فلنتحقق الآن حال الحدود التى هى مشهورة للنوع فنقول: أما النوع بالمعنى الذى لاإضافة فيه إلى الجنس، فقد وفوا حده، إذ حدوه بأنه: المقول على كثيرين مختلفين بالعدد فى جواب ما هو؛ وذلك لأن الجنس والعرض العام لايشاركانه؛ إذ كل واحد منهما مقول على كثيرين مختلفين بالنوع، لا على كثيرين مختلفين بالعدد؛ إذ يجب أن يفهم من قولهم: مقول على كثيرين مختلفين بالعدد، أنه مقول على ذلك فقط؛ لأنك إن لم تفهم ذلك، لم يكن كونه مقولا على كثيرين مختلفين بالعدد مانعا من كونه مقولا على كثيرين مختلفين بالنوع، فإن المقول على كثيرين محتلفين بالنوع قد يكون أيضا مقولا على كثيرين مختلفين بالعدد. فإذا علمت أن التخصيص بهذا الاسم إنما هو لما لا يقال إلاكذلك، خرج ما يقال على كثيرين مختلفين بالنوع من مفهومه. فهذا مايفرق بينه و بين الجنس والعرض العام. وقد يفرق أيضا بين النوع والفصول التى تقال على كثيرين مختلفين بالنوع؛ مثال هذا الفصل المنقسم بالتساويين فإنه فصل الزوج فى طاهر الأمر، وقد يقال على الخط والسطح والجسم فى ظاهر الأمر؛ فليس الزوج وحده منقسما بمتساويين فى ظاهر الأمر؛ فإنه إذا أضيف إلى العدد الذى هو كالجنس، كان مساويا للزوج، ولا يفرق بين النوع والفصل الذى هو خاص بالنوع كالناطق، أعنى الذى له مبدأ قوة التمييز، فإن هذا الإنسان وحده. وأما الذى يقال للملك فهو بمعنى آخر ليس يشارك الإنسان الملك فيه؛ ولكن قد يمكن لبعض المتشحطين أن يخرج من هذا الحد من هذه الجهة وجها يفرق بين النوع والفصل، وذلك الوجه هو أن طبيعة النوع بهذا المعنى تقتضى أن لا يقال إلا على كثيرين مختلفين بالعدد، وطبيعة الفصل لاتقتضى ذلك؛ وهو وجه متكلف لكن قوله: "فى جواب ما هو" يفرق بين الفصل وبينه تفريقا مطلقا، ويفرق بين الخاصة وبين النوع أيضا فإن الخاصة لامدخل لها فى جواب ماهو. فهذا الرسم متقن محقق مطابق للمعنى الذى يقال عليه النوع، الذى لايطابق إلا نوع الأنواع. وأما رسوم النوع بالمعنى الذى فيه الإضافة فذلك عندهم رسمان: أحدهما قولهم: إنه المرتب تحت الجنس، والثانى: إنه الذى يقال عليه الجنس من طريق ماهو. فيجب أن ننظر فى حاله فنقول : إنه إن عنى بالمرتب تحت الجنس ما يكون أخص منه حملا، أى يكون جمله على بعض ما يحمل عليه مما هو تحته، فإن الشخص والنوع والفصل والخاصة تشترك جميعها فيه، وإن عنى بذلك ما كان كليا وحده دون الشخص، فقد عنى ما هو خارج عن مقتضى اللفط، ومع ذلك فإن الفصل والنوع والخاصة تشترك فيه. وإن لم يعن بالمرتب هذا، بل عنى به ما هو أخص وملاصق لابتوسط شىء بينهما، وهو ما يتلوه فى المرتبة، خرج الشخص ودخل الخاصة والفصل؛ وإن عنى بالمرتب ما كان ملاصقا ليس فى ترتيب العموم فقط، بل فى ترتيب المعنى أيضا، خرج الخاصة ودخل الفصل، وإن عنى بالمرتب مايكون خاصا مدخولا فى طبيعته، أعنى ما يكون ما فوقه مضمنا فى معناه، اختص هذا الرسم بالنوع؛ فإن الجنس ليس داخلا فى طبيعة الفصل ولا الخاصة، بل هو شىء كالموضوع لهما ليس داخلا فيهما، ونسبته إليهما نسبة الأمر اللازم الذى لابد منه، ليس نسبة الداخل فى الجوهر، على ما علمت. لكن لفظة "المرتب" ليس تدل على هذا المعنى المحدد بكل هذه الاشتراطات، لابحسب الوضع الأول، ولا بحسب النقل، فليس يذكر فى موضع من كتب أهل هذه الصناعة أنه إذا قيل: مرتب تحت كذا، عنى هذا المعنى. وأما الرسم الثانى، وهو أنه الذى يقال عليه جنسه من طريق ما هو إن عنى بالمقول من طريق ما هو ما حققناه نحن فيجب أن يراد عليه أنه الذى يقال عليه وعلى غيره جنسه من طريق ما هو، أو يقال: هو الذى يقال عليه جنسه من طريق ما هو بالشركة، فيكون هذا خاصا للنوع، فإن الفصل لايقال عليه الجنس من طريق ما هو ألبتة البتة ، وكذلك الخاصة والعرض. وأما الشخص فلا تتم ماهيته بالجنس. وأما إن عنى بذلك ما يعنونه، فيكون بينه وبين الفصل والخاصة والعرض فرق، ولا يكون بينه وبين الشخص فرق، إلا أن نضمن أنه كلى بهذه الصفة؛ وأيضا فإنه لا يكون بينه وبين فصل الجنس فرق. والذى حد وقال: إن النوع هو أخص كليين مقولين فى جواب ما هو، فقد أحسن تحديد النوع، و إنما يتم حسنه بأن يقال: إنه الكلى الأخص من كليين مقول فى جواب ما هو؛ تعلم ذلك إذا تدربت بالأصول والمواضع المقررة للحدود. فنقول الآن: الجنس منه ما يكون جنسا، ولا يصلح أن ينقلب باعتبار آخر نوعا؛ إذ لا يكون فوقه جنس أعم منه؛ ومنه ما يصلح أن يكون نوعا باعتبار آخر إذ يكون فوقه جنس أعم منه. وكذلك النوع منه ما يكون نوعا ولا يصلح أن ينقلب جنسا؛ إذ لا يكون تحته نوع أخص منه؛ ومنه ما يصلح أن ينقلب جنسا باعتبار آخر؛ إذ لا يكون تحته نوع أخص منه. فنرتب للجنس مراتب ثلاثا: جنس عال ليس بنوع ألبتة البتة ، وجنس متوسط هو نوع وجنس وتحته أجناس، وجنس سافل هو نوع وجنس ليس تحته جنس. وكذلك يكون فى باب النوع: نوع سافل ليس تحته نوع ألبتة البتة ، فليس بجنس ألبتة البتة ، ونوع عال تحت جنس الأجناس الذى ليس بنوع ألبتة البتة ، ونوع متوسط هو نوع وجنس وجنسه نوع، والمثال المشهور لهذا هو من مقولة الجوهر؛ فإن الجوهر جنس لا جنس فوقه، وتحته الجسم، وتحت الجسم الجسم ذو النفس؛ وتحت الجسم ذى النفس الحيوان، وتحت الحيوان الحيوان الناطق، وتحت الحيوان الناطق الإنسان، وتحت الإنسان زيد وعمرو، فزيد وعمرو وأشكالهما هى الأشخاص. والجوهر هو جنس الأجناس، إذ ليس فوقه جنس؛ والإنسان هو نوع الأنواع، إذ ليس تحته نوع، وما بينهما أجناس وأنواع متوسطة؛ فإنها بالقياس إلى ما تحتها أجناس، وبالقياس إلى ما فوقها أنواع؛ فإن الجسم نوع الجوهر وجنس للجسم ذى النفس، والجسم ذو النفس نوع الجسم وجنس الحى؛ لأنه يعم النبات والحى، والحى نوع الجسم ذى النفس وجنس للحى الناطق لأنه يعم الحيوانات العجم والإنسان، والحى الناطق نوع الحى وجنس الإنسان، لأنه يعم الإنسان والملك؛ فيكون الحى الناطق هو الجنس السافل، والجوهر هو الجنس العالى، والجسم وما يليه هو الجنس المتوسط، و يكون الجسم هو النوع العالى، ويكون الإنسان هو النوع السافل، ويكون الجسم ذو النفس وما يليه النوع المتوسط، ويكون الجوهر بالقياس إلى ما تحته جنس الأجناس والجنس العالى، و بأنه لايقاس إلى ما فوقه يكون جنسا ليس بنوع، ويكون الإنسان بالقياس إلى ما فوقه نوع الأنواع والنوع السافل، وأما بقياسه إلى ما تحته فهو أنه نوع ليس بجنس، وقياسه إلى ما تحته على وجهين: قياس إلى ما تحته من حيث هو محمول عليها الحمل المعلوم، وقياس إلى ما تحته باعتبار أنها ليست بأنواع. وقياسه إلى ما تحته من حيث الحمل يفيده معنى النوعية غير المضافة إلى الجنس، وهو المعنى الثانى مما ذكروه. وأما قياسه بالاعتبار الآخر فيفيده أنه نوع ليس بجنس: فهو نوع الأنواع، ونوع ليس بجنس، ونوع بالمعنى المذكور؛ ومفهومات هذه الثلاثة وإن تلازمت فهى مفهومات مختلفة. وإذا جعل اسم النوع اسما لواحد واحد من هذه المعانى، يكون مقولا على هذه الثلاثة باشتراك الاسم، وتكون حدود مفهوماته مختلفة؛ فإن جعل اسما لواحد منها فقط، كان ذلك القول الذى لذلك الواحد حدا له، والقول الذى للآخر رسما ليس هو مفهوم الاسم بل علامة لازمة له. وكما أن تحت نوع الأنواع موضوعات كلية وإن كانت ليست بأنواع مثل الكاتب والملاح والتركى تحت الإنسان، فكذلك لايبعد أن يكون فوق جنس الأجناس محمولات ليست بأجناس، بل معان لازمة قد تشترك فيها أجناس من أجناس الأجناس، كالوجود والعرضية، وكأمور تحمل على عدة أجناس عالية مما ستفطن لها بعد. وأما هذه القسمة التى أوردت للجوهر وبلغت الإنسان، فإنها غير مستقيمة، وإن كانت غيرضارة فى تفهم الغرض المقصود، وذلك أن الحسم ذا النفس، إذا تناول النبات مع الحيوانات، لم يتناول الملائكة إلا باشتراك الاسم، فلم يكن الجسم ذو النفس جنسا تدخل فيه الملائكة وكذلك إذاقيل ناطق للإنسان وللملك، لم يكن إلا باشتراك الاسم، والناطق الذى هو فصل مقوم للإنسان غير مقول على الملائكة؛ وإذا كان كذلك، لم يكن الحى الناطق جنسا للإنسان والملائكة، ولا الجسم ذو النفس جنسا للنبات والملائكة والحيوانات؛ فإذا كان كذلك، لم يكن إدخال الميت فصلا يقسم الحيوان الناطق إلى إنسان وغير إنسان محتاجا إليه.
Shafi 64