وهو مع ذلك قد استشار أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
فيما يحل له من هذا المال، فقال له بعضهم: يحل لك منه ما يصلحك ويصلح أهلك. وقال له علي بن أبي طالب رحمه الله: يحل لك منه الغداء والعشاء. فقبل رأي علي؛ فكان يأخذ من بيت المال ما يمكنه من أن يأكل ويطعم أهله طعام أوساط الناس من قريش، وكان يستحل من بيت المال كسوة نفسه: حلة في الشتاء، وأخرى في الصيف.
على أنه كان يشتد في ذلك، فلم يكن يترك إزارا ولا رداء إلا حين يبلغ منه البلى غايته، وكان كثيرا ما يرقع رداءه أو إزاره: يرقعه غير متحرج فيما يرقع به، حتى لقد كان يرقع ثيابه أحيانا بالأدم.
ويقول الرواة: إنه تأخر يوم جمعة، فجعل الناس ينتظرونه في المسجد حتى أبطأ عليهم، ثم خرج عليهم فصعد المنبر واعتذر من إبطائه، فإذا الذي أبطأ به قميصه قد غسل وانتظر أن يجف، ولم يكن عنده قميص غيره.
وكان عمر - كما قلت آنفا - يستطيع أن يوسع على نفسه من صلب ماله، ولكنه - فيما يظهر - كان يكره أن يظن الناس أنه إنما يوسع على نفسه من مال المسلمين، فيضيق على نفسه، كما كان يشدد على نفسه أيضا إيثارا للزهد، ومخافة أن يحيا حياة ألين من حياة النبي
صلى الله عليه وسلم
وحياة أبي بكر، وكان يقول: إن لي صاحبين سلكا طريقا، وأخشى إن خالفت سيرتهما أن يخالف بي عن طريقهما.
ومع ذلك فقد كان يستحل الاستقراض من بيت المال، فإذا أيسر رد ما اقترض، وكان ربما أبطأ في أداء ما استقرض، فيأتيه صاحب بيت المال فيلزمه، ويحتال عمر حتى يؤدي إليه ما استقرض، وربما خرج عطاؤه فأدى منه ما كان عليه من دين لبيت المال، ولما طعن وعرف أنه الموت، أحصى ما عليه من دين لبيت المال؛ فإذا هو نيف وثمانون ألف درهم؛ فلم يسترح حتى أمر ابنه عبد الله، فضمن هذا المال، قال له: إذا أنا مت فانظر في مالي ومال آل عمر، فإن وفى بهذا الدين فذاك، وإلا فسل بني عدي، فإن أعانوك بما يفي بهذا الدين فذاك، وإلا فسل قريشا ولا تعدها.
ويقول الرواة: إن الأسبوع لم يتم بعد وفاة عمر حتى أدى عبد الله دين أبيه إلى عثمان - رحمه الله - وأخذ منه البراءة بالأداء.
Shafi da ba'a sani ba