وقد قتل - رحمه الله - ولم يبق من أرض الفرس إلا قليل، فتح في أيام عثمان رحمه الله، وقد دبر عمر أمر هذا السلطان العريض أحسن تدبير وأدقه وأعدله، لم يؤخذ بشيء مما فعل ولم ينكر عليه أحد شيئا مما أمر به أو نهى عنه، فكان أمير المؤمنين حقا لا سبيل إلى أن ينازع في ذلك أو يكون ذلك موضوعا للجدال. ولو أن المشكلات التي عرضت لعمر كانت كلها يسيرة كيسر هاتين المشكلتين لما ظهرت كفايته رائعة ناصعة منقطعة النظير، لا بالقياس إلى المسلمين وحدهم، ولا بالقياس إلى تاريخهم، بل بالقياس إلى العالم كله وإلى تاريخه العام.
وكأنه - رحمه الله - كان يحس إحساسا قويا بأن الله ممتحنه بالخلافة وأعبائها، يمتحنه برعيته ويمتحن رعيته به، ويمتحنه ويمتحن رعيته معه بالمشكلات المعضلات التي ستعرض له ولهم في أيام خلافته كلها، من أول يوم فيها إلى آخر ساعة من ساعات حياته، كأنه كان يحس هذا إحساسا قويا حين خطب المسلمين بعد أن فرغ من أمر أبي بكر، فقال لهم: «إن الله قد ابتلاني بكم وابتلاكم بي.» وكانت خلافته كلها ابتلاء له، وابتلاء لرعيته.
وحسبك أنه لم يكد يفرغ من خطبته القصيرة التي خطب الناس بها، حتى دعا المسلمين إلى جهاد الفرس في العراق، وأخذ في تدبير أمر الشام وأمر الجيش الذي تركه المثنى بن حارثة قليلا ضئيلا على حدود العراق، أمر الجيش الذي جعل يستعد لتسييره ليؤدب أهل العراق على انتقاضهم ويثبت للفرس فيما سيكون من المواقع والخطوب.
وقد عرضت عليك آنفا ما كان من بلاء المسلمين في الشرق والغرب، وانتصارهم على الفرس والروم وثباتهم لما لقوا من الأهوال، ومهما يكن هذا العرض موجزا فقد كان تصويرا موجزا خاطفا لأحداث كثيرة خطيرة اتصلت منذ نهض عمر بالخلافة إلى أن توفي رحمه الله، ولم يتح لهذه الأحداث أن تنقطع ولا أن تهدأ إلا بعد أن لحق بصاحبيه في جوار الله عز وجل.
9
على أن هذه الأحداث الجسام المتصلة التي كانت بعضها يكفي لاستنفاد وقت عمر وجهده كله، لم تكن تمضي دون أن تثير مشكلات ليست أقل منها خطرا، ولا أذكر تدبير هذه الحروب التي اتصلت في الشرق والغرب، ورعاية الجيوش المحاربة في كثير من العناية بها، والإشفاق عليها، والحرص الدائم على ألا يتعرض الجنود لما يشغلهم عن الحرب، أو لما يجعل الحرب عليهم ثقلا مضاعفا، وإنما أذكر مشكلات أخرى كانت تنشأ عن الانتصار في الميادين، فقد كانت الجيوش المنتصرة تظفر بالغنائم الهائلة التي لا سبيل إلى وصفها لا من جهة كثرتها ولا من جهة قيمتها، حتى حين نقدر أن الرواة قد أسرفوا في أمرها.
وكان أمر الله في الغنائم ينفذ في دقة أي دقة، فكانت أخماسها الأربعة تقسم على الجنود على النظام الذي شرع للمسلمين أيام النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكان القادة يتفلون أصحاب البلاء من الجنود، وكان خمس الغنائم يرسل إلى عمر، ثم يتعقد الأمر بعد ذلك، فإن الجنود لم يكونوا يظفرون بالغنائم المنقولة التي يمكن أن تقسم ويرسل خمسها إلى أمير المؤمنين، وإنما كانوا يظفرون بالأرض ويفرضون الجزية على الذين يؤثرون البقاء على دينهم من المغلوبين.
وقد أصر عمر ألا تقسم الأرض، وإنما تترك لأهلها يعملون فيها ويعيشون ويؤدون عنها الخراج، فكان عمر إذن يتلقى أخماس الغنائم كلما انتصر جيش من جيوشه، وكان يتلقى الخراج على الأرض التي يعيش عليها المعاهدون، وكان يتلقى الجزية التي فرضت على من لم يسلم من المغلوبين، فكان المال الذي يرد عليه أكثر جدا مما كان يتوقع، ومما كان العرب يظنون أنه سيساق إليهم في يوم من الأيام، وكانت الأخماس ترد على أبي بكر - رحمه الله - في حروب الردة، وفي بدء الفتح كانت سياسته فيها ساذجة كل السذاجة يسيرة كل اليسر، كان يحفظ منها ما يؤدي به حق الله من أخماس الغنائم، كما بينه في الآية الكريمة من سورة الأنفال:
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير .
Shafi da ba'a sani ba