200

Waƙa da Tunani

شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة

Nau'ikan

قلنا إن مقالي كانط ومندلسون نشرا في «مجلة برلين الشهرية» التي صدر أول عدد منها سنة 1783م، وظلت صامدة وفية لرسالتها في تنوير العقول والقلوب، حتى توقفت سنة 1796م. وتستحق هذه المجلة أن نذكرها بكلمة وفاء وعرفان. فقد كانت أهم المجلات التي عبرت عن عصر التنوير، واشترك في تحريرها عدد كبير من ألمع العقول الحريصة على الحرية والمعرفة والتقدم والاستنارة، سواء في ألمانيا نفسها أو في البلاد الأوروبية بوجه عام. كان الهدف الذي وضعه الناشران (الكتبي إريش بيستر والمربي فريدريش جيديكه) هو إشاعة «الغيرة على الحقيقة» والحث على «التنوير النافع، وطرد الأخطاء المفسدة» مع الحرص على تنوع المادة التي تجمع بين التعليم والتسلية. وسرعان ما بدأ الهجوم على المجلة ممن أساءوا فهم التنوير، وحقدوا على الداعين إليه في هذه المجلة، فسموهم «عصابة التنوير» ولا نستطيع أن نذكر أسماء الأدباء والفلاسفة الذين أسهموا في تحريرها؛ إذ يكفي أن يكون بينهم كانط (الذي نشرت له خمس عشرة مرة) وجوته وشيلر وفيلهلم فون همبولت، وغيرهم من أدباء الألمان ومفكريهم إلى جانب ميرابو وبنيامين فرانكلين وتوماس جيفرسون من أعلام الثورتين الفرنسية والأمريكية.

قلنا إن الإجابة على هذا السؤال المهم: «التنوير» قد كانت وليدة المصادفة البحتة، التي وقعت في مناسبة عارضة وتافهة. وذكرنا القس المغمور الذي حيره الشعار الرائج على كل لسان فهتف: ما هو معنى التنوير؟ ولا بد أن نشكر لهذا الرجل الطيب حسن نيته، وأن نذكر له فضوله المحمود؛ إذ يكفي أنه دفع اثنين من أهم فلاسفة القرن الثامن عشر إلى محاولة تقديم الإجابة على سؤاله. وليس المهم هنا هو السؤال والجواب، بل هو الموقف الذي اتخذه كانط ومندلسون وغيرهما من مفكري هذا العصر وأدبائه (ومن أشهرهم ليسينج وهيردر وفيلاند وشيلر) من حقيقة الإنسان وحقه في التقدم على طريق النور والمعرفة والتحرر، بل حقه في الثورة المتجددة على طواغيت الجهل والخرافة والنفاق والاستبداد. والغريب أن هذه الطواغيت كانت لا تزال تنفث سمومها، وتنشر ظلمات عدواتها للتنوير بعد مرور قرن على بداية عصر التنوير! ولعل انتشارها في ألمانيا بوجه خاص أن يكون دليلا على ما يؤكد نيتشه في كتابه الفجر (1881م) من عداء الألمان للتنوير (على الأقل حتى انهيار النازية وأواخر النصف الأول من القرن العشرين).

ينطلق موسى مندلسون في مقاله القصير «حول السؤال عن معنى التنوير» من الاستعمال اللغوي للكلمة التي لا تنفصل عنده عن كلمتي الثقافة والحضارة، ثم يحاول تقديم الجواب من وجهة نظر إنسانية تجعل الإنسان هو الهدف والمقياس، وتلقي الضوء عليه من حيث هو إنسان على الإطلاق، ومن حيث هو مواطن في مجتمع ودولة. وهو يرى أن الثقافة

Bildung

هي المفهوم الكلي الذي يندرج تحته مفهومان جزئيان هما الحضارة

Kultur «التي جاءت كما هو معروف من زراعة الأرض وتعميرها» والتنوير

Aufklarung

والحضارة تتعلق بالجانب العملي من حياة الإنسان (المهارة والدقة والجمال في الفنون والصنائع وآداب السلوك وعاداته)، أما التنوير فينصب على الجانب النظري منها، أي على المعرفة العقلية، والقدرة على تأمل العالم والأشياء والحياة الإنسانية. وتوضح اللغة طبيعة المفهومين، فتستنير أو تصل إلى درجة التنوير عن طريق العلوم، وتبلغ مستوى التحضر عن طريق «التعامل الاجتماعي والأدب والفصاحة».

هكذا تكون علاقة التنوير بالحضارة كعلاقة النظر بالتطبيق والممارسة. فإذا كانت الحضارة تهم الإنسان باعتباره «عضوا في المجتمع»، فلا غنى له من حيث هو إنسان عن التنوير. إن الإنسان بحاجة إلى التنوير. هذا مطلب أساسي لتحقيق إنسانيته وحقيقته، ولكن مندلسون يفرق مرة أخرى بين تنوير الإنسان كإنسان وتنويره كمواطن، وعضو حي مسئول من أعضاء المجتمع. ولعل هذه التفرقة أن تكون قريبة من تفرقة كانط في مقاله هذا بين الاستخدام العلني العام للعقل (أي حقه في النقد والتفكير الحر المستقل في كل شيء)، والاستخدام الخاص أو المحدود لهذا العقل في الأمور المتصلة بالوظيفة التي يؤديها الإنسان في ظل المجتمع والدولة والقوانين والأعراف المرعية.

إن تنوير الإنسان - كما يؤكد مندلسون - يتعلق بماهيته كإنسان، أما تنوير المواطن فيتصل بمطالب الوظيفة التي يؤديها، والوضع الاجتماعي الذي يشغله. والواقع أن هذين الجانبين المتكاملين من التنوير يمكن في بعض الظروف التاريخية والاجتماعية أن يبلغا حد الصراع والتناقض. وهنا ينتقل مندلسون إلى الجانب السياسي والاجتماعي من المشكلة، فيقول في وضوح: «شقية هي الدولة التي تحتم عليها الظروف أن تعترف بأن حقيقة الإنسان ومصيره فيها كإنسان لا ينسجم مع حقيقته ومصيره كمواطن، بأن التنوير - الذي لا غنى للبشرية عنه - لا يمكن أن يعم جميع الطبقات في الدولة بغير أن يتعرض دستورها للانهيار.»

Shafi da ba'a sani ba