Waƙa da Tunani
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
Nau'ikan
25
إذا صح هذا، فلا بد أن يكون الزمان هو الحاضر بمعنى الحضور، ولا بد أن يختلف عن تصورنا المألوف له على هيئة سلسلة من الآنات المتعاقبة التي تخضع للقياس. وإذا صح ما قلناه أيضا من أن الوجود حضور (تكشف وعطاء) أصبح الحاضر بقاء وتريثا في مواجهة هذا التكشف والعطاء، كما أصبح «الإنسان» هو الكائن الوحيد الذي يتلقاه وينتظر ظهوره، وينفتح عليه ويستجيب له. ولو لم يكن هو الذي يتلقى على الدوام هذه العطية لما بلغت إليه، ولبقي الوجود محجوبا مغلقا عليه، بل لما أصبح الإنسان هو الإنسان.
هل ابتعدنا بهذا عن موضوع الزمان وانصرفنا إلى الإنسان؟! الواقع أننا لم نبتعد عنه كما نتصور، بل ربما ازددنا اقترابا منه. فطبيعة الزمان لا تتجلى إلا في الحاضر، بالمعنى الذي قصدناه من الحضور، كما أن طبيعة الإنسان لا تتحدد إلا عن طريق التعرض لهذا الحضور، وتلقي عطاء الوجود الذي يتجلى له ويتخفى عنه في نفس الوقت. صحيح أنه يخاطبه على الدوام، ولكن ما أندر ما «ينتبه» لصوته. وصحيح أنه معرض لنوره الذي يظهر في هذا الموجود أو ذاك، ولكن ما أكثر ما ينشغل بظهور الموجود فيغيب عنه نور الوجود!
بيد أن «الحضور» لا يكون بالضرورة في الحاضر وحده، بل قد يكون فيما انقضى وما هو آت، أي في الماضي والمستقبل. وإذا شئنا الدقة، فإن العلاقة المتبادلة بين الآتي والمنقضي تتعانق في الحاضر، بل إن الثلاثة جميعا تسلم أيديها إلى بعضها البعض، بحيث تحضر في وحدة الزمن الواحدة.
ولكن ما الذي تسلمه إلى بعضها البعض؟!
إن هذا الذي تسلمه ليس إلا الحضور. وهذا الأخير هو الذي يلقي الضوء على ما نسميه عادة بالمجال الزمني. غير أن الزمن هنا لم يعد سلسلة من الآنات متعاقبة الحلقات، ولا مسافة فاصلة بين نقطتين آنيتين مما نقيسه ونحسبه عندما نقول على سبيل المثال: «في مجال زمني يبلغ طوله خمسين سنة حدث كيت وكيت». فالمجال الزمني الذي نقصده الآن هو الانفتاح، أو المجال المفتوح الذي تتحد فيه أبعاد الماضي والحاضر والمستقبل الثلاثة في عناق الحضور والعطاء، بل هو الذي يسبق ما نسميه بالمجال أو المكان، ويجعله ممكنا، كما يسبق كل قياس وحساب للزمن إلى نقط آنية تتتابع في خط ذي بعد واحد.
في هذه الوحدة التي تتلاقى فيها أبعاد الزمن الثلاثي، يحضر كل منها على طريقته: الوافد المقبل الذي لم يصبح بعد حاضرا، والذاهب المنقضي الذي لم يعد حاضرا، ثم الحاضر نفسه. وقد يخطر على بالنا أن هذا البعد الزمني الأخير هو أقرب الأبعاد إلى الحضور وأنسبها إليه.
ولكننا بذلك نخطئ معنى «الحضور» الذي يتجلى في الأبعاد الثلاثة جميعا، حتى إن «هيدجر» ليذهب إلى أن تبادل العلاقة بينها، بحيث تناول العطاء إلى بعضها البعض هو نفسه البعد الرابع للزمن.
وإذا كنا نسميه البعد الرابع، فالحقيقة أنه الأول من حيث الموضوع والرتبة، فهو الذي يحدد الحضور، ويشد الأبعاد الأخرى بعضها إلى بعض أو يباعد ما بينها.
ولهذا تقوم عليه وحدة الزمن التي نتحدث عنها، بل إننا لنستطيع أن نسميه ب «القرب»: القرب الذي يقرب بقدر ما يباعد.
Shafi da ba'a sani ba