وأرجح أنا أن عمر قد رد على بيت المال ما أخذ لقوته وقوت أهله، واعتبر هذا دينا عليه كما فعل أبو بكر رحمه الله.
فقد رأيت فيما مضى أن أبا بكر وهب لبيت المال أرضا كان يملكها بما استنفق منه، وكذلك فعل عمر فيما أرجح، وليس معنى هذا أن عمر لم يقترض شيئا من بيت المال، بل معناه: أن عمر أضاف إلى ما اقترض ما كان يستحل لنفسه من بيت المال قوتا له ولأهله وكسوة له في الشتاء والصيف. وما أكثر ما كان يقول: وددت لو أخرج منها - يريد الخلافة - كفافا لا علي ولا لي! فقد خرج منها - رحمه الله - وليس عليه منها شيء، وله منها الكثير بما أحسن إلى المسلمين أغنيائهم وفقرائهم، وبما نصح للإسلام، وبما أقام من نظم سياسية لم يكن للعرب عهد بمثلها، ومن نظم اجتماعية لا تزال الإنسانية تسعى لتحقيقها دون أن تبلغ من سعيها ما تريد.
وليس على عمر - رحمه الله - من بأس إذا كانت نظمه الاجتماعية لم تبق بعد وفاته، وإذا كان المسلمون قد قصروا عن الاحتفاظ بها وعن تثبيتها، والله - عز وجل - يقول من سورة النجم:
أم لم ينبأ بما في صحف موسى * وإبراهيم الذي وفى * ألا تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى .
فعلى الذين أضاعوا هذه النظم وأهملوا سنة عمر تبعة ما أضاعوا وما أهملوا، ولعمر الجزاء الأوفى عند الله - عز وجل - على ما نصح للمسلمين وما هيأ لهم من وسائل الرقي والعزة في ظل العدل والأمن والمساواة.
وفيما تستقبل من فصول هذا الحديث تفصيل هذا السعي الذي سعاه عمر في خلافته التي كانت كما قال ابن مسعود: رحمة.
5
وكانت أول مشكلة واجهت عمر حين نهض بأمور المسلمين مشكلة الفتوح، وموقف الجيوش التي أرسلها أبو بكر - رحمه الله - إلى العراق والشام.
وكان أبو بكر قد هيأ لحل مشكلة الجيوش التي أرسلها إلى الشام حين جمع الروم للمسلمين جموعا كثيرة وأعدادا ضخمة لم تكن لهم بها طاقة، فأرسل إليهم خالد بن الوليد ببعض من كان معه في العراق، ولكنه حين أمد جيوش المسلمين في الشام بخالد وطائفة صالحة من جيشه في العراق، عرض بقية هذا الجيش العراقي لخطر عظيم؛ فقد كان الفرس قد أخذوا بالجد والحزم هجوم خالد على العراق وانتصاره في المواطن الكثيرة التي انتصر فيها، وغلب على عامة العراق العربي، فلم يسعهم إلا أن ينهضوا لمقاومة العرب وإخراجهم من هذه الأرض التي كانت خاضعة لسلطانهم منذ زمن بعيد.
وأحس المثنى بن حارثة الشيباني - خليفة خالد على الجيش - أن موقفه وموقف المسلمين معرض لخطر عظيم أمام هذه الجيوش التي عبأها الفرس للقائهم، فاستخلف على من بقي معه من الجيش، وأسرع إلى المدينة ليقف أبا بكر على جلية الحال في العراق، وأدرك أبا بكر في مرضه الذي توفي فيه فوصف له أمر المسلمين ومكانهم من الخطر العظيم الذي يعرضهم له العدو.
Shafi da ba'a sani ba