وأنا أرى أن الروايتين تكمل إحداهما الأخرى: كلتاهما تثبت أن جمرة خارجية، وأن عمران بن حطان أحبها، أو أنها هي التي أحبته، ولكن الفرق بينهما إن إحداهما تزعم أن عمران لم يكن خارجيًا، وتذهب الثانية إلى أنه كان على مذهب الخوارج قبل أن يعرف جمرة، وأنه لم يتحول بتأثير منها، وأنه لم يعتنق في سبيلها مذهبًا جديدًا.
هل كان تعلق عمران بجمرة عائقًا له عن طلب الاستشهاد؟ هل هو الذي حبب إليه القعود وجعله يستسهل كل شيء إلا الموت لأنه يحرمه من جمرة؟ مثل هذا قد ينسجم مع الرواية الأولى، وكان يمكن أن يفسر هذه الظاهرة في حياته، كما يفسر ظاهرة الفرار من مكان إلى آخر؛ ولكن وجود الرواية الثانية يجعلنا نرجح أن الشاعر لم يجنح إلى الأخذ بمبدأ القعود إلا عندما كبرت سنه؛ وأيًا كان الأمر فهذا لا ينفي أن عمران كان يحب الحياة حبًا جارفًا كامنًا في أعماق نفسه، وأنه كان يعبر أحيانًا عن هذا الحب بمثل قوله:
إذا ما تذكرت الحياة وطيبها ... إليّ جرى دمع من العين غاسق وكان الزوجان غير المتكافئين في جمال الخلقة أو في الدمامة يشعران بالفوارق بينهما، فكانت الزوجة تعابث زوجها وتقول له أحيانًا: أنا وأنت في الجنة لأنك أعطيت مثلي فشكرت، وأعطيت مثلك فصبرت؛ وفي سبيل التدليل على ذلك الشكر كان عمران شديد التعليق بجمرة، واكثر ما كان يفتنه فيها؟ حسب زعم إحدى الروايات؟ ذلك الخال الذي كان يزين وجهها، وعمران يستجمله فيقبله؛ ومن الحق أن هذا الحب أثمر الوفاء، فحين توفي عمران عن زوجه خطبها آخر فأبت أن تتزوجه، وعمدت إلى الخال الذي كان يحبه عمران فقطعته وقالت: والله لا ينظر إليه أحد بعد عمران.
تلك رواية لا تعدو أن تكون ضربًا من القصص التي تروى عن العشاق العذريين، ولها مشابه في أخبارهم؛ وشبيه بها رواية أخرى تعيد قصة سويد بن منجوف، زوج جمرة الأول، فتقول إنه هو الرجل الذي عاد إليها يخطبها بعد
1 / 20