Waƙa da Tunani
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
Nau'ikan
8
ولولا ضيق المقام لتعرضنا للتجارب «الدينية» التي مر بها الفيلسوف وعالم النفس في صباهما وشبابهما؛ إذ انحدر كلاهما من صلب قسيس، ووجد نفسه محاطا بعلماء اللاهوت الذين عجزوا عن الإجابة عن الأسئلة التي أرقتهما.
ولكن الأهم من ذلك ألا ننساق وراء التأثير والتأثر - الذي يظل في تقديري أمرا غامضا على كل المستويات - وإن علم أن مؤسس علم النفس التحليلي لم يكن مجرد معجب متحمس لفيلسوف الإرادة والحياة، وإنما أتيح له أن يتطور وينضج ويجد ذاته وينظر إليه بعين ناقدة. ونكتفي في هذا الصدد بمثلين نقدمهما من مؤلفاته. فهو في كتابه عن «الأنماط النفسية» (1921م) - وهو أول مؤلف كبير بعد كتابه عن تحولات الليبيدو ورموزه الذي شهد انفصاله عن فرويد (1912-1913م) - لا يكتفي بسرد نصوص يقتبسها من نيتشه، وإنما يتناول شخصيته كمثل على نوع من الوعي الذي يحاول بكل جهده السيطرة على الدوافع المظلمة. إنه يذكر بالتقابل الأساسي الذي يعبر عن التضاد الحاسم بين طرفين هما ديونيزيوس وأبوللو - كما عرضه نيتشه في كتابه المبكر عن ميلاد التراجيديا من روح الموسيقى - ثم يتطرق إلى نقد دينامية الدوافع الكامنة وراء هذا التضاد، ويسوق أمثلة أخرى من التاريخ الحضاري والأدبي، نذكر منها رسائل الشاعر الفيلسوف شيلر (1759-1805م) عن التربية الجمالية ليعزز بها نقده.
لقد أهمل المفكران الشاعران في رأيه البعد الديني، واقتصرا على الاهتمام بالبعد الجمالي والفني لشخصيتي أبوللو وديونيزيوس، وهو لا يكفي لتفسير مضمون التجربة الدينية والتاريخية التي تغلغلت في «اللاوعي الجمعي» لقدماء الإغريق، فضلا عن أن نيتشه قد تجاهل الجانب الصوفي والتأملي الذي اتسمت به طقوس ديونيزيوس في أماكن مختلفة من بلاد الإغريق: «لقد اقترب نيتشه من الواقع إلى الحد الذي جعل تجربته الديونيزية المتأخرة أشبه بنتيجة ضرورية لا مفر منها. أما هجومه على سقراط في ميلاد التراجيديا فهو هجوم على العقلاني العاجز عن الإحساس بالنشوة والتوهج الديونيزي» (الأنماط السيكولوجية، المجلد السادس من المؤلفات الكاملة، ص151)،
9
وقد كان من الطبيعي أن يحاول يونج فحص الخصائص النفسية لهذين النمطين الأسطوريين وأن يبين العلاقة بينهما وبين نظريته عن الوظائف النفسية والمواقف أو الأنماط الأساسية التي تؤدي في مذهبه دورا كبيرا (والمعروف أنه يحدد أربعة أنماط من الوظائف هي التفكير والشعور والإحساس والحدس، كما يحدد نمطين أو موقفين أساسيين هما الانطواء والانبساط). وهكذا يجد أن ما يصفه نيتشه ب «الديونيزي» يقترب في تصوره من الشعور المنبسط المتجه إلى الموضوعات الخارجية؛ إذ تظهر في هذه الحالة تأثيرات أو انفعالات دافعية قاهرة وعمياء تعبر عن نفسها في صور جسدية عنيفة. أما ما سماه نيتشه ب «الأبوللوني» فهو - كما أوضح بنفسه - تعبير عن إدراك الصور الباطنة للجمال والحد والمشاعر المعتدلة المنظمة. وتبرز طبيعة الحالة الأبوللونية إذا قارنا بينها وبين الحلم. فهي حالة استبطان وتأمل متجه إلى الباطن مستغرق في عالم الحلم الغني بالأفكار والمثل الأبدية ، أي إنه في النهاية تعبير عن حالة الانطواء (المرجع نفسه، ص152)، ثم يتطرق عالم النفس إلى تحليل شخصية نيتشه نفسه، فيقول إنها تجمع بين الوظيفة النفسية للحدس من ناحية، وبين وظيفة الإحساس والدافع من ناحية أخرى. إنه يمثل النمط الحدسي أو الوجداني الذي يميل للانطواء، يشهد على ذلك طريقته الحدسية والفنية في الإنتاج كما يدل عليه أسلوبه في الكتابة بوجه عام وفي ميلاد التراجيديا وزرادشت بوجه خاص. ومع ذلك فإن هذه النزعة الانطوائية تخالطها - كما نرى من كتبه العديدة التي وضعها في صورة حكم منثورة - نزعة عقلية ونقدية حادة متأثرة باعتراف صاحبها نفسه بإعجابه بحكم الكتاب الأخلاقيين الفرنسيين في القرن الثامن عشر. وتبقى الغلبة في نهاية المطاف للنمط الحدسي المنطوي الذي يفتقر عموما إلى التحدد والتنسيق العقلي والمنهجي، ويميل إلى إدراك «الخارج» عن منظور «الباطن» ولو على حساب الواقع. ويظل الفيلسوف طوال حياته واقعا تحت تأثير السمات الديونيزية للاوعي الباطن؛ إذ لم تبلغ هذه السمات سطح الوعي إلا بعد أن تفجر مرضه الأخير، واستسلم لغيبوبته العقلية الطويلة التي انتهت بموته، ولم تظهر قبل ذلك إلا في مواضع قليلة متفرقة من كتاباته في صورة رموز وإشارات شبقية.
أما المثل الثاني الذي يدل على مدى اهتمام يونج بشخصية نيتشه، فيمكن أن نسوقه من النصوص المختلفة التي تعرض فيها العالم السويسري ل «القدر» الألماني والمحنة التي جرها الألمان على ملايين البشر في حربين عالميتين. فنحن نجد في كتابه السابق الذكر عن الأنماط النفسية إشارات يفهم منها أن «زرادشت» نيتشه قد ألقى الضوء على مضمونات من اللاوعي الجمعي مرتبطة بظهور «الإنسان القبيح» وبالمأساة اللاشعورية الفاجعة التي يعبر عنها هذا «النبي-الضد» أو المتنبئ المعذب (وقد كان العصر يفيض في ذلك الحين بجرائم الفوضويين والعدميين ومقتل الأمراء والنبلاء والحكام وتطرف اليساريين ... إلخ) أما عن اللمحات والرموز التي فاضت عن اللاوعي الأوروبي للتعبير عن الخطر القادم على يدي الوحش الفاشي، فنلاحظ أن يونج يتحدث عن «البربري الجرماني» في دراسة صغيرة له عن «اللاوعي» ترجع إلى سنة 1918م. والغريب في حديثه أنه يعهد إلى المسيحية بمهمة ترويض الجانب «الواضح والأعلى» من وعي هذه الجماعة الخطرة، ويترك مهمة التحكم في جانبها «السفلي» للعناية الإلهية، والأغرب من هذا أنه لا يذكر الخطر الجرماني وحده، وإنما يؤكد أن «الجنس الآري الأوروبي» يتعرض لنفس الخطر النابع من عمق اللاوعي الجمعي. ثم يشير إلى نيتشه إشارة غير خافية حين يقول إن: «الوحش الأشقر يمكنه في سجنه السفلي أن يستدير إلينا، فيهددنا انفجاره بأفظع النتائج. إن هذه الظاهرة تتم كثورة نفسية في داخل الفرد ، كما يمكن أن تظهر في صورة ظاهرة اجتماعية» (عن اللاوعي، المجلد العاشر من المؤلفات الكاملة، ص25).
10
لقد صدق تاريخ العالم حدس يونج واستيقظ الوحش الأشقر وفجر حمم الكارثة. فهل نقول اليوم إنه ظلم نيتشه فصوره (كما فعل توماس مان بعد ذلك في روايته الرائعة عن الدكتور فاوستوس التي تحمل ملامح من نيتشه ومن المؤلف الموسيقي الغريب الأطوار أرنولد شينبرج ...) في صورة النمط المعبر عن الوحش الأشقر، أم أنه أنصفه حين أكد أنه عبر عن ذلك «البربري» الكامن في طبقات اللاوعي السفلي من كل جرماني، وفي أعماق نيتشه نفسه وتجربته؟ مهما يكن الأمر فإن يونج قد اهتم من الناحية العلمية البحتة بإبراز قوى الدوافع «النمطية الأولية» التي وصفها نيتشه نفسه، وأعلن عن عواصفها وصواعقها المقبلة، وحذر من أخطارها، وكأنما كان هذا الشاعر الفيلسوف «الخبير بالنفوس» هو ساحر العصر الذي يستحضر أرواح الشياطين المدمرة، ويتنبأ بالكارثة المحتومة، ويعري الأقنعة الحضارية والأخلاقية والفكرية الزائفة لتسقط وسط الحطام الهائل المتراكم على صدر أوروبا العجوز: «ويل لهذه المدينة العظيمة، وأنا الذي تمنيت أن أشاهد أعمدة النار التي تحترق فيها؛ لأن هذه الأعمدة النارية يجب أن تسبق الظهر العظيم. ومع ذلك فلهذا أوانه وقدره الخاص».
إن هذا النص الذي نجده في زرادشت كما نجد أشباهه في كتب نيتشه الأخرى يدل دلالة واضحة على أنه كان فيلسوف الكارثة. ومع ذلك فإن أمثال هذه النصوص المزدحمة بصور الخراب ورموزه لا يصح أن تغرينا بتفسيرها تفسيرا تاريخيا ضيقا، ولا يجوز أن تنسينا لحظة واحدة أنها تعبر تعبيرا رمزيا عن «الزلزلة القادمة» التي ستتبعها إشراقة «الفجر الجديد» (ولا ننسى أيضا أن الرموز الأصيلة ذات أبعاد عميقة متعددة).
Shafi da ba'a sani ba