ليس يمكن أن ينتقل الذهن من معنى واحد مفرد إلى تصديق شىء؛ فإن ذلك المعنى ليس حكم وجوده وعدمه حكما واحدا فى إيقاع ذلك التصديق؛ فإنه إن كان التصديق يقع، سواء فرض المعنى موجودا أو معدوما، فليس للمعنى مدخل فى إيقاع التصديق بوجه، لأن موقع التصديق هو علة التصديق، وليس يجوز أن يكون شىء علة لشىء فى حالتى عدمه ووجوده. فإذا لم يقع بالمفرد كفاية من غير تحصيل وجوده، أو عدمه فى ذاته، أو فى حاله، لم يكن مؤديا إلى التصديق بغيره؛ وإذا قرنت بالمعنى وجودا أو عدما فقد أضفت إليه معنى آخر، وأما التصور فإنه كثيرأ ما يقع بمعنى مفرد، وذلك كما سيتضح لك فى موضعه، وذلك فى قليل من الأشياء؛ ومع ذلك فهو فى أكثر الأمر ناقص ردىء، بل الموقع لتصور فى أكثر الأشياء معان مؤلفة، وكل تأليف فإنما يؤلف من أمور كثيرة، وكل أشياء كثيرة ففيها أشياء واحدة، ففى كل تأليف أشياء واحدة. والواحد فى كل مركب هو الذى يسمي بسيطا ولما كان الشىء المؤلف من عدة أشياء يستحيل أن تعرف طبيعته مع الجهل ببسائطه، فبالحرى أن يكون العلم بالمفردات قبل العلم بالمؤلفات. والعلم بالمفردات يكون على وجهين: لأنه إما أن يكون علما بها، من حيث هى مستعدة لأن يؤلف منها التأليف المذكور، وإما أن يكون علما بها، من حيث هى طبائع وأمور يعرض لها ذلك المعنى. ومثال هذا أن البيت الذى يؤلف من خشب وغيره بحتاج مؤلفه إلى أن يعرف بسائط البيت من الحشب واللبن والطين؛ لكن لخشب واللبن والطين أحوالا بسببها تصلح للبيت وللتأليف، وأحوالا أخرى خارجة من ذلك. فأما أن الخشب هو من جوهر فيه نفس نباتية، وأن طبيعته حارة أو باردة، أو أن قياسه من الموجودات قياس كذا، فهذا لايحتاج إليه بانى البيت أن يعلمه وأما أن الخشب صلب ورخو، وصحيح ومتسوس، وغير ذلك، فإنه مما يحتاج بانى البيت إلى أن يعلمه. وكذلك صناعة المنطق فإنها ليست تنظر فى مفردات هذه الأمور، من حيث هى على أحد نحوى الوجود الذى فى الأعيان والذى فى الأذهان، ولا أيضا فى ماهيات الأشياء، من حيث هى ماهيات، بل من حيث هى محمولات وموضوعات وكليات وجزئيات، وغير ذلك مما إنما يعرض لهذه المعانى من جهة ما قلناه فيما سلف وأما النظر فى الألفاظ فهو أمر تدعو إليه الضرورة، وليس للمنطقى من حيث هو منطقى شغل أول بالألفاط إلا من جهة الخاطبة والمحاورة، ولو أمكن أن يتعلم المنطق بفكرة ساذجة، إنما تلحظ فيها المعانى وحدها، لكان ذلك كافيا ولو أمكن أن يطلع المحاور فيه على مافى نفسه بحيلة أخرى، لكان يغنى عن الفظ ألبتة البتة . ولكن لما كانت الضرورة تدعو إلى استعال الألفاظ، وخصوصا ومن المتعذر على الروية أن ترتب المعانى من غير أن تتخيل معها ألفاظها، بل تكاد تكون الروية مناجاة من الإنسان ذهنه بألفاظ متخيلة، لزم أن تكون للألفاظ أحوال مختلفة تختلف لأجلها أحوال ما يطابقها فى النفس من المعانى حتى يصير لها أحكام لولا الألفاظ لم تكن، فاضطرت صناعة المنطق إلى أن يصير بعض أجزائها نظرا فى أحوال الألفاظ؛ ولولا ما قلناه لما احتاجت أيضا إلى أن يكون لها هذا الجزء. ومع هذه الضرورة، فإن الكلام على الألفاظ المطابقة لمعانيها كالكلام على معانيها، إلا أن وضع الألفاظ أحسن عملا وأما فيما سوى ذلك، فلا خير فى قول من يقول إن المنطق موضوعه النظر فى الألفاظ، من حيث تدل على المعانى، وإن المنطق إنما صناعته أن يتكلم على الألفاظ، من حيث تدل على المعانى، بل يجب أن يتصور أن الأمر على النحو الذى ذكرناه. وإنما تبلد فى هذا من تبلد، وتشوش من تشوش، بسبب أنهم لم يحصلوا بالحقيقة موضوع المنطق، والصنف من الوجودات الذى يختص به، إذ وجدوا الموجود على نحوين: وجود الأشياء من خارج، ووجودها فى الذهن فجعلوا النظر فى الوجود الذى من خارج لصناعة أو صناعات فلسفية، والنظر فى الوجود الذى فى الذهن وأنه كيف يتصور فيه لصناعة أو جزء صناعة؛ ولم يفصلوا فيعلموا أن الأمور التى فى الذهن إما أمور تصورت فى الذهن مستفادة من خارج، وإما أمور تعرض لها، من حيث هى فى الذهن لا يحاذى بها أم من خارج. فتكون معرفة هذين الأمرين لصناعة، ثم يصير أحد هذين الأمرين موضوعا لصناعة المنطق من جهة عرض يعرض له. وأما أى هذين الأمرين ذلك، فهو القسم الثانى؛ وأما أى عارض يعرض، فهو أنه يصير موصلا إلى أن تحصل فى النفس صورة أخرى عقلية لم تكن، أو نافعا فى ذلك الوصول، أو ما يعاوق ذلك الوصول فلما لم يتميز لهؤلاء بالحقيقة موضوع صناعة المنطق، ولا الجهة التى بها هى موضوعه، تتعتعوا وتبلدوا؛ وأنت ستعلم بعد هذا، بوجه أشد شرحا، أن لكل صناعة نطرية موضوعا، وأنها إنما تبحث عن أعر اضه وأحواله، وتعلم أن النظر فى ذات الموضوع قد يكون فى صناعة، والنظر فى عوارضه يكون من صناعة أخرى، فهكذا يجب أن تعلم من حال المنطق.
[الفصل الخامس] (ه) فصل فى تعريف اللفظ المفرد والمؤلف وتعريف الكلى والجزئى، والذاتى والعرضى، والذى يقال فى جواب ما هو والذى لا يقال
Shafi 24