتى ارتبطت وهو يحفظها مرتبطة فذلك الشىء أولى أن يكون نفسا،
Shafi 24
وأما الذين قالوا إن النفس مركبة من المادى حتى يصح أن تعرف المبادى وغير المبادى بما فيها منها وإنها إنما تعرف كل شىء بشبهه فيها قد يلزمهم أن تكون النفس لا تعرف الأشياء التى تحدث عن المبادى مخالفة لطبيعتها، فإن الاجتماع قد يحدث هيئآت فى المبادى وصورا لا توجد فيها مثل العظمية واللحمية والانسانية والفرسية وغير ذلك، فيجب أن تكون هذه الأشياء مجهولة للنفس إذ ليس فيها هذه الأشياء بل إنما فيها أجزاء المبادى فقط، فإن جعل فى تأليف النفس إنسانا وفرسا وفيلا كما فيه نار وارض وغلبة ومحبة فقد ارتكب العظيم، ثم إن كان فى النفس إنسان ففي النفس نفس ففيها مرة أخرى إنسان وفيل، ويذهب ذلك إلى غير النهاية، وقد يشنع عليه من جهة أنه يجب على هذا الوضع أن يكون الله تعالى إما غير عالم بالأشياء وإما مركبا من الأشياء، وكلاهما كفر، ومع ذلك فيجب أن يكون غير عالم بالغلبة لأنه لا غلبة فيه، فإن الغلبة توجب التفريق والفساد فيما تكون فيه، فيكون الله تعالى غير تام العلم بالمبادى، وهذا شنيع وكفر، ثم يلزم من هذا أن تكون الأرض أيضا عالمة بالأرض والماء بالماء وأن تكون الأرض لا تعلم الماء والماء لا يعلم الأرض، ويكون الحار عالما بالحار غير عالم بالبارد، ويجب أن تكون الأعضاء التى فيها أرضية كثيرة شديدة الإحساس بالأرض، وليست كذلك، بل هى غير حساسة لا بالأرض ولا بغيرها وذلك كالظفر والعظم، ولأن ينفعل الشىء ويتأثر عن ضده أولى من أن يتأثر عن شكله، وأنت تعلم أن الإحساس تاثر ما وانفعال ما، ويجب أن لا تكون هاهنا قوة واحدة تدرك الأضداد، فيكون البياض والسواد ليس يدركان بحاسة واحدة بل يدرك البياض بجزء من البصر هو أبيض والسواد بجزء منه هو أسود، ولأن الألوان لها تركيبات بلا نهاية فيجب أن يكون قد أعد للبصر أجزاء بلا نهاية مختلفة الألوان، وإن كان لا حقيقة للوسائط وما هى إلا مزج الضدين بزيادة ونقصان من غير اختلاف آخر فيجب ان يكون مدرك البياض يدرك البياض صرفا ومدرك السواد يدرك السواد صرفا إذ لا يمكن أن يدرك غيره، فيجب أن لا يشكل علينا بسائط الممتزج ولا يتخيل إلينا الوسائط التى لا يظهر فيها بياض وسواد بالفعل ، وكذلك يجب أن ندرك المثلث بالمثلث والمدور بالمدور والأشكال الأخرى التى لا نهاية لها والأعداد أيضا بأمثالها، فتكون فى الحاسة أمثال بلا نهاية، وهذا كله محال، وأنت تعلم أن الشىء الواحد يكفى فى أن يكون عيارا للأضداد تعرف به كالمسطرة المستقيمة يعرف بها المستقيم والمنحنى جميعا، وأنه لا يجب أن يعلم كل شىء بشىء خاص،
Shafi 26
وأما الذين جعلوا النفس جسما يتحرك بحركته المستديرة التى يتحركها على الأشياء ليدرك بها الأشياء فسنوضح بعد فساد قولهم حين نبين أن الإدراك العقلى لا يجوز أن يكون بجسم، وأما الذين جعلوا النفس مزاجا فقد علم فيما سلف بطلان هذا القول، وعلى أنه ليس كل ما تفسد بفساده الحياة يكون نفسا، فإن كثيرا من الأشياء والأعضاء والأخلاط وغير ذلك بهذه الصفة، وليس بمنكر أن يكون شىء لا بد منه حتى تكون للنفس علاقة بالبدن ولا يوجب ذلك أن يكون ذلك الشىء نفسا، وبهذا يعلم خطأ من ظن أن النفس دم، فكيف يكون الدم محركا وحساسا، والذى قال إن النفس تاليف فقد جعل النفس نسبة مقولة بين أشياء، فكيف تكون النسبة بين الأضداد محركا ومدركا، والتأليف يحتاج إلى مؤلف لا محالة، فذلك المؤلف أولى أن يكون هو النفس، وهو الذى إذا فارق وجب انتقاض التاليف، ثم سيتضح فى خلال ما نعرفه من أمر النفس بطلان جميع هذه الأقاويل بوجوه أخرى، فيجب الآن أن نكون نحن وراء طلب طبيعة النفس، وقد قيل فى مناقضة هذه الآراء أقاويل ليست بالواجبة ولا اللازمة وإنما تركناها لذلك،
فصل 3 (فى أن النفس داخلة فى مقولة الجوهر)
Shafi 27
فنقول نحن إنك تعرف مما تقدم لك أن النفس ليست بجسم، فإن ثبت لك أن نفسا ما يصح لها الانفراد بقوام ذاتها لم يقع لك شك فى أنها جوهر، وهذا إنما يثبت لك فى بعض ما يقال له نفس، وأما غيره مثل النفس النباتية والنفس الحيوانية فإن ذلك لا يثبت لك فيه، لكن المادة القريبة لوجود هذه الأنفس فيها إنما هى ما هى بمزاج خاص وهيئة خاصة وإنما تبقى بذلك المزاج الخاص بالفعل موجودا ما دام فيها النفس، والنفس هى التى تجعلها بذلك المزاج فإن النفس هى لا محالة علة لتكون النبات والحيوان على المزاج الذى له إذ كانت النفس هى مبدأ التوليد والتربية كما قلنا، فيكون الموضوع القريب للنفس مستحيلا أن يكون هو ما هو بالفعل إلا بالنفس، وتكون النفس علة لكونه كذلك، ولا يجوز أن يقال إن الموضوع القريب حصل موجودا على طباعه وكان ذلك بسبب غير النفس ثم لحقته النفس لحوق ما لا قسط له بعد ذلك فى حفظه وتقويمه وتربيته كالحال فى أعراض يتبع وجودها وجود الموضوع لها اتباعا ضروريا ولا تكون مقومة لموضوعها بالفعل، وأما النفس فإنها مقومة لموضوعها القريب موجدة إياه بالفعل كما تعلم الحال فى هذا إذا تكلمنا فى الحيوان، وأما الموضوع البعيد فبينه وبين النفس صور أخرى تقومه، وإذا فارقت النفس وجب ضرورة أن يكون فراقها يحدث لغالب صير الموضوع بحالة أخرى وأحدث فيه صورة جمادية كالمقابلة للصورة المزاجية الموافقة للنفس ولتلك الصورة، فالمادة لا تبقى بعد النفس على نوعها البتة بل إما أن يبطل نوعها وجوهرها الذى به كان موضوعا للنفس أو تخلف النفس فيها صورة تستبقى المادة بالفعل على طبيعتها، فلا يكون ذلك الجسم الطبيعى كما كان بل تكون له صورة وأعراض أخرى ويكون قد تبدل أيضا بعض أجزاءها وفارق مع تغير الكل فى الجوهر، فلا تكون هناك مادة محفوظة الذات بعد مفارقة النفس هى كانت موضوعة للنفس والآن هى موضوعة لغيرها فإذن ليس وجود النفس فى الجسم كوجود العرض فى الموضوع، فالنفس إذا جوهر لأنها صورة لا فى موضوع،
Shafi 29
لكن لقائل أن يقول لنسلم أن النفس النباتية هذه صورتها فإنها علة لقوام مادتها القريبة وأما النفس الحيوانية فيشبه أن تكون النباتية تقوم مادتها ثم يلزمها اتباع هذه النفس الحيوانية إياها، فتكون الحيوانية متحصلة فى مادة تقومت بذاتها وهى علة لقوام هذه التى حلتها أعنى الحيوانية، فلا تكون الحيوانية إلا قائمة فى موضوع، فنقول فى جواب ذلك إن النفس النباتية بما هى نفس نباتية لا يجب عنها إلا جسم متغذ مطلقا، ولا النفس النباتية مطقة لها وجود إلا وجود معنى جنسى، وذلك فى الوهم فقط، وأما الموجود فى الأعيان فهو أنواعها، والذى يجب أن يقال إن النفس النباتية سبب له شىء أيضا عام كلى غير محصل وهو الجسم المتغذى النامى المطلق الجنسي الغير المنوع، وأما الجسم ذو آلات الحس والتمييز والحركة الإرادية فليس مصدره عن النفس النباتبة بما هى نفس نباتية بل بما ينضم إليها فصل آخر تصير به طبيعة أخرى، ولا يكون ذلك إلا أن تصير نفسا حيوانية،
Shafi 30
بل يجب أن نبتدىء فنزيد هذا شرحا، فنقول إن النفس النباتية إما أن تعنى بها النفس النوعية التى تخص النبات دون الحيوان، أو يعنى بها المعنى العام الذى يعم النفس النباتية والحيوانية من جهة ما تغذى وتولد وتنمى، فإن هذا قد يسمى نفسا نباتية، وهذا مجاز من القول، فإن النفس النباتية لا تكون إلا فى النبات، ولكن المعنى الذى يعم نفس النبات والحيوان يكون فى الحيوانات كما يكون فى النبات، ووجوده كما يوجد المعنى العام فى الأشياء، وإما أن تعنى بها القوة من قوى النفس الحيوانية التى تصدر عنها أفعال التغذية والتربية والتوليد، فإن عنى بها النفس النباتية التى هى بالقياس إلى النفس الفاعلة للغذاء نوعية فذلك يكون فى النبات لا غير، ليس فى الحيوان، وإن عنى بها المعنى العام فيجب أن ينسب إليها معنى عام لا معنى خاص فإن الصانع العام هو الذى ينسب إليه المصنوع العام، والصانع النوعى كالنجار هو الذى ينسب إليه المصنوع النوعى، والصانع المعين هو الذى ينسب إليه المصنوع المعين، وهذا شىء قد مر لك تحقيقه، فالذى ينسب إلى النفس النباتية العامة من أمر الجسم أنه نام عام، وأما أنه نام بحيث يصلح لقبول الحس أو لا يصلح فليس ينسب ذلك إلى النفس النباتية من حيث هى عامة، ولا هذا المعنى يتبعها، وأما القسم الثالث فيستحيل أن يكون على ما يظن من أن القوة النباتية تأتى وحدها فتفعل بدنا حيوانيا، ولو كان المنفرد بالتدبير تلك القوة لكانت تتمم جسما نباتيا، وليس كذلك بل إنما تتمم جسما حيوانيا بآلات الحس والحركة، فتكون هى قوة لنفس لتلك النفس قوى أخرى، وهذه القوة من قواها تتصرف على المثال الذى يؤدى إلى استعداد الآلة للكمالات الثانية التى لتلك النفس التى هذه قوتها، وتلك النفس هى الحيوانية، ويتضح من بعد أن النفس واحدة وأن هذه قوى تنشعب عنها فى الأعضاء، ويتأخر فعل بعضها ويتقدم بحسب استعداد الآلة فالنفس التى لكل حيوان هى جامعة أسطقسات بدنه ومؤلفتها ومركبتها على نحو يصلح معه أن يكون بدنا لها، وهى حافظة لهذا البدن على النظام الذى ينبغى فلا يستولى عليه المغيرات الخارجة ما دامت النفس موجودة فيه، ولولا ذلك لما بقى على صحته، ولاستيلاء النفس عليه ما يعرض من قوة القوة النامية وضعفها عند استشعار النفس قضايا تكرهها أو تحبها كراهية ومحبة ليست ببدنية البتة، وذلك عندما يكون الوارد على النفس تصديقا ما وليس ذلك مما يؤثر فى البدن بما هو اعتقاد بل يتبع ذلك الاعتقاد انفعال من سرور أو غم، وذلك أيضا من المدركات النفسانية وليس يعرض للبدن بما هو بدن، فيوثر ذلك فى القوة النامية الغاذية حتى يحدث فيها من العارض الذى يعرض للنفس أولا وليكن الفرح النطقى شدة ونفاذ فى فعلها، ومن العارض المضاد لذلك - وليكن الغم النطقى الذى لا ألم بدنى فيه - ضعف وعجز حتى يفسد فعلها، وربما انتقض المزاج به انتقاضا، وكل هذا مما يقنعك فى أن النفس جامعة لقوتى الإدراك واستعمال الغذاء، وهى واحدة لها ليست هذه منفردة عن تلك فبين أن النفس هى مكملة البدن الذى هى فيه وحافظته على نظامه الذى الأولى به أن يتميز ويتفرق إذ كل جزء من أجزاء البدن يستحق مكانا آخر ويستوجب مفارقة لقرينه، وإنما يحفظه على ما هو عليه شىء خارج عن طبيعته، وذلك الشىء هو النفس فى الحيوان، فالنفس إذا كمال لموضوع ذلك الموضوع متقوم به ، وهو أيضا مكمل النوع وصانعه فإن الأشياء المختلفة الأنفس تصير بها مختلفة الأنواع ويكون تغايرها بالنوع لا بالشخص، فالنفس إذن ليست من الأعراض التى لا تختلف بها الأنواع ولا يكون لها مدخل فى تقويم الموضوع، فالنفس إذن كمال كالجوهر وليس يلزم هذا أن يكون مفارقا أو غير مفارق، فإنه ليس كل جوهر بمفارق، فلا الهيولى بمفارقة ولا الصورة وقد علمت أنت أن الأمر كذلك، فلندل الآن دلالة ما مختصرة على قوى النفس وأفعالها ثم نتبعها بالاستقصاء،
فصل 4 (فى تبيين أن اختلاف أفاعيل النفس لاختلاف قواها)
نقول إن للنفس أفعالا تختلف على وجوه، فيختلف بعضها بالشدة والضعف ويبعضها بالسرعة والبطوء، فإن الظن اعتقاد ما يخالف اليقين بالتأكيد والشدة والحدس يخالف التلقن بسرعة الفهم، وقد تختلف أيضا بالعدم والملكة مثل أن الشك يخالف الرأى، فإن الشك عدم اعتقاد من طرفى النقيض والرأى اعتقاد أحد طرفى النقيض، ومثل التحريك والتسكين، وقد تختلف بالنسبة إلى أمور متضادة مثل الإحساس بالأبيض والإحساس بالأسود وإدراك الحلو وإدراك المر، وقد تختلف بالجنس مثل إدراك اللون وإدراك الطعم بل مثل الإدراك والتحريك، وغرضنا الآن ان نعرف القوى التى تصدر عنها هذه الأفاعيل، وأنه هل يجب أن يكون لكل نوع من الفعل قوة تخصه أولا يجب ذلك،
Shafi 33
فنقول أما الأفعال المختلفة بالشدة والضعف فإن مبدأها قوة واحدة لكنها تارة تكون أتم فعلا وتارة تكون أنقص فعلا، ولو كان النقصان يقتضى أن يكون هناك للأنقص قوة غير القوة التى للأتم لوجب أن يكون عدد القوى بحسب عدد مراتب النقصان والزيادة التى لا تكاد تتناهى بل القوة الواحدة يعرض لها تارة أن نفعل الفعل أشد وأضعف بحسب الاختيار وتارة بحسب مؤاتاة الآلة ويحسب عوائق من خارج أن يكون أولا يكون وأن يقل أو يكثر، وأما الفعل وعدمه فقد سلف لك فى الأقاويل الكلية أن مبدأ ذلك قوة واحدة، وأما اختلاف أفعالها التى من باب الملكة بالجنس كالإدراك والتحريك وكإدراك وإدراك فذلك مما بالحرى أن يفحص عنه فاحص فينظر مثلا هل القوى المدركة كلها قوة واحدة إلا أن لها إدراكات بذاتها هى العقليات وإدراكات ما بآلات مختلفة بسب اختلاف الآلات، فإن كانت العقليات والحسيات مثلا لقوتين فهل الحسيات كلها التى تتخيل من باطن والتى تدرك فى الظاهر لقوة واحدة، فإن كانت التى فى الباطن لقوة أو قوى فهل التى فى الظاهر لقوة واحدة تفعل فى آلات مختلفة أفعالا مختلفة، فإنه ليس بممتنع أن تكون قوة واحدة تدرك أشياء مختلفة الأجناس والأنواع كما هو مشهور من حال العقل عند العلماء ومشهور من حال الخيال عندهم بل كما أن المحسوسات المشتركة التى يزعمون أنها العظم والعدد والحركة والسكون والشكل قد تحس بكل واحدة من الحواس أو بعدة منها وإن كانت بوساطة محسوس آخر، ثم هل قوة التحريك هى قوة الإدراك ولم لا يمكن ذلك، وهل قوة الشهوة بعينها هى قوة الغضب فإذا صادفت اللذة انفعلت على نحو وإن صادفت الأذى انفعلت على نحو آخر، بل هل الغاذية والنامية والمولدة شتى من هذه القوى، فإن لم تكن فهل هى قوة واحدة حتى إذا كان الشىء لم يتم تصوره حركت الغذاء إلى أقطاره على هيئة وشكل، فإذا استكمل حركت ذلك التحريك بعينه إلا أن الشكل قد تم فلا يحدث شكل آخر والعظم قد بلغ مبلغا لا تفى القوة بأن تورد من الغذاء فيه أكثر مما يتحلل منه فيقف، وهناك يفضل من الغذاء فضل يصح للتوليد، فتنفذه إلى أعضاء التوليد كما تنفذ الغذاء إليها لتغذوها به لكنه يفضل عما تحتاج اليه أعضاء التوليد من الغذاء فضل يصلح لباب آخر فتصرفه تلك القوة بعينها إليه كما تفعل بفضول كثير من الأعضاء، ثم تعجز هذه القوة فى آخر الحياة عن إيراد بدل ما يتحلل مساويا لما يتحلل، فيكون ذبول، فلم نفرض قوة نامية ولا نفرض قوة مذبلة واختلاف الأفعال ليس يدل على اختلاف القوى، فإن القوة الواحدة بعينها تفعل الأضداد، بل القوة الواحدة تحرك بإرادات مختلفة حركات مختلفة، بل القوة الواحدة قد تفعل فى مواد مختلفة أفاعيل مختلفة، فهذه شكوك يجب أن يكون حلها مهيأ عندنا حتى يمكننا أن ننتقل ونثبت قوى النفس وأن نثبت أن عددها كذا وأن بعضها مخالف للبعض، فإن الحق عندنا هذا،
Shafi 36
فنقول أما أولا فإن القوة من حيث هى قوة بالذات وأولا هى قوة على أمر ما ويستحيل أن تكون مبدأ لشىء آخر غيره، فإنها من حيث هى قوة عليه مبدأ له، فإن كانت مبدأ لشىء آخر فليست هى من حيث هى مبدأ فى ذاتها لذلك الأول، فالقوى من حيث هى قوى إنما تكون مبادىء لأفعال معينة بالقصد الأول، لكنه قد يجوز أن تكون القوة الواحدة مبدأ لأفعال كثيرة بالقصد الثانى بأن تكون تك كالفروع، فلا تكون مبدأ لها أولا، مثل أن الإبصار إنما هو قوة أولا على إدراك الكيفية التى بها يكون الجسم بحيث إذا توسط بين جسم قابل للضوء وبين المضىء لم يفعل المضىء فيه الإضاءة، وهذا هو اللون، ثم اللون يكون بياضا وسوادا، وأيضا القوة المتخيلة هى التى تستثبت صور الأمور المادية من حيث هى مادية مجردة عن المادة نوعا من التجريد غير بالغ كما نذكره بعد، ثم يعرض أن يكون ذلك لونا أو طعما أو صوتا أو عظما أو غير ذلك، والقوة العاقلة هى التى تستثبت صور الأمور من حيث هى بريئة عن المادة وعلائقها، ثم يتفق أن يكون ذلك شكلا ويتفق أن يكون عددا، وقد يجوز أن تكون القوة معدة نحو فعل بعينه لكنها تحتاج إلى أمر آخر ينضم إليها حينئذ حتى يصير لها ما بالقوة حاصلا بالفعل، فإن لم يكن ذلك الأمر لم تفعل، فيكون مثل هذه القوة تارة مبدأ للفعل بالفعل وتارة غير مبدأ له بالفعل بل بالقوة مثل القوة المحركة فإنها إذا صح الإجماع من القوة الشوقية بسبب داع من التخيل أو المعقول إلى التحريك حركت لا محالة، وإن لم يصح لم تحرك، وليس يصدر عن قوة محركة واحدة بآلة واحدة إلا حركة واحدة إذ الحركات الكثيرة لكثرة آلات الحركة التى هى العضل فينا، وفى كل عضلة قوة محركة جزئية لا تحرك إلا حركة بعينها، وقد تكون القوة الواحدة أيضا يختلف تأثيرها بحسب القوابل المختلفة والآلات المختلفة، وهذا ظاهر،
Shafi 37
فنقول الآن إن أول أقسام أفعال النفس ثلاثة، أفعال يشترك فيها الحيوان والنبات كالتغذية والتربية والتوليد، وأفعال تشترك فيها الحيوانات أو جلها ولاحظ فيها للنبات مثل الإحساس والتخيل والحركة الإرادية، وأفعال تختص بالناس مثل تصور المعقولات واستنباط الصنائع والروية فى الكائنات والتفرقة بين الجميل والقبيح، فلو كانت القوى النفسانية واحدة وكانت الأفعال النباتية تصدر عن القوة التى تصدر عنها الحيوانية صدورا أوليا لكان عدم الأجسام النباتية وأعضاء الحيوان الذى تغتذى ولا تحس ما هو صلب أولين للإحساس إما أن يكون بسب عدم القوة أو بسبب أن المادة ليست تنفعل عنها، ومحال أن يقال إن المادة ليست تنفعل عن الحر والبرد ولا تتأثر عنهما وعن الطعوم القوية والروائح القوية، فإنها تنفعل عنها، فبقى أن يكون ذلك بسبب عدم القوة الفعالة لذلك، وقد وجدت القوة الغاذية، فإذن القوتان مختلفتان، وأيضا فإن تحريك النفس لا يخلوا إما أن يكون على سبيل نقل مطلق، وكل جسم قابل للنقل مطلقا، وإما أن يكون النقل على سبيل قبض وبسط، فقط دون الحركة وبعضها تنفذ فيه قوة الحركة، ولا تتفاضل وليس يمكن تحريكها، فالسبب فى ذلك ليس من جهتها بل من جهة فقدانها القوة المحركة، وكذلك بعض الأعصاب تنفذ فيه قوة الحس فقط دون الحركة وبعضها تنفذ فيه قوة الحركة، ولا تتفاضل بشىء يعتد به، بل قد يوجد ما يشاكل ما ينفذ فيه الحس ويزيد كذلك وليس تنفذ فيه قوة الحس، وكذلك يمكنك ان تعلم أن كذلك وليس تنفذ فيه قوة الحس، وكذلك يمكنك ان تعلم أن العين ليست دون اللسان فى أن تفعل عن الطعوم المجاورة، ولا تحس العين بالطعم من حيث هو مذوق - لست أقول من حيث كيفية - ولا بالصوت، وأما القوة الإنسانية فسنبين من أمرها أنها متبرئة الذات عن الانطباع فى المادة ونبين أن جميع الأفعال المنسوبة إلى الحيوان يحتاج فيها إلى آلة، فإذن الحواس والتخيلات لقوة أخرى مادية غير القوة المحركة وإن كانت تفيض عنها، وقوى الحركة أيضا متعلقة من وجه كما سنبين بقوى الحس والتخيل، فإذا فهمت هذا وما أعطيناك من الأصول سهل عليك أن تعرف فرقان ما بين القوى التى نحن ترتيبها وتعديدها، وتعلم أن كل قوة لها فعل أولى فلا تشارك قوة أخرى لها فعل أولى مخالف لفعلها الأولى،
فصل 5 (فى تعديد قوى النفس على سبيل التصنيف)
Shafi 39