والمباينة الرابعة هى أن الفصل يحمل من طريق أى شئ هو، والجنس يحمل من طريق ماهو وهذا القول بانفراده لايكون دالا على المباينة؛ فإن شيئين إذا وصفا بوصفتين مختلفتين لم يكن ذلك دليلا على مباينتهما. فأن قائلا لو قال: إن المباينة بين زيد وبين عمرو هى أن هذا حساس وذلك ناطق، أو أن هذا ملاح وذلك صائغ، لم يكن هذا القدر كافيا في التفريق، فإن الوصفتين المختلفتين فى المفهوم ربما جاز أن يجتمعا، فلا يبعد أن يكون كون زيد حساسا - وإن كان فى المفهوم مخالفا لكون عمرو ناطقا - هو مما لايوجب أن يباين به زيد عمرا، فلا يستحيل أن يكون كل واحد منهما - مع أنه حساس - ناطقا أيضا؛ لأن الأوصاف المختلفة المفهومات قد تجتمع فى موصوف واحد؛ وكذلك الملاح والصائغ، بل يجب أن يكون بينهما قوة السلب، حتى يكون الحساس يلزمه أن لايكون ناطقا، والناطق أن لايكون حساسا. ثم كون الجنس مقولا فى جواب ماهو لايمنع أن يكون مقولا فى جواب أى شئ هو، على أصول هؤلاء، ولا بينهما قوة هذا السلب، فإنه لايمتنع أن يكون مايقوم ماهية الشئ يميزه عما ليست له تلك الماهية، حتى يكون بالقياس إلى مايشترك فيه مقولا فى جواب ماهو، وبالقياس إلى مايفترق به مقولا فى جواب أى شئ هو؛ فهذا القدر لايمنع أن يكون جنس الشئ هو أيضا فصلا له باعتبارين، إن كانت المباينة المطلوبة هى هذه، ولا يوجب أن يكون جنس الشئ ألبتة فصلا له. وأما أن يكون فصل الشئ جنس شئ آخر فذلك مما لايمنعونه فيما أقدر، وذلك كالحساس فإنه جنس بوجه للسميع والبصير، وفصل للحيوان. فإن قال قائل: إن الشئ الواحد قد يكون جنسا وفصلا لشئ واحد؛ فإنه، وإن كان جنسا وفصلا لشئ واحد، فإن اعتبار أنه جنس غير اعتبار أنه فصل، وقال: نحن إنما نريد أن نوضح الفرق بين الاعتبارين اللذين يطلق على أحدهما اسم الجنسية، وعلى الآخر اسم الفصلية، لم نخالفه، ولم نبكته، ولم ننازعه فى التسمية، ولكنه يكون غير من كلامنا معه؛ لأن كلامنا مع الذى دل باسم الجنس والفصل على طبيعتين مختلفتين اختلافا لايكون الشئ الواحد بالقياس إلى موضوع واحد موصوفا بكلا الطبيعتين، بل يجعل إحدى الطبيعتين صالحة لأحد الجوابين، والطبيعة الأخرى صالحة للجواب الآخر؛ لكن الوجه الذي ذهبنا نحن إليه فى تفهم المقول في جواب ماهو، والمقول في جواب أى شئ هو، يعلمك أن المقول في جواب ماهو، لايكون مقولا في جواب أى شئ هو، وبالعكس، فتكون هذه المباينة على ذلك الوجه صحيحة. لكن لقائل أن يقول: إنكم قد أطلقتم القول في عدة مواضع إن الفصل أيضا قد يقال من طريق ماهو، وخصوصا فى كتاب البرهان فنقول: إنه فرق بين قولنا إن الشئ مقول في جواب ماهو، وبين قولنا إنه مقول في طريق ماهو؛ كما أنه فرق بين قولنا " الماهية " وبين قولنا " الداخل فى الماهية " فالمقول من طريق ماهو كل ما يدخل فى الماهية،ويكون فى ذلك الطريق، وإن لم يكن وحده دالا على الماهية؛ والمقول في جواب ماهو، هو الذي وحده يكون جوابا إذا سئل عما هو. فالفصل يدخل في الماهية ويكون مقولا من طريق ماهو؛ إذ هو جزء الشئ الذي يكون جوابا عن ماهو، لكنه ليس هو وحده مقولا في جواب ماهو. وقد قال بعض الفضلاء: إن الفصل قد يكون مقولا في جواب ماهو أيضا في بعض الأشياء دون بعض، والجنس دائما دال على ماهو؛ ذلك لأن الجنس يدل دائما على أصل ذات الشئ؛ وأما الفصول فربما كانت مناسبات وأضافات إلى أفعال وانفعالات أو أمور أخرى؛ فلذلك يجعل الجنس أولى منه بما هو. وفى هذا الكلام خللان: أحدهما أن ما كان من الفصول يجرى هذا المجرى، فلا يكون فصلا مقوما، بل يكون من الفصول اللوازم؛ والآخر أن الشئ إذا أريد أن يفرق بينه وبين الشئ الآخر بوصف، يجب أن يكون الوصف الذي يفرق بينه وبين الآخر موجودا له دون الآخر وجودا على الثبات، اللهم إلا أن لاتجعل التفرقة بالوصف، بل بأكثرية الوصف وأخلقيته؛ فيقال مثلا:إن الجنس هو الذي هو أحرى بأن يكون مقولا في جواب ماهو، والفصل هو الذي ليس هو بأحرى؛ فيكون الاختلاف ليس من جهة هذا الوصف، بل من جهة القمن، إذ هو موجود لأحدهما دون الآخر؛ فإن فعل ذلك كان فيه عدول عن حقيقة التعريف إلى أمر إضافى عرضى؛ وإن لم يفعل ذلك فيكون بين الجنس وبعض الفصول مشاركة في الحد، وبين الجنس وبعضها مباينة في الحد.
والمباينة التي بعد هذه هى أن الجنس لايكون للأنواع إلا واحدا، والفصل قد يكون أكثر من واحد، كالناطق والمائت للإنسان. وفى إطلاق هذه المباينة بهذا المثال خلل؛ لأنه إن أخذ الجنس كيف كان، لا قريبا ملاصقا فقط، وجد للشئ أجناس كثيرة أيضا؛ فإن الأجناس فى العموم قد يوجد الكثير منها للشئ الواحد، ولكنها لاتكون كلها أجناس الشئ بالحقيقة، بل بعضها أجناس جنسه. وكذلك قد توجد فصول كثير ة متفاوتة في الترتيب، ولكنها لاتكون كلها فصول الشئ بالحقيقة، بل بعضها فصول جنسه، كما مثل به؛ فإن الناطق ليس فصلا قريبا للإنسان على هذه الطريقة التي رتبوا عليها قسمتهم، بل هو فصل جنسه. وإنما فصله الملاصق على هذا المذهب هو المائت، وهذا في مثاله واحد، بل كما أن الجنس الأقرب الذي ليس بجنس الجنس هو في مثاله واحد، كذلك الفصل الأقرب الذي ليس بفصل الجنس هو في مثاله واحد، وهو المائت. لكن قد يوجد لهذا الموضع أمثلة أخرى مثل الحساس والمتحرك بالإرادة؛ فإنهما على ظاهر الأمر فصلان قريبان للحيوان، فيكون الجنس القريب ليس إلا واحدا، والفصول القريبة قد تكون أكثر من واحد. وأيضا فإن هاهنا وجها آخر، وهو أن الأجناس الكثيرة ينحصر بعضها في بعض، حتى يحصل آخرها جنسا واحدا؛ والفصول الكثيرة تكون متباينة لايدخل بعضها في بعض. وإشباع القول في هذا من حق صناعة أخرى.
والمباينة التي بعد هذا هى أن الجنس كالمادة، والفصل كالصورة؛ ويتم بيان ذلك بأن يقال: والذي كالمادة يخالف الذي كالصورة. وأما أن الجنس ليس بمادة، بل كالمادة، فلأن المادة لاتحمل على المركب حمل أنه هو، والجنس يحمل على النوع حمل أن الجنس هو، وأن المادة الموضوعة لصورتين متقابلتين لاتنتسب إليهما بالفعل إلا في زمانين، والجنس يكون مشتملا على الفصلين المتقابلين في زمان واحد. وهاهنا فروق أخرى تذكر في غير هذا الموضع. وإذ الجنس ليس مادة، فليس الفصل صورة. وأما أنه كالمادة، فلأن طبيعته عند الذهن قابل للفصل، وإذا لحقه الفصل صار شيئا مقوما بالفعل، كما هو حال المادة عند الصورة. وإذ الجنس للفصل كالمادة للصورة، فالفصل للجنس كالصورة للمادة.
الفصل الثاني (ب) فصل في المشاركة والمباينة بين الجنس والنوع
وأما المشاركة الأولى المشهورة بين الجنس والنوع، فمشاركة كانت مع الفصل، وهى أنهما يتقدمان ما يحملان عليه، أى ماهما له جنس ونوع.
والثانية مشاركة، عامة وهى أن كل واحد منهما كلى. وقد نسى موردهما أن هذه مشاركة جامعة قد ذكرت مرة؛ فإن أرادوا أن يجعلوا هذا وجها خارجا عن ذلك، فيجب أن يعنى بالكلى غير الكلى على الإطلاق، بل كلى هو ماهية جزيئاته بالشركة.
وأما المباينة الأولى فمثل ما كان مع الفصل، وهو أن النوع محوى للجنس، والجنس ليس بمحوى للنوع.
Shafi 36