والرواة يكثرون في أمر هذا الاستخلاف؛ يزعمون أنه شاور فيه جماعة من أصحاب النبي في مقدمتهم عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وسعيد بن زيد بن نفيل، فكلهم رأى رأيه.
ويقول الرواة أيضا: إنه أملى عهده إلى المسلمين على عثمان، فلما أخذ في الإملاء وبلغ قوله: «إني استخلفت عليكم.» أخذته غشية، فأشفق عثمان أن تكون غشية الموت، فكتب من عند نفسه «عمر بن الخطاب»، وأفاق أبو بكر من غشيته، فقال لعثمان: اقرأ علي ما كتبت. فلما قرأ عليه عثمان وسمع اسم «عمر بن الخطاب» كبر أبو بكر، وقال لعثمان: جزاك الله عن الإسلام خيرا، خفت أن تذهب نفسي في هذه الغشية. ثم مضى في الإملاء حتى أتم عهده، وهذا نصه كما رواه ابن سعد عن شيوخه:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما عهد أبو بكر ابن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلا فيها، حين يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب؛ إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيرا، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب من الإثم، والخير أردت، ولا أعلم الغيب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، والسلام عليكم ورحمة الله.
ويقول الرواة: إن عثمان خرج بهذا العهد مختوما على جماعة الناس في المسجد، فقال لهم: إن خليفة رسول الله يسألكم: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ قالوا: نعم. وقال بعضهم - وهو علي فيما يروى: قد عرفناه، إنه عمر.
ويقول الرواة كذلك: إن جماعة من المهاجرين لما علموا بأن أبا بكر يريد أن يستخلف عمر دخلوا عليه، فقالوا: ماذا تقول لربك إذا استخلفت علينا عمر وهو على ما تعرف من غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني. فأجلسوه، فقال: أبالله تخوفونني؟! أقول: قد استخلفت عليهم خير أهلك. ثم اضطجع.
ولست أطمئن إلى شيء من كل هذه الروايات، فقد كثر الكلام في استخلاف أبي بكر نفسه، ولا غرابة في أن يكثر الكلام في استخلاف عمر أيضا، وإنما أقطع بشيء واحد، وهو أن أبا بكر قد استخلف عمر في مرضه الذي توفي فيه.
وقد قدمت أن استخلاف أبي بكر لعمر لم يكن من شأنه أن يلزم المسلمين؛ لأن أمر الخلافة ليس إلى رجل، وإن كان هذا الرجل أبا بكر، وإنما هو إلى جماعة المسلمين وإلى أولي الرأي منهم خاصة، وهم المهاجرون والأنصار في ذلك العهد، وإنما كان استخلاف أبي بكر ترشيحا لعمر ونصحا للمسلمين، وكان من حق المسلمين وأولي رأيهم أن يقبلوا هذا الترشيح أو يعرضوا عنه، فإذا كان المسلمون قد قبلوا هذا الترشيح فإنما قبلوه لأنهم كانوا يحبون أبا بكر ويثقون به، ويطمئنون إلى نصحه للأمة وللإسلام وإلى حسن اختياره.
وقد قبلوا ترشيح أبي بكر لعمر مجمعين على هذا القبول لم يخالف عن إجماعهم أحد، وكان اختيار عمر أجل خدمة أداها أبو بكر للمسلمين، فهو قد توفي وجيوش المسلمين في الشام والعراق بإزاء الأسدين فارس والروم، كما كان يسميهما، والعرب حديثو عهد بالردة؛ فكان المسلمون في حاجة أشد حاجة إلى رجل قوي شديد في الحق، ماض في الأمور إلى غاياتها، حريص على الإنصاف، مخلص في النصح لله ورسوله وللإسلام والمسلمين، قادر على أن ينهض بهذه الأعباء الثقال التي تركها أبو بكر؛ فيستصلح العرب بعد ردتهم، ويتم ما بدأ أبو بكر من الفتح، ويقيم الدولة الناشئة على ما ينبغي أن تقوم عليه من نظام يجمع المسلمين، ويرعى مصالح البلاد المفتوحة وأهلها، وينفذ كتاب الله وسنة نبيه، ويأخذ الجماعة الجديدة بحكم يلتئم من الشدة واللين، ويقوم على العدل والمساواة والإنصاف في غير هوادة ولا ضعف، وفي غير جبرية أو ظلم.
ولم يكن أقدر على احتمال هذه المهمة الخطيرة من عمر - رحمه الله - كما سترى.
Shafi da ba'a sani ba