Waƙa da Tunani
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
Nau'ikan
كذلك كان هيجل مؤرخا أصيلا، يملك النظرة الناقدة التي تلم بحقيقة الدولة الحديثة، وتميز بين روح عصر وعصر. وإذا كانت المثالية والواقعية لا تجتمعان دائما عند شيلر - فكثيرا ما نسي تأملاته الفلسفية كما قدمت في غمرة انشغاله بالوثائق والوقائع - فقد تلاقى الجانبان تلاقيا تاما عند هيجل، وكان المثال والواقع عنده شيئا واحدا. ولعل هذا هو سر مشروعه التاريخي والفلسفي الهائل الذي يأخذ النفس بطموحه وروعته، كما يحيرها بطموحه وتعقيده.
تاريخ العالم في رأي هيجل هو تاريخ العنف والقسوة.
وإذا كانت قد مرت به عصور عرف فيها السعادة والأمن والسلام، فإن هذه العصور لا تهم فيلسوف التاريخ في شيء. إن عصور السعادة هي أوراق التاريخ الجافة الذابلة. أما أوقات الرعب والهول، والحروب والثورات، وآلام الوضع ومتاعب النمو، وعذابات الاحتضار في تاريخ شعب أو حضارة. أما هذه فكانت هي المعقول، كانت هي الفكرة في تحققها.
سار تاريخ العالم دائما بمقتضى العقل. وكانت النتيجة دائما هي الصواب، انتصر من يستحق الانتصار، واندثر من وجب عليه الاندثار. القوة والحق هنا شيء واحد. العقل والواقع نفس الشيء.
كل أشكال السلطة والحكم والحضارة عاشت فترة من الزمن، ثم اختفت من المسرح عندما آن أوان اختفائها. كان المؤرخون وفلاسفة التاريخ الأوروبيون قبل هيجل يعتقدون في وجود أزمة واحدة كبيرة مرت بها الإنسانية الحديثة وتحررت. واعتقد هيجل أيضا بوجود هذه الأزمة، وتأثرت أعمق التأثر بأحداث الثورة في أمريكا وفرنسا. غير أنه عمم هذه الفكرة الجديدة عن أزمة التاريخ على الماضي كله. فالتاريخ عنده هو تاريخ الأزمات، سواء أكانت أزمات سياسية أو عقلية أو أخلاقية. من خلال كل أزمة، وكل ثورة، وكل اندحار أصاب إحدى الحضارات لترتفع مكانها حضارة جديدة بلغ العقل البشري أو العقل الكلي درجة أعلى، والنتيجة أن العقل قد بلغ الآن - أي في عصر هيجل - أعلى درجة في تنظيم الدول الأوروبية - في الدولة الدستورية أو الدولة الليبرالية التي لم تصل بعد إلى الديمقراطية - كما بلغ أعلى درجات في التفكير الفلسفي (أي في فلسفة هيجل نفسه). انتهى الفيلسوف إلى هذه النتيجة دون أن يكشف لقرائه عن تصوره لما سيكون عليه المستقبل. ولم تكن فلسفته فلسفة مستقبل، بل كانت تحتقر كل تفكير مثالي (أو يوتوبي). فاليوتوبيا (بمعناها المشتق من الكلمة اليونانية) تدل على ما لا وجود له في أي مكان، أي ما لا وجود له إلا في رأس المفكر وحده. أما هيجل، فيريد أن يفهم ما هو موجود «فالموجود أو الواقعي هو العقل أو المعقول». ولا وجود في الواقع إلا للحاضر وحده، وللماضي الذي أدى إلى هذا الحاضر، ويمكن معرفته والإلمام به. وليس يليق بالفيلسوف أن يفكر فيما يمكن أن يصير إليه هذا الحاضر حين يصبح ماضيا، أي لا يليق به أن يفكر في مستقبل ليس له وجود.
بهذا المعنى كان هيجل مفكرا محافظا إلى أقصد حد، مفكرا تأمليا لا يريد أن يصل إلى شيء عملي. فالشيء العملي قد تحقق بالفعل، والمهم الآن أن يفهم ويوضع في الصيغة الفلسفية المناسبة. وبهذا المعنى أيضا أحس هيجل أنه يمثل حضارة متأخرة، ناضجة، وجدت الراحة بعد أن أصابتها هزات عنيفة في الماضي القريب (وأعماله المتأخرة تعبر كثيرا عن هذا الإحساس). ولعل هذا هو السر في أن هذا العمل الضخم لم يجد ولا كان من الممكن أن يجد من يواصله ويستمر فيه. أراد له صاحبه أن يكون خاتمة ونهاية. وقد كان بالفعل كذلك. ولهذا السبب اضطر تلاميذه - الذين لم يقف بهم طموحهم عند الشرح والتفسير - إلى البحث عن أدوات أخرى وغايات أخرى.
هكذا أصبحت فلسفة التاريخ بعد هيجل أكثر قلقا وحدة مما كانت عليه قبله. إن كارل ماركس - وهو تلميذه الذي لا يمكن فهمه بدونه - لم يعد يكفيه أن يفهم العالم - أي الماضي - بل يريد أن يغيره بالفلسفة، أي يحدد صورة المستقبل، بحيث يصبح هذا التحديد المسبق قوة فعالة. وهو لا يصبح كذلك حتى يتطابق مع الواقع، ويعرف قانونه العلمي. كل ما كان قبله - وبالأخص عند هيجل - فلسفة ولا شيء غير الفلسفة، أي تأملات بغير أثر فعلي، أصبح عنده فعلا سياسيا يستمد قوته من الفلسفة أو من العلم (فكلاهما شيء واحد في رأي ماركس). من ثم نشأت وحدة جديدة من الفكر والوجود غير التي ذهب إليها هيجل. وصارت وحدة جديدة من الفكر والوجود غير التي ذهب إليها هيجل. وصارت فلسفة التاريخ - التي ظلت حتى الآن شيئا لا ضرر منه - نظرية للثورة، وصار فيلسوف التاريخ ثائرا ومعلما وداعيا إلى الثورة.
هكذا كان ماركس وإنجلز، وإن خلت حياتهما مما يلفت أنظار رجال الشرطة. وهكذا كانت بعدهما حياة لينين وتروتسكي وستالين، الذين أضافوا إلى نظرية الثورة نظرية «الاستراتيجية الثورية»، والرعب والإرهاب، ثم طبقوها بالفعل عندما جاء الوقت المناسب. هؤلاء رجال ثلاثة ظلوا ينظرون للواقع أو يكتبون تاريخه بأنفسهم كما فعل تروتسكي. أهم ما يميزهم هو اعتقادهم القاطع بأنهم يعرفون دورهم التاريخي تمام المعرفة، وأن أعمالهم معصومة من الخطأ؛ لأنها مستمدة من العلم بقوانين التاريخ نفسه. كل من يحيد عن وجهة نظرهم فالويل له. كل من يخالفهم فهو مرتد وخائن وعميل.
الصراع العالمي الذي نعيش اليوم في ظله بين شرق وغرب، يرجع إلى طموح ماركس الضخم، إلى دعواه الهائلة رغم أنه عرف قوانين التاريخ العلمية، وحدد مسيرته وهدفه إلى الأبد. كل من يقسم عهد الولاء لماركس ولينين فهو على حق. وكل من يخالفهما فهو عدو وملعون ومطرود. تلك هي النهاية. لا نهاية فلسفة التاريخ بالطبع، فهذه لا تنتهي. بل نهاية جانب من تراثها الذي وصل به هيجل إلى الذروة. نهاية مؤلمة، أقل ما يقال فيها أنها مسئولة عن المأزق الذي نجد أنفسنا اليوم فيه، وليس أمامنا إلا الاختيار بين فناء مطلق أو سلام مضطرب. أيكون الإنسان قد حمل نفسه أكثر مما تستطيع أو ما ينبغي أن تحتمل، عندما زعم أنه عرف معنى التاريخ وحدد هدفه واكتشف قوانين حركته؟ هذا الزعم ليس جديدا. والمحاولة كذلك ليست جديدة. لقد جرب الإنسان ما يشبهها القرن التاسع عشر. أحس أنه يحيا في عصر تاريخي فريد، يحمل في أحشائه الأمل أو الخطر أو كليهما، ولكنه على كل حال عصر لم يسبق له نظير، فالعواصف السياسية والاجتماعية تجتاح أوروبا، وانتصارات التقنية (أو التكنيك) والعلوم الطبيعية والبيولوجية تتوالى مؤذنة بانتصارات أكبر وأعجب، والدين يهتز في القلوب، والكنيسة تضعف بصورة واضحة، والتوسع والغرور الاستعماري يصلان إلى أقصاهما، كل هذه ظواهر قوت شعور الناس بأنهم يعيشون في عصر فريد، فأرادوا أن يعرفوه ويحددوه. أرادوا أن يسموا أبا الهول باسمه، ليأمنوا بعد ذلك شره. وأقدموا على المحاولة بجهاز مثير يعين للأبد قوانين التاريخ. هكذا فعل «أوجست كونت» مؤسس النزعة الوضعية الحديثة. أعتقد أنه اكتشف القانون الذي تسير كل الحضارات بمقتضاه في ثلاث مراحل: مرحلة يسودها الدين، وثانية تسيطر عليها الميتافيزيقا أو التأمل، وثالثة وأخيرة يحكمها العلم الوضعي. العالم الغربي - في رأي كونت - قد دخل هذه المرحلة الأخيرة بالفعل. معنى هذا أن العلميين والخبراء الفنيين قد احتلوا مكان الملوك والكهنة والعسكريين.
نفس الشعور بتفرد العصر، نفس الإحساس بأزمة تاريخية لم يسبق لها مثيل - نجده أيضا عند هذا الفيلسوف الشاعر العجيب - عند نيتشه. إنه يثور على المعرفة التاريخية التي ازدحم بها عصره، حتى حجبت أكوام الوثائق والمعلومات عنه الرؤية، وشت إرادته، وقتلت فيه روح المخاطرة، وجعلت من المؤرخين أشباحا ضعيفة متهاوية تفترس الكتب القديمة، وتضع النظارات على عيونها. فلنطرح هذه المعرفة التاريخية، ولنقبل على الحياة على اللحظة الراهنة لنحقق أنفسنا فيها بقوة وحرية، وبلا وساوس أو أحزان.
Shafi da ba'a sani ba