Waƙa da Tunani
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
Nau'ikan
ألا زلت مصرا على بعض الأسماء؟ أظن أن هذا حقك، وهو كذلك واجبي، ولكن ماذا أفعل والأمر أعسر مما تظن؟ هل يستطيع إنسان ظل يأكل ويشرب طول حياته أن يحدد من أي طعام أو شراب جاءت كريات دمه الحمراء والبيضاء؟ وعصير العمر والفكر والشعور الذي يسري في عروقنا، هل يمكننا أن نحدد كيف تجمعت قطراته، ومن أي نبع أو جدول أو سحاب؟ قرأت لعشرات، وركزت على عدد قليل نهب بعضهم سنوات من عمري على هذه الأرض. وعشت تجارب إحباط عام وخاص مرارة ومهانة لا تنتهي، وبجانبها لحظات فرح قليل. هل كان الأدباء أم كانت التجارب المرة وراء كتاباتي؟ هل تأثرت بأحدهم تأثرا مباشرا أم غاص في الحلم وراء الشاطئ المظلم للوعي وغافلني وأنا أكتب؟ أسئلة تحيرني كما تحير كل من كتب أو يكتب، لكنني أحاول أن أخرج من الحيرة - التي لا مخرج منها أبدا إن كانت حقيقية - فأقول إنني انطلقت من الشعر. بدأت به حياتي وتجاربي التي لم تتوقف مع الفن، واكتمل لي منها قبل الخامسة عشرة من عمري عدة دواوين صغيرة وسخيفة احترقت كلها في نار الفرن (كما رويت ذلك في مقدمة كتابي ثورة الشعر الحديث)، وفي النهاية توقفت تماما في الحادية والعشرين بعد أكثر من حب خائب لم يكتف برفضي، بل رفض كذلك أشعاري، ولكن هل توقفت الشاعرية؟ هل كان من الممكن أن تتوقف؟ ألا تفاجئنا بعد مشيب الشعر كما تفاجئنا رؤية وجه حبيب غائب يزورنا في النوم ويلمسنا ويحنو علينا؟ المهم أنني انقطعت عن «النظم»، وبقيت روح الشعر كالجني الماكر تسكن لحمي ودمي، ولا تقوى على إخراجها طبول الفلسفة، ولا أبواق الدرس والتدريس. وانعكس هذا على تجاربي الأولى في القصة، وأظنها بدأت في حوالي الثامنة عشرة من عمري، انعكس على الرؤية والعاطفة قبل اللغة الأسلوب. ولا زلت أعاني من هذه الشاعرية - بعد أن انحسر الشعر، واكتفيت بدراسته في أدب الغرب، وترجمة بعض روائعه - لا زلت أعاني منها؛ لأنها تفوح برائحة «الرومانتيكية» التي أحاربها بعقلي، فتأبى إلا أن تفرض نفسها علي وعلى جيلي (ربما كان الإحباط الدائم وخيبة الأمل المستمرة، وغيبة الحرية، واضطراب الظروف التاريخية والاجتماعية من الأسباب التي جعلت «الحزن» و«الحلم بالمستحيل» إطارا وجدانيا عاما لنا). هذه الشاعرية مرتبطة بما قدمت عن «كتابي الأول والأخير»، بالحكاية الشعبية التي لا زلت وفيا لها، بمحاولتي المستمرة لإحلال «المفارقة» و«المتعالي» في الواقع اليومي، بشخصيات المساكين والمجانين والدراويش والمهرجين والحيوانات التي تملأ قصصي القليلة المتواضعة. أتمنى لو كنت أكثر موضوعية وواقعية، لكن ما باليد حيلة تكويننا النفسي والتربوي والتراثي أقوى منا، مزاجنا الخاص هو سجننا وملجؤنا، والمهم أن نكون صادقين في كل الأحوال.
أتلح على معرفة الأسماء؟ إذا فاسمع بعضها مما يحضر في الذاكرة: بكيت كما بكى كل صبي مصري بدموع ماجدولين وسيرانو دي برجيراك، ذرفت عبرات أسامح المنفلوطي عليها، وأدعو الله أن يبلل بها قبره وذكراه. وهدهدتني أمواج طه حسين الصافية المعجزة في أحلام شهرزاد (أذكر عندما ظهرت أنني كنت في السنة الأولى الثانوية) وعلى هامش السيرة والجزء الأول من الأيام، وفتنت بأسلوب الزيات وترجماته القليلة عن الفرنسية، وبكيت كثيرا لآلام فرتر (ولعلي فكرت مثله في الانتحار، ولكنني لمبرر لا أفهمه بقيت حيا لأعيش مع «جوته» سنوات من عمري وأقدم بعض روائعه وأكتب عنه)، ثم ثرت مع أبطال جبران الذين سبقوني مرارة التوحد، وغصص الاكتئاب التي لم أنج منها إلى اليوم. ثم كان لقائي بالحكيم الذي وهبته بعد ذلك كل حبي، فقد كان لقاء بالفن الخالص والشكل المحكم والأسلوب الرياضي الدقيق، خلصني من كثير من الإنشائية والبلاغية التي لا زلت أحاول الخلاص منها. وفي الجامعة قرأت كافكا وكامي وقصص توماس مان قبل أن أقرأه بعد سنوات في لغته الأصلية. أما لقائي بنجيب محفوظ وجيله كالسباعي وباكثير والسحار، فقد كان ولا يزال فاترا، ولا يخجلني أن أقول إنني لم أقرأ كل شيء لهم، إذ كان الاختيار ولا يزال هو قانون حياتي، والذين أختارهم ألازمهم وأغلق عليهم وعلى بابي. هل تعجب إذا قلت لك إنني ظللت سنة كاملة أقرأ كل ما وصل إلى يدي من مؤلفات تشيكوف بالإنجليزية (لكي أختمها في النهاية بمقالة يتيمة نشرتها سنة 1956م في «المجلة»، وجعلت عنوانها تشيكوف شاعرا)؟ وهل يدهشك أن أعيش السنة التالية أو معظمها مع بيراندللو - وكنت في ذلك الحين أجيد الإيطالية التي جرفها تيار النسيان فيما بعد - لكي أقطف ثمرة ضئيلة هي مقالي «مأساة بيراندللو» الذي نشر كذلك في المجلة قبل أن يضم لغيره من المقالات في كتابي «البلد البعيد»؟ وهل يحزنك - كما يحزنني اليوم - أن يفترس سنوات من عمري كتاب وشعراء معدودون مثل جوته وهلدرلين وشيلر والمعري وبشنر والتعبيريون وألبير كامي وبرخت، بجانب عدد آخر من الفلاسفة الذين أحببتهم، وتعلمت منهم وكتبت عنهم (مثل هيراقليطس وأفلاطون والفارابي ونيتشه وكانط وماركس وهيدجر)؟ غباء لا شك فيه ... غيري ينتقل في البستان، وأنا أسند ظهري إلى شجرة واحدة. غيري يعكف على عملين أو ثلاثة في نفس الوقت، وأنا أسقط في جب واحد، ولا أكاد أخرج منه، لكنني أتلفت حولي الآن فأرى أمامي معاجم عن أدباء العالم، وأتصفح واحدا منها عن الأدباء الألمان، فأجد أكثر من ثلاثة آلاف اسم من بدايته إلى عصرنا الحاضر. من نختار ومن نترك؟ العمر محدود، والطاقة محدودة. الأيام ضنينة وطاحونة التدريس تتربص ولقمة العيش مرة. وخير لي أن أعرف عددا قليلا - ربما لن يزيد عن أصابع يدي الواحدة - معرفة تكون وتؤسس من أن ألم بعشرات من السطح. ألم أقل لك إنه غباء لا شك فيه، أوقعني فيه انطوائي الفطري وأمانتي الفطرية، حتى أصبحا سجني وجحيمي؟ نسيت تيمور ويحيى حقي الذي كان أقرب كتاب بلادي إلى نفسي. ونسيت أسماء كثيرة خصوصا من الأدب الألماني الحديث الذي تخصصت فيه، وكتبت عن بعض أعلامه وترجمت لهم، لكني لن أنسى كتابا أحببتهم، وتعلمت منهم، وجددت بهم تجربتي: أصدقاء الجمعية الأدبية المصرية الذين أتشرف بالانتماء لهم، وأعلم أنني أقلهم شأنا وأضعفهم ضوءا، وخصوصا شكري محمد عياد وعبد الرحمن فهمي وفاروق خورشيد وبهاء طاهر (أما أشعار صلاح عبد الصبور، فتغلغلت في كياني منذ البداية، وبناؤها القصصي لا يخفى عليك)، وكتاب الشباب الذين أتابعهم بقدر الطاقة، وأعتز بمحبة بعضهم (المرحوم العزيز ضياء الشرقاوي ونبيل عبد الحميد ومحمد الراوي ومحمد مستجاب وعبد الله خيرت على سبيل المثال) بجانب الصديقين الكريمين يوسف الشاروني - الذي أدين له بفضل رعاية قصصي الأولى، ونشرها في «الأديب» ومتابعة إنتاجي بتعاطف عقلي نادر - والدكتور نعيم عطية. قرأت بالطبع لغيرهم من فرسان الساحة، ولبعض الذين انتفخوا اليوم، وتضخموا وصارت وراءهم جوقة من الشراح والمفسرين، لكني لا أملك أن أذكر كل الأسماء. يكفي أن الشعر والمسرح والفلسفة قد لازمت اهتمامي بالقصة ومحاولاتي القليلة فيها، ويبقى بعد هذا أن تفكر معي في نعمة القراءة أو نقمتها. (2)
اسمح لي أن أستبدل بكلمة الاهتمام كلمة الضرورة. فالأديب إن كان حقيقيا - وما أندر الأدباء الحقيقيين في كل زمان ومكان - يكتب ولا يكتب. هل تملك الوردة إلا أن تفوح بالعبير، وهل يملك الجدول إلا أن يتدفق ويسيل، والشمس والريح والمطر ... إلخ، هل تملك إلا أن تكون؟ المسألة ليست من شأن الإرادة، لا تدخل في باب الاهتمام أو عدم الاهتمام. في ليلة نادرة يتم الاختيار، يصحو الأديب صحوته النهائية، ويقول لنفسه وللعالم: لا بد أن أكتب، لا بد أن أقول، وما دمت اخترت فليكن بعد ذلك ما يكون (راجع إن شئت رسائل رلكه إلى أديب شاب). كتابة القصة القصيرة كانت عندي امتدادا للشعر الذي توقفت عنه بعد أن تأكد لي غياب الموهبة الأصيلة والقدرة على إحياء الأشياء والتفكير بالصورة. ولهذا كانت معظم قصص دفقات تنسكب في ليلة واحدة، أو جلسة واحدة، مفاجآت كالبروق وسط سمائي الملبدة بسحب الاكتئاب والدرس والتحصيل. معظمها أيضا كان البذرة التي ألقتها ريح مجهولة عابرة - كلمة أو خاطرة أو موقف أو شخصية أو حكاية من فم عجوز - ثم ظلت تنمو على مدى الأيام والسنين، وتمد جذورها في الأعماق المظلمة، حتى استطالت واهتزت فروعها بالثمرة. النضج هو كل شيء. عندئذ لا تملك إلا أن تمد يدك لتقطف هذه الثمرة. تحضرني الآن الشخصيات الست المشهورة في مسرحية بيراندللو فأقول: هذه هي ضرورة الفن التي هي من ضرورات الحياة أو أقوى منها. إنها تفرض نفسها، وتجعلنا وسطاء نساعدها على الظهور للنور. ألم يسم سقراط نفسه قابلة للأفكار يولدها كما كانت أمه تولد الأطفال؟ ألم يقل أفلاطون أن المنشد أو الشاعر ممسوس تتملكه قوة أكبر منه؟ ألم تخبر الجن امرأ القيس أشعارها؟ كلام سيتهم بالسذاجة أو الرومانتيكية، ولكني في الحقيقة أؤمن به، وإن لم أدع الوفاء به أو الاستجابة له إلا في أندر الأحوال.
أذكر الآن أن تجاربي الأولى كانت قصصية مسرحية في آن واحد، شيئا هلاميا بلا شكل ولا قوام، نبضات تائهة لم ينظمها العقل في إطار. جمعتها في كراسة اطلع عليها بعض أساتذتي أو صوروا لي أنهم اطلعوا عليها، ثم رحمني منها صديق قديم، ولم تعد إلى اليوم. أذكر أيضا أن معظمها كتب تحت تأثير قراءاتي لميترلنك (الذي نصحني بقراءته الصديقان القديمان بدر الديب ومحمود العالم) ولتوفيق الحكيم (الذي فتنت به كما قلت، ثم ابتعدت عنه بعد ذلك ) ولكافكا (الذي خيم على كابوسه الذي لم أفق منه تماما إلى اليوم) أما أول قصة نشرتها بفضل يوسف الشاروني، فكانت هي «العتبة»، في الأديب سنة 1951 أو 1952م إن لم تخني الذاكرة: شخصيات مظلمة، امرأة تبيع طفلها في المزاد، أسلوب لا يزال متأثرا بطه حسين والزيات والرافعي والمنفلوطي، صور قاتمة من كافكا، وسرد تفصيلي من توماس مان، وبالجملة مسخ مبك أو مضحك عرضته في أحد الاجتماعات الأولى للجمعية الأدبية المصرية في بيت أستاذنا المرحوم محمد كامل حسين (أستاذ الأدب الفاطمي لا الطبيب العالم الأديب) فشجعني الأصدقاء أو واسوني، بل إن صديقي الدكتور عز الدين إسماعيل تطوع لشدة دهشتي بعمل دراسة عنها. يا للهول كما يقول يوسف وهبي! إذا فقد تورطت وأصبحت في نظر الأصدقاء أديبا. وعلي بعد اليوم أن أقدم المزيد، وأحاول الفكاك من نير المنطق والميتافيزيقا والعناد الأكاديمي العقيم إلى فردوس الفن المحرم. ورطة تهربت منها سنوات، لكنها كانت تفرض نفسها وتعودني كأشباح الأسلاف. والآن تلح بأعمال أكبر أستجيب لبعضها كلما أسعف العمل والزمان، «وأركن» أكثرها في جراب المشروعات الذي أحمله منذ سنوات طويلة أشقى به، وأهرب منه معظم الوقت، ولكنه ينتفخ على الدوام وتزداد وطأته ثقلا. وتمر الأيام وتتساقط أمام العين، ويلتمس حامل الجراب ظلا يسند إليه ليكتب قصة واحدة. ويتوه عشر سنين في هجير الدراسة والبحث والترجمة قبل أن يلجئه ثقل الحمل أو الذنب إلى الظل. وهناك يحلم بالتفرغ، ويقنع إرادته الشاحبة بالتحرر من نظام السخرة الجامعي، ويراوده حلم الاعتكاف في دير من أديرة الرهبان (لكن من يدعوه إليه؟) تقول تجاربي الأولى كل ما أكتبه تجارب، وكل ما أطمح إليه أن تكون كل تجربة جديدة ومختلفة عن سابقتها اختلافها عن التجربة اللاحقة. ولهذا ترتعش اليد كلما هممت بتحريك القلم، وكأني أكتب لأول مرة، وأبدأ في كل مرة من الصفر. أليس الفن كله «تجربة» لإظهار ما في الباطن إلى الخارج في شكل لغوي مرض؟ حسبنا أن نجرب ونجرب، أن نكون الأبناء الأوفياء لسندباد وأوديسيوس وفاوست، وكل الحجاج لبيت المطلق. إن وفقنا في محاولة واحدة فما أسعدنا. وإن خبنا فتكفينا المحاولة. حسبنا الصدق والأمانة زادا على الطريق. ولو عاشت لي قصة واحدة أو عمل واحد في ضمير قارئ واحد، فسأغمض عيني في النهاية وهي قريرة، سأقول لنفسي: لم يضع العمر هباء ... (3)
أنا في العادة - وبالقسوة/الاعتراف - لا أثق بالبحوث والدراسات، ولا بالباحثين والدارسين. غريب أن يقول هذا إنسان كتب عدد شعر رأسه من البحوث والدراسات والترجمات، وإن كان شفيعه أنه كتبها بقلب الأديب والفنان (أو هذا على الأقل مجرد عزاء). ولهذا لا أميل إلى الكتب التي تحمل عناوين بغيضة إلى نفسي: كيف نكتب القصة أو الرواية أو المسرحية ... إلخ، ولا ينتهي عجبي من سذاجة أصحابها أو جرأتهم. إن النماذج الراسخة هي المرجع والدليل. النص هو الألف والياء. هناك تراث وتطور لا شك فيهما ولا فكاك منهما، لكن هل عرف هوميروس أو شيكسبير أو فوكنر ... إلخ أمثال هذه البدع العجيبة والأدلة المحيرة؟ إنني أتعلم من النصوص وحدها. أترك الموضوع يختار شكله، المهم أن يحضر وأن يمتلئ حياة، أن ينضج فيكتبني كما قلت ويعفيني من كتابته. أمل بعيد بغير شك، لا يتوفر إلا للنادرين والملهمين، لا أدعي أنني حظيت بنعمته - إن كنت قد حظيت بها - إلا في لحظات نادرة وصفحات أندر. لا أنكر فضل «الوعي» ومعرفة التراث القومي والعالمي، وجهد البناء والتشكيل، وحيل التقنية (الصنعة)، ودور العقل ومكر الرمز وبراعة القناع ... إلخ، لكنني أومن بأن الفن حضور حي. والغاية المثلى عندي أن يصبح الفن طبيعة حية كما تحاول الطبيعة عن طريق الفنان أن تصبح فنا. (4)
يعفيني الكلام السابق من الإجابة على هذا السؤال. فأنا لا أختار الإطار، ولكنه هو الذي يختارني. العاطفة أو الفكرة أو اللمحة أو الشخصية أو الموقف هي التي تفرض إطارها. وهذا الإطار - كما يدل تطور القصة القصيرة - أوسع مما يتصور دعاة الحبكة و«الحكاية» و«المفاجأة» و«التنوير» ... إلى آخر ما تعيد فيه كتب النقد الركيكة وتزيد. فالقصة القصيرة تقترب من الشعر الغنائي والحوار المسرحي والمقال الفني، وقد تتسع للتقرير الصحفي والبحث العلمي والأرقام والحسابات الجافة، بل إنها قد تحتوي على رسوم توضيحية (على نحو ما فعل الأستاذ الفنان المرحوم يس العيوطي في إحدى قصصه المتأخرة). ولهذا ستظل القصة القصيرة فنا متجددا، كأسا صغيرة يمكن أن تضم الكون كله، عدسة رقيقة يمكن أن تعكس الشمس وكل ما يستضيء بنورها. ثم إني لا أقتصر على إطار القصة القصيرة؛ لأنني أجرب الكتابة للمسرح منذ زمن طويل، كما جربت كتابة الرواية في عمل لم يظهر بعد، وإذا ترفقت غازلات خيوط العمر والقدر، فربما أنجز روايتين كبيرتين. أما أن الأمر يرجع للحالة النفسية، فليس هذا صحيحا في كل الأحوال، إذ يمكن أن تكون الرواية لاهثة الأنفاس مركزة كالقصة القصيرة، كما يمكن أن تكون القصة القصيرة رواية مكثفة لم يصبر عليها صاحبها ليفض كل كنوزها. ولي قصص حولتها مسرحيات، وأخرى يمكن أن تغرى بالمحاولة، وفي الأمر سر لا أدريه وقد يدريه غيري. أما إمكانية النشر فهي إغراء قوي ومخرب أيضا. ويبدو أنه كان وراء التعجل وقلة الصبر اللذين أفسدا خير سنوات شبابي. وأشنع منهما «التكليف» والدخول في أحشاء الصحف والمجلات وأجهزة الأعلام؛ لأن من يدخلها مرة فلن يخرج منها أبدا، ولكن هل يمكن أن أنصح أحدا بالبعد عنها؟ وهل هذا ممكن أصلا؟ ما أشد حسدي للكتاب القدامى قبل لعنة اختراع الطباعة، واكتشاف الموجات الكهرومغناطيسية، ويا ليتني عشت في زمن الرواة والحكائين والمبدعين في الظل والصمت. (5)
لا شك أن أي عمل فني يحاول أن «يوصل» شيئا إلى القارئ، وإذا تم توصيله فقد نجح. أما طبيعة هذا الشيء، فيصعب تحديدها اللهم إلا في الأعمال الرديئة. قد يكون هذا الشيء هو المتعة أو الغضب على مفارقات الواقع ومتناقضاته أو المشاركة والتعاطف الإنساني أو العزاء عن تعب الحياة وآلامها، أو تمجيد الحياة والفرح بها، أو تعميق الشعور بها، أو بعث الأمل في مدن المستقبل، أو إحياء القيم الخالدة للخير والحق والجمال ... إلخ، أو هذه الأمور جميعا، ولكن الفنان لا «يهدف» إلى غاية محددة، وإلا أصبح داعية أو معلما أو مبشرا بعقيدة معينة أو غير ذلك مما يصلح له العالم والباحث والمصلح والمربي ... إلخ، إلام تهدف كوميديا دانتي أو أشعار المتنبي والمعري أو مسرحيات شيكسبير أو روايات دستويفسكي أو قصص تشيكوف ... إلخ؟ لا شك أن لكل منهم رؤيته للإنسان والعالم والله، ولكننا لا نقرؤهم لنستفيد علما أو فكرا - فالفلسفات والمذاهب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أقدر على هذا - بل لندخل عالما ونعيش تجربة حياة، ونزداد فهما لحقيقة الإنسان والواقع وحقيقتنا.
هل حاولت أن أوصل شيئا بهذا المعنى؟ لا أظن أنني تعمدت هذا بصورة مقصودة مباشرة. ولو كنت فعلت فأنا المخطئ. إنما هي رؤية كونتها تجارب الحياة والثقافة والمزاج الموروث والوضع التاريخي والاجتماعي الذي وجدت نفسي فيه. وإذا كان لي أن أصف هذه الرؤية فهي «الثورية المحبطة»، ثورية الضعفاء والمقهورين والممتحنين في حبهم وحياتهم وعقولهم ومصيرهم، المحرومين من الحرية والعدل والحب، الحالمين المهزومين والمتحدين - حتى في لحظات السقوط - في آن واحد. كل ما أكتبه يدور - أو هذا ما أتمناه وأحاوله - حول الحرية. وكل كلمة لا تصب بصورة مباشرة أو غير مباشرة في الحرية لا تستحق عندي المداد الذي كتبت به، ولا الوقت الذي ينفق في قراءتها.
أما عن القارئ الذي أتمثله عند الكتابة، فهو قارئ مجهول أكاشفه وأحبه، وأعتقد أنه يحبني. طبيعي أن عملية الكتابة فعل جدلي يفترض الحوار بين كاتب وقارئ. وطبيعي في أمة «اقرأ» التي لا يقرأ فيها أكثر من عشرين في المائة، ولا يقرأ الأدب إلا أقل من النصف في المائة أن يتمنى الكاتب لو انمحت الأمية، ووصل إنتاجه إلى الفلاح والعامل والموظف البسيط ورجل الشارع. لكنا - ويا للحسرة - نكتب في الأغلب الأعم لبعضنا أعلانا صوتا وأكثرنا حظا من الدعاية والأضواء هو الذي يقرأ. ولا بد لمثلي - ممن لا يقرؤه حتى النقاد أو يقرءونه ويتجاهلونه - أن يفترض القارئ البسيط المجهول الذي يعيش اليوم أو زمن مقبل، وليته لا يكون ناقدا ولا برجوازيا! حدثني مرة أحد الأصدقاء أن والدته لم تستطع النوم قبل الفراغ من قراءة مجموعتي الأولى «ابن السلطان ». لا يمكنك أن تتصور سعادتي في ذلك اليوم بما قاله هذا الصديق، فهذه السيدة الكريمة - وهي ربة بيت بسيطة - أخلفت موعد نومها بسببي، وجدت في قصصي بساطة أو براءة يصعب أن يجدها الناقد المحترف، اطمأنت يومنها إلى أنني لم أقع ضحية الحذلقة وحيل التجديد. لمثل هذه القارئة الطيبة المجهولة أكتب، وبمثلها أعتز. وإذا كان النقد قد تجاهلني، فهذا من حسن حظي. لا كرامة لكاتب في وطنه ولا بين أهله. والناقدان الوحيدان اللذان اهتما ببعض أعمالي كانا من اليمن (الدكتور عبد العزيز المقالح) وألمانيا (الأستاذ بيتر باخمان). هل تذكر ما قاله فولتير في نهاية قصته الفلسفية «كانديد»؟ ازرع حديقتك. وأقول لك وللمخلصين من الشباب ابذر بذرتك واتركها. احرث حقل اللحظة بالعمل الصادق وألق بذورتك فيه. ربما تنمو الشجرة بعد زمان يطول أو يقصر. وربما ينتفع بها فلاح أو حطاب أو مسافر وحيد، وحتى إذا لم تنم شجرتك ولم تثمر فقد فعلت ما في طاقتك، حرثت الأرض، وطرحت البذرة. وقاك الله شر المتورمين والمتضخمين المشغولين بأنفسهم. أتريد أن تكون كارثة تضاف إلى الكوارث التي تزحم حياتنا، وتخنق أنفسنا، وتملأ جونا بالضجيج والفجاجة والانتهازية والتخبط والكذب؟ (6)
القصة القصيرة عندي دفقة واحدة. إن لم أفرغها - كما قدمت - في ليلة واحدة وجلسة واحدة فلن تتم أبدا. أعلم أنني بحاجة إلى تعلم الصبر، وقد بدأت أتعلمه في السنين الأخيرة، لكني لا أكاد أكتب إلا إذا «حضرت» القصة بشخصياتها ومواقفها وانفعالاتها وصورها، وأكاد أقول بلغتها. عندئذ تكتبني ولا أكتبها. ما أنا في هذه الحالة إلا مدون فحسب. ربما راجعت بعض الكلمات، واستبدلت بها كلمات أخرى، لكن هذا أيضا أمر نادر. أظن أن هذا عيب كبير، وأنا أعترف به. ثم إن الأمر لا يتم دائما بهذا التخطيط الدقيق. فللفن مفاجآته. أذكر أنني جلست من سنوات تقل عن العشرين قليلا لأكتب قصة عن سيدة ريفية في شتاء العمر، مات زوجها، في وجهها آثار جمال قديم، تنتظر ليلة القدر مع صبي صغير هو راوي القصة. أعدت معه كل شيء، وبدأت تتمتم بالدعوات، وتغالب المرض العضال توقعا «للطاقة» الباهرة الضوء. وهي تلفظ أنفاسها تظهر لها الطاقة، ويدعوها الصوت الرهيب أن تفصح عن رغبتها، لكنها تكون في آخر الأنفاس. تنظر للضوء الساطع، وتهمس في أذن الصبي: «قل له لقد تأخرت، لا أريد شيئا، لا شيء». كانت هذه هي القصة التي تهيأت لكتابتها، ولم أكتبها إلى اليوم، أتدري ماذا كتبت ليلتها؟ فوجئت بقزم صغير يحتل مكان المسكينة، قزم عجوز، ومريض طرده صاحب الخيمة التي تقدم الألعاب في مولد السيدة لكبر سنه، فذهب إلى المقام الطاهر وقدم فيه ألعابه. وقبض الزوار على الكافر وأودع «التخشيبة». وتتجلى له «الست» وهو يحتضر وتسأله عن طلبه، فينظر إليها بعيون دامعة، ويقول: «لا شيء يا ست. لا شيء أبدا». وكانت هي قصتي «الست الطاهرة» عنوان مجموعتي الثانية، تسألني عن الصعوبات التي ألقاها أثناء الكتابة؟ لا، ليست هناك صعوبات. «فالحضور» الذي حدثتك عنه، والعاطفة الدافئة، والممارسة، والقراءات الماضية التي تبرز من رصيد الكهف الباطن ... إلخ كلها تتكفل بحلها. الصعوبات يا سيدي قبل الكتابة ومن حولها في الحياة غير السوية التي نحياها، في الجو الموبوء الذي لا يسمح بحياة إنسانية سليمة، فما بالك بحياة مبدعة، في طاحونة التدريس التي تسحق بذور الفن وتقتل عذاراه ... (7)
Shafi da ba'a sani ba