Waƙa da Tunani
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
Nau'ikan
ولقد تغيرت نظرة الإنسان إلى الطبيعة كما تغيرت نظرته إلى نفسه وإلى المجتمع البشري في خلال القرنين الأخيرين تغيرات كبيرة صاحبت ثوراته الصناعية والاجتماعية والدينية والعقلية، أو تأثرت بها ونتجت عنها، وانعكست بالضرورة على وجدان الشاعر، وظهرت في تعبيره الفني فيما يمكن أن نسميه بثورة الشعر الحديث أو بالأحرى ثوراته المتعددة. فحين كان الناس من حوله مشغولين بالواقع الخارجي، وبالسيطرة على الطبيعة، وبناء المصانع، والمدن الحديثة، واستغلال الأرض، وإنتاج المزيد من السلع، كان هو يقف من ذلك كله موقف المؤيد حينا والمعارض في معظم الأحيان، فيمجد التغيير السياسي والاجتماعي مرة، أو ينصرف إلى تأمل ذاته، واستكشاف عالمها الباطن المستتر في اللاشعور أو الرمز أو الأسطورة مرات. وكل من ينظر إلى تطور الفكر والحضارة في المائة والخمسين سنة الأخيرة لا بد أن يلاحظ مدى التغير الذي تم في هذين المجالين في وقت واحد: في مجال المجتمع والطبيعة، وفي مجال النفس والعالم الباطن.
وطبيعي أن هذا التطور في اكتشاف العالم الباطن قد سار في تيارات معقدة، وأنه كان يختلف في أوروبا وأمريكا من حيث العصر والمزاج والحركة الأدبية التي يرتبط بها هذا الشاعر أو ذاك، ولكن هذا التطور كان يتتابع في حلقات متتابعة ينبع أحدها من الآخر. فالرومانتيكية كانت كامنة في الكلاسيكية التي أرادت أن تبعث القديم وتطوره، والرمزية هي ذروة النضوج التي وصلت إليها الرومانتيكية المزدهرة في إنجلترا وفرنسا وألمانيا، والواقعية كانت رد فعل للرمزية على اختلاف أشكالها واتجاهاتها.
ولقد كان الشاعر - الذي خلع عن نفسه صفة الناظم إلى الأبد - يحاول في أثناء هذا كله أن يكتشف مجاهل عالمه الباطن كما يكتشف لغته ويعيد بناءها لتكون قادرة على الإيحاء بعالمه الجديد. صحيح أن هذه التيارات والمدارس التي ذكرتها تختلف فيما بينها باختلاف البلاد وطبائع الأفراد، كما أن لكل منها خصائصه المعقدة المتمايزة وشعراءه المختلفين عن بعضهم أشد الاختلاف، إلا أننا نستطيع أن نقول بوجه عام إن حركة اكتشاف الواقع الخارجي التي كادت تصل إلى نهايتها - على الأقل من ناحية السطح والظاهر - لم تستطع في مجال الواقع الداخلي أن تنتهي من اكتشاف عالم الباطن أو «أفريقيا الباطنة» كما يسميها أحد الكتاب، بل لعل الأقرب إلى الصواب أن نقول إن كل المحاولات والمغامرات الجريئة التي يقوم بها الشعراء منذ قرن ونصف قرن لم تزد «أفريقياهم» هذه إلا سوادا وكثافة، في الوقت الذي فرغ فيه زملاؤهم الجغرافيون من زمن طويل من اكتشاف أفريقيا، حتى لم يعد أحد يجرؤ اليوم على تسميتها بالقارة السوداء.
إن الصورة العامة للشعر الحديث والمعاصر صورة محيرة، ولن يقربنا منها سوى الرجوع إلى الأصول التي مهدت لها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وإلقاء نظرة على ملامحها الفردية عند بعض من يمثلونها أصدق تمثيل. ولما كان هذا شيئا يتجاوز حدود هذا المقال، فليس أمامنا إلا تقديم بعض الملامح والخطوط العريضة لما سميناه ثورة الشعر الحديث.
نشأ الأسلوب الشعري الذي يسيطر اليوم على القرن العشرين في فرنسا لا في أي بلد آخر، وكان ذلك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولقد مهد له الشاعر الكبير بودلير (1821-1867م)، بعد أن ظهرت بوادره عند شاعر الرومانتيكية الألمانية نوفاليس (1772-1801م)، والشاعر الكاتب الأمريكي إدجار آلان بو (1809-1849م)، حتى وصل الشاعران رامبو (1854-1891م) ومالارميه (1842-1898م) إلى أبعد الحدود التي يمكن أن يصل إليها الشعر.
والواقع أن الشعر في القرن العشرين يبدو كأنه لم يعد يأتي بجديد. وليس في هذا القول ما يغض من قيمته، أو يقلل من شأن الشعراء المجيدين فيه، ولكنه يتيح لنا التعرف على وحدة الأسلوب التي تربطه بأولئك الرواد العظام. ووحدة الأسلوب التي نقصدها لا تعني الاطراد ولا الملل، ولكنها تدلنا على الروح العامة التي تجمع بين الشعراء على اختلافهم في اللون والموضوع والأداء. فنحن لا نستطيع مثلا أن نتحدث عن وحدة الأسلوب عند شاعرين مثل لامارتين وسان - جون - بيرس في اللغة الفرنسية، أو ليوباردي وأنجارتي في الإيطالية، أو جوته وجوتفريد بن في الألمانية، أو شوقي وأدونيس في العربية، ولكننا نستطيع أن نتحدث عن شعراء مثل رلكه وألبرتي وإليوت ورينيه شلر، على ما بينهم من اختلاف في النشأة والنظرة والأصالة والمزاج. والمهم هو أن نعرف أن الظواهر التي رأت النور في القرن الماضي ما زالت تؤثر على الحياة الشعرية حتى اليوم. وسواء تبين لنا أن شاعرا من الشعراء قد تأثر بسلفه أو لم يتأثر، فإن ذلك لن يعفينا من التسليم بحقيقة مهمة تسري على الشعر سريانها على سائر الفنون، ألا وهي أن لكل عصر روحه وأسلوبه الملزم، وأن هناك نهجا في الرؤية والإحساس والأداء لا يزال يسود الشعر الأوروبي منذ أكثر من مائة عام. ولا يصح أن ننخدع بكثرة المدارس والبرامج الأدبية التي ظهرت في أقل من قرن من الزمان، فقد لا يكون هذا التنوع الهائل سوى نوع من خداع البصر، يبين مدى خصوبة الشعر الحديث، وتعدد الفروق والظلال فيه، ولكن لا يجوز أن يحجب عنا وحدة الروح العامة التي تسوده وتتغلغل فيه.
إن من يتصفح بعض المراجع في تاريخ الأدب يجدها تتحدث عن الرمزية، وتكاد تتفق على تحديد نهايتها بسنة 1900، ولكن هل انقطع تأثير أقطابها - وفي مقدمتهم مالارميه - على شعراء متأخرين مثل فاليري وجوين وأنجارتي وإليوت؟ وهل انقطع سيل المدارس و«المودات» الأدبية في الشعر أو في غيره من الفنون من دادية ومستقبلية وتعبيرية وسيريالية وحديثة وما وراء الحديثة ... إلخ؟ القارئ يعرف الجواب، فلنحاول أن ننظر معا في بعض الملامح والخطوط العامة في هذه الصورة المحيرة التي يقدمها لنا الشعر الحديث.
1
ليس من العسير أن نضع أيدينا على اتجاهين رئيسيين في بناء الشعر الحديث سار فيهما رامبو ومالارميه في القرن الماضي. فهناك إن شئنا التبسيط ما يمكن تسميته بالشعر المتحرر من الشكل أو الشعر غير المنطقي في جانب، وهناك الشعر العقلي الملتزم بالشكل المحكم الدقيق في جانب آخر. أما هذا الاتجاه الأخير، فيعبر عنه فاليري (1871-1945م) في سنة 1929 بقوله: «إن القصيدة ينبغي أن تكون عيدا من أعياد العقل.» وأما الاتجاه الآخر المضاد، فيعبر عنه رائد المدرسة السيريالية أندريه بريتون (1886-1967م) حين يقول: «ينبغي أن تكون القصيدة حطام العقل.» أو حين يقول: «إن الكمال هو الكسل.»
ووجود هذه الأضداد في شعر القرن العشرين شيء يرتبط بصورته العامة. فليس الأمر مجرد خلاف بين حزبين متعارضين، بل هو تعبير عن قطبين يدور حولهما الشعر الحديث كله، وقد يمثلان صراعا تدور رحاه في وجدان الشاعر الواحد بين العقل والفوضى، والنظام والحلم، والتجريد والهلوسة. وعلى الرغم من اختلاف النموذجين فهما يؤكدان مشاركتهما في وحدة البناء العام التي تميز الشعر الحديث. فالشعر العقلي والشعر غير المنطقي يشتركان في بعدهما عن العاطفية المسرفة، وزهدهما في قابلية الفهم، وتخليهما عن الشيئية المعتادة، وإيثارهما للإيحاء، واستثارة الخيال، وجعلهما من القصيدة كيانا مستقلا بنفسه، يكمن مضمونه في لغته الحرة وخياله الطليق ولعبه بالأحلام لا في محاولة «نسخ» العالم أو «التعبير» عن العواطف. وكل هذه أشياء تصدم القارئ العربي وتحيره؛ لأنه اعتاد من الشعر أن يصور ويعبر، ولكن لا بد له من تقبلها وتعويد نفسه عليها إذا أراد أن يجد طريقه إلى الشعر والفن التشكيلي والموسيقى الحديثة. (2) البحث عن لغة جديدة
Shafi da ba'a sani ba