Waƙa da Tunani
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
Nau'ikan
كاللهب المحرق،
نورا يصبح ما أمسكه
فحما ما أتركه
حقا! إني لهب محرق!
لا مفر إذن من أن نحاول الأمرين معا على صعوبة الجمع بينهما: أن نفهم هذا المفكر اللاهب الملتهب، وأن نتعاطف معه، ونجرب أن نرى رؤاه، وبذلك نرضي مطلب الموضوعية الذي لا غنى عنه، ونستجيب لدفء الوجدان الساحر الذي يلفح وجوهنا مع كل سطر من سطوره. الأمر عسير كما قلت، وهو أشبه بإقامة العدل أو عقد الزواج بين الثلج والنار! إنه يتطلب اتخاذ مسافة البعد الكافية التي تحتمها النظرة العلمية المحايدة، كما يقتضي القرب المتعاطف الذي يحتمه التعامل مع مثل هذا الفيلسوف الشاعر بالمعنى الأعمق لا بالمعنى التقليدي لهاتين الكلمتين. ولعل هذا البعد السحيق من جهة، وهذا التواصل الوثيق من جهة أخرى هما اللذان تفرضهما كل علاقة أصيلة يمكن أن تنشأ بين الأنا والأنت (على حد تأكيد مارتن بوبر في كتبه العديدة عن هذه العلاقة الجوهرية الأصلية التي أوشكت أن تغيب غيابا مطلقا عن حياتنا العربية والمصرية).
بقي أن نتم المهمة التي أشرنا إليها في بداية هذا التقديم، ألا وهي بيان التأثيرات المباشرة أو غير المباشرة لكتابات نيتشه «النفسية» على أعلام التحليل النفسي أو بالأحرى «علم نفس الأعماق» كما يوصف في لغته. وهي مهمة سنحاول أداءها بإيجاز شديد لا يسمح المقام بتفصيله.
لنبدأ برائد التحليل النفسي ومؤسسه فرويد (1856-1939م). ولنذكر أولا أنه كان معاصرا لنيتشه الذي يكبره في السن باثني عشر عاما فحسب، وأنه اتخذ منه ومن فلسفته موقف التحفظ الذي لم يكد يتزحزح عنه. ولعل القارئ لم ينس تلك الفقرة المشهورة من نهاية المحاضرة الثامنة عشرة من محاضراته التمهيدية عن التحليل النفسي التي يشرح فيها كيف أوذي الإنسان الحديث ثلاث مرات في غروره واعتزازه بنفسه ومكانته في العالم. كانت المرة الأولى عندما تم التحول الأكبر في عصر النهضة من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس على يد كوبر نيقوس (1473-1543م) الذي افترض أن أرضنا ليست هي مركز الكون، وكان من الضروري أن يستخلص الإنسان من ذلك أنه ليس تاج الخليقة، وأن العالم لم يخلق من أجله. وكانت المرة الثانية عندما قدم تشارلز داروين (1809-1882م) كتابه عن أصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي، فأثرت نظريته في التصور الديني بوجه خاص عن كون الإنسان صورة الله وخليفته على الأرض. أما المرة الثالثة فكان الأذى أشد قسوة وأعمق جرحا؛ إذ جاء من جانب «البحث السيكولوجي الراهن، الذي يريد أن يثبت للأنا أنها لا تملك حتى أن تكون سيدة في بيتها الخاص، وإنما تظل معتمدة على أنباء شحيحة عما يجري بصورة غير واعية في حياتها النفسية». ومع أن فرويد يقرر في تواضع أن أصحاب التحليل النفسي ليسوا هم أول من نبه إلى ضرورة الرجوع إلى الذات، ولا هم وحدهم الذين فعلوا ذلك، إلا أنه يستطرد فيقول: «يبدو أنه قد كتب علينا أن نعبر عن هذا أقوى تعبير، وأن ندعمه بالمادة التجريبية التي تهم كل فرد.» ولسنا هنا بصدد مناقشة الطابع التجريبي والعلمي للتحليل النفسي، فالجدل حول هذه المسألة يطول، ولكننا نسأل فحسب إن كان من حق فرويد وتلاميذه وحدهم أن يستأثروا ب «مجد» إيذاء الإنسان الحديث، وتعرية عالمه الباطني المظلم، أم أن نيتشه قد سبقهم إلى الأخذ من هذا المجد بنصيب؟!
مهما يكن الأمر، فإننا نجد فرويد يشيد في سيرته (أو صورته) الذاتية - التي نشرت سنة 1925م - بالفيلسوف شوبنهور ويتحدث عن توجه التطابق القوي بين التحليل النفسي وفلسفته. وهو يشهد بأن هذا الأخير لم يصرح فحسب بأولوية «الانفعالية»، والأهمية القصوى ل «الجنسية»، وإنما توصل كذلك إلى نظرات نافذة في «آلية الكبت» (راجع سيرة فرويد الذاتية، فرانكفورت على نهر الماين، سلسلة كتب فيشر، ص87)
3
ويستدرك فرويد - الذي كان فيما يبدو شديد الحرص على عدم المساس بأصالته واكتشافه للاوعي - فيقول إنه لا يمكن الحديث عن أي تأثير لشوبنهور عليه وعلى بناء نظريته؛ لأنه لم يطلع على كتابات الفيلسوف إلا في وقت متأخر جدا. ولم يكن ينتظر من رجل مثل فرويد الذي عرف بثقافته واطلاعه الأدبي الواسع أن يتجاهل معاصره نيتشه، فنجده يسجل في الموضع السابق من سيرته هذه معاصره نيتشه، فنجده يسجل في الموضع السابق من سيرته هذه الملاحظة الدالة: «أما نيتشه، الذي كثيرا ما تتطابق مشاعره ونظراته بصورة مذهلة مع النتائج المضنية للتحليل النفسي، فقد تجنبته طويلا، ولم يكن يرجع ذلك إلى السبق (أو الأولوية) بقدر ما كان يرجع إلى حرصي على المحافظة على حريتي ...» ولا يخفى على القارئ أن هذه العبارة تنطوي على عكس ما أراد عالم النفس الشهير؛ إذ يبدو أنه - في هذه النقطة على الأقل - لم يعرف نفسه كما كان يتوقع منه، ولم يستطع إخفاء اهتمامه بنفي أي تأثير عليه من نيتشه، فكأني به قد وقع في زلة من زلات اللسان أو القلم التي تثبت عكس ما حاول أن ينكره ويخفيه.
Shafi da ba'a sani ba