فصل في الدلالة على الموجود والشيء وأقسامها
الأول، بما يكون فيه تنبيه على الغرض
أوليا، ليس ذلك الارتسام مما يحتاج إلى أن يجلب بإشياء أعرف منها. فأنه كما أن في باب التصديق مبادئ أولية، يقع التصديق لها لذاتها، ويكون التصديق بغيرها، بسببها، وإذا لم يخطر بالبال أو لم يفهم اللفظ الدال عليها، لم يمكن التوصل إلى معرفة ما يعرف بها، وإن لم يكن التعريف الذي يحاول أخطارها بالبال أو تفهيم ما يدل به عليها من الألفاظ محاولا لإفادة علم ليس في الغريزة؛ بل منبها على تفهيم ما يريده القائل ويذهب إليه. وربما كان ذلك بأشياء هي في نفسها أخفى من المراد تعريفه، لكنها لعلة ما وعبارة ما صارت أعرف. كذلك في التصورات أشياء هي مبادئ للتصور، وهي متصورة لذواتها، وإذا أريد أن يدل عليها لم يكن ذلك بالحقيقة تعريفا لمجهول؛ بل تنبيها وأخطارا بالبال، بإسم أو بعلامة، ربما كانت في نفسها أخفى منه، لكنها لعلة ما وحال ما تكون أظهر دلالة. فإذا استعملت تلك العلامة تنبهت النفس على إخطار ذلك المعنى بالبال، من حيث أنه هو المراد لا غيره، من غير أن تكون العلامة بالحقيقة معلمة إياه، ولو كان كل تصور يحتاج إلى أن يسبقه تصور قبله لذهب الأمر في ذلك إلى غير النهاية، أو لدار. وأولى الأشياء بأن تكون متصورة لأنفسها الأشياء العامة للأمور كلها، كالموجود، والشيء الواحد وغيره. ولهذا ليس يمكن أن يبين شيء منها ببيان لا دور فيه البتة، أو بيان شيء أعرف منها. ولذلك من حاول أن يقوم فيها شيئا وقع في إضطراب، كمن يقول: إن من الحقيقة الموجود أن يكون فاعلا أو منفعلا؛ وهذا إن كان ولا بد من أقسام الموجود، والموجود أعرف من الفاعل والمنفعل. وجمهور الناس يتصورون حقيقة الموجود ولا يعرفون البتة أه يجب ان يكون فاعلا أو منفعلا، وأنا إلى هذه الغاية لم يتضح لي ذلك إلا بقياس لا غير، فكيف يكون حال من يروم أن يعرف حال الشيء الظاهر بصفة له، تحتاج إلى بيان حتى يثبت وجودها له؟ وكذلك قول من قال: إن الشيء هو الذي يصح عنه الخبر، فإن "يصح" أخفى من "الشيء" و "الخبر" أخفى من "الشيء"، فكيف يكون هذا تعريفا للشيء؟ وإنما تعرف الصحة ويعرف الخبر بعد أن يستعمل في بيان كل واحد منهما أنه "شيء" أو أنه "أمر" أو أنه "ما" أو أنه "الذي"، وجميع ذلك كالمرادفات لأسم الشيء، فكيف يصح أن يعرف الشيء تعريفا حقيقيا بما لم يعرف إلا به؟ نعم ربما كان في ذلك أو أمثاله تنبيه ما. وأما بالحقيقة فإنك إذا قلت إن الشيء هو ما يصح عنه
Shafi 15