226

Waƙa da Tunani

شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة

Nau'ikan

إن كل تجربة، أيا كان ما نلقاه فيها، تنطوي على معرفة مصاحبة ومعرفة سابقة بما ينتمي إلى موضوع التجربة، وذلك دون أن يقدم لنا هذا الموضوع مباشرة. «من جهة الوعي، لا ينتهي المدرك، حيث ينتهي الإدراك» (الفلسفة الأولى، الجزء الثاني، ص147).

2

وإذا حاولنا على سبيل المثال، رد إدراك الموضوع إلى «الإدراك الخالص» قلنا: إننا لا نرى الآن سوى جانب واحد من الموضوع، ولكن هذا معناه أننا نراه في «أفقه»، أي بوصفه جانبا من الموضوع، ونحن لا نرى فحسب جانبا واحدا، وإنما نرى جانبا «من» هذا الموضوع، كما أن الموضوع كله له بدوره أفق أوسع. فكل ما هو معطى يزيد عن كونه مجرد معطى، أي يحتوي على شيء زائد يكون أفقه.

كل ما أعرفه فله أفق، وله «ما يتجاوزه»، ولهذا فهو في النهاية وجود في «داخل»، في «أفق كل شامل». هذا الأفق الشامل في العالم. وليس العالم مركبا مؤلفا من آفاق، وإنما هو يتخطى هذه الآفاق. ولهذا فهو تربة تجربتنا وهدفها على السواء. هذه الخاصية التي تميز العالم هي التي يصفها هسرل ب «العلوم» (الترانسندنس). (4)

لما كان الأنا موجودا في العالم، فينبغي علينا أن نشير باختصار إلى تشابك الأنا والعالم.

إن الموجود، من حيث أن له أفقا، ومن حيث أنه معطى، يحيل من تلقاء ذاته إلى قدرة الأنا على تفسيره. هذا هو معنى وجوده المعطى. ويرتبط بمعنى وجوده ما يمكن أن نسميه صلاحية العالم (أو صدقه وقيمته) التي تحيل كذلك إلى قدرة الأنا على تفسيره. إن الأنا «يملك» العالم بوصفه التربة التي تضم كل ما هو موجود، وهذا الملك هو «أنا أقدر» (أو أستطيع). في ملك العالم هذا نقول: أستطيع أن أفهم هذا وذاك، على هذا النحو أو غيره، ويمكنني دائما أن أواصل تحديده، قد تظهر أحيانا بعض المتناقضات، ولكنني قادر باستمرار - في إطار وحدة العالم - على تصحيح تجاربي في كل مرة، وإضفاء التجانس والاتساق عليها.

إن العالم - بوصفه أفقا شاملا - لا يقدم إلي أبدا توقعا يقينيا لتجانسه تجانسا نهائيا، ولكن هذه فكرة لا متناهية؛ لأنني لن أتمكن أبدا من معرفة العالم معرفة كاملة، ولا من تحديده تحديدا تاما، ولأنني أستطيع دائما أن أكتشف فيه جديدا. ولولا هذه الفكرة لصار العالم ركاما مختلطا، ولما كان ثمة تجربة منظمة وقابلة للتصحيح، والواقع أن كوننا نملك العالم بوصفه «أنا-أقدر» إنما هو أمر يثبته العمل نفسه، كما تؤكده قدرتنا على تفسير العالم. (5)

لقد كشفنا عن المعطى في ارتباطه بأفق ملازم له، ثم كشفنا عنه في ارتباطه بالعالم أو في «عالميته». ولما كان كل معطى يحيل إلى ما وراءه، وكانت البداهة تحيل دائما إلى بداهة أخرى، فإنه لا يمكن لموجود فردي أو جزئي أن يعرف معرفة مطلقة البداهة واليقين. إن كل تجربة تعطي نفسها تشير إلى ما يتعداها، وهي كذلك انتظار لذاتها. ومن طبيعة كل انتظار أن يحتمل خيبة الأمل. وهكذا نجد أن من طبيعة البداهات أن تحيل إلى ما وراءها، وأن تحتمل الخيبة، كما أن من طبيعتها - وهذا أمر في غاية الأهمية - أنه لا يمكن أن يقوم مقامها، أو لا يمكن أن يستبدل بها، إلا بداهات أخرى عديدة (المنطق الصوري والترنسندنتالي، ص139 وما بعدها).

بهذا نكون قد وصلنا إلى رأي مهم يتعين علينا الآن أن نعبر عنه في صيغة واضحة، أن المعرفة اليقينية الوحيدة التي نملكها هي المعرفة بالحياة التي تجرب العالم، بالأنا «في» العالم، ب «عالمية» كل شيء جزئي أو فردي. وبهذا نرى في نفس الوقت أن حل مشكلة الحقيقة والبداهة إنما يكون في العالم.

إن الذي يوصف باليقين (أو بالضرورة اليقينية) هو العالم والحياة التي تجرب العالم، وتجرب نفسها بما هي كذلك، ولكن هذا اليقين، كما يقول هسرل، لا يمكن أن يكون مطابقا أو مكافئا، فحتى «الأنا-أفكر»، وإن كان من الممكن معرفته معرفة مكافئة، أي بوصفه تجربة قابلة لأن ترد في كل لحظة إلى وجود موضوع وضعا يقينيا، فليس من الممكن أن يعرف معرفة مكافئة. (الفلسفة الأولى، الجزء الثاني، ص396 وما بعدها). إن يقين المعارف الجزئية لا يتصف في ذاته باليقين الضروري، وإنما يشارك فحسب في ذلك اليقين الواحد الوحيد. والعالم في يقينه الضروري هو الشيء الوحيد الذي يتصف بالحقيقة. وعلى التربة الشاسعة لحقيقة العالم تتخذ كل بداهة، وكل عطاء ذاتي (للمعطى بما هو معطى) كما يتخذ إدراكه طابعه واسمه المميز. وليس هذا طابع الحقيقة، بل هو طابع تحقيق الحقيقة (راجع: الفلسفة علما دقيقا، ص201).

Shafi da ba'a sani ba