193

Waƙa da Tunani

شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة

Nau'ikan

وأول خطوة على هذا الطريق إلى «عالم الذات المجهول» هي تعميق ما نسميه بالوعي والعلو فوقه والغوص تحته. فمعرفة الذات لا يمكن أن تقتصر على عالم الوعي في حياتنا اليومية المألوفة، وما نسميه «الأنا» لا يعبر أبدا عن الإنسان في كليته. كان أصعب شيء على الناس منذ أقدم العصور إلى الآن أن يفهموا مدى جهلهم بأنفسهم! لا بالقياس إلى الخير والشر، بل بالقياس إلى ما هو أهم من ذلك بكثير. ولا يزال الناس يحيون على ذلك الوهم العتيق الذي يصور لهم أنهم يعرفون السلوك الإنساني تمام المعرفة، ويعلمون على وجه الدقة كيف يتم في كل الأحوال. إنني أعرف ما أريد، وأعرف ما فعلت، وأنا حر مسئول عنه، كما أدرك مسئولية الآخرين. في إمكاني أن أحدد جميع الإمكانات الأخلاقية، وجميع الحركات الباطنية التي تسبق السلوك، وأن أسميها بأسمائها، لتفعلوا ما تشاءون، وليكن مسلككم ما يكون، فإني أفهم نفسي من خلاله كما أفهمكم جميعا، هكذا كان يفكر كل إنسان قديما، وهكذا يفكر اليوم كل إنسان على وجه التقريب.

ولكن مهما بلغت معرفة الإنسان بنفسه، فإن صورة «الدوافع التي تكون حقيقته» تظل في ذهنه ناقصة إلى أقصى حد. فهو عاجز عن تسمية تلك «المخلوقات الغليظة» بأسمائها، جاهل كل الجهل بعددها وقوتها، ومدها وجزرها، وتشابكها وتفاعلها وحروبها الخفية غير الواعية. وأهم من ذلك أن قوانين «تغذيتها» تظل غائبة عنه. فالمصادفة وحدها هي التي تتولاها. ونحن نجرب ما نجرب في حياتنا اليومية، ونقدمه فريسة لهذا الدافع أو ذاك. والدافع يلتهم الفريسة في نهم، ويتم هذا دون سياق أو اتساق مع حاجات الدوافع مجتمعة إلى الغذاء. وهكذا يحدث أحد أمرين: فإما أن تجوع بعض الدوافع وتضمر، أو يشبع بعضها الآخر إلى حد التخمة ... وتواصل يد عمياء تفريق الطعام من تجاربنا اليومية دون حساب للجائع أو المتخم. ويخضع مجموع الدوافع للمصادفة نفسها التي تتحكم في وجوده وصيرورته، كما تتحكم في شبعه أو جوعه وعطشه. ويستمر كل ذلك أثناء اليقظة، حتى يصاب الإنسان بالركود والهموم، ويستسلم للنوم، فتقوم الأحلام أثناء الليل بدور «التعويض» عن «الغذاء» الذي افتقده أثناء النهار، وماذا تكون الأحلام التي نبكي فيها أو نضحك، نسمع أعذب الألحان أو نحلق كالنسور فوق ذرى الجبال، إن لم تكن أنواعا من التنفيس عن دوافعنا الكامنة، وتأويلات غاية في الحرية والتعسف للاستثارات العصبية، وحركات الدم والأحشاء، وضغط الأذرع والأغطية، وأصوات الرياح أو الأجراس المنحدرة من الأبراج ... وغيرها مما نحسه أو ينتهي إلينا أثناء النوم؟ أليست كلها تأويلات مختلفة باختلاف الدوافع لنص واحد بعينه؟ ألا يمكن أن نقول نفس الشيء عن الدوافع التي تحركنا أثناء اليقظة، وتقوم بدورها بتأويل استثاراتنا العصبية، وتغير أسبابها حسب الحاجات الملحة إليها؟ وهل تخرج أحكامنا وتقويماتنا الأخلاقية عن أن تكون صورا وتخيلات عن أحداث فسيولوجية نجهلها، ونوعا من اللغة التي تعودنا عليها، وأطلقناها على تنبيهات عصبية معينة؟ وهل نعدو الحقيقة إذا قلنا في النهاية إن وعينا المزعوم كله ليس سوى تعليق خيالي على نص غير معروف أو غير قابل للمعرفة وإن كنا نحسه ونشعر به؟

16

ما العمل إذا كنا نحن جميعا لا نعرف أنفسنا، ولا نحاول أن نعرفها؟ إذا كنا نجهلها ونتجاهلها، نتهرب منها ونشفق من قسوة الطريق الصاعد أو الهابط إليها؟

لا مفر كما أسلفنا من أن «نربي» أنفسنا. وآفة التعليم والتربية في كل مكان هي هذه: ما من إنسان يريد أن يتعلم أو يعلم غيره كيف يتحمل ألم الوحدة، وما من معلم يريد أن يعطي بغير أن يمن على تلميذه. إن المعلم الحقيقي يهدي ويفرح بأنه ازداد فقرا عما كان عليه، وهو يأخذ بيد التلميذ إلى ذاته ليتركه لصمته ووحدته معها. ويساعده على الاغتراف من منبعه، واكتشاف كنوزه، ثم ينسل بعيدا دون أن يشعره بأنه ساعده في الحفر عن هذه الكنوز، بل دون أن يجعله يشعر بوجوده! لقد عرف نفسه، فاستطاع أن يعرف الآخرين بأنفسهم. ثم اقتضته الحكمة أن يسكت، فلا يتطفل عليها أو عليهم. لقد جرب أعمق التجارب، واهتز وزلزل من جذوره، حتى صح وشفي وخرج بابتسامة متألمة إلى الحرية وصفاء السكينة، حطم أغلاله وتحمل سخرية الذين راحوا يشيرون إليه هازئين: ها هو يثبت خيبته الكبرى! إذ كيف يتعود امرؤ على الأغلال، ثم يذهب به الحمق إلى تمزيقها؟

ومع ذلك فقد وجد الشجاعة لكي يخطو الخطوة الحاسمة على طريقه الخاص عندها تكشف له السر؛ تخلى عنه أولئك الذين كانوا أقرب الناس إليه، تعالوا عليه، وتصوروا أنه أهانهم. والغريب أن أفضل من فيهم لا يزال يتوقع منه أن يعثر على الطريق الصحيح، ويرجع إليه - وكأنهم يعرفون هذا الطريق خيرا منه! لهذا آثر الوحدة ورجع إلى صحرائه. تركهم وهو يقول لنفسه: إنني متعجل. لا بد أن أنتظر نفسي. سيتأخر الوقت قبل أن ينبثق الماء من نبع ذاتي، ويظهر إلى النور، وسيكون علي في أغلب الأحيان أن أتحمل ألم العطش أكثر مما أتحمل الصبر. لهذا أذهب إلى وحدتي، لكي لا يكتب علي أن أشرب من مستودع كل إنسان. إنني أحيا بين أغلب الناس كما يحيا أغلب الناس، ولا أفكر كما ينبغي أن أفكر - ويمضي الوقت، فأشعر دائما كأن هناك من يريد أن ينفيني بعيدا عن نفسي، وينهب مني ذاتي - وهنالك أحقد على كل إنسان، وأخاف من كل إنسان، عندئذ أحتاج إلى الصحراء لكي أعود إلى نفسي. أحتاج إلى الوحدة لأكون ذاتي.

د

وتشرق الشمس على من طلع عليه الفجر، وتشع بنور جديد. وتغمر المفكر الوحيد نشوة فرح لم يعرفها من قبل، فيدون في صيف عام 1881-1882م كتابه «العلم المرح» خلال إقامته في منطقة سيلز-ماريا، بين الجبال التي سيلقى فيها زرادشت بعد سنوات قليلة ليبشره بالإنسان الأعلى، وعنوان الكتاب يشير إلى التراث البروفنسالي للتروبادور وإن كانت المحبوبة فيه مختلفة عن تلك التي تغنى بها «مطربو الدور»؛ إذ إن العاشق قد تيمه محبوب لن يظهر إلا في المستقبل، أو إن شئت فإن المحبوب هو المستقبل نفسه. ولهذا فإن الحكم المنثورة في هذا الكتاب أشبه باللحن الممهد للقادم الجديد، كما أن الحكيم الذي تعذب باستكناه أغوار الوعي والبحث عما تحته ووراءه قد وضع كل خبرته في استقبال هذا الأمل المنتظر.

وتعزف بعض الحكم على الوتر القديم، وتعاود الإلحاح على صيرورة الذات إلى ذاتها: «ما الذي يقوله ضميرك؟ عليك أن تصير أنت نفسك! لا تتردد ... واحفر في عمق الأرض، حيث وقفت فتحتك نبع، أما الأشباح السود، فدعها لا تهتم بصيحتها، لا يوجد شيء تحتك إلا نيران جهنم!» وتتردد بعض الأصوات التي سمعناها في الكتب السابقة في صيغ أخرى، فصوت يؤكد ارتباط النفس والجسد (أو الجانب السيكوسوماتي) تأكيدا يذهلنا لو تأملناه على ضوء علم النفس الحديث: «ليس من حقنا نحن الفلاسفة أن نفصل بين النفس والجسد، ولا بين النفس والروح. فلسنا ضفادع مفكرة ولا أجهزة تقرير، وتسجيل ذات أحشاء باردة، إن علينا أن نلد أفكارنا من ألمنا، علينا أن نرعاها رعاية الأمهات، ونبذل لها كل ما نملك من دم وقلب ونار، ولذة وحماس وعذاب وقدر ... معنى الحياة في نظرنا نحن الفلاسفة هو أن نحول كياننا بأسره إلى نور ولهب، كما نحول كل ما يتصل بنا أو يصيبنا، ولن نملك غير ذلك. أما عن المرض فهل يمكننا أن نستغني عنه؟ إن الألم العظيم، الألم الطويل البطيء الذي نحترق فيه كما يحترق الخشب الأخضر، هو الذي يلزمنا بالهبوط إلى أعماقنا الأخيرة، ويتردد صوت آخر عن العلاقة الوثيقة بين المرض والفلسفة ... فلولا الأمراض التي استسلم لها الفلاسفة، ولولا أجسادهم المريضة التي عذبت عقولهم وألهمتها وأغرتها بالبحث عن السلام والسكون والصبر والعزاء ما كانت معظم مذاهب الأخلاق والطبيعية وما بعد الطبيعة، ولا كانت أشواقهم إلى ما فوق وما وراء، وكأن الفلسفة لم تخرج حتى الآن عن أن تكون تفسيرا للجسد أو سوء فهم له. وكأن أعظم الأفكار وأرقى أحكام القيمة عبر التاريخ لا تخفي وراءها غير أنواع من سوء الفهم لأحوال الجسد، سواء كان جسد الفرد أو الطبقة أو الجنس.»

ويعود صوت ثالث إلى السخرية بالوعي، وبكل من يبالغ من شأنه «مبالغة مضحكة»، بيد أن هذا الوعي لم يعد هو الوعي الفردي المغلول بسأم الحياة اليومية، وزيف الأخلاق السائدة، بل هو الذي قفز إلى السطح من أعماق دفينة تراكمت طبقاتها منذ أجيال، وشاركت في صنعه شعوب عريقة وحضارات قديمة. ولو لم توجد هذه الأعماق الدفينة، وهذا «اللاوعي الجمعي» الموغل في القدم لقضت البشرية ضحية وعيها السطحي الذي تغتر به أيما غرور.

Shafi da ba'a sani ba