أشخاص المسرحية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
أشخاص المسرحية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الشياطين
الشياطين
تأليف
جون هوايتنج
تقديم وترجمة
محمود محمود
مقدمة
بقلم محمود محمود
كانت المسرحية دائما في تاريخ الأدب الإنجليزي منذ نشأته قالبا من القوالب الأدبية التي يفرغ فيها الكاتب فلسفته وآراءه، وليس هذا عجيبا في بلد خرج منه شكسبير أعظم الكتاب المسرحيين قاطبة في جميع الآداب.
غير أن تاريخ الأدب الإنجليزي - برغم ذلك - يثبت أن المسرحية لم تكن لها الصدارة في هذا الميدان، بل لقد كانت القصة في أكثر العهود تبزها وتتفوق عليها، فهي كما يقول ليدل الناقد الإنجليزي في كتاب له عن القصة نشره في عام 1947: «الشكل النثري الطبيعي الذي اختارته العقول الخلاقة منذ عهد رتشارد سن للتعبير عن الرأي وتحليل الشخصيات.» ولئن صدق هذا القول حتى منتصف القرن العشرين مع قليل من الاستثناء، فهو لا يصدق قطعا في الفترة التي انقضت من النصف الثاني من هذا القرن، وعلى وجه التحديد منذ عام 1956 عندما مثلت لأول مرة مسرحية «انظر إلى الوراء غاضبا» للكاتب المسرحي الحديث جون أوزبورن، ويمكن اعتبار هذه المسرحية حدا فاصلا بين القديم والجديد في المسرح البريطاني.
وربما لم يكن مرد ذلك إلى أن هذه المسرحية قد أتت بجديد غير مسبوق، فقد تقدم نويل كوارد على أوزبورن في الاتجاه الجديد، وإنما مرده إلى نجاح منقطع النظير حظيت به هذه المسرحية، وإقبال الجمهور عليها إقبالا شديدا يدعو إلى الدهشة والعجب.
فحفز هذا النجاح كثيرا من الكتاب المحدثين على الاتجاه نحو المسرحية يتخذونها شكلا للمضمون الذي يريدون الإفصاح عنه، وبدءوا ينصرفون عن الأقصوصة والقصة.
ولم تلق مسرحية أوزبورن هذه رواجا في بريطانيا وحدها، بل لقد عبرت المحيطات إلى القارة الأوروبية إلى أمريكا حيث ظهرت على المسارح هناك، ولقيت من الإقبال ما لقيته في وطن المؤلف، ثم أخرجت في فيلم سينمائي، وكتبت قصة للقراءة لمن لا تتيح له ظروفه مشاهدة التمثيل.
ولم تكن هذه المسرحية مجرد بدعة جديدة لكاتب مبتدع مجدد، فقاعة تنتفخ ثم تنطفئ بعد حين، إنما كانت شيئا أكثر من ذلك، كانت أشبه بالعمل التجاري الذي يطرد في نموه ويعود على صاحبه بالربح الوافر.
ومن أجل هذا أخذ الشباب من الكتاب يحذون حذو أوزبورن طمعا في الشهرة والمال؛ لأن نجاح المسرحية لا يقاس فقط بالإتقان الفني، وإنما يقاس أيضا بمقدار ما تعود به من كسب مادي على كل مشتغل بها.
ذلك لأن المسرحية تحتاج بجانب المؤلف إلى عدد كبير من الفنيين الذين يشتغلون بالإنتاج والإدارة والإخراج والديكور وبغير ذلك من مستلزمات المسرح، وذلك يتطلب نفقات باهظة لا بد أن يقابلها إقبال من المشاهدين لسد هذه النفقات.
ولم تبلغ المسرحيات الجديدة كلها بطبيعة الحال حد الإتقان، غير أن المسارح أغرقت بالعدد العديد منها.
وأهم ما تميزت به استقلالها التام عن الأنماط القديمة، بحيث لم تعد تخضع لقاعدة معينة، أو لشكل معين؛ فهي متنوعة في طريقة الحبك وفي أسلوبها وعرضها للحوادث.
ومن ثم فنحن لا نستطيع أن نقول: إن مدرسة جديدة في فن المسرحية قد ظهرت، أو إن أوزبورن قد خط مذهبا جديدا للدراما، أو إن الكتاب المحدثين قد تأثروا بكاتب وطني أو أجنبي معين، بل إن الكاتب الواحد كثيرا ما يتحول من طريقة إلى أخرى فيما بين المسرحية والمسرحية.
لم تكن هناك حركة معينة لها مؤيدوها ودعاتها، وإنما كان هناك تحرر مطلق من كل قيد، ولعل ما يلفت النظر أن أكثر كتاب المسرحية الجدد من العمال أو من أبناء العمال.
وذلك لأن مسارح لندن كانت تتركز في الحي الغربي منها - وهو الحي الراقي - فكان لا يرتادها إلا الطبقة الراقية، أو الطبقة الوسطى، ومن ثم كان الكتاب الذين يشبعون أذواقهم ينشئون من بين خريجي الجامعات. أما في السنوات العشر الأخيرة، فقد أقيم كثير من المسارح في الحي الشرقي من لندن - حي العمال - وحي الفقراء، فنشأ من بينهم من يمدهم بالمسرحيات التي تتفق وأذواقهم، فكان المسرحيون الجدد جميعا من أبناء الطبقة العاملة مع استثناء جون آردن وجون مورتيمر، وهما من الجامعيين، واتجه بعض الممثلين إلى التأليف لأنهم أعرف بأذواق الجماهير.
ومن النقاد من يقسم كتاب المسرحية إلى واقعيين وغير واقعيين، أو إلى أتباع بريخت وأتباع أيونسكو، غير أني أرى في ذلك تجاوزا للحقيقة، وطغيانا على الشخصيات الجديدة الناشئة ومحاولة لإيجاد أوجه الشبه بينهم، في حين أن أوجه الخلاف هي السمة الظاهرة فيهم.
ومهما يكن من أمر فقد كان في كل عام منذ 1956 يبرز كاتب من بين الكتاب المسرحيين وتعلو قامته عليهم، فكان أوزبورن في 1956، وبرندن بيهان في عام 1957، وشيلا ديلاني في 1958، وآرنولد وسكر في عام 1959، وقد كان هؤلاء يجلبون إلى مسارح لندن وإلى أضواء المدينة الكبرى ما كان يلاقي نجاحا في المدن الصغرى وفي الريف.
وإلى جانب هؤلاء وجدت طائفة أخرى اتجهت نحو التليفزيون، ومنهم كلايف أكستن وآلن أوين الذي بدأ في الإذاعة ثم انتقل إلى التليفزيون، وأخيرا إلى المسرح وكان منهم أيضا هارولد بنتر.
وفي عامي 1962 و1963 لعب «نادي الفنون المسرحية» دورا هاما في الإحياء، فظهر عن طريقه وبتشجيعه من الكتاب ردكن وفرد واطسون وميشيل كودرون، وقد أخرجوا مسرحيات شكسبير إخراجا جيدا.
ولم يحصر هؤلاء مجالهم في المسرح، بل اتخذوا إلى جانبه الإذاعة والتليفزيون والسينما مجالا لعرض نشاطهم الفني. •••
ولكنا إذا كنا نحد تطور المسرح الحديث في بريطانيا بعام 1956 فلا بد أن ننظر قليلا إلى الوراء لنرى الخطوات التي خطاها حتى بلغ هذه المرحلة، فإن الثورة التي تشتعل نيرانها بين يوم وليلة لا بد لها من أسباب سابقة تدعو إلى تفجيرها.
من هذه الأسباب ظهور مسرحية «في انتظار جودو» لايونسكو في مسارح لندن في عام 1951، ومنها تدفق المسرحيات الأمريكية الجديدة على بريطانيا، ومحاولات أخرى بأقلام إنجليزية لتأليف مسرحيات جديدة، أو لإحياء شكسبير، ومنها أيضا الجهود التي بذلها ت. س. إليوت وكرستوفر فراي لإحياء المسرحية الشعرية قبل عام 1950، ومنها مسرحية جريهام جرين التي أخرجها في عام 1953 وعنوانها «حجرة الجلوس»، ومسرحيتا هنتر «مياه القمر» و«يوم في عرض البحر».
ولا ننسى في هذا الصدد أيضا جهود الممثلين الذين تنبهوا إلى أن يقفوا في أدوارهم مواقف طبيعية بعدما كانوا يميلون إلى المبالغة في الحركات وارتفاع الصوت.
غير أن هذه المحالات - مهما تكن - كانت يسيرة محدودة، وقد اجتذبت الإذاعة كثيرا من الكتاب فلم يكن لهم أثر على المسرح، ولم تظهر في المسرح الإنجليزي حركة تجديد وتطور مثلما حدث في فرنسا وفي أمريكا.
ولعل من الاتجاهات الجديدة التي نلمسها في بعض ما استجد من مسرحيات تأثرها بالمذاهب الجديدة كمذهب السير يالزم ومذهب اللامعقول.
ومن كتاب هذه الفترة الذين مهدوا للمسرح الجديد دنيس كانان وجون هوايتنج مؤلف هذه المسرحية «الشياطين» التي ننقلها لقراء العربية في هذه السلسلة.
ولد جون هوايتنج في عام 1917 وتوفي عن خمسة وأربعين عاما سنة 1963، وقد لفت إليه الأنظار منذ أول ظهوره؛ لأنه كان مجددا إلى درجة الإغراق، ثم اختفى فترة من الزمان مغمورا ليعود مرة أخرى بمسرحيته «الشياطين» التي نالت من الجمهور إعجابا شديدا. وقد بدأ حياته ممثلا كغيره من بعض الكتاب المحدثين، وأول ما كتب «شروط الاتفاق» التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، ثم أخرج التليفزيون له «جولة في الصحراء»، وقد دهش لها النقاد حتى قال أحدهم: «ماذا يصنع هذا الرجل، إنه فوق الأربعين من عمره، ولكنه يكتب وكأنه في الثامنة والعشرين.» وأجابه هوايتنج بقوله: «حقا ما تقول، فإني قد تغيرت كثيرا، ولكن شيئا أساسيا في نفسي لا يزال كما كنت أيام الشباب.» ومن مسرحياته أيضا «يوم القديسة» و«ادفع بنسا لتسمع الأغنية» وهي كوميدية في نثر شعري، وفيها يعده بعض النقاد من تلاميذ فراي الذي بعث المسرحية الشعرية في العهد الأخير. وتجري حوادث هذه المسرحية إبان حروب نابليون، وأهم ما تحويه حوار بين رجل متآمر وعامل من عمال المطافئ. وقد ظهرت على المسرح في عام 1951، ولفتت إليها أنظار النقاد بالرغم من أنها لم تنجح نجاحا كبيرا لدى الجمهور، ولم تعد على كاتبها بربح يذكر، وفي مباراة أدبية نظمها مجلس الفنون فازت مسرحية «يوم القديسة» وظفر بالجائزة الأولى عليها.
وقد أثارت هذه المسرحية ضجة في الأوساط الفنية، وانقسم النقاد بين محبذ ومعترض، ولكنها - على أية حال - كانت ذات طابع جديد، وموضوعها هو الموضوع الذي يستهوي هوايتنج دائما؛ تحطيم النفس أو إفناء الذات. هي قصة كاتب مسن ينتابه شعور بأن الناس يتآمرون على قتله في الخفاء وتنتهي بمماته، والحوار مشحون بالإشارات الأدبية والتلميحات الفلسفية، والحكاية معقدة فيها جانب من اللامعقول، ولكنها مثيرة متدفقة، تدفع المشاهد معها إذا لم يتوقف ليتساءل ما هو الهدف.
وكتب بعد ذلك مسرحية «نشيد المشاة» في عام 1954 وموضوعها كذلك إفناء الذات، وهي قصة قائد جيش يخير بين أن ينتحر أو يحاكم محاكمة علنية ويشهر به، ولما كان هذا القائد يشعر أنه ليس في الحياة ما يعيش من أجله أقدم على الانتحار، وفي هذه اللحظة تجذبه إليها فتاة حسناء، فتعيد إليه الرغبة في الحياة، فتردد في اختيار العيش مهما كلفه الثمن غاليا، وأراد أن يصل في ذلك إلى قرار حاسم، فغاص في أعماق نفسه يتبين ما تنطوي عليه من دوافع ومن اعتزاز، وعاد بذاكرته إلى ماضيه؛ فتذكر أنه كان يقاتل ذات معركة وكان لا بد له فيها أن يتخلل بدباباته مجموعة من الأطفال، فغلبت عليه إنسانيته وتخاذل في الهجوم فخسر المعركة وخسر شرفه الحربي، وكشفت له هذه الواقعة أن بكبريائه ثغرة، فآثر لنفسه الموت وانتحر وهو هادئ النفس مطمئن الضمير.
وقد نجحت المسرحية في تمثيلها، بالرغم من أن الحركة فيها باطنة، والعمل ليس مما يخرج عن نطاق الفرد، أي إنها على حد تعبيره «تتعارض مع المسرحة»، وهي - برغم امتيازها - فاترة لا حياة فيها. كما كانت مسرحية «يوم القديسة» مغرقة في الإشارات الأدبية والفلسفية كما ذكرنا، ومسرحية «ادفع بنسا لتسمع الأغنية» تعوزها الحوافز ودفعة الحياة برغم جدتها وسحرها الفاتن ... أي إن هذه المسرحيات كانت في كلمة موجزة: لا تسر إلا نفرا قليلا أعد إعدادا فنيا معينا ولا تكتسح الجمهور العادي الذي لم يدرب تدريبا فنيا خاصا.
فلما كان هوايتنج على المسرح إلى الإخفاق أقرب منه إلى النجاح، اختفى عن الأنظار سبعة أعوام، قضاها في كتابة الحوار للأفلام السينمائية، وكوميدية مريرة عنوانها «أبواب الصيف » طافت في الأقاليم ولم تبلغ العاصمة، وتمثيلية قصيرة قليلة الأثر قدمها للتليفزيون تحت عنوان «شاهد عيان»، ثم عاوده الحنين إلى المسرح فجرب قلمه من جديد في عام 1961 في كتابة مسرحية جديدة، وهي «الشياطين» هذه التي نحن بصددها، وقد استمد موضوعها من كتاب «شياطين لودان»، لأولدس هكسلي الكاتب الإنجليزي المعاصر المشهور.
وفي هذه المسرحية نلمس نفس الصفات التي تميزت بها مسرحية «نشيد المشاة»: مهارة فائقة في جمع المادة، وذكاء خارق في تحليلها، وتجديد في الاصطلاحات المسرحية، وتذوق رائع للحوار البليغ لا يخون المؤلف قط (كما خان برناردشو في موقف مشابه في «القديسة جون» حينما كان الموقف يتطلب اعترافا عاطفيا قويا حارا بالإيمان بالله يستند إلى الوجدان ولا يستند إلى الدليل العقلي كما فعل شو).
وموضوع هذه المسرحية - مرة أخرى - هو إفناء الذات، ومن ثم فقد وجد هوايتنج نفسه مضطرا إلى التحوير في أهمية شخصيات الكتاب الذي نقل عنه الموضوع، فأسند البطولة إلى قسيس في لودان، وهي مسندة إلى رئيسة راهبات الدير في كتاب هكسلي.
وأعجب الجمهور بمشاهدة المسرحية، وعدها النقاد تحفة فنية من تحف العصر الذي نعيش فيه واسترد بها الكاتب كرامته الأدبية.
وأخرج بعد ذلك مسرحية أخرى تحت عنوان «بغير سبب» وموضوعها أيضا إفناء الذات، إذ نشاهد فيها طفلا يقبل على الانتحار.
ومن المؤسف حقا أن هوايتنج الذي بشر بالمسرح الجديد في بريطانيا لم يعش طويلا ليعلو موجة انتصار الاتجاه الجديد. •••
على هذه الصورة كان المسرح في بريطانيا فيما بين عامي 1950 و1956 عندما ظهرت مسرحية «انظر إلى الوراء غاضبا» لأوزبورن، وكان التليفزيون منافسا قويا، والإذاعة تغني عن المسرح، وبخاصة ما يذاع في البرنامج الثالث الذي برز فيه هنري ريد وجايلز كوبر.
وكاد هواة المسرح أن يفقدوا الأمل في إحيائه حتى كان عام 1956، وكانت الثورة التي لا زلنا حتى اليوم في إثرها، والتي انتقل صداها إلى الجمهورية العربية المتحدة. •••
وأعود إلى مسرحية «الشياطين» فأقول إنها مسرحية تقوم على أساس تاريخي، وتعود في مناظرها إلى القرن السابع عشر، وما كان يسوده من معتقدات دينية وأنظمة سياسية.
تجري حوادثها في فرنسا حينما كان الملك لويس الثالث عشر يريد - بمشورة الكاردينال ريشيليو وبإيعاز منه - أن يبسط نفوذه كاملا على فرنسا كلها، فيدك حصون المقاطعات ويقضي على سلطة حكامها المحليين ليخضعوا جميعا لفرنسا الموحدة، وفي المسرحية مناظر كثيرة مما كان يثار حول هذه السياسة من جدل.
وهي تروي قصة قسيس عاش في ذلك القرن لا يطمئن إلى السائد من المعتقدات، فأخذ يبحث عن الله بكافة الوسائل بغية الاتصال به والاتحاد معه، وظن أول الأمر أن الاتصال بالله لا يكون إلا عن طريق محبة الناس، والمحبة أحر ما تكون بين الجنسين، فعاشر النسوة راهبات وغير راهبات واتصل ببعضهن اتصالا جنسيا مما لا يتفق والوظيفة الدينية التي يشغلها، واسترسل في الشهوات لا طمعا فيها ولكن تعبيرا بها عن شدة العطف والمحبة، أو كما يقول في بداية الفصل الثاني:
أملا في أن أصل إلى الله عن طريق مخلوق، الأمل في أن الطريق - التي يسير المرء فيها وحيدا فتكون طريق اليأس - يمكن أن تضاء بحب امرأة، ولقد آمنت بأنه يمكنني بهذا العمل اليسير الذي ألزمت به نفسي (يقصد اتصاله بفتاة)، والذي قمت به من كل قلبي، أن أصل إلى الله عن طريق السعادة.
الحب عنده لون من ألوان النشاط الإنساني التي يمارسها لهدف نهائي واحد هو صلته بالله.
كل أمور الدنيا لها غرض واحد لرجل مثلي، السياسة والسلطة، والحواس، والثراء، والفخر، والنفوذ، إنني أنتقي منها بنفس العناية التي تنتقي أنت بها يا سيدي (مخاطبا حاكم المدينة) سلاحك، ولكن هدفي مختلف، إنني أريد أن أصوبه إلى نفسي.
الله عنده يشمل كل شيء، استمع إليه يقول:
صورته (أي الله) من النور ومن الهواء، من تراب الطريق، من عرق يدي ومن القذارة، ومن ذكرى وجوه النساء، من الأنهار العظيمة، من الأطفال، من عمل الإنسان، من الماضي، من الحاضر، من المستقبل، ومن المجهول، صورته من الخوف ومن اليأس، وجمعت كل شيء من هذا العمل العظيم، كل ما عرفت، وما رأيت، ومارست، ذنوبي ، ومزاعمي، وغروري ، ومحبتي، وكراهيتي وشهوتي، وأخيرا وهبت نفسي، وهكذا صورت الله لنفسي، وكان عظيما لأنه كل هذه الأشياء.
والإنسان يذنب والله يعفو. وهذه هي الحكمة في وجود خالق ومخلوق.
أنا ابنه، هذا حق، وليقبلني كما أنا، وإذن فهناك مغزى، هناك مغزى على أية حال، أنا رجل مذنب ومن الممكن قبولي، لست لا شيء متجها نحو لا شيء، إنما هو ذنب يتجه نحو العفو، إنه مخلوق بشري يتجه نحو المحبة.
وليذكر القارئ أن الإنسان الساذج الذي يحيا حياة طبيعية لا يرى في الاتصال بالجنس الآخر إثما، تقول فيليب الفتاة التي غرر بها وقادها إلى الفسق معه:
إنني فتاة ساذجة، أرى العالم وأرى نفسي كما تعلمت، أنا ممعنة في الإثم ولكن حب الله لم يتخل عني، يقول الناس إن من يكون في مثل موقفنا عليه أن يقابل ربه، وأعتقد في صدق ذلك، ولن أخشى أن أبوح بما في نفسي لله وأنت بجانبي (تخاطب جراندير القسيس)، حتى في حالة ارتكابنا الخطيئة، لأني اعتقد أن الله طيب، حكيم، رءوف دائما.
غير أن السلطات الحاكمة في فرنسا في ذلك الحين ورجال الدين المعتقدين في الله اعتقادا سطحيا أساءوا فهم الرجل، فقدموه إلى المحاكمة، وطلبوا إليه أن يعترف بما اقترف من آثام، فأصر على الإنكار وصدر فيه الحكم بالموت حرقا، وفي أثناء المحاكمة تتمثل لنا في صورة قوية شخصية الرجل المؤمن في عناد المدرب على التفكير المستقيم.
ونشهد في المسرحية منظرا مؤثرا جدا من صلابة الرجل وإصراره على عدم الاعتراف بالذنب ورفضه التوقيع على وثيقة الاتهام.
وأخيرا ينفذ فيه حكم الإحراق ويتبدد جسمه وتتناثر أشلاؤه في الهواء شذر مذر، ويتهافت الناس على بقايا من الجسم المخترق يحتفظون بها للتبرك، وهكذا يموت الرجل شهيدا في سبيل الله.
ويسأل عامل من عمال المجاري رئيسة الراهبات التي كانت تهذي بجراندير في حياته وتكبت في نفسها رغبة عارمة في الاتصال به، يسألها متهكما وقد أمسك في يده بعظمة محترقة: هل تريدينها لأمر ما؟
فتهز رأسها، وتصيح: جراندير ... جراندير ... (وهو اسم القسيس) في نهاية المسرحية.
ويصور الكاتب العقيدة في الخرافة التي كانت شائعة في القرن السابع عشر حتى بين الكهان ورجال الدين؛ لكي يرسم لنا للقداسة صورة ليست مطهرة كل التطهير، وفي يأس من صلاح الدنيا حتى بعدما يبذل في سبيل ذلك من تضحيات وأرواح، يقول الكاتب على لسان أحد الأساقفة بعد إحراق جراندير:
نعم لقد قهرنا الشيطان، وبسطنا السلام في هذا المكان، ولكن ثق أنه حتى في هذه اللحظة يعود متسللا، آه، يا أصدقائي الأعزاء إن أمثالنا من الرجال لن يتبطل عن العمل قط (وقصد بالعمل إخراج الشياطين من المتلبسين بها).
ذلك لأن الاتصال بين الرجل والمرأة أمر طبيعي، ولا يمكن أن يزول من الأذهان مهما تصوف الرجل أو ترهبت المرأة.
يجب أن نفهم مسرحية «الشيطانين» إذن على أنها قصة رجل من رجال الدين، اسمه جراندير يبحث عن الله، بالمحبة، وبالفكر، وبالاستشهاد.
ومن سخرية الدنيا أن نرى في هذه المسرحية هذا الرجل - بعدما أدرك أن الله موجود في كل الوجود، وبعدما زالت من نفسه الشكوك وتبددت الأوهام - مقبلا على الكنيسة يصلي فيها ويتعبد، وإذا برجال الحكم ورجال الدين الذين لا يعرفون الدين على حقيقته يمنعونه من دخولها ويحرمون عليه ارتياد بيوت الله.
و«الشياطين» عنوان صادق للمسرحية؛ لأن المسيحيين في القرن السابع عشر في أوروبا لم يكونوا يعتقدون أنها مبعث الشر فحسب، بل يؤمنون بأنها تدخل فعلا في النفوس، وتستقر في البواطن، ويمكن بطقوس دينية معينة وبشيء من التعذيب إخراج هذه الشياطين من نفوس المتلبسين بها ...
والشيطان يخرج من أي عضو من أعضاء جسم المتلبس به، فيتطهر، يخرج من عينه، أو من كتفه، أو من ضلعه، ويتكلم عن لسانه، وأكثر ما تتم طقوس الإخراج باللاتينية، وذلك من واجبات رجال الدين.
وفي المسرحية شخصيتان بارزتان؛ أما الأولى: فهي شخصية القسيس جراندير، وهو في هذه المسرحية بطل القصة، وأما الثانية: فهي شخصية الأم جان ديزانج رئيسة الدير، التي كانت تكن في صدرها حبا مكبوتا للرجل، وإعجابا به، ولكم قاست من آلام نفسية مبرحة بسبب الشهوة المكبوتة، وقد أرادت أن تنفس عما يضطرم في نفسها فعرضت على الرجل أن يكون مديرا لديرها، ولكنه تأبى نظرا لكثرة ما لديه من أعمال أخرى، وهي لا تكاد تتحدث في موضوع إلا ورد ذكر اسمه على لسانها، تهذي به في صحوتها وفي غفلتها، إذا تحدثت بصوتها، أو تحدث الشيطان على لسانها: جراندير ... جراندير ... جراندير ...
ويرى أحد النقاد أن هوايتنج أخطأ في اختيار جراندير بطلا للمسرحية إذ إن هذه الراهبة كانت أشد منه معاناة وأكثر مكابدة، كما يرى أن تصوير الكاتب لنزعات الراهبات فيه مبالغة في التبسيط، فهو يعرضهن نساء مخادعات، متلبسات بنزعات الشيطان، ميالات إلى الفسق والفجور عن وعي وإدراك، في حين أنهن في الأصل مصابات بالنورستانيا وخداع النفس. وإذن فالصورة التي يرسمها الكاتب لهن لا تتفق والواقع التاريخي، ولعل هذا التحوير في رسم الشخصيات يجعل الموضوع أقل تشويقا منه في حقيقة الأمر.
ولما كشف أمر جان ديزانج اتخذ معها الأساقفة مختلف الوسائل لإخراج الشياطين الكامنة في نفسها، والتي تستأثر بتفكيرها حتى أثناء أدائها للصلاة، وكثيرا ما صور لها الوهم أنها في أحضان جراندير ترتكب معه الفاحشة، فأفقدتها هذه الأوهام طهارتها:
إنه في باطني هنا، كالطفل، إنه لم يكشف لي قط أي نوع من أنواع الرجال هو، عرفته جميلا، وقال الكثيرون عنه إنه بارع، وقال كثيرون آخرون إنه شرير، ولكن برغم كل قسوته على روحي وبدني لم يأت إلي قط بغير المحبة، كلا، دعني أعبر عما في نفسي، أقول إنه في باطني، أنا في قبضة الشيطان، ولكنه ساكن، يرقد تحت قلبي، ويعيش في أنفاسي وفي دمي، وهو يخيفني، أخاف أن أكون قد ارتكبت أجسم الأخطاء في هذا الأمر.
وفي براعة فائقة يصور الكاتب هذه الأوهام، حتى إنها لتختلط بالحقيقة، ويكاد القارئ ألا يلمس فارقا بين الواقع والخيال أو بين الوهم والحقيقة، وبالفعل كانت الكنيسة في تلك الأيام تحاسب الناس - والرهبان والراهبات منهم خاصة - لا على أفعالهم فحسب، ولكن على ما يدور بخلدهم كذلك، على نواياهم، وما تعتلج به نفوسهم ، حتى إذا لم يخرج عملا ملموسا.
وتصور الأم جان إغراء الشيطان لها وامتزاج الخيال بالواقع حينما تقول:
تصور معبدنا الصغير، على بساطته وخلوه من الزينة، لقد كان في تلك الليلة مكانا للترف والحرارة المعطرة. دعني أخبركم، لقد امتلأ بالضحك والموسيقى، وكان فيه المخمل، والحرير، والمعادن، وخشب أرضه لم يكن ممسوحا، لم يكن البتة نظيفا. نعم، وكان هناك طعام لحم حيوان عظيم، ونبيذ ثقيل، كفاكهة الشرق، وكنت قرأت عن كل ذلك وقد أتخمنا أنفسنا إلى درجة قصوى. ...
لقد نسيت، كنا في أزياء جميلة، وكان ردائي علي كأنه جزء من جسدي، وأخيرا لما تعريت وقعت بين الأشواك. نعم، كانت الأشواك منتشرة فوق الأرض، ووقعت بينها ... ...
وهكذا قهرنا الله من عقر داره، وفر مفزوعا من الإحساسات التي أودعتها في الرجال يد أخرى، ولما تحررنا منه احتفلنا برحيله مرة بعد أخرى ... إن الله - بالنسبة إلى شخص ... عرفت ما عرفت - قد انتهى، وقد وجدت راحة النفس.
ومن عجب أن كبار الأساقفة كانوا يحبون أن تبقى العقيدة في التلبس بالشياطين ثابتة قوية لا تتزعزع؛ لأن ذلك يجعل لهم بين الناس ضرورة وأهمية، فهم الذين يستطيعون بطقوسهم وصلواتهم ودعواتهم أن يطردوها.
أما إذا كان الفسق حقيقة واقعة، وليس وهما من أوهام الشيطان، فإنه يعد جريمة يعاقب عليها القانون، فيكون النفوذ لرجال الشرطة ورجال القضاء، ويضعف سلطان رجال الدين، ومن ثم كان ذلك التنافر بين رجال الدين ورجال الحكم، بين الكنيسة والدولة.
وكما تصور المسرحية شكوك الناس في حكم القانون المدني، تصور كذلك ارتيابهم في العلم والطب؛ إذ إن حياة الإنسان لا تحكم بقوانين الطبيعة، بالعقل المنظم، إنما تحكمها الشياطين والأرواح واللاعقل، والشيطان سلطان الشر في هذه الدنيا.
وفي سخرية بالغة يرسم الكاتب صورة لتأثير الوهم في عقائد الناس، فبينما كان أحد الأساقفة يقوم بإخراج الشيطان من جسد الأم جان، أراد مندوب الملك الذي كان يشهد المنظر أن يهزأ من الأسقف، فقدم إليه قارورة زعم أن بها دم المسيح، وإذا مس بها جبين الراهبة رحلت عنها الشياطين، ولما نفذ الأسقف ما أشار به مندوب الملك، صاحت الراهبة معلنة الخلاص من لبس الشيطان، فلم يعجب لذلك الأسقف؛ لأن دم المسيح لا بد أن يأتي بالمعجزات، وإذا بمندوب الملك يفتح القارورة ويظهر للأسقف أنها فارغة، وليس الأمر إلا وهما من الأوهام.
والمسرحية في جملتها مصاغة في لغة شعرية، تعج بالكناية، وبالرمز، وبالخيال الرائع، وبالتصوير القوي لحقائق الأمور وخفاياها.
ومن أمثلة ذلك ما نراه عندما جاء مندوب الملك إلى حاكم المدينة يطلب إليه أن يدك حصونها إعلانا لخضوعه لملك البلاد، فلما انصرف المندوب قال الحاكم:
الحاكم :
انظر إليه يا جراندير.
جراندير :
رجل صغير الحجم يثير مرآه الضحك.
الحاكم :
إننا جميعا يا صديقي العزيز خياليون، إننا نتصور أن الذي يغير حياتنا رسول مجنح يمتطي جوادا أسود، ولكنه في أكثر الأحيان رجل رث، صغير الحجم، يتعثر في الطريق ...
ونستطيع من زاوية أخرى أن نقول إن هذه المسرحية تعالج مشكلة الحياة الخاصة للإنسان، هل يستطيع المرء أن يحيا حياته الخاصة، غير متأثر بالبيئة الاجتماعية التي يضطرب فيها؟
لكم يتمنى الإنسان ذلك، لكن هيهات، فالإنسان حيوان سياسي كما قال أرسطو، بمعنى أنه إنسان اجتماعي، لا يمكنه أن ينعزل وينفرد في حياته.
ولقد زادت هذه الظاهرة في العصر الحاضر بزيادة الاتصال بين أطراف العالم، فإن ما يجري في كوبا أو في برلين أو فيتنام يؤثر في حياة كل فرد في أي صقع من أصقاع العالم.
كانت الأديبة الإنجليزية جين أوستن تكتب قصصا تصور فيها حياة الناس الخاصة أيام حروب نابليون دون ذكر لهذه الحروب، وكأنها عديمة الأثر في حياة الأفراد بالرغم من اشتراك الإنجليز في معركة واترلو، وفي وقت كان الغزو يهدد إنجلترا في عام 1745 نجد روائيا مثل فيلدنج يكتب قصة وكأن البلاد في أمن وسلام.
هل نستطيع ذلك اليوم؟ هل يستطيع الكاتب في الحاضر أن يتجاهل ما يجري في كل ركن من أركان الدنيا؟
هذه هي مشكلة جراندير بطل مسرحية «الشياطين»، فهو في قبضة قوة أعظم منه وأقدر، الحياة الخاصة إذا مستحيلة برغم شغف كل منا بها.
إن جراندير راعي كنيسة القديس بطرس في لودان في صراع لا مع الدولة ولكن مع الكنيسة ذاتها، كيف يفر من أحكامها وعقائدها؟ في شخص هذا الرجل شهوة وهستريا ورغبة في الخلاص، فهل تمكن من التعبير عن نفسه؟ كلا، فقد طاردته الكنيسة حتى حكم عليه بالموت حرقا.
وبرغم التنقل السريع في المسرحية من مشهد إلى مشهد، وسرعة تغيير الأشخاص على خشبة المسرح، فإن المشاهد لا يسعه إلا أن يلحظ تقدما في الموضوع، واتصالا بين الأجزاء يكون في النهاية صورة قوية ينطبع بها الذهن ولا يمكن أن تزول.
وتكاد المسرحية أن تكون أعجوبة في تسلسل حوادثها ومشاهدها، وكأنها قطعة فنية من الموزايكو، مهندسة في تركيبها، أو كأنها صورة حية تعرض على خشبة المسرح، وتتخللها نظرات عميقة في نوازع الإنسان الخفية ونواياه.
لقد أدى ضغط المجتمع بجراندير إلى الموت، ولعل كاتب المسرحية يريد أن ينبهنا إلى شدة هذا الضغط لعلنا أن نخفف منه بعض الشيء فنحقق لأنفسنا جانبا من السعادة. •••
وظاهر من مجري حوادث المسرحية أن الكاتب يائس من خلاص الإنسان من ورطته، وليس له من سبيل إلا أن يقضي على نفسه بنفسه، ليس من سبيل إلى الخلاص غير الموت والفناء.
جراندير : ... السياسة والسلطة والحواس والثراء والفخر والنفوذ ... أسلحة ... أريد أن أصوبها إلى نفسي.
الحاكم :
لكي تجهز على نفسك؟
جراندير :
فإني في حاجة شديدة إلى الاتحاد بالله، إن العيش قد اعتصر مني الحاجة إلى الحياة، وقد آلت قدرة الحواس عندي إلى الإنهاك المطلق، إنما أنا رجل ميت مرغم على العيش ...
الحاكم :
لست ممن يجادلون بسفسطة ولكن قل لي، إنني أرى أن القضاء على النفس بشكل قاطع ظاهر ليس من الأمور المحللة، ولكن أليس خلق ظروف موتك - وهو ما تفعل أنت فيما يبدو - كذلك من الإثم؟
جراندير :
اترك لي شيئا من الأمل.
وفي موضع آخر تقول جان: ... الإنسان مخلوق عجيب، يدعو إلى السخرية، وربما لم يخلق إلا من أجل ذلك، شامخ برأسه، منتش بعمله، مما يدعو إلى الاستخفاف به، مستغرق في اختراع معبودات زائفة يبرر بها وجوده، فيصم أذنيه عن الضحك، لا يرى بعينيه إلا نفسه، فهو أعمى عن شارات السخرية التي يلوح بها في وجهه، وهكذا يسير مخمورا، أعمى وأصم، خير موضوع للتفكه العملي.
وهنا يا أخواتي يجد الأبناء التعسين من أمثالي مجالا لأداء أدوارهم. إننا لا نسخر من أبينا المحبوب في السماء. إننا نحتفظ بضحكاتنا نوجهها إلى أبنائه التعسين المذنبين الذين يرتفعون عن مستواهم، ويعتقدون أن لهم هدفا آخر في هذه الدنيا غير الموت.
بعد أوهام السلطة تأتي أوهام الحب، عندما يعجز الإنسان عن التحطيم يبدأ في العقيدة بأنه يستطيع الخلاص بالتسلل إلى زميل له في الإنسانية، وهكذا يخلد نفسه، إنه لا يفتأ يكرر قوله: أحبني، أحبني، أعزني، احمني، أنقذني. إنه يقول ذلك لزوجته، وعاهراته وأطفاله، وبعضهم يقول ذلك للجنس البشري كله، ولا يقولون ذلك لله قط، وربما كان هؤلاء أشد من يدعو إلى السخرية، وأكثر من يستحق الازدراء؛ لأنهم لا يدركون مجد الفناء، هدف الإنسان: العزلة والموت ...
إذن فالفناء عند الكاتب هو طريق الخلاص، ومن ثم فقد لقي القسيس جراندير حتفه شهيدا في سبيل الله لكي يتحرر من مأساة الحياة! •••
ولا يفوتني في ختام هذه المقدمة أن أقدم جزيل الشكر للسيد الدكتور محمد محمود السلاموني، رئيس قسم الدراسات الأوروبية القديمة وآدابها بكلية الآداب بجامعة القاهرة، على معاونته لي في نقل ما ورد في المسرحية من نصوص لاتينية أثبتها في الهوامش؛ لكي يدرك القارئ فحواها، وإن كنت أنصح عند التمثيل أن يلقي الممثلون العبارات اللاتينية بنصها الأصلي؛ لأنها في الأغلب تعاويذ درج الرهبان على تلاوتها باللاتينية ليكون سحرها أفعل وأثرها أوقع.
والله ولي التوفيق.
أشخاص المسرحية
مانوري
جراح
Mannoury
آدم
صيدلي
Adam
لويس ترنسانت
النائب العام
Louis Trincant
فيليب ترنسانت
Trincant
جان دارمنياك
حاكم لودان
Jean D’Armagnac
دي سيريزاي
كبير القضاة
De Cerisay
عامل المجاري
A Sewerman
أربان جراندير
راعي كنيسة القديس بطرس
Urban Grandier
نينون
أرملة
Ninon
دي لارشبوزاي
أسقف بواتييه
De La Rochepozay
الأب رانجير
Father Rangler
الأب باري
Father Barré
الأخت جان ديزانج
رئيسة دير القديسة أرسولا
Sister Jeanne of the Angels
الأخت كلير
Sister Claire
الأخت لويز
Sister Louise
دي لوباردمنت
مندوب الملك الخاص في لودان
De Laubardmont
الأب منيون
Father Mignon
الأخت جبرائيل
Sister Gabrielle
الأمير هنري دي كندي
Cond
ريشيليو
Richelieu
لويس الثالث عشر
ملك فرنسا
Louis XIII
بنتان
السجان
Bontemps
الأب أمبروز
Father Ambrose
كاتب
A Clerk
أهل المدينة، وقوم من الريف، ورهبان الفرنسيسكان، ورهبان الكرمل، والجزويت، والجند. •••
تقع حوادث المسرحية في مدينة لودان وقريبا منها، وقليل منها في باريس، فيما بين عامي 1623 و1634.
الفصل الأول
المنظر:
طرقات لودان.
والوقت:
بالنهار. (وترى جثة مدلاة من مقصلة البلدية.) (وعن كثب عامل من عمال المجاري يعمل في مجرى ضحل.) (والناس يقبلون من كنيسة القديس بطرس، ومن بينهم آدم الصيدلي ومانوري الجراح.)
مانوري :
هلا رافقتني؟
آدم :
بكل ترحيب.
مانوري :
لا تغمزني في ذراعي، إنما كان يتكلم كأنه إله.
آدم :
هل تعني جراندير؟
مانوري :
نعم هو جراندير.
آدم :
إنه ينهض بالأرواح.
مانوري :
هل تظن ذلك؟ ثم ماذا؟
آدم :
إن بلدا صغيرا كهذا من حسن حظه أن يكون به مثل هذا الرجل الذي يتعهد الأرواح ويحيي؛ إني أقول ذلك وكأني أعني ما أقول!
مانوري :
كلا، هناك أشياء وأشياء يا عزيزي آدم.
آدم :
ماذا تعني بالأشياء يا مانوري؟
مانوري :
لا تفتح فاك، هناك أشياء تقال، وأشياء تعمل.
آدم :
من القسيس؟ أجل، لقد سمعت ذلك.
مانوري :
عليك أن تشهد بعينيك. (تقبل نينون من الكنيسة، وهي أرملة شابة، وتسير في الطريق.)
آدم :
لقد شهدت بعيني رأسي.
مانوري :
وكشفت عليها طبيا.
آدم :
هل فعلت ذلك؟
مانوري :
إن الترمل لا يكسب صاحبته هذا الرضى، ولا يجعلها تمشي هذه المشية.
آدم :
إنما تكسبها ذلك الزيارة.
مانوري :
صدقت. (وهنا يسيران قرب المقصلة.)
آدم :
عجبا إنه يتدلى.
مانوري :
ترى من كان هذا الأحمق؟
آدم :
لقد علقوه ليلة الأمس.
مانوري :
يا له من منظر يخطف اللب! ماذا بقي يا آدم؟
آدم :
لست أفهمك.
مانوري :
ماذا بقي بعد هذا أيها الرجل؟
آدم :
آه ... إن في رأسك فكرة.
مانوري :
بل هل لديه
1
فكرة؟ هذا هو المهم.
هيا بنا نتناول طعام الغداء. (آدم ومانوري ينصرفان ويقبل من الكنيسة لويس ترنسانت النائب العام وابنته فيليب.)
ترنسانت :
ضمي ذراعيك يا بنيتي، إنك تشبهين الفلاحة في مشيتك.
فيليب :
ومن يراني؟
ترنسانت :
العالم يراك، وإني أحب أن يرى فيك سيدة محترمة. (يقتربان من المقصلة.)
فيليب :
هل كان شابا أو شيخا؟
ترنسانت :
لا تنظري.
فيليب :
إنك تريد أن تملأ رأسي بالتجارب الطيبة النافعة، يا أبت؛ ولذا فإني أرجوك أن تخبرني، هل يكشف الموت عن الوجه القناع في السماء؟
ترنسانت :
هذا سؤال توجهينه إلى قسيس.
فيليب :
إني آسفة، وإذن فلنتحدث في حركة ساقي أثناء الرقص وفي الزواج وفي الحب، ولا نتحدث في الموت؛ فهو كريه الرائحة، أما الوسادة فيفوح منها العطر.
ترنسانت :
دعك من هذا الهراء، وامضي في المسير، وتنبهي في خطاك. (ترنسانت وفيليب ينصرفان، ويخرج جان دارمنياك حاكم المدينة وجيوم دي سيريزاي كبير القضاة من الكنيسة إلى الطريق العام.)
دارمنياك :
يبدو أن جراندير يؤمن أشد الإيمان أن قوى الخير - كالحزب السياسي - بحاجة إلى زعيم.
دي سيريزاي :
كانت تدور في رأسه أمثال هذه الأمور.
دارمنياك :
تعني السياسة؟
مهما يكن من شيء فإنه من العجيب أن يصدر هذا الاصطلاح عن منبر الكنيسة.
دي سيريزاي :
وعجيب كذلك أن تصدر عن النكتة.
دارمنياك :
أجل، لقد لحقني العار هذا الصباح عندما ضحكت ضحكة عالية، وهل هذا أليق بحاكم المدينة من التثاؤب أثناء الخطبة، كما كنت أفعل قبل قدوم جراندير إلى هنا؟
دي سيريزاي :
هل صرفت العربة؟
دارمنياك :
أجل، فقد آثرت أن نمشي، خبرني.
دي سيريزاي :
ماذا تريد؟
دارمنياك :
هذه بلدة صغيرة، هل تحتمل قسيسا مثل جراندير؟ هذا الرجل المتكبر! هل تسلك هذا الطريق؟ (دارمنياك ودي سيريزاي ينصرفان، والجمهور يختفي، ولم يعد يخرج أحد من باب الكنيسة، ويظهر الأب أربان جراندير راعي كنيسة القديس بطرس، ويخرج إلى الطريق. ويفرغ عامل المجاري جردلا مليئا بالقاذورات فيلوث عباءة القسيس.)
عامل المجاري :
آسف.
جراندير :
لا عليك.
العامل :
ولكني أخطأت، كيف يكون على الزي المقدس الأرجواني براز؟
جراندير :
بني.
العامل :
أبي؟
جراندير :
إن ألفاظك تناسب مقامك.
العامل :
وماذا كنت تقول؟
جراندير :
غير ذلك.
العامل :
ولكني يا سيدي رجل، رجل قذر آثم، وعملي في مجاري المدينة، فلماذا تنتظر مني ألفاظا نقية؟ غير أني أريد أن أرضيك مع هذا، إني يا سيدي آسف لأني لطخت رداءك بإفراز الفقراء، هل هذا تعبير أفضل؟
جراندير (ضاحكا) :
هذا يكفي.
العامل :
ما أجمل هذا اليوم، الطقس حار.
جراندير :
أجل وكيف تحتمل العمل هناك؟
العامل :
كنت أشغل فكري بأمور أرقى.
جراندير :
يسرني أن أسمع ذلك، وماذا كانت تلك الأمور؟
العامل :
زوجتي وغذائي.
جراندير :
لقد فهمت، أما الآن؟
العامل :
لم تعد بي حاجة، وألفت الرائحة الكريهة، ولا يمكن لأحد أن يبلغ الثالثة والأربعين من عمره دون أن يحدث له ذلك، ولو كنت رجلا من عامة الناس يا سيدي فربما أمكنني أن أفهمك.
جراندير :
ولماذا لا تحاول؟
العامل :
كل امرئ مجرى نفسه، إنه يحمل في جوفه مجاريه، والمزاريب تجري خلاله لتلفظ الأقذار.
جراندير :
ولكنها تحمل كذلك دم الحياة.
العامل :
إنها مجرد سباكة، وهي المبادئ الصحية الأولى، لا تقاطعني، ما الذي يسعد الإنسان؟ أن يأكل، ويجعل المجاري تموج، أن يجلس في الشمس ويجعل القمامة تتخمر، أن يعود إلى بيته ويلتمس الراحة مع زوجته في مجاريها، لماذا إذن أشعر بالخجل أو بالشذوذ هنا؟
جراندير :
بهذه الصورة ليس ثمة ما يدعو إلى ذلك، بل ربما كانت لك في هذا العمل متعة.
العامل :
من الواضح يا سيدي أن إفرازاتك الغالية لن تتدفق هنا كما تتساقط من بين أصابع قدمي هذا المخلوق الضال طوال الليل.
2
جراندير :
لا تسخر من هذا الشيء.
العامل :
آسف.
جراندير :
لقد كان رجلا، شابا، في الثامنة عشرة من عمره، وقد أتوا به ليركع على باب الكنيسة في طريقه إلى هذا المكان، واعترف لي بخطاياه.
العامل :
وما هي؟
جراندير :
كونه حيا.
العامل :
مدرك.
جراندير :
وكان ذلك شيئا إدا، ساقته رجولته إلى قوة الحواس، وبهذه الحواس كان يعبد فتاة شابة ويقدسها كل التقديس، ولكنه أسرع في التعلم، تعلم أن الذهب وحده هو الذي يحلي الجسم العاري، فسرق.
العامل :
ومن أجل ذلك شنق؟
جراندير :
لقد اعترف لي وحدي بشيء ما، ولم يرد أن يبلغ صوته الإله، إنما كان رجلا يتحدث إلى رجل، قال لي إنه عندما حلى الفتاة بدا له الذهب بغير لون، عديم القيمة فوق جسمها الذهبي، وكانت تلك توبته، متى ينزلونه من فوق المقصلة؟
العامل :
غدا، في جنح الظلام.
جراندير :
أرجو أن تراقب إتمام هذا العمل في شيء من الحشمة. (جراندير ينصرف.) *** (دي سيريزاي - دارمنياك - ترنسانت)
دارمنياك :
الحياة الريفية يا عزيزي ترنسانت.
ترنسانت :
هل تشعر أن لها أثرا سيئا على فن الشعر؟
دارمنياك :
اسأل دي سيريزاي.
دي سيريزاي :
أنت باعتبارك النائب العمومي يا ترنسانت، وأنا باعتباري قاضيا، نشأنا ملتصقين بالأرض بحكم عملنا، ولقد كنت دائما أعد الشعر فنا رفيعا.
ترنسانت :
أؤكد لك أن الأفكار الصحيحة ترد على خاطري أثناء النظم، إن عقلي - إن جاز لي أن أقول ذلك - محشو كله بالنبل.
دي سيريزاي :
لماذا لم تطلع جراندير على المجموعة الأخيرة من مقطوعاتك الشعرية؟
ترنسانت :
القسيس؟
دي سيريزاي :
إن حواسه الدنيوية غاية في النضج باعتباره قسيسا، اجمع بعض المختارات وقدمها إليه، فالرجل من العلماء الباحثين.
ترنسانت :
حسنا، إنني لا أبغي الثناء ولكني سوف أفعل ما تقول، أجل (ترنسانت ينصرف) .
دارمنياك :
مسكين ترنسانت، إنه يحب آلهة الشعر، ولكنها للأسف لا تحبه فيما يبدو، أرجو أن يكون اقتراحك بشأن جراندير خاليا من نية السوء.
دي سيريزاي :
خلوا تاما يا سيدي، إن ترنسانت شأنه شأن أي مؤلف، كلما ارتفع مستوى قرائه خف عبء الشك على كواهل أصدقائه المقربين.
دارمنياك :
لقد أتى جراندير لمقابلتي هذا الصباح، وكنت أتناول طعام الإفطار في الحديقة، ولم يكن يعلم أن بوسعي مشاهدته وهو يتقدم نحوي، كان مكشوف السريرة باسما، يتنفس الهواء بصورة ظاهرة، وقد توقف ليشاهد الطواويس، ويداعب زهرة وكأنها بين يديه سر المرأة الخفي، وأخذ يضاحك ابن البستاني، ثم اعتدل ساعة من الزمان. إلى أين يتسلق هذا الرجل الآخر على سلم شكوكه وضحكاته؟
دي سيريزاي :
ربما تسنم ذروة مناصب الكنيسة.
دارمنياك :
وما مصير الرجل الذي رأيت في الحديقة؟ (صمت.) *** (جراندير مع نينون، والسرير غير مرتب، وفوق إحدى قوائمه قلنسوة.)
نينون :
خبرني.
جراندير :
ماذا تريدينني أن أخبرك به ؟ إن الألفاظ ليست إلا ألاعيب في موقفنا هذا، لها رنين الموسيقى، وليس لها ومعنى.
نينون :
لا تسخر مني، إنني لا أفهم قط، فلست امرأة ذكية.
جراندير :
ما أشد تواضعك يا نينون! وذلك من رذائل النساء، وهو لا يؤدي إلى نتيجة، عم تسألين؟
نينون :
لماذا تأتي إلي؟
جراندير :
لو كنا في صالونك لكان هذا منك سؤالا حكيما، أما ونحن ...
نينون :
إن بالمدينة فتيات رائعات الجمال.
جراندير :
إنهن لم يطلبن العزاء في موت باكر لزوج غني يبيع الخمور، ذلك كان الداعي إلى زيارتي الأولى لو تذكرين في يوم من أيام الثلاثاء من بضعة أسابيع، وقد طلبت إليك أن تعتقدي بأن الله يحبك، وأنه يرعاك رعاية أبدية، وأن تعتقدي أن السكتة القلبية التي أصابت زوجك وهو يتناول العشاء عندما كانت دماؤه تتدفق مع خموره الغزيرة، كانت عملا من أعمال المحبة، وقلت لك إن كل شيء مهما تعذر إدراكه هو عمل من أعمال المحبة، غير أنك لم تستطيعي الإيمان بشيء من هذا، إن روحك ضيقة كعقلك يا نينون، فلجأت إلى تصرف إنساني بحت، فبكيت، ولا بد من مسح الدموع وكيف يمكن ذلك بغير تدليل؟
نينون :
في ذلك اليوم لم أر فيك إلا رجلا، ما هي حقيقة الأمر؟
جراندير :
وددت لو أن مثل هذه الكلمات لا تزال قوية الأثر في نفسي (يعطر منديله) .
نينون :
إنني لم أر فيك قط إلا رجلا، فهل تريد أن تكون أكثر من ذلك؟
جراندير :
أكثر من ذلك بالتأكيد، أو أقل.
نينون :
ولكن كيف تستطيع أن تكون رجلا من رجال الدين دون أن تكون رجلا؟
جراندير :
إنك يا عزيزتي تسألين أسئلة فوق سنك، وأبعد من تجربتك، إن فمك ... (ناقوس يدق.)
نينون :
لقد ملكت علي نفسي.
جراندير :
اذهبي الآن لتنامي، وقد كنت اليوم حيوانا صغيرا طيبا.
فليكن لك في استرجاع الذكرى راحة وسلوى، واسعدي. (جراندير ينصرف.) *** (آدم ومانوري وبينهما مائدة.)
مانوري :
هذا الرأس البشري يبعث في نفسي كثيرا من التأمل يا عزيزي آدم.
آدم :
هذا موضوع مألوف.
مانوري :
إن كل امرئ يحمل فوق كتفيه رأسا - ليس في ذلك شك - ولكن عندما يقع بين يدي رأس مفصولا عن جذعه الغليظ أحس دائما بسمو في الروح. تصور أن الرأس مقر التفكير.
آدم :
فعلا، وهذا حق.
مانوري :
أليس من الجائز أن أجد في أثناء تشريح رأس عادي ذات يوم ...
آدم :
ماذا تجد يا مانوري؟ لا تتردد في إخباري.
مانوري :
قد أقع على المعنى الدقيق للتفكير، أليس من الممكن أن يصل سن مبضعي إلى الجانب المقدس في الإنسان، فيلقاه محفوظا في كيس بالغ في الصغر؟ لقد حلمت بهذه اللحظة ورأيت بنفسي. أرفع هذا الجزيء الذي ألتقطه من المخيخ، ثم أكون على علم يا آدم.
آدم :
ماذا تعلم يا مانوري؟
مانوري :
تعال يا صديقي العزيز، إنما أنا أتكلم بمعنى غاية في الشمول، أعلم كل شيء، ويتكشف لي كل شيء.
آدم :
رحماك اللهم.
مانوري :
دعنا نحمل هذا الشيء إلى بيتك، ونقضي المساء في دراسته. (يتجهان نحو الطريق العام.)
مانوري :
إن كل الناس يتحدثون عن علاجك لمرض الحب الذي أصيب به الدوق.
آدم :
نعم، وأحسب أننا تغلبنا عليه، ولكن لم يمض في الوقت ما يكفي للتأكد.
مانوري :
مركبك المعدني، هل يؤثر في قدرة الرجل؟
آدم :
تأثيرا بالغا ولا مناص «للعلم» - كما كنت أقول للدوق متفكها - من الاهتمام بالأسباب الأولية، وليس بوسعه أن يلتفت إلى مشاهدة النتائج الهدامة العارضة.
مانوري :
ولن يلتفت، كما نأمل.
آدم :
هل وضعت «السيدة التي لن نسميها»؟
مانوري :
قبل الأوان، وكان جنينها يدعو إلى العجب، ولد وعلى رأسه قلنسوة صغيرة.
آدم :
إن ذلك لا يدعو إلى العجب مع هذا اللغط الشديد حول السائق. (يبلغان الشارع ويقترب منهما جراندير.)
مانوري :
انظر، من القادم؟
آدم :
قل إن شئت إنه رجل يمثل العالم الذي لا يعبأ بشيء.
جراندير :
عمتم مساء، سيدي الجراح، وسيدي الصيدلي.
مانوري :
عمت مساء.
آدم :
نعم يا سيدي.
جراندير :
كان يوما جميلا.
مانوري :
نعم.
آدم :
أجل.
جراندير :
أما الآن، فإنها سوف تمطر، أليس كذلك؟
آدم :
إن السماء صحو.
مانوري :
حقا.
جراندير :
ولكن السحب قد تتجمع قبل حلول الليل.
آدم :
فعلا.
مانوري :
فعلا، ربما حدث ذلك.
جراندير :
وتظلم كما تعلمان. ما عندك في هذا الجردل؟
مانوري :
رأس إنسان.
جراندير :
هل كان صديقا؟
مانوري :
كان مجرما.
آدم :
لقد أنزل الجسم من المقصلة في الليلة الماضية.
جراندير (بعد صمت) :
لعلهم لم يتقاضوا منك ثمنا غاليا، لمصلحة «العلم».
مانوري :
دفعت تسعة بنسات.
جراندير :
معقول، وإنها لصفقة، أرني، ليس هذا الخل من نوع جيد.
آدم :
صحيح، كنت ومانوري نتحدث عن المأزق الذي وقع فيه الإنسان بسبب يتركز في هذا الجزء من جسمه.
جراندير :
إني على يقين أنكما ذكرتما أشياء شائقة.
آدم :
ذكر مانوري أن مقر التفكير ينحصر هنا.
جراندير :
ما أصدق ذلك، وكنت تستطيع أن تقول ذلك يا آدم.
آدم :
لقد قلت.
جراندير :
ولا ينبغي أن نغفل النظر إلى هذا المزيج من الحماقة والقداسة عند الإنسان مما لا نذكره إلا لغرض أسمى هو نشوته الروحانية.
آدم :
أطلب منك العفو.
جراندير :
لك هذا، ولكني لا يجب أن أبقى هنا أتبادل معكم الآراء العميقة، مهما اشتد إغراؤكم لي؛ ولذا استودعتكما الله يا سيدي الجراح ويا سيدي الصيدلي. (جراندير ينصرف والناقوس يدق.)
مانوري :
لقد وقعت في شباكه يا آدم، لا تشغل نفسك قط مع رجل أريب.
آدم :
كانت تفوح منه رائحة الأرملة، يا للقذارة.
مانوري :
طبعا، ولقد عاد توا من لدنها.
آدم :
بعدما أدخل على نفسه البهجة هذا الصباح حينما كانت الفتيات يعترفن له بخطاياهن ...
مانوري :
بلغ بنفسه ذروتها في فراش الأرملة عصرا ...
آدم :
ثم أتى إلينا يتثاءب في وجوهنا.
مانوري :
هذا المساء ...
آدم :
هذا المساء سيقضيه في بيت عظيم، عند دارمنياك ودي سيريزاي، يطعم، ويتسلى، وتتملقه النساء بضحكاتهن.
مانوري :
يا لها من ... إني آسف. ماذا كنت تريد أن تقول؟
آدم :
كنت أريد أن أقول يا لها من «حياة».
مانوري :
وهذا ما كنت أريد أن أقوله.
آدم :
إننا لا ندعى قط إلى أمثال هذه الأماكن.
مانوري :
كثيرا ما فكرت في ذلك.
آدم :
وكيف تعزي نفسك؟
مانوري :
بذكري أنني رجل شريف أقوم بعمل شريف.
آدم :
وهل يكفيك هذا ؟
مانوري :
ماذا تعني؟
آدم :
التقط الرأس وسر معي. (يسيران في الطريق، ويدخلان بيتا.) *** (جراندير يدخل الكنيسة، ويركع عند المذبح، ويصلي.)
جراندير :
إلهي، إن ابنك المسكين يجب أن يصل إلى نعمائك، إنني أتحدث وفوق كاهلي متاعب خمسة وثلاثين عاما، وهي أعوام مثقلة بالكبرياء والطموح، بحب النساء وحب النفس، أعوام يلطخ صفوها الترف والزينة، وقت استنفدته في كوني لا شيء، في كوني رجلا.
إني أسجد لك خاشع القلب، مهدود القوى، وأسألك يا رب أن تنظر إلي بالمحبة، وأضرع إليك يا إلهي أن تستجيب لدعائي، اهدني الصراط المستقيم، أو أوجد لي مخرجا. (صمت.)
إلهي، ربي، إلهي، اعف عني. حررني. هذه الحاجات. ارحمني يا رب. حررني. في الساعة الرابعة بعد ظهر الثلاثاء، حررني يا إلهي. (ينهض، ويصيح):
Rex tremendae majestatis, qui
salvandos salvas gratis, salva me,
salva me, fons pietatis!
3 *** (دي لاروشيوزاي؛ أسقف بواتييه - رهبان من الفرانسيسكان والكرمل)
دي لارشبوزاي :
كنت وحيدا لعدة أيام خلت، ولعلكم تريدون أن تعرفوا إن كنت قد بلغت نغمة ربي، ربما كان ذلك؛ لأني شديد الألم والنفور من حماقة الإنسان وشره، وتسألونني هل هذه هي رحمة الله؟ وأجيب: ربما كانت هي رحمته، دعني أحدثكم عن ظروف الوحي.
حبست نفسي في غرفتي سبعة أيام، أصوم وأصلي، فرأيت نفسي أداة بسيطة لإرادة الله، وشعرت بسعادة ونشوة وخضوع حتى تمنيت ألا أعود إليكم، ودعوت الله أن يصيب بدني بالذبول، ولا يترك إلا صفاء الروح، غير أن إحساسي بالواجب كأسقف لكم أرغمني على أن أتخلى عن هذه الجنة، فعدت إلى العالم. وأراد أحد قساوسة لودان، واسمه جراندير، أن يقابلني، وهو من أبنائي، مثلكم جميعا يا أحبائي وأردت أن أمنحه حبي، لولا أن منديله كان معطرا، ولو أن هذا الرجل صفعني على وجهي لكان ذلك أقل إذلالا لنفسي. إن الصدمة التي وقعت على حواسي كانت من الفحش بحيث أصابني الفزع؛ عطور لرجل مذاق الماء عنده كان كالنار، وصوت الطيور في البستان كصياح من لحقتهم لعنة الله، إنني مكدود، أزيلوا هذه الخواتم من أصابعي.
ربما قابلتم وأنتم في طريقكم من الأبرشية إلى هذا المكان طفلا يبسم لكم، أو اجتذبت أنظاركم زهرة، أو رائحة العشب الجديد على جانب الطريق، هل بعثت فيكم هذه الأشياء إحساسا غير السرور؟ وربما ضل أحدكم طريقه وهداه إليه رجل غريب، فهل رأيتم في عمله هذا شيئا غير الشفقة؟
دعوني أقول لكم هذا، ليست هناك براءة إطلاقا؛ ارتابوا في الخير الذي يصدر عن الناس، والفظوا الشفقة.
لأن كل متعة ظاهرة إقرار للذات، وإقرار الذات عند الإنسان هو غلبة الشيطان. عندما نشر هذا المنديل في وجهي هذا الصباح وقعت عيني عليه وكأني في رؤيا، رأيته علما ضخما يرفرف فوق العالم، تفوح منه الرائحة الكريهة، ويلف كنيستنا المحبوبة ويغمرها بالعار وحب الشهوات؛ إننا في خطر.
أبعدوني عن هذا المكان، أبعدوني. (دي لارشبوزاي يساق بعيدا، ويبقى الأب باري والأب رانجير وحدهما.)
رانجير :
كيف تسير الأمور في ركنك من هذا العالم؟
باري :
إني مشغول جدا.
رانجير :
هل هو معكم؟
باري :
بغير انقطاع.
رانجير :
هل نستطيع أن نسميه؟
باري :
إن أردت، إنه الشيطان.
رانجير :
وكيف تسير المعركة؟
باري :
لن أيئس.
رانجير :
يبدو عليك الإجهاد.
باري :
المعركة مستمرة ليلا ونهارا.
رانجير :
إن روحك مضيئة.
باري :
لم تتحطم على أية حال، ولكن شينون لا تظفر الآن بلحظة هدوء، كنت منذ بضعة أيام أقوم بمراسم عقد زواج، وكان كل شيء يسير على ما يرام: كان أمامي زوجان شابان، جاهلان فيما حسبت، لكنهما طاهران، ولم يدر بخلدي عنهما غير ذلك، وبلغت مباركتي لهما، وكنت على وشك أن أدفع بهما إلى العالم زوجا وزوجة، حينما حدث اضطراب عند الباب الغربي؛ ذلك أن بقرة قد اقتحمت الكنيسة وكانت تحاول أن تشق طريقها وسط المصلين، وعرفت الحقيقة في الحال بطبيعة الأمر.
رانجير :
عرفت أنها هو؟
باري :
أفصح يا رانجير، وسمه (ويصيح)
إنه الشيطان!
رانجير :
إنك لا تخدع قط.
باري :
وقبل أن أستطيع التصرف، خرج
4
من البقرة إلى أم العروس، فارتمت على الأرض في شبه صرع، ثم كان اضطراب مريع بطبيعة الحال، ولكني بدأت في «إخراج الشيطان» في الحال، وهناك زوجان لن يتخليا عن حفل زفافهما على عجل .
رانجير :
وكيف انتهى الأمر؟
باري :
صاحت الروح في الكنيسة وكأنها ريح عاتية، وظهر على جبين الفتاة شيء يلطخه ويشبه الطين الأسود، وظنت أنها وقعت، ولكني كنت أكثر منها علما بطبيعة الحال، ولم يكن ذلك كل ما في الأمر، فقد جاءني الزوج بعد يومين وقال لي إنه وجد نفسه عاجزا كل العجز عن أداء واجبه الضروري، لقد مسه الشيطان كالعادة كما تعلم، وقد شرعت أبحث في الأسرة كلها.
رانجير :
إن مثل هذا الأمر لا بد أن يأتي بعدد كبير من الناس إلى شينون.
باري :
ألوف من الناس.
رانجير :
الناس يزداد اهتمامهم اليوم بالشر.
باري :
لقد عاون ذلك بالتأكيد على زيادة عدد زوار حرم كنيستي بعدما أخذ يهبط بشكل مؤسف، إنهم يقصدون صورة نوتردام دي ريكفرانس (أو الشفاء).
رانجير :
وأنت تعلم بطبيعة الحال كيف حدث ذلك.
باري :
بالتأكيد إنهم جميعا يؤمون لودان الآن؛ إن شخص جراندير هذا، الذي أزعج الأسقف، هو المسئول عن هذا، إنه يروج لمركزه بشكل مشين.
رانجير :
إن في أشكال عمل المعجزات طرزا كما أن لقبعات السيدات طرزها.
باري :
هذا حق، غير أن في الشر ثباتا تطمئن له النفس، لا بد لي أن أنصرف.
رانجير :
لأمر هام؟
باري :
لا بد لي من زيارة مزرعة، إنهم يقولون إن شيئا يتكلم من خلال الحبل السري لإحدى الطفلات، والطفلة ذاتها الآن تتبادل مع هذا الشيء الحديث، وقد قيل لي إن الصوتين قد بثا معا مذهبا عجيبا في انتهاك حرمة المقدسات. (ينصرف رانجير وباري في طريقين منفصلين.) *** (جراندير وحيدا، وبيده بضع صفحات من قصائد الشعر ويتقدم إليه ترنسانت.)
ترنسانت :
فضل منك أن تزورني يا أبي جراندير.
جراندير :
عفوا لقد عدت ومعي قصائدك.
ترنسانت :
حسنا، إن دارمنياك يرى أن أي قصور إنما يعود إلى الحياة في الريف.
جراندير :
إنك تدون هذه القصائد عند عودتك من مكتبك.
ترنسانت :
كل يوم.
جراندير :
وسط روائح الطهو.
ترنسانت :
إنها تقذف بي بعيدا.
جراندير :
ووسط ضجيج الحياة العائلية.
ترنسانت :
إنها تقطع علي سلسلة التفكير.
جراندير :
ولذا فمن الطبيعي أن تصدر عنك ... هذه.
ترنسانت :
خلصني من شقائي؛ إني بحاجة إلى رأي مخلص.
جراندير :
أنت رجل لك مكانتك في هذه البلد يا ترنسانت، والرجال الذين يشغلون المناصب العامة لا يتوقعون الإخلاص.
ترنسانت :
حدثني باعتباري شاعرا لا باعتباري نائبا عاما.
جراندير :
حسنا إن شعرك ... (فيليب ترنسانت تدخل.)
ترنسانت :
ما بك؟
فيليب :
أريد أدواتي للخياطة يا أبت.
ترنسانت :
خذيها من فضلك. (إلى جراندير):
هذه كبرى بناتي، فيليب، ماذا كنت تقول؟
جراندير :
كنت أهم بالقول إن مبتكراتك - هذه الصفحات - لها قيمة كبرى، يبدو أنها ملاحظات أدبية ذات طابع غير مألوف.
ترنسانت :
حقا؟
جراندير (لفيليب) :
ألا تظنين ذلك؟ إنني أتحدث عن شعر أبيك.
ترنسانت :
إنها تجهل هذه الأمور كل الجهل، وأنت تعلم أنها كأمثالها من الفتيات الصغيرات كل ما يهمهن الرقص والموسيقى والضحك، أما الأمور الرفيعة فليست لها قيمة.
جراندير :
يجب أن تتعلم.
ترنسانت :
يتعذر وجود شخص ملائم في هذه المدينة، اللهم إلا ...
جراندير (إلى فيليب) :
هل تتكلمين اللاتينية؟
فيليب :
قليلا.
جراندير :
لا يكفي.
ترنسانت :
اللهم إلا ...
جراندير :
إنها لغة دقيقة تمكنك من التعبير تماما عما تعني، وهذا نادرا في هذه الأيام، ألا توافقينني؟
فيليب :
بلى، إنه نادر.
ترنسانت :
اللهم إلا أن تعهدت أنت أيها الأب جراندير بالتعليم.
جراندير :
تعليم ابنتك؟
ترنسانت :
نعم.
جراندير :
أنا رجل مشغول.
ترنسانت :
يوم واحد فقط في الأسبوع، ساعات قلائل في تذوق الأمور الرفيعة، ويمكن أن يتم ذلك بالمحادثة، وربما بقراءة شعر لاتيني مناسب.
جراندير :
حسنا.
ترنسانت :
هل يكون ذلك يوم الثلاثاء؟
جراندير :
كلا ليس يوم الثلاثاء، اليوم التالي. *** (آدم ومانوري يجلسان في الصيدلية تحت تمثال محشو ومثانات مدلاة، وينعكس الضوء خلال زجاجات تحتوي على مخلوقات مشوهة.)
آدم (يقرأ في كتاب صغير) :
في الساعة الخامسة والنصف يوم الثلاثاء خرج من بيت الأرملة.
مانوري :
الرجل كالآلة، ولكنه مع ذلك مشوق، هل يمكن أن ترتبط الاستجابة الجنسية بالزمن؟
آدم :
في الساعة السابعة والنصف شوهد وهو يتحدث علانية مع دارمنياك، والموضوع مشكوك فيه، وإن كان جراندير قد شوهد وهو يضحك مرتين مستهترا، وتناول العشاء وحده، وفي وقت متأخر عن العادة، في التاسعة، وظل الضوء مشتعلا في حجرته حتى بعد منتصف الليل.
مانوري :
أظن ذلك ممكنا: إذا قلت للمرأة في منتصف الخامسة يوم الثلاثاء سوف آتيك لأمتعك ثم ... واظبت على ذلك بضعة أسابيع لم تعد بي حاجة إلى أن أقول لها إني سأفعل ذلك، فتوقعها لي يغني عن قولي، يوم الثلاثاء، في منتصف الخامسة، ثم تحدث الظواهر الفسيولوجية المعروفة، إن هذا الموضوع يصلح للبحث، لا بد لي أن أفكر.
آدم (يقلب صفحة من الكتاب) :
اكتشف في الفجر جاثيا على ركبتيه أمام المذبح، وكان مسترخيا طول الصباح، ثم تناول وجبة في الساعة الثانية والربع، تناول قطعا من الخبز الحلو بالقشدة ثم قطعة من الجبن القديم مع النبيذ، وفي الساعة الثالثة دخل بيت ترنسانت لتعليم ابنته فيليب.
مانوري :
ما أشد فطنتك يا آدم؟
آدم :
هل تراني كذلك الآن؟
مانوري :
لقد نطقت بكلمة «تعليم» بطريقة مصطنعة تدل على معنى آخر.
آدم :
شكرا لك.
مانوري :
ولكن سامحني يا صديقي العزيز إن أنا سألتك شيئا ما، كيف نتابع الموضوع؟ إن ملاحظاتك عن تحركات جراندير تدعو إلى العجب، غير أن هذه التحركات قد تكون من عادات أي رجل، ويستحيل علينا أن ندينه بمثل هذا الدليل.
آدم :
أعطني الوقت يا مانوري، قطعا إننا لن نكشف عنه بتتبع عاداته، ولكن الشهوة تشده من أنفه، ولا بد للشهوة من شريك، فهل هي الأرملة نيون؟ أم هل هي فيليب ترنسانت؟ أم هي غير هذه وتلك؟ ومن يدري؟ ولكن الوقت آت، صبرا. *** (الأخت جان دي زانج وحيدة، جاثية.)
جان :
إنني أهب نفسي في خشوع لخدمتك، لقد خلقتني امرأة صغيرة في تكويني البدني وفي روحي، وكل ما أملك كذلك خيال ضيق، من أجل هذا بحكمتك العظيمة يا رب حملتني هذا العبء الناتئ على ظهري يذكرني يوما بعد يوم بما ينبغي لي حمله، إلهي، إني أجد عسرا في التقلب على فراشي؛ ولذلك فإني في ساعات الفجر - ساعات اليأس - أتذكر ما حملتني - الصليب - على الطريق الطويل.
لقد أكسبت حياتي معنى عند تعييني في هذا البيت - بيت أرسولين - وسوف أحاول أن أرشد الأخوات في هذا المكان، وسوف أؤدي واجبي كما أراه. (صمت.)
إلهي، إلهي، لقد وجدت مشقة كبرى في الصلاة منذ كنت فتاة صغيرة، ولطالما تمنيت أن يكون في باطني صوت آخر أعظم من صوتي أحمدك به. بنعمتك يا رب أتيت إلى هذا المكان صغيرة. اللهم ارحم ابنتك. اللهم ابعث في نفسها الأمل. ولكني مع ذلك سوف أكنس البلاط، وأرتب الفراش جيدا، وأنظف الأعمدة بإتقان. (صمت)
رحماك اللهم. (صمت)
سوف أجد طريقا، أجل، سوف أجد طريقا إليك، سوف آتيك، وتضمني بين ذراعيك المقدستين، وسوف تسيل بيننا الدماء، فتوحد بيننا. إن طهارتي لك (صمت) (في لفظ حاسم)
أتوسل إليك يا إلهي أن تزيل عني حدبتي حتى أستطيع أن أستلقي على ظهري دون أن يتدلى رأسي. (صمت)
هناك طريق لا بد لي أن ألتمسه، اللهم اجعل نور محبتك الأبدية ... (ثم تهمس)
آمين. (تنهض الأخت جان ثم تنصرف.) *** (جراندير، وفيليب ترى وهي تقرأ.)
فيليب :
Foeda est in coitu et brevis
Voluptas, et taedet
Vereris statis peractae .
5
جراندير :
ترجمي أولا بأول، وسطرا بسطر.
فيليب :
المتعة في الحب ...
جراندير :
في الشهوة.
فيليب :
المتعة في الشهوة قذرة وقصيرة الأمد، والمرض ...
جراندير :
الملل.
فيليب :
والملل يعقب الرغبة.
جراندير :
استمري.
فيليب :
non ergo ut pecudes libidinosae caeci protinus irruamus illuc (nam languescit amor peritque flamma) .
6 (تتوقف.)
لسنا كالحيوانات نندفع إليها؛ فإن الحب بذلك يموت، والشعلة تنطفئ.
جراندير :
هذه ترجمة نثرية، وإن تكن صادقة. سلميني الكتاب. (يقوم بالترجمة):
في وقت الفراغ الدائم
استلق في صمت،
وقبل الزمان ليمضي،
هكذا، هكذا،
فلا ملل ولا خجل،
في هذه الآونة، في الحاضر وفي المستقبل،
تكون المتعة كلها،
ليست لها نهاية،
وإنما هي بداية أبدية.
لماذا تبكين يا بنيتي؟
فيليب :
لم تكن صحتي جيدة.
جراندير :
هل تجدين هذه الدروس القصيرة ثقيلة عليك؟
فيليب :
كلا، كلا، إنني أحب ...
7
إنني أستمتع بها كثيرا.
جراندير :
إننا لم نؤد منها غير ستة، وقد فكرت في استمرارها حتى أواخر العام.
فيليب :
بطبيعة الحال، حسبما تريد.
جراندير :
حسبما تريدين أنت يا فيليب، إنها لمنفعتك.
فيليب :
إنني تواقة جدا لكي أفهم كل شيء.
جراندير :
كل شيء؟
فيليب :
إن في باطني كامرأة دوافع لا بد لي من إدراكها إن كان لا بد من مقاومتها.
جراندير :
أي دوافع يا فيليب؟
فيليب :
ميول ...
جراندير :
استمري.
فيليب :
ميول نحو الخطيئة. (صمت.) *** (يقف دارمنياك على أعلى قمة من حصون المدينة، مجلس الولاية منعقد، ترى على البعد أشباح لويس الثالث عشر ملك فرنسا وريشيليو.)
ريشيليو :
الأمر سهل الإدراك يا سيدي، الورقة التي لديك مقلوبة، إن الحكم الذاتي للمدن الريفية الصغيرة في فرنسا لا بد أن ينتهي، والخطوة الأولى هي هدم جميع أنواع الحصون. (جراندير يقترب - من أسفل - من دارمنياك.)
دارمنياك :
إذن فالدور على هذه المدينة.
جراندير :
هل لا بد أن ينهار كل شيء؟
دارمنياك :
هذا ما يريدون، إنها حيلة بطبيعة الحال، ريشيليو يجلس مع الملك في باريس، ويهمس في أذنيه.
ريشيليو :
لا بد أن تتحرر فرنسا في داخلها إن أرادت أن تقرر مصيرها بنفسها.
دارمنياك :
إن الريفيين من الجهال الماكرين من أمثالنا لا تجاوز أبصارهم أسوار المدينة؛ ولذا جاءتنا الأوامر من الكردينال لتحطيمها، هل يوسع ذلك من أفق أنظارنا؟
ريشيليو :
إن الرجال من أمثال صديقك دارمنياك يا سيدي قصار النظر، ولاؤهم لمدينهم وليس لفرنسا.
جراندير :
هل عللوا هذا الأمر؟
دارمنياك :
عندما يكون الرجل مشغوفا بالسلطة مثل ريشيليو يستطيع أن يبرر أعماله بالسخافات.
ريشيليو :
إن أمثال هذه الحصون تهيئ الفرص لثورة البروتستانت.
دارمنياك :
انظر، إنها مدينة قديمة. إن هذه الأسوار لا تصد تيار الهواء فحسب. وتلك البروج ليست لمجرد الزينة. ومن تلك القلعة كنت أحاول أن أدير مملكتي الصغيرة بحكمة معقولة؛ لأني أحب المكان.
جراندير :
يجب أن ترفض هدمها، وهل سوف يعارض الأمر حكام آخرون في الأقاليم؟
دارمنياك :
أشك في ذلك.
جراندير :
وهل سوف نعارض نحن؟
دارمنياك :
نحن؟
جراندير :
دعني أعاونك في هذا الأمر يا سيدي.
دارمنياك :
هل أنت جاد؟ إن إلى جانب الملك في باريس رجلا من رجال الكنيسة، وأنت باعتبارك رجلا آخر من رجال الكنيسة إلى جواري هنا، هل تريد كذلك أن تستغل هذا الموضوع لأغراضك الخاصة ؟
جراندير :
إن الصراع يجذبني يا سيدي، والمقاومة ملزمة لي.
دارمنياك :
إنهم يستطيعون تحطيمك.
جراندير :
حقا إني ضعيف، ولكن الصراع لا يكون بين قوتين متكافئتين؛ إن الأمر عندئذ يكون نفيا. يسود السلام. وإذن فلتسمح لي أن أعاونك بكل ما لدي من حماسة الفشل.
دارمنياك :
لا تبتسم، إنهم يستطيعون تحطيمك. (دي لوباردمنت، مندوب الملك، يقف أسفل ريشيليو والملك، ريشيليو يتحدث إليه.)
ريشيليو :
إن دارمنياك حاكم لودان قد رفض أن يطيع الأمر. اذهب إلى المدينة، وقد أديت لي من قبل خدمات. انتظر، هناك رجل اسمه جراندير؛ إنه قسيس، أجل، هناك رجل يسمى جراندير، أذكر ذلك. (دي لوباردمنت ينصرف.)
صوت امرأة مختفية :
Lux aeterna luceat eis, Domine, cum Sanctis tuis in aeternum, quia puis est .
Requiem aeternam dona eis, Domine, et Lux perpetua Luceat eis .
8 *** (الأخت جان ديزانج، الأخت كلير من أتباع سنت جون، الأخت لويز من أتباع يسوع، الأخت جبرائيل من المؤمنات بالتجسيد؛ يدخلن.)
جان :
كانت خسارتنا فادحة أيتها الأخوات، كان الكاهن موسو رجلا عجوزا طيبا.
كلير :
هي إرادة الله.
لويز :
إرادة الله.
جان :
هذا ما تعلمناه، لكن موته - برغم ذلك - يخلق لنا مشكلة؛ فنحن في حاجة إلى مدير، ومن الحق أن الرجل شغل هذا المنصب بجدارة لعدة سنوات، بيد أن حياة الآثمين مستمرة قطعا، ولا بد لنا من معرف للتائبين منهم.
لويز :
وهل وقع اختيارك على أحد يا أمي؟
جان :
الله يختار لنا.
كلير :
سوف ندعو الله.
جان :
فلتفعلي ذلك، هناك ... (تصيبها نوبة سعال) ، لا تمسوا ظهري، (سكون، وإجهاد)
هناك رجل اسمه جراندير، إنه شاب، لم أره قط، ولكن الله كثيرا ما أودعه أفكاري أخيرا، أقصد ... (صمت.)
كلير :
ما الأمر؟
جان :
كلير؟
كلير :
لماذا تحدقين في هكذا؟ هل قدمت إساءة؟
جان (ترى الفتاة) :
كلا، كلا، أقصد أن أكتب إلى هذا الرجل الطيب وأطلب إليه أن يكون مديرا لنا، جراندير، جراندير، إنه الوحي كما تعلمن، لقد احتل أفكاري، جراندير.
كلير :
إنها إرادة الله.
لويز :
إرادة الله.
جان (تضحك ضحكا جافا مفاجئا) :
إنني أكاد أموت من الإجهاد. (صمت. في هدوء)
هذا حل رائع عملي، إنه يستطيع أن يرشدنا إلى طريقة تربية الأطفال الذين يوضعون تحت رعايتنا، وسوف يرعى حاجاتنا الروحانية (تضحك مرة أخرى) ، ويستطيع أن يصنف هذه المشكلات الدينية المتقدمة اللعينة التي تحيرني يوما بعد يوم، نعم إنه اختيار موفق. اتركوني وحدي. (الأخوات ينصرفن، وتنادي جان كلير لكي تعود.)
جان :
كلير!
كلير :
نعم.
جان :
يقولون إن عيني جميلتان، هل هذا صحيح؟
كلير :
أجل يا أمي.
جان :
أجمل من أن أغمضها حتى في حالة النوم على ما يظهر. انصرفي مع الأخريات. (جان وحيدة.)
جان :
كان صباحا صائفا، والأطفال يلعبون. فتى وفتاة. والمراكب الشراعية المصنوعة من الورق تطفو فوق البركة، وقد أشرقت الشمس حامية فوق الرءوس في ذلك اليوم، وربض الأطفال يحدق بعضهم في أعين بعض عبر صفحة الماء؛ هل كان ذلك حبا؟ صوت إيقاع؛ إنه ضفدع فوق الصخر، إنه ينق. هذا صبي رأسه مائل إلى جانب يبتسم، وصوت رقيق يهمس فوق الماء. انظري. تحدثي إلى أخيك يا جان، هيا بنا يا أخي جرين، اقفز. تحدثي إليه يا جان (تضحك ثم تصمت)
سامحني لضحكي يا رب، ولكنك لم تزودني بقوة الدفاع، أليس هذا صحيحا يا رب؟ (جان تتجه إلى النافذة وتفتحها، وتحدق ببصرها خلال النافذة.) *** (ترى الشارع، ودكانا في السوق، وترى الناس يغدون ويروحون، يشترون ويبيعون، وترى أطفالا، وتمر عربة نقل، وتسمع أغنية، ويسير جراندير وسط الزحام، وهو في حلته الكهنوتية، رائع، ذهبي اللون في ضوء النهار الذي أخذ في الزوال، خطوه سريع، واثق من نفسه، نشوان.) (جان تصيح.) (ولا يسمع الجمهور صياحها، غير أن جراندير يتوقف عن المسير ويتلفت حواليه، ويتفرس وجوه المارة، متعجبا أي رجل أو امرأة منهم انفعل فصدرت عنه صيحة الألم التي طرقت أذنه وسط هذا الاضطراب، ويرى جراندير وهو يصعد سلما. وجان تكتب، تخط بسرعة وبحدة خطا مزخرفا.) (الطريق العام، يرى آدم ومانوري وسط الزحام، ثم يتقدمان.)
مانوري :
أول ما ينبغي عمله أن نكتب عريضة.
آدم :
عريضة اتهام ضد جراندير؟
مانوري :
بالضبط، إننا نعرف دعارته.
آدم :
بل نجاسته.
مانوري :
وقلة ورعه.
آدم :
وهل هذا يكفي؟
مانوري :
لا بد أن يكفي.
آدم :
مؤقتا.
مانوري :
ونقدم الصحيفة للأسقف.
آدم :
لا بد من إجادة الصياغة.
مانوري :
طبعا، نصوغها في لغة سليمة، لائقة للتداول ...
آدم :
طرأت لي الآن فكرة.
مانوري :
ما هي؟
آدم :
ما أكثر نقدنا نحن أبناء الطبقة الوسطى، لا لشيء إلا لأننا نحب أن تكون المواقف لطيفة مقبولة. آسف. استمر. ماذا نقول في العريضة؟
مانوري :
نقول؟ (يتوقف)
إنما نقرر.
آدم :
ذلك لا يهم.
مانوري :
كلا، بل هي الوسيلة.
آدم :
يجب أن تكون الغاية نصب أعيننا.
مانوري :
دائما. (ينصرفان.) *** (كرسي اعتراف، جراندير وفيليب يتهامسان أثناء الحديث كله.)
جراندير :
متى كان آخر اعتراف لك يا بنيتي؟
فيليب :
منذ أسبوع، يا أبي.
جراندير :
ماذا تريدين أن تبوحي لي به؟
فيليب :
أبي لقد أذنبت، وعانيت من الزهو بنفسي.
جراندير :
يجب أن نكون دائما على حذر.
فيليب :
بالأمس أكملت بعض أشغال الإبرة، وكنت بذلك في نشوة.
جراندير :
إن الله يسمح لنا بالرضى عن العمل الذي نؤديه.
فيليب :
وارتكبت الخطأ عن طريق الغضب.
جراندير :
خبريني.
فيليب :
أغاظتني أختي، وودت لو كانت في مكان آخر.
جراندير :
أنت من ذلك في حل، هل من شيء آخر؟ (صمت)
هيا، غيرك في الانتظار.
فيليب :
ساورتني شكوك دنسة.
جراندير :
ما طبيعتها؟
فيليب :
عن رجل.
جراندير :
بنيتي ...
فيليب :
في الساعات الأولى من الصباح ... وكان فراشي حارا إلى درجة الاختناق ... طلبت إليهم أن يزيلوا الستائر المخملية ... إن أفكاري فاسدة ... ولكنها مع ذلك رقيقة ... جسدي ... أبي ... جسدي ... أردت أن يلامس.
جراندير :
وهل حاولت أن تقمعي هذه الأفكار؟
فيليب :
نعم.
جراندير :
وهل تراودك هذه الأفكار؟
فيليب :
كلا، فقد دعوت الله.
جراندير :
وهل تريدين من ذلك الخلاص؟ (صمت)
أجيبيني يا بنيتي.
فيليب :
كلا، إني أريده أن يأخذني - بل يمتلكني - بل يهدني هدا. إني أحبك. قصدت أن أقول إني أحب الله! أحبه! (يخرج جراندير من المقصورة، وتغلبه الرأفة، وبعد لحظة يزيح الستار وترى فيليب، ويقفان وجها لوجه.) *** (دي لارشبوزاي، آدم ومانوري أمامه في خضوع.)
دي لارشبوزاي :
لقد نظرت في العريضة التي قدمتماها ضد القسيس جراندير، إننا نعرف أنه رجل خطر ليس عنده تقوى أو ورع. منذ بضعة أشهر عانينا بأنفسنا الإهانة والذلة بمحضره، غير أن هذه مسألة لا تهم. ما شكواكما؟
مانوري :
نشعر يا مولاي الأسقف أن جراندير يجب أن يحرم من ممارسة أعمال الكهنوت.
دي لارشبوزاي :
ما عملك؟
مانوري :
أنا جراح.
دي لارشبوزاي :
هل يسرك أن أعطيك دروسا في عملك؟
مانوري :
إني دائما على استعداد لأن أتلقى النصيحة.
دي لارشبوزاي :
لا تتكلم كما يتكلم الغافلون، هذه العريضة القذرة سيئة العبارة لا تخبرني بشيء لا أعلمه عن الرجل، كل ما أجد هنا تهم غامضة هستيرية عن أرامل وحيدات وعذارى عاشقات ولست على استعداد لأن أدير شئون هذه الأسقفية على مستوى محاكم الشرطة.
آدم :
إن له أصدقاء أقوياء.
دي لارشبوزاي :
كف عن الهمس، ماذا تقول؟
آدم : : إن جراندير يحميه أصدقاؤه.
دي لارشبوزاي :
ما أسماؤهم؟
مانوري (لآدم ينبهه بوكزة بكوعه) :
استمر ...
آدم :
دارمنياك ودي سيريزاي وغيرهما.
دي لارشبوزاي :
إنني أقبل نواياكم المعقولة التي ساقتكم إلى هذا المكان، وعلم الله - برغم هذا - أنني إن كنت لا أثق في أحد فهو المواطن الطيب الذي يتجاوز واجبه المدني؛ إن دوافعه هي في العادة الحقد أو المال، ولكني لا أقبل آراءكم أو نصيحتكم أو حتى محضركم لحظة واحدة بعد هذا. (آدم ومانوري ينصرفان.)
دي لارشبوزاي (لمساعده) :
إن حماية الكنيسة من المبدأ الديمقراطي الذي يبيح لكل فرد أن تكون له كلمة أمر حيوي، ربما كان صدقا ما قال هذان الرجلان، ولكن ينبغي ألا يسمح لهما بالظن أنهما يؤثران في أحكامنا بأية حال. *** (جان وحيدة. بيدها كتاب الصلوات. بالليل. تدخل عليها كلير.)
كلير :
سلمونا هذا عن الباب. (جان تتناول الخطاب من كلير، وتفضه، ثم تقرأ.)
جان :
لقد رفض.
كلير :
الأب جراندير؟
جان (تقرأ بصوت مرتفع) :
أختي العزيزة، يؤسفني أشد الأسف أن أجدني مضطرا إلى رفض دعوتك لكي أكون مديرا لبيتك، إن ضغط الأعمال التي أؤديها في المدينة لا يسمح لي بالوقت الذي يمكنني من تكريس وقتي لمصلحة إخوتك، وإني أقدر أجمل التقدير كل ما ذكرت عن صفاتي و... (جان تمزق الخطاب من أعلاه إلى أسفله وتضمه إلى جسدها.)
جان :
شكرا لك يا أختي. (كلير تنصرف. جان وحيدة.)
جان :
ما هذا اللغز المقدس؟ دعني أرى. (تضحك)
كنت على وشك أن أتجه إلى الله في هذا الأمر. إنها العادة، هي العادة، غير أن ذلك لا يجدي. كلا. لا بد أن أتجه إلى «الرجل». (ثم تهمس باسم «جراندير».)
تيقظ،
9
لقد انبثق الفجر على غيرك من قبلك، انظر إلى النافذة الرمادية الصغيرة ثم تقلب. إنها ترقد إلى جوارك، وهي في وضع قد يكون للصلاة أو للوصال، ومن فمها تفوح رائحة النبيذ والبحر، وجلدها ناعم كالحرير، بلله العرق، وروائح جسدها الطبيعية قد بددت بالليل روائح النهار الطيبة. (فيليب تشاهد وهي تتبادل الحب عارية مع جراندير، وهما يريان في وضع الملامسة المعروفة أثناء الانفعال بالشهوة خلال ما تردد جان من كلمات.)
جان :
انظر إليها،
10
ماذا تحس؟ بالأسى؟ لا بد أن يكون بالأسى؛ إنك رجل وهي الآن تمد ذراعيها فوق رأسها. ألا تتأثر؟! ليس هذا من فنون العاهرات مهما زعمت. إنها ترفع ساقيها، وتلفهما، وتضع أصبعا على شفتيك وفمها على إصبعها. إنها تهمس. لقد تعلمت هذه الكلمات. إنها تعيد الدرس فقط. هذه القذارة هي الحب عندها، والحديث عنه من الإيمان. (تضحك ضحكة مفاجئة)
ما هذا الذي فعلت، تمد جسدك لكي تمسك بالفراش المتساقط، هل تريد أن تغطي عريك؟ وهل في هذا الأمر خجل؟ (صمت ثم في تعجب)
يا للعجب! وتستطيع كذلك أن تضحك؟! إن ذلك أمر لم أكن أعرفه: الألم، والنسيان، وفقدان العقل، والجنون. هذا ما حسبت أن يكون في فراشك، أما الضحك ... إنكما تبدوان في سن الشباب، أهدوء مرة أخرى؟ إن الفتاة ثقيلة على ذراعيك. لقد تثاءبت، وتلقيت رعشة بدنها. إنك ترتعد رغما عنك. انظر إلى الشمس، إنها تبدد الضباب في الحقول. وسوف يغمرك النهار. انهل ما استطعت، لينهل كلاهما ما استطاعا. الآن، (تبكي)
هذا الجنون. هذا التمزيق. هذا اللحم على لوحة الجزار. أين أنت؟ الحب؟ الحب؟ ماذا تكون؟ الآن، الآن، الآن. (جان ترتمي على ركبتيها، متشنجة ، وقد اختفى عن العيان جراندير وفيليب.)
جان (مختنقة في صوت فتي) :
يا إلهي، هل هذا هو الأمر، هل هذه هي الحكاية؟ (ظلام.) *** (دارمنياك - دي سيريزاي - دي لوباردمنت)
دي لوباردمنت :
ليس الأمر موضوع اتفاق، إنما أنا هنا كمندوب خاص للملك، ولكني غير مخول للمفاوضة. إني آسف يا دارمنياك.
دارمنياك :
تعلم يا لوباردمنت أن الرجال الراشدين في هذه البلاد بدءوا يملون إلى حد ما ظهور أشخاص يزعمون حق الأبوة لمصلحتنا كما يقولون. قد ينظر إلى فرنسا على أنها أشبه بالمرأة تتصف بالخضوع، ولكنها ليست طفلة.
لوباردمنت :
إنني أميل إلى الاتفاق معك في الرأي، ولكني لست هنا للجدل، إنما أحمل رسالة.
دارمنياك :
أمرا، دكوا الحصون.
لوباردمنت :
تلك هي الرسالة، أي رد أعود به؟
دارمنياك :
إني أرفض.
لوباردمنت :
عندي إحساس عجيب.
دارمنياك :
بالخوف؟
لوباردمنت :
كلا، كلا، إنكم في هذا القرار قد وقعتم تحت تأثير، وإن وراء عنادك ضغطا.
دارمنياك :
القرار مني وحدي، باعتباري حاكم المدينة. (جراندير يقترب.)
دارمنياك :
هل تعرف الأب جراندير؟
لوباردمنت :
سمعت عنه.
دارمنياك :
هذا هو.
لوباردمنت (ملتفتا) :
أيها الأب، ألا تستطيع أن تمد نفوذك إلى الحاكم في موضوع دك الحصون؟ وليس عندي شك في أنك تريد فض الأمر باعتبارك رجلا من رجال السلام.
جراندير :
نعم إنني أريد ذلك باعتباري من رجال السلام، أما باعتباري من رجال المبادئ فإني أوثر أن تبقى أسوار المدينة قائمة.
لوباردمنت :
إذن فالظاهر أني أقف وحدي في هذا الموضوع، وإذا عدلت عن رأيك - وأنا شديد الرجاء في ذلك - فسأعود إلى لودان بعد بضعة أيام. (لوباردمنت ينصرف.)
دارمنياك :
انظر إليه يا جراندير.
جراندير :
رجل صغير الحجم يثير الضحك.
دارمنياك :
إننا جميعا يا صديقي العزيز خياليون، إننا نتصور أن الذي يغير حياتنا رسول مجنح يمتطي جوادا أسود، ولكنه في أكثر الأحيان رجل رث صغير الحجم، يتعثر في الطريق. *** (في الدير، جان والأب منيون، وهو رجل عجوز غافل، يسيران معا.)
جان :
إننا جميعا جد سعداء أيها الأب منيون لقبولك، وإنا نتطلع إلى أن نراك مديرنا لعدة سنوات مقبلة.
منيون :
أنت كريمة جدا يا بنيتي، إنك تتصفين بالبساطة والصراحة اللذين يمسان قلب رجل عجوز مثلي.
جان :
المشكلات كثيرة في مكان مثل هذا، وسوف أحتاج إلى نصيحتك وإرشادك.
منيون :
أنا تحت تصرفك دائما.
جان :
إن كل الأخوات هنا مثلا شابات، وأعتقد أنك توافق على أن الشباب أكثر عرضة للإغراء من الشيخوخة.
منيون :
هذا حق، أذكر عندما كنت شابا ...
جان :
وأنا نفسي ...
منيون :
ماذا تريدين أن تقولي؟
جان :
كنت أريد أن أقول إني أنا نفسي عانيت منذ عهد قريب جدا من رؤى شيطانية.
منيون :
إن من يعيش قريبا جدا من الله يقع للشيطان فريسة بالطبيعة، ولكني لا أنزعج كثيرا بشأنها.
جان :
أستطيع أن أتحدث عن ذلك نهارا، أما في المساء ...
منيون :
من الحقائق المعروفة يا عزيزتي أن الروح تكون في أضعف حالاتها في ساعات الفجر.
جان :
وقد استطعت أن أقاوم الرؤى، بعد عدة ساعات من الصلاة عدت إلى نفسي، غير أن الزيارات ...
منيون :
أي زيارات؟
جان :
لقد أتاني بالليل سلفك الكاهن موسو، ووقف إلى جوار سريري.
منيون :
ألم تكن هذه زيارة محبة يا بنيتي، لقد كان موسو رجلا طيبا وكنت مشغوفة به.
هل تحدث إليك؟
جان :
نعم.
منيون :
ماذا قال؟
جان :
كلاما قذرا.
منيون :
ما هو؟
جان :
كلام قذر، فحش من القول فيه سخرية، وازدراء وإيذاء.
منيون :
أختي الحبيبة ...
جان :
لم يأتيني بشخصه.
منيون :
ماذا تعنين؟
جان :
جاءني شخصا آخر، رجلا آخر.
منيون :
وهل تعرفين هذا الرجل؟
جان :
نعم.
منيون :
من هو؟
جان :
جراندير، الأب جراندير. (صمت.)
منيون :
عزيزتي، هل تدركين خطورة ما تقولين؟
جان (هادئة) :
نعم، ساعدني يا أبي. *** (جراندير فوق المنبر.)
جراندير :
إن بعض الفجار يجوسون خلال المدينة ويتحدثون ضدي، وأنا أعرفهم، وأنتم تعرفونهم؛ إذا قلت لكم إن الجراحة والصيدلة يسيران متكاتفين، يولدان الدود داخل السور، يقدمان شهادة زور، إنهما يتجسسان، ويتسللان، ويضحكان في سخرية. ولقد كان أول من أخطأ رجل اسمه آدم، وهو الذي تسبب في القتل، لماذا يتابعان خطاي؟ لست عليلا!
إن كانوا هنا في هذا المكان المقدس فليجابهوني ويعلنوا كراهيتهم لي ، ويقدموا لها الأسباب. لست أخشى أن أتحدث صراحة عما يحاولون كشفه سرا. ليقفوا أمامي إن كانوا في هذه الكنيسة. (صمت)
كلا، إنهم في جحر تحت الأرض يحفرون لكي يخرجوا على سطح الأرض مزيدا من السم يصيبوننا جميعا به. إنهم يستقطرون المرارة في الأنابيب، فيكشفون عن الشهوة وعن الحسد، ويشقون الجروح بسن المبضع. (وفي خلال ذلك يقترب دي لوباردمنت من اثنين من المساعدين ويصغي، ثم يتابع المسير.)
أيها الأبناء، ما كان ينبغي لي أن أتحدث إليكم من هذا المكان، وما كان ينبغي لي أن أتحدث إليكم في مرارة باعتباري راعيا لكم، فهل هم يثيرون في نفسي الغضب؟ يقول الرب: إنهم يثيرون أنفسهم حتى تضطرب وجوههم. *** (الصيدلية. آدم ومانوري)
آدم :
لقد جاوزت العاشرة، هل تتصور ذلك؟
مانوري :
دار بيننا حديث ممتع.
آدم :
وهل وصلنا إلى نقطة ما؟
مانوري :
إن أحدا بالباب.
آدم :
مستحيل.
مانوري :
إنه موجود. (آدم يفتح الباب، يرى لوباردمنت واقفا.)
آدم :
إننا لا نؤدي عملا. أغلق الباب.
لوباردمنت :
اسمي جين دي مارتان، بارون دي لوباردمنت، وأنا مندوب الملك الخاص إلى لودان.
آدم :
هل أستطيع أن أقدم إليك المساعدة؟
لوباردمنت :
أرجو ذلك. (يدخل لوباردمنت المحل.)
لوباردمنت :
إنني في زيارة للمدينة للقيام ببحث معين.
مانوري (في حذر) :
كلانا رجل أمين.
لوباردمنت :
أعلم ذلك، ومن أجل هذا قصدت هذا المكان، وكثيرا ما وجدت في مثل هذه الحالات أنه ربما كان هناك في المدينة رجلان لم يلحقهما الفساد، وهما في العادة صديقان حميمان من أرباب المهن ومن الطبقة الوسطى، عصب الأمة. اهتمامهما بالوطن شديد. محبان للبلاد. فقدا أبناء في الحروب. زواجهما سعيد. يستطيعان أن يسدا نفقات العيش برغم الضرائب. يعيشان حياة تقشف ولكنهما يحبان أن يكون ما لديهما جميلا.
هل أصبت القول يا سادتي؟
آدم :
منتهى الصواب.
لوباردمنت :
حسنا، أريد أن تخبراني بكل ما تعلمان عن رجل اسمه جراندير، الأب جراندير الذي يتبع كنيسة القديس بطرس.
آدم :
وأخيرا يا صديقي مانوري! *** (جراندير وفيليب في مكان منعزل.)
فيليب :
لا بد أن أنصرف الآن.
جراندير :
نعم .
فيليب :
لا أحب أن أسير في الطرقات ليلا، فالكلاب تنبح، استمع! إنها تنبح الآن.
جراندير :
كم أود أن أرافقك. كنت أحب ... أوه، أين اللفظ؟ يعوزني اللفظ.
فيليب :
ماذا تريد؟
جراندير :
أقبلي، برفق. أريد أن أخبرك ...
فيليب :
ماذا؟
جراندير :
تعلمين أن الغزل ...
فيليب :
ماذا؟
جراندير :
أريد أن أخبرك يا فيليب أن بين الملابس الملقاة على الأرض والملاءات الملطخة، والدروس، والأجهزة، والجراحة؛ بين هذا كله عاطفة يحسها القلب.
فيليب :
أعرف ذلك، إنه الحب، الحب البشري. (صمت.)
جراندير :
هل هذا هو تفسيرك له؟
فيليب :
أظن ذلك.
جراندير :
هل أنا أحبك؟
فيليب :
أعتقد ذلك.
جراندير :
إذن أي نوع من أنواع الراحة أستطيع أن أقدم إليك؟ (صمت.)
فيليب :
إنني فتاة ساذجة أرى العالم وأرى نفسي كما تعلمت. أنا ممعنة في الإثم، ولكن حبي لله لم يتخل عني. يقول «الناس» إن من يكون في مثل موقفنا عليه أن يقابل ربه، وأعتقد في صدق ذلك، ولن أخشى أن أبوح بما في نفسي لله وأنت بجانبي، حتى في حالة ارتكابنا الخطيئة؛ لأني أعتقد أن الله طيب، حكيم، رءوف دائما. (صمت.)
جراندير :
إنك تخجلينني. *** (الصيدلية. دي لوباردمنت ومانوري وآدم، وقد انضم إليهم الأب منيون)
منيون :
لم أستطع أن أحصل على أكثر من ذلك من رئيسة الدير، ولا أستطيع أن أثبت شيئا، وقد تكون مجرد امرأة هستيرية.
آدم :
وهل يهم ذلك؟
منيون :
كم أود أن تكون هناك يا مانوري باعتبارك جراحا، وأنت يا آدم باعتبارك صيدليا.
لوباردمنت :
وهل يمكنني أن أحضر باعتباري طرفا محايدا؟
منيون :
بالتأكيد إن كان الأمر واقعا، فكلما كثر عدد الحاضرين ... (يتوقف) .
لوباردمنت :
هل كنت تريد أن تقول كلما كثر عدد الحاضرين تضاعف المرح؟
منيون :
لقد بعثت برسالة إلى الأب باري في شينون، فهو خبيرنا المخلص العظيم في مثل هذه الأمور.
مانوري :
يسعدني جدا أن أقدم إليكم المشورة الطبية يا أبي.
آدم :
وسوف أبدي الرأي في أية ظواهر كيماوية أو بيولوجية.
منيون :
إنها بالفعل تشكو تضخما في بطنها مصحوبا بتقلصات عضلية حادة.
آدم :
مدهش !
مانوري :
ليست هذه حالة شاذة، إنه الإحساس بالحمل الكاذب، وقد عرفت ذلك من قبل، ولا شأن للشيطان في ذلك، هل تهب الريح؟
لوباردمنت :
لا جدوى من التخمين، وعما قريب ينبلج الصباح. *** (ساعة الفجر، جان تصلي إلى جوار فراشها البسيط.)
جان :
أدعوك يا رب أن تجعلني امرأة طاهرة، اللهم ارع أبي وأمي العزيزين، وحافظ على كلبي كابتن الذي أحبني، ولم يفهم لماذا تركته كل هذا الزمن الذي مضى ... إلهي، إنني أحب أن أؤدي لك صلاة رسمية، ولكني لا أستطيع ذلك إلا من الكتاب في الكنيسة. (صمت)
أحبني (صمت)
أحبني، اللهم آمين. (تنهض جان وتخرج من الغرفة إلى مكان منطلق فسيح حيث يقف دي لوباردمنت ومانوري وآدم ومنيون ورانجير وباري وتقترب منهم جان.)
باري :
دعوني أعالج هذه الحالة، عمي صباحا أيتها الأخت، هل أنت في صحة جيدة؟
جان :
في صحة جيدة جدا، أشكرك أيها الأب.
باري :
حسنا جدا، اركعي. (جان تركع، ويتوجه إليها باري.)
باري (يصيح فجأة) :
هل أنتم هنا؟
11
هل أنتم هنا؟ (صمت، ثم يتوجه الخطاب إلى الآخرين)
إنهم لا يجيبون في الحال إطلاقا؛ فهم يخشون أن يلتزموا أمرا. (إلى جان)
تعالي، صرحي بما في نفسك، باسم سيدنا يسوع المسيح. (تطرح جان رأسها الأعوج إلى الوراء فجأة ويخرج من فمها الفاغر المشوه موجات من الضحك الذي يشبه ضحك الرجال.)
باري (مطمئن النفس. إلى الآخرين) :
إنهم دائما يلجئون إلى هذه الحيلة.
جان (في صوت عميق كصوت الرجال) :
نحن هنا، نحن هنا مقيمون.
باري :
سؤال واحد.
جان :
بوه.
باري :
لا تكونوا وقحين، سؤال واحد: كيف استطعتم التسلل إلى هذه المرأة المسكينة؟
جان (في صوت عميق) :
إنها خدمات طيبة يقدمها صديق.
باري :
ما اسمه؟
جان :
إسموديوس.
12
باري :
هذا اسمك، ما اسم صديقك؟ (جان تترنح على ركبتيها، تصيح صيحات مختنقة، تتكون منها في النهاية كلمة.)
جان :
جراندير! جراندير! جراندير! (ضحك عميق كئيب.) (ستار)
الفصل الثاني
المكان:
كنيسة القديس بطرس.
الزمان:
في المساء. (يرى جراندير عند المذبح، وفيليب جاثية عند قدميه، جراندير يرفع صينية، ثم يقول ):
جراندير :
Benedic, + Domine, hunc annuum, quem nos in tuo nomine benedicimus, + ut quae eum gestaverit, fidelitatem integram suo sponso tenens, in pace et voluntate tua permaneat, atque in mutua caritate semper vivat, Per Christum Dominum nostrum .
1
فيليب :
آمين . (جراندير يرش الماء المقدس على الخاتم، ثم يلتقط الخاتم من فوق الصينية، يهبط ويجثو إلى جوار فيليب.)
جراندير :
بهذا الخاتم أرتبط بك برباط الزواج، وهذا الذهب وهذه الفضة أهبهما لك، وبجسدي أعبدك، وبكل ما عندي في الدنيا من طيبات أمهرك. (يضع جراندير الخاتم على إبهام فيليب قائلا):
جراندير :
باسم الآب (ثم على الإصبع الآخر ويقول)
وباسم الابن (ثم على الإصبع الثالث ويقول)
وباسم الروح القدس (وأخيرا على الإصبع الرابع ويقول)
آمين. (وعلى هذا الإصبع يترك الخاتم.) (جراندير يعتلي سلم المذبح.)
جراندير :
Confirma hoc, Deus, quod operatus es in nobis .
فيليب :
A templo sancto tuo, quod est in Jerusalem .
جراندير :
Kyrie eleison .
فيليب :
Christe eleison .
جراندير :
Kyrie eleison .
2
.
3 (يتحدثان.) (ثم ينخفض همس صوتيهما تدريجا حتى الصمت.) *** (في الشارع.) (يرى عامل المجاري جالسا على راحته، ممسكا بقفص يحوي طائرا. جراندير وفيليب يقبلان من الكنيسة.)
فيليب :
يجب أن تخرج إلى ضوء الشمس، ويجب أن تدق الأجراس معلنة للعالم أمرنا، ولا يجب أن نكون في الليل، وفي مثل هذا الهدوء. يا إلهي. قبلني يا زوجي. (يتبادلان قبلة ثم يتحدث عامل المجاري.)
العامل :
وهكذا انتهى الأمر، إني رأيتكما تدخلان الكنيسة.
جراندير :
انتهى الأمر، وانتهى على خير، هل الطائر يغني؟
العامل :
ليس في قدرته، إنه بغير لسان.
جراندير :
هل تحمله حبا فيه؟
العامل :
لا يرد هذا الخاطر إلا على رجل طيب، أو على رجل فاقد الأمل. كلا، إنني أحمله لكي يموت، وأحيا؛ إنه مخلص. من مخلصك؟
جراندير :
إنك ...
العامل :
أتريد أن تسبني؟
جراندير :
نعم.
العامل :
آسف. هل تعرف الحفر التي تقع في طرق المدينة؟ حيث تبعث حتى محبوبتك هذه ما يملأ جرادلي؟ في بعض الأيام تنبعث من هذه الحفر السموم؛ ولذا فإني أقترب منها دائما ومعي هذا الطائر فوق عمود أمامي، ولقد مات الكثير قبل هذا الطائر من رائحة الأبخرة العفنة، فإذا حدث هذا عرفت أن المكان لا يلائمني، ولذا فإني أطلق المجاري تنصرف يوما أو يومين، وأنفق الوقت في صيد فريسة أخرى أحبسها هنا. إنك تفهم ما أعني. (صمت.)
جراندير :
لقد وضعت ثقتي في هذه البنية، وهي ليست فريسة.
العامل :
الأمر كما قلت.
جراندير :
استمع إلي، حتى في هذه الساعة اليائسة لا بد أن تعترف بأن ما يدور بين الكائنات البشرية هو أكثر من تلك الحركات التي تمدك كما تمد المغاسل بالعمل.
العامل :
لست أجادل.
جراندير :
هناك طريق للخلاص يجده كل منا في الآخر.
العامل :
هل أنت تحاول أن تقنعني؟
جراندير :
أود ذلك.
العامل :
وما حكايتك؟ هل هذا الحفل الصغير الذي أقمته هناك أمدك بهذه الحيلة؟
جراندير :
لقد أمدني بالأمل.
العامل :
الأمل في أي شيء؟
جراندير :
الأمل في أن أصل إلى الله عن طريق مخلوق، الأمل في أن الطريق - التي يسير فيها المرء وحيدا فتكون طريق اليأس - يمكن أن تضاء بحب امرأة، ولقد آمنت بأنه يمكنني بهذا العمل اليسير الذي ألزمت به نفسي، والذي قمت به من كل قلبي، أن أصل إلى الله عن طريق السعادة.
العامل :
ما هي هذه الكلمة الأخيرة التي نطقت بها؟
جراندير :
السعادة.
العامل :
لا أعرف لها معنى، لا بد أنك صغتها لهذه المناسبة. لقد بدت تباشير الصباح.
فيليب :
لا بد أن أنصرف.
العامل :
نعم، ويجب أن يجدوا الفراش خاليا، كما يجب ألا يجدوه مليئا أكثر مما ينبغي.
فيليب (إلى جراندير) :
حدثني.
العامل :
قلها.
جراندير :
أحبك يا فيليب. (فيليب تنصرف.)
العامل :
بمناسبة الحديث عن الحب، إن أمورا عجيبة جدا تحدث في دير الراهبات.
جراندير :
هكذا قيل لي.
العامل :
الظاهر أن هؤلاء السيدات المجنونات يلوحن باسمك.
جراندير :
يجب أن نشفق عليهن.
العامل :
وهل يشفقن عليك؟ هذا هو السؤال.
جراندير :
ماذا تعني؟ إنهن مخدوعات.
العامل :
في أي حال كنت - منذ بضع لحظات - مع هذه الفتاة؟
جراندير :
كنت سليم العقل، وكنت على علم بما كنت أفعل. قد تسخر مني يا بني، إن شئت، إلا أن ما قد يبدو لك عملا لا معنى له، أعني زواج قسيس لا يصح له الزواج، له عندي معنى. إن المنفردين والمتكبرين يحتاجون أحيانا إلى الإفادة من بعض الوسائل البسيطة، وأنا كذلك قد لهوت بالبريئات قبل اليوم. إن حطة مقامك قد رفعتك إلى مكانة عالية غير مقدسة، فمن هذا المستوى المرتفع كن رحيما عاقلا، وأشفق بي، أشفق بي.
العامل :
ليكن ذلك. وأرجو أن يشفق بك كذلك النساء الطيبات في بيت القديس أرسولا. *** (النهار.) (جان على ركبتيها، باري ورانجير ومنيون يواجهونها.)
باري :
Exorcise te, immundisime spititus, omnis incursio adversarii, omne phantasma, omins legio, in nomine Domini nostri Jesus Christi, eradicare et effugare ab hoc plosmate Dei .
4 (رانجير ومنيون يتقدمان، رانجير يرش الماء المقدس، ومنيون يعد الرداء المقدس، إسموديوس
5
في صوت عميق يتكلم على لسان جان.)
إسموديوس :
إنكم تضيعون وقتكم أيها السادة، إنكم تبللون السيدة، ولكنكم لا تمسوني.
باري (إلى منيون) :
أعطني هذا الأثر. (منيون يسلم باري صندوقا صغيرا يوضع على ظهر جان.)
Adjure te, serpens antique, per judisem vivorum et mortuorum ...
6
إسموديوس :
عفوا.
باري : ... per factorum tuun, per factorum mundi ...
7
إسموديوس :
يؤسفني أن أقاطعك.
باري :
ماذا تريد أن تقول؟
إسموديوس :
لست أفهم كلمة مما تقول. أنا شيطان كافر بالله. هذه اللاتينية - وأظن أنك تتحدث بها - لغة أجنبية بالنسبة إلي.
باري :
العادة أن نقوم بإخراج الشيطان باللاتينية.
إسموديوس :
إنك ضيق العقل، ألا يمكن أن نستمر في حديثنا السابق، الذي شاقني كثيرا، عن النشاط الجنسي للقساوسة؟
باري :
لا يمكن بالتأكيد.
إسموديوس :
هل صحيح أن الرجال في أبرشيتك ... (ضحكات جنونية) ... هل صحيح أنهم ينحنون؟
8
دعني أهمس.
جان :
يا إلهي! أخرج هذا الشيء مني.
إسموديوس :
صه، أيتها المرأة إنك تعترضين مناقشة دينية.
جان :
أبي، ساعدني.
باري :
بنيتي، إني أفعل كل ما أستطيع. (باري ينتحي جانبا مع رانجير ومنيون، ويوجه باري الحديث إلى رانجير.)
باري :
إن الملعون يعتقد أني هزمت.
إسموديوس :
أنت مهزوم.
باري :
يظهر أنه يكمن في هذه اللحظة في المصران الأسفل، هل آدم ومانوري هنا؟
رانجير :
إنهما في الانتظار، هنا في الداخل.
باري :
أرجو أن تطلب إليهما أن يستعدا وقدس الماء في خلال ذلك. (يخرج رانجير من خلال الباب الصغير المنخفض، ويلتفت باري إلى جان.)
باري :
أختي العزيزة، لا بد من إجراء عنيف.
جان :
ماذا تعني يا أبي؟
باري :
لا بد من إخراج الشيطان منك بالقوة.
جان :
هل هناك طريق آخر غير عملية إخراج الشيطان؟
باري :
ها ها، يقولون إن الشيطان لا يسكن إلا في الأبرياء، ويبدو أن هذا القول صدق في هذه الحالة. نعم يا بنتي، هناك طريق آخر. (يصيح)
هل تسمعني يا إسموديوس ؟
إسموديوس (هل هو صوت جان؟) :
الرحمة، الرحمة.
باري (يصيح) :
كلام فارغ. (صمت.) (رانجير يخرج من الحجرة الداخلية.)
باري :
إنك تبدو شاحب اللون جدا يا ولدي. إن استخدام أمثال هذه الطرق في وظيفتنا يغمك. انتظر حتى تمارسها بمقدار ما مارستها. مهما يكن من أمر، لا بد أن تساير الكنيسة الزمان. (إلى جان)
تعالي يا أختي العزيزة من خلال هذا الباب الضيق، هنا يكون خلاصك، إنها تبدو كالطفلة، أليس كذلك؟ ومنظرها يؤثر في الشعور، أو ...م. تقدمي، هيا، حسنا، حسنا، بضع خطوات أخرى. (جان تتقدم نحو الباب الضيق.)
لتوجهك قوة الخير، لا تتقدمي كثيرا بعد هذا. كفى. (جان تقف بالباب تحدق في الحجرة الصغيرة المظلمة. ثم ترى وهي تناضل بين يدي باري، وكأنها حيوان يعوي.)
باري (في قوة وفي وثوق) :
ساعدني يا رانجير. (يتقدم رانجير نحو باري، ويمسكان المرأة معا.)
جان :
كلا، كلا؛ إني لم أقصد ذلك.
باري :
فات الأوان يا إسموديوس، هل تنتظر الرحمة الآن، بعد سبابك وألفاظك القذرة في حق الله؟
جان :
أبي، أبي باري، أنا التي أكلمك الآن، الأخت جان التي تنتمي إلى الملائكة.
9
باري :
أي إسموديوس، لقد تحدثت بأصوات عديدة.
جان :
بل هي أنا يا أبي، أنا الأم المحبوبة في هذا الدير العزيز، حامية الأطفال الصغار.
باري :
صه أيها الحيوان! دعنا ندخلها هنا يا رانجير، هل أنت مستعد يا آدم؟
آدم (من الداخل) :
على أتم استعداد. (باري ورانجير يحملان المرأة المناضلة إلى الغرفة، ويغلق الباب محدثا صوتا، ويبقى منيون وحيدا وهو يجثو على ركبته ويشرع في الصلاة.) (تصدر عن جان صيحة من داخل الغرفة، ثم تتحول الصيحة إلى نحيب وضحك، فيعلو صوت منيون في الصلاة. صوته فارغ، منفعل، ضعيف، يصعد ثم يتلاشى.) *** (يتحرك إلى المقدمة دارمنياك ودي سيريزاي وجراندير.)
دي سيريزاي :
الظاهر أن الشيطان قد خرج من المرأة في تمام الساعة الثانية.
دارمنياك :
وماذا تم بشأن الأخريات؟
دي سيريزاي :
إن الآباء منشغلون الآن بهن.
دارمنياك :
بنفس الطريقة؟
دي سيريزاي :
كلا، يظهر أن هناك طرقا أخرى طبيعية لإخراج الشيطان قد أثبتت نجاحا بعد الرئيسة، قليل من الماء المقدس - يستعمل من الظاهر - وبضع دعوات، ثم تنصرف الشياطين.
دارمنياك :
نرجو إذن أن يسود الهدوء.
دي سيريزاي :
لست أدري.
دارمنياك :
ألا تستطيع القيام بشيء لو عاد الأمر؟ باعتبارك قاضيا، من رأيي أن هذا السلوك نوع من أنواع الإخلال بالنظام.
دي سيريزاي :
لقد قابلت باري ورانجير منذ أيام وسألتهما عن شرعية الوسائل التي لجئوا إليها فأغلق باب الدير بعد ذلك في وجهي، إنني أوقع نفسي في مركز حرج إن أنا استخدمت القوة ضد القسيس، وقد طلبا إلي أن أحضر مساءلة الأخت جان، وأنا في طريقي إلى هناك الآن.
دارمنياك (إلى جراندير) :
هل تعلم أن اسمك يقحم دائما في هذا الموضوع؟
جراندير :
نعم أعلم ذلك.
دارمنياك :
أليس من الخير أن تتخذ خطوات لتبريء نفسك؟
دي سيريزاي :
هل أسأت إلى هذه المرأة بأية وسيلة؟
جراندير :
لست أدري كيف يكون ذلك ممكنا، إذ إنني لم أرها قط.
دي سيريزاي :
إذن فلماذا آثرت أن تقول إنك الحافز الشيطاني لها؟
جراندير :
إنك تبدو خائفا يا سيريزاي، سامحني.
دارمنياك :
إنما أنت الذي ينبغي أن تخاف، أيها الأب، كانت هناك قضية منذ بضع سنوات ... إنني لا أذكر اسمه.
جراندير :
أنا أذكره، ذلك الشيطان المسكين، وقد كانت هناك عدة قضايا يا سيدي.
دارمنياك :
أنت في خطر.
جراندير :
من الموت؟ ولكن لن يكون ذلك بالتأكيد على أساس قصة سخيفة كالتي تروي في الدير؛ إن الموت يا سيدي يجب أن يكون أعظم من ذلك، وأكثر دلالة، لرجل من شاكلتي.
دارمنياك :
كيف انتهت حياة أولئك الرجال الآخرين؟
جراندير :
شدوهم إلى قوائم خشبية وأحرقوهم، ولكنهم كانوا رجالا مغمورين يثيرون السخرية، كانوا مادة تستحق هذه التضحية، وذلك كل ما في الأمر.
دي سيريزاي :
سأقدم لك أنا ودارمنياك كل ما نستطيع من معونة أيها الأب.
جراندير :
هل أستطيع أن أتحدث إلى أحدكما في هذا الأمر بصراحة؟ عندما قدمت إلى هنا هذا الصباح سمعت القصص تحكى في الطرقات العامة، فضحكت، وظننت أنكما تضحكان كذلك، هل من الحق أن الشيطان يلبسها؟
دي سيريزاي :
لا يستدل على ذلك مما شهدت، وسوف أرى المرأة اليوم كما قلت لكم، وسأخبركم بما يحدث، ولكنك لم تجب عن سؤالي: لماذا آثرتك أنت؟
جراندير :
النساء المعتزلات يهبن أنفسهن لله، ولكن يبقى في نفوسهن شيء يلح في أن يوهب للرجل، ومن الممكن أن تهبه من طهرت قلوبهن حقا على شكل صدقة، أما مع ضعاف القلوب فالأمر ليس بهذه السهولة. والأمر يدعو إلى الأسى، وهو مؤسف جدا في الحقيقة إذا تدبرته: تصور أن تتيقظ بالليل بحلم بريء جدا، حلم عن طفولتك أو عن صديق لم تره منذ سنوات، أو عن مرأى وجبة طيبة. هذه خطيئة؛ ولذا فعليك أن تتناول سوطك الصغير وتضرب به جسدك، وهذا هو ما نسميه تدريب النفس. ولكن الألم نوع من الحس، وفي دوامته، تدور صور من الفزع والشهوة. والظاهر أن أختي المحبوبة في يسوع قد ركزت عقلها في، وليس لذلك سبب يا سيريزاي، منديل يسقط، أو مذكرة تسطر، أو لغط يدور على الألسن؛ إن أيا من هذه الأشياء يوجد في بيداء الجسم والعقل بسبب الدعاء المستمر يبعث الأمل، ومع الأمل يأتي الحب، ومع الحب - كما نعلم جميعا - تأتي الكراهية، وهكذا فإني أملك على هذه المرأة نفسها. اللهم ساعدها في فزعها وشقاوتها. اللهم ساعدها. (إلى دارمنياك)
ولنتحدث الآن يا سيدي في الأمر الذي من أجله أتيت: عندي الرسوم الجديدة لبيتك الصغير، فهل تأتي لمشاهدتها؟ وقد راجعت وعدلت التصميم وجعلته خلوا من كل تافه كما شئت. (جراندير ودارمنياك ينصرفان، ويحدق فيهما سيريزاي لحظة، ثم يتحرك ليدخل ...) *** (غرفة مرتفعة السقف، مؤثثة بسريرين صغيرين، تشغل جان أحدهما، وباري ورانجير ومنيون حاضرون، وكذلك آدم ومانوري، ويرى كاتب يقوم بالتسجيل.)
باري :
لا بد من أسئلة أخرى أوجهها إليك يا أختي العزيزة في المسيح.
جان :
وما تلك يا أبي؟
باري :
هل تذكرين أول مرة اتجهت فيها أفكارك إلى هذه الرذائل؟
جان :
أذكر ذلك جيدا.
باري :
خبرينا.
جان :
كنت أسير في الحديقة، ثم توقفت، وقد شهدت ملقى عند قدمي عود عضاة ؛ فتملكني غضب آثم لأني في ذلك الصباح عينه كان عندي ما دعاني إلى إنذار أختين لإهمالهما واجباتهما في الحديقة، والتقطت هذا العود النابي غاضبة، ولا بد أنه كان شائكا؛ لأن الدم تدفق من جسدي، ولما شهدت الدم امتلأت نفسي رقة.
رانجير :
ولكن هذا الإيحاء ربما نشأ عن مصدر آخر.
باري :
ومع ذلك (ينظر إلى الكاتب)
هل أنت تسجل ذلك؟
جان :
كانت هناك مناسبة أخرى.
باري :
خبرينا.
جان :
انقضى بعد ذلك يوم أو يومان، وكان صباحا جميلا، بعدما قضيت ليلة من النوم الذي لم يراودني فيه حلم، وعلى عتبة غرفتي وجدت باقة من الورد، التقطت الورود وشبكتها في حزامي، وفجأة شعرت بهزة عنيفة في ذراعي اليمنى، واستولت علي معرفة عميقة بالحب، ألحت علي خلال صلواتي وتعذر علي أن أركز عقلي في أي شيء، فقد امتلأ كله بصورة رجل انطبعت في نفسي انطباعا باطنيا عميقا.
باري :
هل تعرفين من بعث بتلك الزهور؟
جان (بعد صمت طويل، وفي هدوء) :
جراندير، جراندير.
باري :
ما وظيفته؟
جان :
قسيس.
باري :
من أية كنيسة؟
جان :
كنيسة القديس بطرس. (يلتفت باري ليحدق في دي سيرايزاي في صمت.)
دي سيريزاي (في هدوء) :
هذا لا شيء. (باري يلتفت ثانية إلى جان.)
باري :
هذا لا يقنعنا يا أختي العزيزة، وإذا بقينا كذلك بغير اقتناع فلست بحاجة إلى أن أذكرك أنك ستواجهين اللعنة إلى الأبد. (جان ترتمي فجأة على السرير وتنهق كالخنزير الصغير. أسنانها تصطك وتعبث بنظام السرير المرتب، ويتراجع الرجال عنها، ثم تعتدل في جلستها وتحدق فيهم.)
باري (في عجلة شديدة) :
تكلمي ... تكلمي.
جان :
حل ... المساء ... وغربت شمس النهار.
باري :
ثم ماذا؟
جان :
وعقدت شعري إلى الخلف، ومسحت وجهي، عدت إلى طفولتي، إيه؟ مسكينة يا جان، أصبحت امرأة نامية، خلقت ل... ل...
باري :
استمري.
جان :
ثم أتاني.
باري :
سمه.
جان (في الحال) :
جراندير، جراندير، دخل الليث الجميل الذهبي غرفتي باسما.
باري :
وهل كان وحيدا؟
جان :
كلا، كان معه ست من مخلوقاته.
باري :
ثم ماذا؟
جان :
ضمني في رفق بين ذراعيه وحملني إلى المعبد، وأخذ كل واحد من مخلوقاته إحدى أخواتي المحبوبات.
باري :
ثم ماذا حدث؟
جان (باسمة) :
أوه، تصور معبدنا الصغير، على بساطته وخلوه من الزينة، لقد كان في تلك الليلة مكانا للترف والحرارة المعطرة. دعني أخبركم، لقد امتلأ بالضحك والموسيقى، وكان فيه المخمل، والحرير، والمعادن، وخشب أرضه لم يكن ممسوحا. لم يكن البتة نظيفا، نعم وكان هناك طعام، لحم حيواني عظيم ونبيذ، ثقيل، كفاكهة الشرق، وكنت قرأت عن ذلك كله، وقد أتخمنا أنفسنا إلى درجة قصوى.
دي سيريزاي :
إنما هذه صورة ساذجة للجحيم.
باري :
أوش، استمري.
جان :
لقد نسيت، كنا في أزياء جميلة، وكان ردائي علي كأنه جزء من جسدي، وأخيرا لما تعريت وقعت بين الأشواك. نعم كانت الأشواك منتثرة فوق الأرض، ووقعت بينها. تعال إلي (تشير إلى باري الذي ينحني نحوها وتهمس ثم تضحك) .
باري (مكتئبا) :
تقول إنها وأخواتها قد أرغمن على أن يكون من أنفسهن مذبحا فاحشا، وقد توجهوا إليهن بالعبادة.
جان :
مرة ثانية. (تهمس مرة ثانية، ثم تضحك.)
باري :
تقول إن الجن كانت ترعى جراندير، وإن أخواتها المحبوبات كن يغوينها، إنكم تفهمون ما أعني أيها السادة. (جان تجذب باري إليها مرة أخرى، وتهمس في خبل وتصبح كلماتها مسموعة بالتدريج.)
جان : ... وهكذا قهرنا الله من عقر داره، وفر مفزوعا من الإحساسات التي أودعتها في الرجال يد أخرى، ولما تحررنا منه، احتفلنا برحيله مرة أخرى. (ترتمي على ظهرها)
إن الله - بالنسبة إلى شخص عرف ما عرفت - قد انتهى. وقد وجدت راحة النفس. (صمت. منيون يخر على ركبتيه ويصلي، ويمسك باري دي سيريزاي من ذراعه، ويبتعدان عن جان والآخرين وهما يتكلمان.)
باري :
كانت امرأة بريئة.
دي سيريزاي :
إنه لم يكن الشيطان، فقد كانت تتكلم بصوتها، وهو صوت امرأة بائسة، وهذا هو كل ما في الأمر.
باري :
ولكنها لجأت إلى الخيال المنحط واللغة القذرة في اعترافات أخرى، ولا يمكن أن يصدر ذلك عن امرأة من نساء الدير بغير عون. إنها تلميذة.
دي سيريزاي :
لجراندير؟
باري :
نعم له.
دي سيريزاي :
ولكن الرجل يقسم أنه لم يزر المكان قط من قبل.
باري :
لم يزرها بشخصه.
دي سيريزاي :
لا بد من وسيلة نثبت بها ما تقول، هل تسمح لرجالي بدخول البيت؟ إنهم سيقومون بالمباحث على مستوى رجال الشرطة.
باري :
هل تريد الإثبات؟ ذكر ثلاث من الأخوات أنهن مارسن الاتصال بالجن وفقدن بكارتهن، وقد فحصهن مانوري، ولم يجد واحدة منهن بكرا.
دي سيريزاي :
أبي العزيز، لست أريد أن أسيء إلى إحساسك، ولكنا جميعا نعلم الاتصال العاطفي الذي يتم بين الشابات في هذه الأماكن.
10
باري :
أنت لا تريد أن تقتنع.
دي سيريزاي :
بل أريد، وبكل شدة، أن أقتنع بهذا أو بذاك. (دي سيريزاي ينصرف، باري يتلفت، ومانوري وآدم يقتربان.)
آدم :
ماذا جرى؟
مانوري :
أمور تفتن البصر.
آدم :
غير عادية.
مانوري :
يجب أن أقول ذلك، لا يمكن أن يكون الجحيم مملا كما يصوره بعض الناس، ها ها، ماذا ترى؟
آدم :
هذه الأمور!
مانوري :
أقول لك الحق إني أعتقد أننا لو عالجنا هذه القضية في كتاب خاص نطبعه وجدنا له سوقا رائجة. هل نكتب هذا الكتاب؟
آدم :
دعنا نفعل ذلك. (يقتربان من باري.)
باري :
هل فحصتها؟
مانوري :
نعم، وسأقدم لك تقريري فيما بعد.
باري :
هل يمكنك حتى آنئذ أن تذكر لي شيئا يعينني على المضي؟
مانوري :
إنني كرجل صاحب مهنة ...
آدم : : إنه يتحدث عني.
مانوري :
لا أريد أن ألتزم بشيء.
باري :
حتى ...
مانوري :
حسنا، دعني أقول لك ذلك، كانت هناك أمور تدور في الخفاء.
باري :
لا تخفف اللفظ، كانت هناك فاحشة.
مانوري :
ذلك أقرب ما تكون.
باري :
الشهوة، لقد نالوا منها.
آدم :
أظن ذلك.
باري :
شكرا سيدي، ذلك كل ما أريد، انظروا. (يسود الصمت، جراندير يسير على مبعدة، ينصرف باري ومانوري وآدم، جراندير يقترب، تهرع إليه فيليب.)
فيليب :
قالوا: إنك كنت في بيت الحاكم.
جراندير :
إنني قادم من هناك لتوي، ما الأمر؟
فيليب :
أريد أن أعرف، هل كنت قلقة في الليلة الماضية؟ كان لا بد لي أن أتركك قبل أن تشرق شمس الصباح، وقد انصرفت في هدوء بقدر ما استطعت، فهل أزعجتك؟ يهمني أن أعرف.
جراندير :
لست أذكر، لماذا يهمك ذلك؟
فيليب :
إنك لا تذكر. (تضحك ضحكة مفاجئة مذهلة جافة.)
جراندير :
سيري معي إلى الكنيسة.
فيليب :
لا.
جراندير :
حسنا جدا.
فيليب :
ليست بي حاجة إلى كرسي الاعتراف لأقول ما أريد أن أنبئك به؛ إني حامل. (صمت.)
جراندير :
هكذا انتهى الأمر.
فيليب :
أنا مذعورة.
جراندير :
بالطبع، كيف يكون لي طفل؟
فيليب :
أنا مذعورة جدا.
جراندير :
كانت في حبنا جرأة شديدة، أليس كذلك يا فيليب؟ في خلال ليالي الصيف جميعا، لشد ما كان بعدنا عن الخوف في كل مرة اختلطنا معا، كنا نضحك ونحن نثير في أنفسنا الروح الحيواني، هل تذكرين؟ والآن يلتهمنا هذا الحيوان!
فيليب :
أعني.
جراندير :
وكان كل منا خلاصا للآخر، هل كنت حقا أعتقد في إمكان ذلك؟
فيليب :
إنني أحبك.
جراندير :
نعم لقد آمنت بذلك، وأذكر أنني تركتك ذات يوم، وكنت بارعة بدرجة غير عادية.
فيليب :
يا إلهي!
جراندير :
وقد امتلأت بتلك الثقة البذيئة التي تعقب الوصال الكامل، وطرأ لي وأنا منصرف - نعم طرأ لي وأنا في وقاري - أن الجسم يمكن أن يجاوز الغرض منه، يمكن أن يبلغ من الطهر ما يجعله معبودا إلى أقصى حدود الخيال. كل شيء جائز، وكل شيء حق. ومثل هذا الكمال يؤدي إلى فهم حالة الوجود الممقوتة.
فيليب :
لامسني.
جراندير :
ولكن إلى أي شيء صار الجسم؟ هل هو كالبيضة، هل أمسى مصدرا للملل وللنفور والاشمئزاز. إلى هذا انتهى؟
فيليب :
وأين الحب؟
جراندير :
نعم، أين هو؟ اذهبي إلى أبيك، أخبريه بالحقيقة، ودعيه يجد لك رجلا طيبا، إنهم موجودون.
فيليب :
أعني.
جراندير :
كيف أستطيع معونتك؟ خذي يدي، هذه هي، كأنك تمسين ميتا، أليس كذلك؟ رافقتك السلامة يا فيليب. (جراندير ينصرف.) *** (الصيدلية. آدم ومانوري والأب منيون) (الأب باري يصيح صيحة جافة وهو يظهر في أعلى السلم، يقبل وكأنه مخمور ويتفرق الآخرون مذعورين.)
باري :
منعوني من دخول الدير هذا المساء، منعني حراس مسلحون.
منيون :
يا إلهي، يا إلهي، ماذا جرى؟
باري :
أصدر كبير الأساقفة أمرا شرعيا يحرم إخراج الشياطين ويحرم التحري بعد اليوم.
منيون :
إطلاقا!
باري :
فعل ذلك استجابة لرجاء دي سيريزاي ودارمنياك، وما هو أدهى من ذلك أن الطبيب الخاص لكبير الأساقفة - ذلك الرجل الأحمق الذي يؤمن بحكم العقل - استولى على النساء بغير علمي، فحصهن، وأبدى رأيه بأنه ليس هناك تلبس حقيقي.
منيون :
وماذا عسانا فاعلون؟ عجبا، ماذا عسانا فاعلون؟ (باري يهبط إلى الغرفة.)
باري :
يرى دي سيريزاي ذلك عملا من أعمال العدالة، وهو لا يدرك أن أمثال هذه الأمور تقع مباشرة في أيدي الشيطان، فإنك إن ساورك شك معقول في ارتكاب خطيئة إنسانية، خف الشيطان إلى الإغواء. (يصيح مكدودا)
لا يمكن أن يكون في ارتكاب الإثم شك معقول؛ إما كل شيء أو لا شيء.
منيون :
طبعا! طبعا! ليس للعدالة شأن بالخلاص. اجلس، اجلس.
باري :
إن عمل حياتي يهدده أسقف كبير فاسد، وطبيب متحرر، وقانوني جاهل.
آه أيها السادة، سوف يسعد الجحيم هذه الليلة. (صمت.)
مانوري :
هل قضي علينا إذن؟
آدم :
يظهر ذلك.
مانوري :
انتهى كل شيء.
آدم :
رباه.
مانوري :
يا للأسف.
منيون :
دعنا نصلي.
آدم :
ماذا قلت؟
منيون :
دعنا نصلي.
آدم :
من أجل ماذا؟
منيون :
دعني أفكر ...
آدم :
لقد أصبت.
منيون :
أعرف ذلك.
آدم :
ثم ماذا؟
منيون :
دعنا ندعو الله أن يصيب كبير الأساقفة برؤيا شيطانية ...
باري (لمانوري) :
سوف أعود إلى أبرشيتي.
منيون (لآدم) : ... رؤيا شيطانية مفزعة ...
باري (لمانوري) :
عندي عمل هناك.
منيون (لآدم) :
وهو كذلك رجل عجوز، ربما استطعنا أن نروعه حتى يموت.
باري :
الزم الصمت يا منيون، إنما أنت تهذي.
منيون :
لا تتخل عنا.
باري :
لا مناص من ذلك.
منيون :
من الطبيعي أن تضايقك هذه النكسة، ولكننا سوف نجد منها مخرجا.
باري :
كلا، فإن أمر كبير الأساقفة يجعل الشر مستحيلا في هذا المكان في الوقت الحاضر، ولكن الأمر لا ينطبق في أبرشيتي، وثق أن الشيطان يدق الطبول هناك داعيا، ولا بد أن أجيب الدعوة.
منيون :
سوف نفتقدك كثيرا جدا.
باري :
إن همسة واحدة من الجحيم تردني إليكم يا صديقي العزيز. *** (دارمنياك وسيريزاي على المائدة، يقترب منهما جراندير بشكل رسمي.)
جراندير :
أعتقد أنه لا بد لي من أن أشكرك يا سيريزاي؛ لأنك عملت على إيقاف هذا الاضطهاد، إنني أفعل ذلك الآن.
دي سيريزاي :
فعلت ذلك نيابة عنك أيها الأب، غير أني لم أفعله من أجلك وحدك؛ إن السرك المقام في الدير قد بدأ يجتذب في المدينة قدرا كبيرا من الانتباه الذي لا نرحب به، ومن واجبي أن أحتفظ بشيء من النظام في المكان.
دارمنياك :
إنك لا تسهل الأمور لأصدقائك يا جراندير، لقد أخبرني ترنسانت بقصة ابنته. عندك العاهرات، لماذا فعلت ذلك؟
جراندير :
كان ذلك إحدى الطرق.
دارمنياك :
الطرق إلى ماذا؟
جراندير :
كل أمور الدنيا لها غرض واحد لرجل مثلي، السياسة، والسلطة، والحواس، والثراء، والفخر، والنفوذ، إنني أنتقي منها بنفس العناية التي تنتقي بها أنت يا سيدي سلاحك، ولكن هدفي مختلف، إنني أريد أن أصوبه إلى نفسي.
دارمنياك :
لكي تجهز على نفسك؟
جراندير :
فإني في حاجة شديدة إلى الاتحاد بالله، إن العيش قد اعتصر مني الحاجة إلى الحياة، وقد آلت قدرة الحواس عندي إلى الإنهاك المطلق. إنما أنا رجل ميت مرغم على العيش.
دارمنياك :
إنك تنفرني، إنما هذا مرض.
جراندير :
كلا يا سيدي، إنما هو المعنى والغرض.
دارمنياك :
لست ممن يجادلون بسفسطة، ولكن قل لي إنني أرى أن القضاء على النفس بشكل قاطع ظاهر ليس من الأمور المحللة، ولكن أليس خلق ظروف موتك - وهو ما تفعل أنت فيما يظهر - كذلك من الإثم؟
جراندير :
اترك لي شيئا من الأمل.
دارمنياك :
الأمل في أن يبتسم الله من جهودك في خلق عدو يبلغ به الشر أن ينزلك، ومن ثم يرفعك - إلى أعلى.
جراندير :
نعم.
دارمنياك :
بين يدي خطاب من باريس، إنه يسعدك، إنك في تأييدك لموقفي فيما يتعلق بالحصون خلقت عدوا ممتازا. ريشيليو، إن الملك يقف حتى الآن إلى جانبي ضد الكاردينال، ولكن الملك لو فشل أو تردد انهارت هذه المدينة. وربما حققت أمنيتك لأنك مشتبك في الأمر اشتباكا عميقا، ولكني - برغم ذلك - سوف أستمر في حمايتك مما أعتقد أنه طريق مروع جدا، وفلسفة جد كافرة.
جراندير :
هذا ما أبغي يا سيدي، لا تكف يدك عني. فكر في حقيقة الأمر. إنني أبلغ نهاية نهار طويل. أشعر بالدفء والشبع والاطمئنان، وأقصد بيتي، وفي طريقي ألمح غريبا في الجانب الآخر من الشارع، وربما كان طفلا. وأحيي صديقا. وأرقد متطلعا إلى وجه امرأة نائمة. إنني أرى هذه الأشياء في عجب وفي أمل، ثم أسأل نفسي: هل يمكن أن يكون ذلك هو الوسيلة إلى غايتي؟ بيد أن ذلك ينكر علي. (يخفي جراندير فجأة وجهه بين راحتيه.)
يا إلهي! يا إلهي! إن كل شيء يخيب رجائي.
دارمنياك :
هل أنت خائف يا جراندير؟
جراندير :
نعم، نعم، نعم، أنا مخذول. *** (حديقة الدير. جان وكلير تجلسان على دكة لويز وجبرائيل على الأرض عند قدميهما. أختان مجهولتان تقفان قريبا. صمت رهيب.)
لويز :
ماذا عسانا فاعلون يا أمي؟
جان :
فاعلون؟
لويز :
إن الناس يسحبون أطفالهم منا.
جان :
ومن يلومهم على ذلك؟
كلير :
ليس من يعين. علينا أن نقوم بكل أعمال البيت بأنفسنا، وهو شاق جدا.
جان (تضحك فجأة) :
لماذا لا تطلبين إلى الشياطين أن يعيروك يدا؟
كلير :
أماه.
جبرائيل :
لقد قمت ببعض الغسيل وبعض الحياكة، لعلك لا تعترضين يا أمي.
جان :
أنت فتاة عاقلة، إذا كان الجحيم يتخلى عن المعونة فعلى المرء أن يلجأ إلى العمل الشاق، أليس كذلك؟
جبرائيل :
أعرف أنك لم تحبي لنا قط أن نقوم بالأعمال الوضيعة.
جان :
قلت: إن ذلك يهبط بالنساء اللائي ينخرطن في سلك مهنتنا (تضحك) .
ألم أقل ذلك؟
جبرائيل :
أجل. (صمت.)
لويز :
أماه ...
جان :
نعم بنيتي؟
لويز :
لماذا حرم كبير الأساقفة على الأب باري أن يأتي لزيارتنا بعد ذلك؟
جان :
لأنه قيل لكبير الأساقفة إننا نساء حمقاوات مخدوعات.
لويز :
أماه ...
جان :
نعم؟
لويز :
هل أذنبنا؟
جان :
بما فعلنا؟
لويز :
نعم، هل سخرنا من الله؟
جان :
لم أقصد ذلك.
ولكننا سخرنا من «الإنسان»، وهذا أمر آخر! إنه مخلوق عجيب، يدعو إلى السخرية، وربما لم يخلق إلا من أجل ذلك، شامخ برأسه منتش بعمله، مما يدعو إلى الاستخفاف به، مستغرق في اختراع معبودات زائفة يبرر بها وجوده، فيصم أذنيه عن الضحك، ولا يرى بعينيه شيئا إلا نفسه؛ فهو أعمى عن شارات السخرية التي يلوح بها في وجهه.
وهكذا يسير مخمورا؛ أعمى وأصم. خير موضوع للتفكه العملي، وهنا يا إخوتي يجد الأبناء التعسين من أمثالي مجالا لأداء أدوارهم. إننا لا نسخر من أبينا المحبوب في السماء. إننا نحتفظ بضحكاتنا نوجهها إلى أبنائه التعسين المذنبين الذين يرتفعون عن مستواهم ويعتقدون أن لهم هدفا آخر في هذه الدنيا غير الموت. بعد أوهام السلطة تأتي أوهام الحب. عندما يعجز الإنسان عن التحطيم يبدأ في العقيدة بأنه يستطيع الخلاص بالتسلل إلى زميل له في الإنسانية، وهكذا يخلد نفسه. إنه لا يفتأ يكرر قوله: أحبني، أحبني، أعزني، احمني، أنقذني. إنه يقول ذلك للجنس البشري كله، ولا يقولون ذلك لله قط، وربما كان هؤلاء أشد ما يدعو إلى السخرية وأكثر من يستحق الازدراء؛ لأنهم لا يدركون مجد الفناء، هدف الإنسان العزلة والموت.
هيا بنا ندخل. *** (فوق الحصون. في المساء.) (دارمنياك ودي سيريزاي يدخلان من جهتين مختلفتين، متلفعين وقاية من المطر، ويصيحان ليسمع صوتهما خلال الريح العاصفة.)
دي سيريزاي :
دارمنياك، أنت هنا؟
دارمنياك :
لقد سقط الفارس عند المدخل، ووجدوا هذه الأوراق مبعثرة.
دي سيريزاي :
ماذا تحوي؟
دارمنياك :
لقد تراجع الملك في كلامه، وانتصر ريشيليو، ولا بد من دك حصون المدينة، وسوف تصبح مكانا صغيرا، ولن يتجاوز نفوذي سلطان التاجر. (يظهر جراندير بعيدا من أسفل.)
دارمنياك :
هل هذا هو القسيس؟
دي سيريزاي :
نعم هو (يصيح)
جراندير!
دارمنياك :
إنه سوف يعاني (يصيح)
جراندير!
جراندير :
ما هو الأمر؟
دارمنياك :
لقد تحرك الكاردينال ضدنا.
دي سيريزاي :
فقد الملك أعصابه.
دارمنياك :
كل هذا لا بد أن يدك.
دي سيريزاي :
واسمك وارد ...
دارمنياك :
لن نلبث هنا طويلا.
دي سيريزاي :
ذكروا عنك المقاومة.
دارمنياك :
أنت في خطر.
جراندير :
شكرا لك.
دارمنياك :
ماذا تقول؟ لا أستطيع أن أسمعك، هل أنت مجنون؟ هل هو مجنون؟ دعنا نهبط. (دارمنياك وسيريزاي ينصرفان، جراندير يركع، والرياح تعصف والأمطار تنهمر من حوله.)
جراندير :
أبانا في السماء، لقد استرجعت القوة لأعدائي، والأمل لابنك المذنب. إنني أسلم نفسي إلى أيدي الدنيا مطمئنا إلى الإيمان بطرقك الخفية. لقد جعلت الطرق ممكنة، وأنا أدرك ذلك وأقبله، ولكنك تعمل خلف ستار من الجلالة، وأنا أخشى أن أرفع عيني وأنظر؛ اكشف لي عن نفسك، اكشف لي عن نفسك. (يتلاشى صوته.) (سكون.) *** (دي لوباردمنت - منيون)
لوباردمنت :
يجب أن نعمل بسرعة.
منيون :
نعم، نعم.
لوباردمنت :
يجب أن أرحل إلى باريس هذا المساء.
منيون :
بهذه السرعة؟
لوباردمنت :
هل يمكن أن يتم العمل في هذه الفترة؟
منيون :
يجب أن نحاول.
لوباردمنت :
قلب أفكارك في الموضوع.
منيون :
كنت أطلع على الموضوع وصادفتني قضية جوفريدي، في مرسيليا منذ عشرين عاما، هذا القسيس سحر كثيرات من أرسولين وفسق بهن.
لوباردمنت :
لسنا بحاجة إلى سوابق، نريد النتائج، هنا وفي هذه اللحظة استدعيهن. (منيون يسوق جان أمامه، تتبعهما كلير ولويز وجبرائيل، والأختين المجهولتين ويقف لوباردنت جانبا.)
منيون :
أيتها الأخوات المحبوبات في المسيح، لست سوى رجل عجوز غافل لم يعد أمامي فوق هذه الأرض وقت طويل أنفذ فيه إرادة الله ...
لوباردمنت :
هيا، ادخل في الموضوع.
منيون :
بنياتي، هل تثقن بي؟
جان :
بالطبع يا أبي.
منيون :
هل تثقن بي معلما روحانيا؟
جان :
دائما.
منيون :
حسنا، إنني في شدة الانزعاج من هذا التوقف المفاجئ للظواهر الشيطانية فيكم، وهم يروون في المدينة وفي أقاصي الريف قصصا مفزعة، يقولون إنكن لم تكن فعلا متلبسات بالشياطين، بل كنتن تمثلن وتستهزئن بمكانتكن الرفيعة، كما تستهزئن بمن هم أعلى منكن مكانة في الكنيسة.
جان :
هذا ما أنبأنا به طبيب كبير الأساقفة: تحدث عن الهستريا، وعن صيحة الأرحام.
منيون :
وكان من واجبك باعتبارك امرأة طيبة أن تبرهني على خطئه. أرجو أن تؤكدي لي أن الأمر صادق، وأنكن متلبسات.
جان :
كان الأمر صدقا، كنا متلبسات بالجحيم.
منيون :
ومن كان الباعث؟ من كان الساحر المخادع؟
جان :
جراندير! جراندير!
الأخوات :
جراندير! جراندير!
منيون :
ولكني الآن أخشى عليكن بشكل آخر؛ إن الدلائل كلها ضدكن وصمت الشياطين يدينكن. (صمت.)
منيون :
أفلا ترين أنهم
11
لا يتكلمون، ليس هناك ما يثبت فضيلتكن. آه أيتها الأخوات، هذا السكون ينذر بلعنتكن إلى الأبد. كم أخشى عليكن، إنني وجل، إذا تخلى عنكن الله وتخلى عنكن الشيطان وقفتن في الأرض المجهولة حائرات إلى الأبد. أتوسل إليكن أن تتدبرن الموقف.
جان :
أبي، إننا خائفات.
منيون :
وحق عليكن الخوف يا بنيتي.
جان :
لا تتخل عنا.
منيون :
ماذا أستطيع أن أفعل غير ذلك؛ سأصلي من أجلكن. (منيون يتجه نحو لوباردمنت.)
لفاياتان (يتحدث عن طريق جان) :
هل لي أن أقول كلمة؟
منيون :
حمدا لله، ما اسمك؟
لفاياتان :
لفاياتان.
12
منيون :
أين تسكن، أيها الشيء غير المقدس؟
لفاياتان :
في جبهة السيدة.
بهريت (يتحدث عن طريق جان) :
أنا في معدة المرأة، واسمي بهريت.
إيزاكرون (يتحدث عن طريق جان) :
أنا إيزاكرون الذي أتحدث، من تحت الضلع الأيسر الأخير.
بلايمي (يتحدث عن طريق كلير) :
أنا هنا (صوت آخر)
وأنا.
إيزاز (يتحدث عن طريق لويز) :
وأنا (صوت آخر)
وأنا هنا. (ضجيج من أصوات شيطانية، ضحكات استهزاء، أصوات كأصوات الخنازير، صراخ، عواء.) (دي لوباردمنت يتحرك إلى منيون.)
لوباردمنت :
حسنا ما فعلت، ولا بد أن يعود باري من شينون، ويجب أن يبدأ في إخراج الشياطين فورا، وعلنا، بحضور ممثل البلاط، وعليك تنفيذ ذلك.
منيون :
افتحوا الأبواب، افتحوا الأبواب. (جمهور كبير من الناس يتدفق في القصر، رجال ونساء من المدينة، عامل المجاري، آدم ومانوري، ترنسانت، قزم، مخلوق، طبال، نساء ضاحكات، كلاب، وأطفال يتسلقون إلى مواقع ممتازة يشاهدون منها.) (من أسفل: الأخوات يقمن بحركات عجيبة، جان على يديها وركبتيها تشم الأرض، وكلير ترفع طرف ردائها فوق رأسها وتعرض نفسها في مشية كئيبة. أما لويز وجبرائيل فتلتصقان في عناق، ويكونان شكل حيوان. وعنهن جميعا تصدر صيحات شيطانية خشنة كأصوات الذكور أصوات غير واضحة، مختنقة، ضارعة، خليط من فحش القول. وسرور أهل المدينة بالغ، يلوح بعضهم لبعض بإشارة تنم عن السرور الشديد، وبعضهم يحث الأخوات على المبالغة، وتثير الإعجاب أخت مجهولة ، خفيفة الحركة كأنها بهلوان. وقد انكبت جماعة على الطعام والشراب وأخذت تراقب ما يجري. الأجراس تجلجل من فوق قمة برج كنيسة القديس بطرس.) (يدخل باري دخول الظافرين، حاملا صليبا من الذهب مرصعا بالجواهر في أعلام تمثال المسيح وهو مصلوب، الصليب يتلوى ويلمع بين يديه المرتعشتين. ويقبل رانجير من طريق آخر، وثلاثة رهبان من دير الكرمل من جانب آخر، ويقترب منيون منهم، ويجتمعون جميعا.)
باري :
بعثتم في طلبي.
منيون :
نعم، نعم.
باري :
هل انتصر الخير؟
منيون :
نعم، لقد انتصر.
باري :
إن دي سيريزاي ...
منيون :
باه!
باري :
ودارمنياك ...
منيون :
قذارة!
باري :
هل هما هنا؟
منيون :
كلا.
رانجير :
لا يجرءون على إظهار وجوههم.
باري :
نصرة الخير، كم أحب هذه الكلمات، سأقولها مرة أخرى إنها نصرة الخير. (أخت مجهولة تخدش الأرض بيديها عند قدمي باري.)
باري :
اهدئي أيتها الأخت. (باري يمسها بالصليب، دون جدوى؛ ولذا فهو يركل المرأة جانبا في وحشية.)
رانجير :
مندوب الملك هنا.
باري :
من الذي أرسله؟
رانجير :
الأمير هنري دي كندي.
باري :
رجل يجري فيه الدم الملكي؟
رانجير :
لا أقل من ذلك.
باري :
حسنا جدا (يصيح)
أيها الجند! (يدخل الرماة، ويبعدون الجمهور إلى الوراء. يكاد يسود الصمت. يقف الرماة صفا أمام الجمهور فيعزلون الأخوات.)
لفاياتان (يتحدث عن طريق جان بصوت مرتفع) :
أين العدو؟
باري (في زهو شديد) :
أنا هنا.
لفاياتان :
من أنت؟
باري :
لست سوى رجل متواضع، ولكني أتكلم باسم يسوع المسيح. (لفاياتان يصيح صيحة عالية، وتصدر أصوات مختلطة من الشياطين الأخرى، ويظهر السرور على الجمهور.)
باري :
منيون، آتني بالماء، وكتاب القداس، وقمصان الكهنوت، والوعاء المقدس، وظفر القديس، وقطعة من الصليب الحق، وأمدني بها جميعا.
منيون :
الأسلحة الربانية، هذه هي. (رهبان الكرمل يأتون بهذه الآثار ويرتبونها.)
باري :
لا بد أن أستعد. (باري يخر على ركبتيه ويصلي. الجمهور يصمت. يدخل هنري دي كندي، يستند إلى ولدان مصبوغين بالألوان وكأنه من قوم لوط. رجل فخم أنيق ينظر إلى باري لحظة، ثم يتكلم.)
دي كندي :
لست أريد يا أبي العزيز أن أزعجك في صلواتك ، ولا أقول قط أن فردا من الأسرة المالكة يتقدم على الله ... ولكن ...
باري (وقد نهض على قدميه) :
أنا في خدمتك يا سيدي.
دي كندي :
شكرا، أعتقد أن هؤلاء هن النساء الهاذيات.
باري :
كلهن متلبسات بشيطان أو أكثر.
دي كندي :
والباعث رجل من شعبك.
باري :
نعم، إنه قسيس.
دي كندي :
لا يبدو عليك السرور.
باري :
السرور؟
دي كندي :
لا عليك من هذا.
باري :
لو أخذت مكانك يا سيدي شرعت في العمل.
دي كندي :
حسنا. (يتجه دي كندي إلى مكان معد عن كثب ويجلس شاخصا إلى المنظر، والولدان يلعبون من حوله كالفراش، وقد بات الأخوات مكدسات في غير نظام، مكدودات، وكأنهن من سقط المتاع الملقى على الأرض. باري يرتدي عباءته ويستعد بمعونة منيون ورانجير.) (يجذب دي كندي أحد الولدان إليه.)
دي كندي :
هؤلاء نسوة يا عزيزي. حدق ببصرك، وتقيأ إن أردت. منهن ولد الإنسان. أشياء مقززة، قذرة، إنهن كالأرض التي تنبث. إن البيض يفقس الصغار في الروث. لا تلو أنفك الصغير يا حبيبي المدلل. خذ هذا العطر. بعض الرجال يحبونهن؛ القسيس جراندير على سبيل المثال، لقد التقط اللحم من الحساء، إنه ... (دي كندي يهمس في أذن الصبي، تتسع عينا الصبي، يضحك دي كندي، باري يتقدم.)
باري :
ائذن لي يا سيدي أن أبدأ.
دي كندي :
ابتدئ.
باري :
عندي أولا تصريح أريد أن ألقيه، هذا يا سيدي (يرفع القدح)
يحتوي على القربان المقدس. (يضع باري القدح على رأسه ويركع.)
باري :
أبانا في السماء، اللهم أصبني بالخزي وأنزل بي لعنة داتان وإبيرام إن أنا في هذا العمل أذنبت أو ارتكبت أي نوع من أنواع الخطأ.
دي كندي :
إشارة حميدة جدا، برافو. (باري ينهض ويتجه نحو جان.)
باري :
لفاياتان، لفاياتان.
لفاياتان (يتحدث عن طريق جان، ويغلب عليه النوم) :
اعزب عني.
باري :
تيقظ.
لفاياتان (يتحدث عن طريق جان) :
إنك تضايقني.
باري :
باسم سيدنا يسوع المسيح ...
لفاياتان (يتحدث عن طريق جان) :
لا تقحم اسم هذا الدجال في المحادثة.
باري :
إنه يزعجك، إيه؟
لفاياتان (يتحدث عن طريق جان) :
إنني لا أحتمل الحمقى مسرورا، كل ذلك الحديث عن المحبة له أثر مخدر للنفوس. ولم يكن الرجل فوق ذلك مهذبا.
دي كندي :
أيها الأب المقدس ...
باري :
نعم، سيدي.
دي كندي :
ألاحظ أنك لا تخاطب هذه المخلوقات باللاتينية، كالعادة، فلماذا؟
باري :
إنهم لا يتحدثون هذه اللغة، وأرجو أن تعلم يا سيدي أن من الشياطين المتعلم وغير المتعلم.
دي كندي :
تماما.
لفاياتان (يتحدث عن طريق جان) :
إنني لم أسافر كثيرا. (ضحك عميق، وتعقبه الشياطين الأخرى.)
باري :
استمع إلي أيها القذر ...
لفاياتان (يتحدث عن طريق جان) :
أنت دائما تنادي الأشخاص بأسمائهم.
باري :
سأذكر لك اسما، جراندير!
لفاياتان (يتحدث عن طريق جان) :
هذا صوت حلو أعده على مسمعي.
باري :
جراندير!
لفاياتان (يتحدث عن طريق جان) :
نعم إني أحبه.
باري :
هل تعرفه؟
لفاياتان (يتحدث عن طريق جان) :
نحن نخدمه، أليس كذلك؟
زابولون (يتحدث عن طريق كلير) :
نعم.
إيزاكرون (يتحدث عن طريق جان) :
نعم نخدمه، نعم نخدمه.
بهريت (يتحدث عن طريق جان) :
جراندير! جراندير!
بازاز (يتحدث عن طريق لويز) :
آه يا حبيبي، يا عزيزي، امسكني، خذ ... خذ ... آه.
زابولون (يتحدث على لسان كلير) :
جراندير! جراندير!
بهريت (يتحدث على لسان جان) :
جراندير! جراندير!
بازاز (يتحدث على لسان لويز) :
جراندير! جراندير!
لفاياتان (يتحدث على لسان جان) :
جراندير! جراندير! (الأرواح الشريرة في لغط.)
باري :
ليتحدث أحدكم نيابة عنكم جميعا. (رانجير ومنيون يسيران وسط الأخوات يرشان الماء المقدس فتتلاشى تدريجيا الصيحات والأصوات المرتفعة.)
دي كندي :
هل أستطيع، أيها الأب، أن أوجه السؤال إلى هذه الأشياء؟
باري :
بكل تأكيد يا سيدي. (رانجير ومنيون ورهبان الكرمل يدفعون الأخوات البائسات إلى الأمام حتى يقفن في صف تجاه دي كندي، الذي يحدق فيهن بازدراء.)
دي كندي (موجها الخطاب إلى الأخوات) :
أيها السادة
13
لقد أبديتم لنا آراءكم في صفة المخلص المبارك وقيمته (همس من الشياطين) ، أيكم يجيبني في موضوع ليست له إلا أهمية قومية؟
بهريت (يتحدث عن لسان جان) :
سأحاول.
دي كندي :
ستحاول؟ حسنا، ما اسمك؟
بهريت (على لسان جان) :
بهريت.
دي كندي :
اسمع يا بهريت ، أجبني عن هذا ، ما رأيك في جلالة ملك فرنسا ومستشاره الكاردينال العظيم؟ (صمت.)
دي كندي :
هيا، لا بد أن تكون لك بعض الآراء باعتبارك شيطانا سياسيا، أم هل تجد نفسك في المأزق الذي تجد نفسها فيه أكثر أحزاب المعارض؟ إذ لا بد لك أن تتحدث بأكثر من صوت.
بهريت (يتحدث عن لسان جان متمتما) :
لست أفهم.
دي كندي :
بل تفهم جيدا. إذا أنت أثنيت يا بهريت على الملك ووزيره فأنت تتسامح وتعني أن سياستهما جهنمية، وإذا أنت يا أختي جان هجوتهما فأنت تخاطرين بالخيانة ضد رجلين قويين، إني أعطف على موقفك الصعب. أبي باري ... (باري يتقدم بينما يتناول دي كندي صندوقا صغيرا من أحد الوالدان.)
دي كندي :
عندي هنا أثر له أعظم قيمة مقدسة أعارتني إياه كاتدرائية كبرى في الشمال، وأنا أشعر أن هذه الأجزاء والقطع التي جمعتها من مصادر محلية لا تقوى على تشتيت هذه الشياطين الوقحة، لماذا إذن لا تجرب هذا؟
باري :
ماذا بالصندوق يا سيدي؟
دي كندي :
قارورة من دم سيدنا يسوع المسيح. (باري يتناول الصندوق بين يديه باحترام ويقبله.)
دي كندي :
خبرني يا أبي، أي أثر يكون لاقتراب هذا الأثر قربا شديدا على أمثال هؤلاء الشياطين؟
باري :
إنه يرغمهم على الفرار.
دي كندي :
في الحال؟
باري :
فورا، ولكني لا أضمن - بالطبع - ألا يعودوا إذا أزيل الأثر.
دي كندي :
بالطبع لا تضمن، إننا نتطلب الكثير إذا توقعنا منك ذلك، هل تريد أن تجرب؟ (باري يتقدم نحو جان.)
باري :
باسم أبينا في السماء، أناشدكم، أيتها الكائنات المفزعة، أن ترحلوا، بفعل هذه المادة المقدسة. (باري يضع الصندوق على جبين جان، فترحل الشياطين عن جسدها في الحال، عن طريق فمها المشوه، وهي تصرخ عدة صرخات. صمت. ثم تنهض جان منتصبة وتتكلم في هدوء، في صوت فتاة صغيرة، وبشخصها.)
جان :
لقد تحررت، لقد تحررت. (تتجه إلى دي كندي، تركع، وتلثم يديه.)
دي كندي :
ما أشد سروري لأني أديت خدمة يا سيدتي.
باري (منتصرا) :
أرأيت؟ (دي كندي يتناول الصندوق من باري، ويفتحه ، ويقلبه، فإذا به فارغ.)
دي كندي :
أرأيت يا أبي؟
باري (بعد لحظة) :
آه سيدي، أية حيلة لعبت علي؟
دي كندي :
بل أية حيلة تلعب أنت علينا؟ (يسود الرجلين صمت. يبتسم دي كندي. الجمهور صامت. النساء مفزوعات. منيون يشق السكون في لحظة، يجري في دوائر صغيرة ممسكا برأسه الصغير بين راحتيه.)
لفاياتان (يتحدث على لسان منيون) :
أخديعة أخرى؟
بهريت (على لسان منيون) :
ابتعد. (منيون يصيح، بينما بهريت يدخل عنوة، ويبدأ رانجير فجأة في الصهيل كأنه حصان، ويرقص في رشاقة، ويتقدم ليعرض نفسه. وتبدأ الأخوات في الصراخ والعويل وقد أحسسن بالعطف، وتهب إحداهن نفسها لرانجير في فحش، فيمتطيها. ولا تبقى سوى جان وحيدة ساكنة. ويبدأ صبي إلى جوار دي كندي في الضحك الرنان بصورة هستيرية. ويسود الجمهور اضطراب. وتحل الشياطين بامرأتين. يتطلع باري حواليه في فزع، ثم يلوح بالصليب كأنه عصا، ويغوص بين الشياطين المحيطة به.)
باري :
إننا محاصرون، أخلوا المكان فورا. (رهبان الكرمل يطردون الأخوات ومنيون ورانجير وهما يرقصان، على عجل، والحراس يشتتون الجمهور، ويمر باري وسط الناس، ويمس بصليبه من به مس ومن ليس به مس، ويصيح.) ... per factorem mundi, per eum
qui habet potestatem mittendi te in
gehennam, ut ab hoc famuls Dei,
qui ad sinum Ecclesiae recurrit,
cum metu et exercitu furoris tui
festinus discedas .
14 (يبتعد رانجير ومنيون والأخوات، ويعقبهم باري، ويقصد الناس بيوتهم وهم يتثاءبون، ولا يزال الصبي الواقف إلى جوار دي كندي يضحك حتى تسيل من عينيه الدموع.)
دي كندي (باسما) :
اسكت أيها الصبي. (دي كندي يحدق في جان التي تقف أمامه، وحيدة، على مبعدة منه.)
كثيرا ما يتهمونني بالفسق يا أمي، حسنا، لما كنت من أبناء الأسر الرفيعة فإنه لا بد لي من الانحناء أكثر من غيري من الرجال. إنني أعرف - وأنا ملوث مبتل - ماذا أنا فاعل، وما ينبغي لي أن أعطي؛ فمن رأيي أن تنالي بغيتك من هذا الرجل جراندير، حيث إني أعرف كيف يسير العالم. ولكن هل تعرفين ما ينبغي لك أن تعطي؟ (عرضا) روحك الخالدة إلى اللعنة في صحراء لا متناهية من الهمجية الأبدية. (دي كندي والولدان ينصرفون، كلير ولويز تدخلان منفصلتين عن جان، أصوات مرحة.)
كلير :
لم أفلح قط في صلاتي .
لويز :
ولا أنا .
كلير :
كان بوسعنا أن نقضي حياتنا ركعا.
لويز :
دون أن يسمع بنا أحد.
كلير :
إنهم يبيعون صورتي في المدينة.
لويز :
إننا مشهورات في جميع أرجاء فرنسا.
كلير :
هل لا زلت منزعجة من اللعنة التي أصابتك؟
لويز :
كلا لم تعد اللعنة تزعجني.
كلير :
لم يحدث ذلك منذ ما سمعت الإعجاب بساقيك الجميلتين.
لويز :
حبيبة قلبي، فيم تفكرين الآن وأنت في المعبد؟
كلير :
في هذا وفي ذاك، في وسائل جديدة.
لويز :
مما يمتع؟
كلير :
نعم (جرس)
هيا. (تنصرفان وهما تضحكان، تقف جان صامتة برهة، ثم ...)
لفاياتان (على لسان جان) :
طهري عقلك من الزندقة، أيتها المرأة ذات الخلقة الغريبة.
جان :
أنا خائفة.
لفاياتان (على لسان جان) :
كلام فارغ، إننا نؤيدك في أي عمل تقومين به.
جان :
أريد أن أكون طاهرة.
لفاياتان (على لسان جان) :
ليس هناك شيء اسمه الطهارة.
جان :
رباه، رباه، كلا، بل هناك. (ترتفع أصوات النسوة من المعبد المجاور.)
لفاياتان (على لسان جان) :
كلا ليس هناك، تفكري يا عزيزتي وتذكري رؤى الليل، هو و... (ضحكات فاحشة) ، أوه، ذلك الشيء - وأنت متفتحة - كلا، كلا يا عزيزتي.
ليس هذا طهرا، بل ولا كرامة، فيم تفكرين؟ ليس فكرك كله دنس، بل كله سخيف، هل تذكرين؟ (تبدأ جان في الضحك. يشاركها لفاياتان. ظلام.) *** (مجلس الولاية في المساء.) (لويس الثالث عشر - ريشيليو - الأب جوزيف - لافيريير وزير الدولة) (دي كندي منعزل.) (دي لوباردمنت يتقدم ويخاطب المجلس، يقف إلى جانبه كاتب، يسلمه أوراقا لها بالموضوع صلة بين الحين والآخر.)
لوباردمنت :
صاحب الجلالة، صاحب الفخامة، طلبتم إلي أن أقدم تقريرا عن حالة التلبس في لودان، اسم الرجل أربان جراندير.
دي كندي :
إنه بريء. (الرجلان يوجهان الخطاب إلى المجلس.)
لوباردمنت :
أشار علي القسيس في تلك الناحية ورجال الطب المشهورون بأن التلبس حقيقي.
دي كندي :
وأنا كذلك كنت هناك، الرجل بريء.
لوباردمنت :
أجرى البحث في بيت جراندير فوجدت به مخطوطات متنوعة: وجدت به رسالة كتبت منذ بضع سنوات موجهة إلى فخامتك، وهناك أوراق أخرى تؤيد تعضيد جراندير لدارمنياك في موقف التحدي الذي يقفه بشأن حصون المدينة، وهو الموقف الذي أغضبك كثيرا يا صاحب الجلالة، ووجدت أيضا رسائل ومذكرات ذات صبغة شخصية، وجدت رسالة عن «عزوبة رجال الكهنوت»، والظاهر أن الرجل كان في حالة عشق عندما كتب هذه الرسالة، ويروى أن زواجا صوريا تم مع إحدى بنات النائب العام، ووجدت كذلك رسائل من نسوة أخريات، والظاهر أن إحدى هذه الرسائل تشير إلى أنه قد ارتكب الحدث الأكبر في الكنيسة.
دي كندي :
من أجل محبة المسيح أقول لكم: إن أردتم أن تهدموا الرجل فلتهدموه، لم آت هنا لأشفع له في حياته، بيد أن وسائلكم مخجلة. إنه يستحق خيرا من هذا جزاء كل رجل يستحق أكثر من ذلك. اقتلوه بالقوة، ولكن لا تجسسوا في بيته، وتتلمسوا مثل هذه الأدلة ضده. أي رجل يستطيع أن يواجه الاتهام على أساس حماقة الشباب ورسائل الحب القديمة وتلك الأشياء العاطفية التي توجد في الأدراج أو في أسفل خزائن الملابس يحفظها صاحبها خشية أن يحتاج ذات يوم إلى الذكرى بأنه أحب ذات مرة؟ كلا، حطموا الرجل لمعارضته، أو لقوته، أو لعظمته، ولكن لا تحطموه من أجل هذا.
لوباردمنت (إلى المجلس) :
الآن يجب أن أقدم أي شهادة في مصلحة الرجل ... (يقاطعه ريشيليو بإشارة منه.)
ريشيليو :
إن الشيطان لا ينبغي أن يصدق حتى عندما يقول الحق.
لوباردمنت :
سأعمل طبقا لأوامرك فورا. (دي لوباردمنت يتقدم، يتجمع حوله الحراس، ثم ينطلقون.) *** (صباح رائع.) (جراندير يتقدم نحو عامل المجاري حاملا باقة من الزهور.)
العامل :
ما هذه؟
جراندير :
لا بد أني التقطتها في مكان ما، لست أذكر، خذها لك.
العامل :
شكرا، رائحتها حلوة، وهي مناسبة جدا.
جراندير :
هل أستطيع أن أجالسك؟
العامل :
طبعا، مع أني لم أرتكب ذنبا هذا الصباح، آسف.
جراندير :
دعني أنظر إليك.
العامل :
هل تحب ما ترى؟
جراندير :
جدا.
العامل :
ماذا حدث؟ إنه مشبع بالغموض.
جراندير :
كنت خارج المدينة، كان هناك رجل يحتضر، قضيت معه يوما وليلتين، وكانت هذه المرة المائة التي أشاهد فيها الموت، كان النضال فاحشا، وهو كذلك دائما.
فمرة أخرى أرى رجلا عجوزا أحمق آثما يترك الدنيا بعد أن فات أوان الوفاق. شدد قبضته على يدي حتى عجزت عن الحركة، ورفع وجهه الملوث نحوي في دهشة ليس لها معنى مما كان يحدث له؛ ولذا فقد بقيت هناك وسط روائح الأطعمة الفاسدة في المطبخ، بينما أخذ أفراد الأسرة يتجادلون في الظلام هامسين، بين العبرات، عن مقدار المال الموجود تحت الفراش.
كان رجلا قذرا، عجوزا، لا ينم عن مخايل الذكاء، وقد أحببته حبا جما، وغبطته كثيرا؛ لأنه كان يقف على عتبة الحياة الأبدية، أردت له أن يتجه نحو الله، ولا يتطلع وراءه خلال الضوء المعتم، ويحدق مشغوفا في هذه الدار الأولى. قلت له: كن مسرورا، كن مسرورا، ولكنه لم يفهم.
وتراخت روحه عند الفجر ولم تستطع أن تجتاز يوما آخر، وصدرت عن الأسرة صيحات الذعر. أخرجت الأشياء الضرورية التي أحتفظ بها في هذه الحقيبة، واعترف لي بخطاياه الدنيئة الصغيرة، ومحوتها عنه، وأمكن للرجل أن يموت، وفاضت روحه، وقد تشبث بالحياة إلى آخر رمق.
ووجهت إلى الأسرة حديثي المعتاد، بوجه القسيس، وهكذا أديت واجبي.
ولكني لم أستطع أن أنسى حبي للرجل.
خرجت من البيت، فكرت في العودة على قدمي، وأستنشق النسيم بعد غرفة الموت الضيقة، وطرقت أذني دقات جرس كنيسة القديس بطرس، وكان الطريق متربا. إني أذكر اليوم الذي قدمت فيه إلى هذا المكان: كنت أرتدي حذاء جديدا، كان مبيضا من التراب، هل تعلم أني نفضت عنه التراب برداء الكهنوت قبل أن يستقبلني الأسقف. كنت في ذلك الحين مغرورا أحمق، وكنت كذلك طموحا.
وتابعت المسير، وكانوا يعملون في الحقول، ونادوني، وأني لأذكر كيف كان يحلو لي العمل بيدي حينما كنت صبيا، ولكن أبي قال لي: إن ذلك لا يلائم شخصا في مثل أسرتي.
واستطعت أن أرمق كنيستي على بعد، وكنت مزهوا، في صورة متواضعة، وفكرت في حبي لجمال هذا المكان الذي لم يكن جميلا جدا، وتذكرت الليل في المبنى، حيث يرى الذهب في الظلام مضاء بالشموع، وفكرت فيك، وتذكرتك صديقا.
وألقيت عصاي لأستريح، ورأيت الأرض ممتدة أمامي. هل تعرف أين يلتقي النهران؟
هناك قمت بالغزل ذات مرة.
ومربى الأطفال. نعم، هناك بطبيعة الحال حصلت على هذه الزهور، إنني لم ألتقطها إنما أعطيت لي.
وراقبت الأطفال وهم ينصرفون، نعم، لقد كنت مكدودا.
واستطعت أن أرى أبعد من مرمى النظر، قلاعا، ومدائن، وجبالا، ومحيطات، وسهولا، وغابات ... و...
ثم - آه، يا بني، يا بني - ثم أريد أن أقول لك.
العامل :
هيا خبرني، وكن هادئ النفس.
جراندير :
بني، إنني ... هل أنا مجنون؟
العامل :
كلا، بل عاقل جدا، خبرني، ماذا فعلت؟
جراندير :
صورت الله لنفسي. (صمت.)
جراندير :
صورته من النور ومن الهواء، من تراب الطريق، من عرق يدي، من الذهب، ومن القذارة، ومن ذكرى وجوه النساء، من الأنهار العظيمة، من الأطفال، من عمل الإنسان، من الماضي، من الحاضر، من المستقبل، ومن المجهول. صورته من الخوف ومن اليأس. وجمعت كل شيء من هذا العمل العظيم، كل ما عرفت، وما رأيت ومارست، ذنوبي، ومزاعمي، وغروري، ومحبتي، وكراهيتي، وشهوتي، وأخيرا وهبت نفسي. وهكذا صورت الله لنفسي، وكان عظيما؛ لأنه كل هذه الأشياء، وكنت بكليتي في حضرته، وركعت في الطريق وأخرجت الخبز والنبيذ.
hostiam
15
وبهذا الإدراك وهب الله لي نفسه عن رضى كما وهبت له من قبل نفسي. (صمت.)
العامل :
وجدت الطمأنينة.
جراندير :
بل أكثر من ذلك، وجدت المغزى.
العامل :
إن ذلك يجعلني سعيدا.
جراندير :
ثم وجدت العقل يا بني.
العامل :
وهذه هي الصحة.
جراندير :
لا بد أن أنصرف الآن، لا بد أن أذهب لأعبده في بيته، وأقدسه في معبده.
لا بد أن أذهب إلى الكنيسة. (جراندير يتقدم ويدخل الكنيسة. الجند يقفون مسترخين حول المذبح، ويتقدم لوباردمنت.)
لوباردمنت :
أنت ممنوع من هذا المكان.
جراندير :
ممنوع؟
لوباردمنت :
أنت قسيس فاسق، ليس عندك تقوى أو ورع، يجب ألا تدخل.
جراندير :
إنها كنيستي، كنيستي المحبوبة.
لوباردمنت :
لم تعد كذلك، أنت مقبوض عليك، وسوف تتلى عليك التهم، اتبعني، آتوني به. (جراندير بين الجند، يخرج من الكنيسة إلى ضوء الشمس ودي لوباردمنت يتقدم الطريق ، ويمرون خلال الشارع ، ويتطلع آدم ومانوري وترسانت من نافذة عليا وهم يضحكون في سخرية.) (وتشاهد المنظر فيليب ترنسانت وإلى جانبها رجل عجوز صامت.) (يتحرك رانجير ومنيون في الكنيسة، ومعهما مبخرة، يترنمان، ويخرجان الشياطين.) (وباري جاث على ركبتيه في الشارع أثناء مرور جراندير.) (وعامل المجاري يشاهد المنظر ويتجمع حوله زحام من أهل المدينة، محدثين ضجة، ومتسائلين. وبينما يسير جراندير، تمتلئ الطرقات والكنيسة بصياح الشياطين وضحكاتهم، التي تصدر من جميع الأفواه.) (ضحك. ضحك.) (ستار)
الفصل الثالث
(في المساء.) (حجرة سجن، تعلوها حجرة أخرى.) (جراندير وحيدا.) (ضحك وصياح يسمع على بعد من جمهور لا يرى. بنتان السجان، يتقدم نحو جراندير.)
بنتان :
هل نمت؟
جراندير :
كلا، كلا، الضوضاء، الجمهور، هل ناموا؟
بنتان :
لقد تدفق على المدينة ثلاثون ألف شخص، أين تظن يجد هؤلاء لهم أسرة؟
جراندير :
وهل هم بحاجة إلى النوم؟ هل كنت أنا أيام طفولتي أنام في الليلة التي تسبق الوليمة؟
بنتان :
لا شك أنهم يتطلعون إليها.
جراندير :
ماهي؟ اذكرها.
بنتان :
عقوبة الإعدام.
جراندير :
إنني لم أقدم للمحاكمة بعد.
بنتان :
حسنا، ليكن ما تريد، ولتجر المحاكمة.
جراندير :
هل أنت رجل رحيم؟
بنتان :
إنما هو نظامكم، وأحمد الله لو وجدت رجالا يقومون بالمهمة، لا تنتظر منهم أن يكونوا رءوفين كذلك، إنما أتيت لأنبئك أنك سوف تدعى في الصباح الباكر، وإذن فلتحاول أن تحصل على بعض النوم.
جراندير :
شكرا لك.
بنتان :
هل تريد أي شيء؟ ليس عندي الكثير مما أستطيع تقديمه.
جراندير :
لا شيء، لا شيء. *** (جان - الأب منيون)
جان :
لا ترحل.
منيون :
إنها الثالثة صباحا، وأنا رجل عجوز، بحاجة إلى النوم.
جان :
لا أريد أن أترك وحيدة معه.
منيون :
مع الرجل الذي عذبك؟ جراندير؟
جان :
نعم.
منيون :
إنه تحت الحراسة المشددة.
جان :
كلا، إنه هنا، في باطني، كالطفل. إنه لم يكشف لي قط أي نوع من أنواع الرجال هو؛ عرفته جميلا، وقال الكثيرون عنه إنه بارع، وقال كثيرون آخرون إنه شرير، ولكن برغم كل قسوته على روحي وبدني لم يأت قط بغير المحبة. كلا ، دعني أعبر عما في نفسي، أقول إنه في باطني، أنا في قبضة الشيطان، ولكنه ساكن، يرقد تحت قلبي، ويعيش في أنفاسي، وفي دمي، وهو يخيفني؛ أخاف أن أكون قد ارتكبت أجسم الأخطاء في هذا الأمر.
منيون :
ماذا تعنين؟
جان :
هل أخطأت؟ هل اتخذ الشيطان صورة الشخص الذي أحب، صورة محبوبي، ليخدعني؟
منيون :
أبدا، الرجل رسوله.
جان :
ما أشد ضآلة جسمي، إنه ميدان صغير للمعركة التي يتقرر فيها مصير هذا النضال الفظيع بين الخير والشر، بين الحب والكراهية، هل أخطأت حينما سمحت لهذا النضال أن تدور رحاه؟
منيون :
كلا، كلا، ألست تفهمين؟ إن هذه الأفكار عينها تتسرب إلى عقلك بقوى الخوف، ومن الخطأ أن تظني أن الجحيم يقاتل دائما بصليل السلاح. في هذه الآونة، في ساعات الفجر، يرسل الشيطان رسله سرا، يتهامسون بما يحملون من رسائل الشك.
جان :
لست أعرف، لست أعرف، إنكم جميعا تتكلمون بأصوات متعددة، وأنا مجهدة. (تصيح)
أبي، أبي. *** (جراندير وحيدا في غرفة السجن.)
جراندير :
سوف يكون هناك ألم، وهذا الألم سوف يقضي على اعتقادي في الله. إن خوفي يطرده الآن بالفعل.
نعم، نعم، لسنا سوى ذباب فوق الأسوار، نطن في حماره القيظ، هذه هي الحقيقة، هذه هي الحقيقة. كلا، كلا، بل نحن مخلوقات شائهة خلقنا في يوم واحد. لسنا سوى صلصال بين يدي طفل. يا للفزع، يجب أن نحفظ في القوارير ونعلق في الصيدلية، كأننا تحف، للتسلية فقط، إذن، لا شيء.
هل أحتمل الألم؟ أماه، أماه، اذكري خوفي! أوه، لا شيء، هذا الصباح على الطريق، ما هي القصة؟ لم تكن سوى خداع المعاني البسيطة. حيلة من حيل الشمس. شيء من تعب الجسم، ثم يشرع الإنسان في الاعتقاد بأنه خالد. انظر إلي الآن، أقلص يدي محاولا أن أقنع نفسي أن هذا اللحم وهذه العظام لها معنى.
ومع هذا فالأمر محزن، محزن، محزن جدا، يرى المرء في الصباح ما هو المجد، فإذا حل المساء زالت عنه الرؤيا.
أبانا في السماء، بالرغم من أنني أناضل بين ذراعيك كالطفل الغاضب ...
هذه الحاجة إلى إيجاد المغزى. أي كبرياء هذا. لسنا إلا ضحايا، لا شيء ينتهي إلى لا شيء.
دعني أتفرس هذا الفضاء. دعني أتفرس نفسي هل هناك شيء واحد، في الماضي أو الحاضر، يؤدي إلى غرض؟ (صمت)
لا شيء، لا شيء، من هناك؟ (يدخل الأب إمبروز، وهو رجل عجوز.)
إمبروز :
اسمي إمبروز.
جراندير :
أعرفك يا أبي.
إمبروز :
أنبأوني بمتاعبك يا بني، والليل قد يطول.
جراندير :
نعم، البث معي.
إمبروز :
فكرت في أن أقرأ لك، أو - إن آثرت ذلك - أدينا الصلاة معا.
إمبروز :
دعني أحاول.
جراندير :
كلا، أعني.
جراندير :
إنهم يهدمون إيماني، بالخوف والعزلة الآن، وبالألم فيما بعد.
إمبروز :
اتجه إلى الله يا بني.
جراندير :
لا شيء يتجه إلى لا شيء.
إمبروز :
الله هنا، والمسيح هو هذه اللحظة.
جراندير :
أجل هذه عقيدتي، ولكن كيف أستطيع الدفاع عنها؟
إمبروز :
بذكرك إرادة الله.
جراندير :
نعم، نعم.
إمبروز :
بذكرك إنه لا يجب أن يطلب منه شيء، ولا يجب أن ينكر عليه شيء.
جراندير :
أجل، ولكن كل هذا في الكتب، وقد قرأتها، وفهمتها، ولكن هذا لا يكفي.
لا يكفي، لا يكفي الآن على الأقل.
إمبروز :
الله هنا، والمسيح هنا.
جراندير :
أنت رجل عجوز، ألم تظفر بغير هذا النسيج المزركش في كل سني حياتك؟
إني آسف، لقد أتيت لصدقة خالصة، وأنت الوحيد الذي فعلت ذلك، أنا آسف. (إمبروز يفتح كتابا.)
إمبروز :
لا بد من إرادة الألم. ولا بد من إرادة المصاب. ولا بد من إرادة الذلة.
فإن بالإرادة ...
جراندير :
يمكن الإدراك، أعرف ذلك، أعرف ذلك.
إمبروز :
إذن أنت تعرف كل شيء.
جراندير :
لست أعرف شيئا، حدثني كرجل يا أبي، تكلم عن بسائط الأمور.
إمبروز :
أتيت لمعونتك يا بني.
جراندير :
تستطيع معونتي بكلامك كرجل؛ ولذا أرجوك أن تطوي الكتب، وانس ألفاظ الآخرين، ووجه خطابك إلي.
إمبروز :
آه، إنك تعتقد أن في البساطة سرا ما، نعم إنني رجل بسيط، فلم تساورني قط شكوك عظيمة، ولما كنت ساذجا وخجولا كنت بطبيعة الحال أقل تعرضا للإغراء من غيري؛ إن الشيطان يحب من العظمة أكثر مما استطعت أن أقدم.
كنت فتى فلاحا أتمسك بمحبة الله لأني كنت أشد نشازا من أن أطلب محبة الإنسان.
لست المثال الطيب يا بني، ومن أجل هذا أتيت بالكتب.
جراندير :
أنت تحط من قدر نفسك، ماذا ينبغي أن نعطي الله؟
إمبروز :
أنفسنا.
جراندير :
ولكني عديم القيمة.
إمبروز :
هل أذنبت كثيرا؟
جراندير :
كثيرا.
إمبروز :
حتى صغار الفتيات يأتين إلي في هذه الأيام، ويعترفن بأشياء لا أعلم شيئا عنها؛ ولذا فمن العسير علي أن أفهم ذنوب رجل فتى من رجال الدنيا مثلك، ولكن دعني أحاول.
جراندير :
كانت في حياتي نسوة وشهوة ... ونفوذ وطموح ... ودنيا وسخرية منها.
إمبروز :
تذكر، الله هنا، إنك تتكلم في حضرته، والمسيح هو هذه اللحظة، وأنت تكابد معه.
جراندير :
أخشى الألم المقبل، أخشى الذلة.
إمبروز :
هل كنت تخشى نشوة الحب؟
جراندير :
كلا.
إمبروز :
أو ذلة الحب؟
جراندير :
كنت أباهي بها، ولقد عشت بحواسي.
إمبروز :
وإذن فلتمت بها.
جراندير :
ماذا تقول؟
إمبروز :
امنح الله الألم، والرعشة، والنفور من الدنيا.
جراندير :
نعم، أمنحه نفسي.
إمبروز :
ليكشف لك عن نفسه بالطريقة الوحيدة التي تستطيع أن تفهمها.
جراندير :
نعم، نعم.
إمبروز :
تلك هي كل ما يستطيع أينا أن يفعل. إننا نحيا فترة وجيزة، وفي هذه الفترة الوجيزة نذنب، إننا نتجه إلى الله حسبما نستطيع، كل شيء يعفى عنه.
جراندير :
نعم أنا ابنه، هذا حق، وليقبلني كما أنا. وإذن فهناك مغزى، هناك مغزى على أي حال. أنا رجل مذنب، ومن الممكن قبولي، لست لا شيء متجها نحو لا شيء، إنما هو ذنب يتجه نحو العفو، إنه مخلوق بشري يتجه نحو المحبة. (بنتان يدخل.)
بنتان :
عليه أن يخرج الآن، يقولون إنك تستطيع أن تطلب الأب باري أو الأب رانجير إن كنت في حاجة إلى قسيس.
جراندير :
يقولون ذلك؟
بنتان :
في الخارج.
جراندير :
دي لوباردمنت؟
بنتان :
نعم هو.
إمبروز :
هل لا بد أن أخرج؟ هل يقول إني لا بد أن أخرج؟
بنتان :
نعم يا أبي، إنك خطر بسذاجتك، ولكنهم تأخروا عن الميعاد.
إمبروز :
لست أفهم.
جراندير :
من هذا الطريق أفضل، دعني أقبلك. (بنتان والأب أمبروز ينصرفان.) (جراندير وحيدا.)
جراندير :
ما هذه؟ دموع؟ متى حدث ذلك آخر مرة؟ ما هي الحكمة في الدموع؟
لا بد أن تكون لما يفقد المرء لا لما يجد؛ لأن الله هنا. *** (ضوء النهار المفاجئ. ضحك.) (كلير وجبرائيل ولويز يظهران في العراء.)
جبرائيل :
المدينة كالملهى.
كلير :
كانوا يغنون قريبا من نافذتي طوال الليل.
جبرائيل :
هناك بهلوانات، أتمنى أن نراهم، لقد أحببت البهلوانات.
كلير :
ألم يسل بعضنا بعضا بما فيه الكفاية بهذه الطريقة؟ (تضحكان.)
لويز :
يظهر أننا لم نعد نسلي الآخرين، لم يقترب منا منذ أيام أحد من القسس أو من كبار أهل باريس. (جان تقبل عليهما، غير ملحوظة.)
جان :
يجب أن تفهمي يا لويز أن محبوبي الجماهير لهم أيامهم التي تنتهي كغيرها من الأيام.
لويز :
هل انتهى كل شيء يا أمي؟
جان :
عاجلا، إنه يظهر أمام قضاته هذا الصباح، ليدلي بأقواله الأخيرة.
لويز :
لم أقصد الأب جراندير، إنما قصدتنا، ماذا عسانا ...
جان :
ثم ينطقون بالحكم، وأخيرا يكون «السؤال».
لويز :
وما مصيرنا يا أمي؟
لويز :
سوف نعيش، أمامك حياة طويلة، يا لويز الحسناء، فكري في الأمر. *** (حجرة السجن. مانوري وحيدا، يسمح لآدم بالدخول.)
آدم :
هالو.
مانوري :
هالو.
آدم :
هل أرسلوا في طلبك؟
مانوري :
نعم.
آدم :
وكذلك أرسلوا في طلبي، بأمر من لوباردمنت.
مانوري :
نعم.
آدم :
لقد أتيت بأدواتي، هل فعلت؟
مانوري :
نعم.
آدم :
الأدوات التي ظننت أنها ضرورية.
مانوري :
من العسير تحديد ذلك، أليس كذلك؟
آدم :
هل قمت بمثل هذا العمل من قبل؟
مانوري :
كلا.
آدم :
ولا أنا، هو ...م، الجو بارد هنا.
مانوري :
أجل.
آدم :
هل هو بارد في الخارج؟
مانوري :
نعم.
آدم :
بارد بالنسبة إلى الصيف.
مانوري :
بالنسبة إلى أغسطس، نعم. (دي لوباردمنت يقبل.)
لوباردمنت :
عمتم صباحا، أيها السادة، يسرني أن أجدكم هنا، لقد عادوا به من المحكمة، وهو في طريقه الآن.
مانوري :
ماذا تريدنا أن نفعل بالضبط؟
لوباردمنت :
تعدان الرجل، لقد وصلوا إلى القرار، بالإجماع، وأدين.
آدم :
حسنا، حسنا .
مانوري :
ليس في ذلك ما يدعو إلى الدهشة.
آدم :
هكذا انتهى الأمر.
لوباردمنت :
أريدكما أن تتعجلا ما استعطتما، لقد حظي هذا المخلوق بقدر هائل من العطف وهو يدلي بأقواله الأخيرة، بل لقد انهمرت من أجله دموع حارة؛ ولذا فإني أريد له أن يعود إلى هناك مهيئا ليستمع إلى الحكم بأسرع ما يمكن.
مانوري :
سنبذل جهدنا.
لوباردمنت :
هل تتفضل يا آدم لتقابل السجان، إنه يجمع المواد اللازمة ويضمها إلى بعضها.
هاتها بعدما ينتهي.
آدم :
حسنا سأفعل. (آدم ينصرف.)
لوباردمنت :
لقد كان للرجل تأثيره، وفسر باري ذلك بأنه من فعل الشيطان، فليس الهدوء إلا الوقاحة الجهنمية التي لا تدل على إحساس، وليست الكرامة إلا الزهو الذي لا يعرف الندم، ولكن الرجل برغم ذلك كان مؤثرا. (يأتي أحد رؤساء الحرس بجراندير، وجراندير في زيه الكهنوتي الكامل، يبدو أروع ما يكون.)
جراندير :
عم صباحا، سيدي الجراح.
مانوري :
وصباح الخير لك.
جراندير :
رأيتك من قبل يا لوباردمنت.
لوباردمنت :
يجب أن تعود إلى المحكمة فورا.
جراندير :
حسنا جدا.
لوباردمنت :
لتستمع إلى الحكم.
جراندير :
لقد فهمت.
لوباردمنت :
ولذلك أطلب إليك الآن أن تخلع ملابسك.
جراندير :
أخلع ملابسي؟
لوباردمنت :
إنك لا تستطيع أن تذهب في هذا الزي.
جراندير :
لست أحسب ذلك. (يخلع جراندير قلنسوته ثم يشرع في خلع الحرملة، يدخل آدم مع بنتان، ويحمل آدم صينية فوقها آنية بها ماء، وبعض الزيت، وموسى.)
جراندير :
صباح الخير، سيدي الصيدلي، ماذا تحمل؟
آدم (متلعثما) :
إنه موسى.
جراندير (بعد لحظة إلى لوباردمنت) :
هل يجب أن يتم بهذه الطريقة؟
لوباردمنت :
نعم هو أمر المحكمة. (مانوري يتناول الموسى ويجريه على إبهامه.)
جراندير :
عجبا سيدي الجراح، هل لم تنته بك دراستك وتجربتك كلها إلى غير هذا، إن سهر الليالي الذي أنفقته في دراسة وجود الوجود لم ينته بك إلى غير هذا، لتكون حلاقا؟
لوباردمنت :
هيا.
جراندير :
لحظة. (جراندير يمس خصلات شعره السوداء، ثم يداعب شاربيه بأصابعه.)
جراندير :
هل عندكم مرآة؟
لوباردمنت :
كلا، كلا، ليس عندنا بالطبع.
بنتان :
خذ هذا. (بنتان يتناول فنجانا فارغا من المعدن من فوق الصينية، يجلو قاعدة الفنجان بكمه ويسلمه لجراندير، يقف جراندير متطلعا إلى صورته طويلا وفي عمق شديد.) *** (مكان عام.) (جمهور كبير، من الريف ومن المدينة، يتثاءبون في استرخاء وينادي كل منهم الآخر.) (وعلى جانب مكان محجوز به بعض النسوة البرجوازيات في رداء فاخر، تصدر عنهن ثرثرة، ويرى كاتب وسط تلال من الكتب.) (صمت مفاجئ، كل الرءوس تتجه نحونا.) (ينهض الكاتب، ويقرأ ما يلي):
الكاتب :
أربان جراندير، لقد وجدت مذنبا لاتجارك مع الشيطان، وأنك استغللت هذا الحلف غير المقدس في امتلاك نفوس بعض الأخوات التابعات لنظام القديسة أرسولا، وغوايتهن والفسق بهن (وأسماؤهن مذكورة بالكامل في هذه الوثيقة) ، وكذلك وجدت مذنبا لفجورك، وتجديفك في حق الله، وانتهاك حرمات المعابد. وقد صدر الحكم بأن تتقدم وتركع عند أبواب كنيسة القديس بطرس ومعبد القديسة أرسولا، وهناك وحول رقبتك الحبل، وبين يديك رطلان من الشموع، تطلب العفو من الله، ومن الملك، ومن العدالة. ثم صدر بعد ذلك الحكم بأن تساق إلى ميدان القديسة كروا حيث تشد إلى قائمة خشبية وتحرق حيا، وبعد ذلك يبعثر رمادك لتذروه الرياح.
وكذلك صدر الحكم أن تقام لوحة تذكارية في معبد أرسولين يخصم ثمنها - الذي لم يقدر بعد - من قيمة «ضيعتك المصادرة».
وأخيرا قبل نفاذ الحكم تسأل: سؤالا عاديا وسؤالا غير عادي.
صدر في لودان في الثامن عشر من أغسطس عام 1634، ونفذ في نفس اليوم. (يظهر جراندير في الضوء رويدا رويدا، ويداه مغلولتان خلف ظهره، وهو يرتدي ملابس النوم وحذاء مكشوفا، وعلى رأسه قلنسوة وطاقية على شكل الجمجمة، وبصحبته دي لوباردمنت ومانوري وآدم، وكذلك باري ورانجير ومنيون، الذين يرشون الماء المقدس، بالمنافض المقدسة، وينشدون الأحكام الخاصة بإخراج الشياطين، يتقدم دي لوباردمنت. ينزع عن رأس جراندير القبعة والقلنسوة ويقذف بهما إلى الأرض؛ فينكشف جراندير، وهو حليق تماما، فقد اختفت خصلاته الرائعة، وشارباه، بل وحاجباه، يقف كالرجل المخبول الحليق.) (تسمع قهقهات هستيرية مفاجئة من النساء اللائي كن في المكان المحجوز.) (صمت.) (جراندير يوجه حديثه إلينا.)
جراندير :
سادتي،
إنني أشهد الآب والابن والروح القدس والعذراء أنني لم أكن قط ساحرا، إن السحر الوحيد الذي مارسته هو سحر الكتاب المقدس، أنا بريء. (صمت، ثم همهمة من النسوة، وضحك سخيف.)
أنا بريء، وأنا خائف، إنني حريص على خلاصي. إنني مستعد لملاقاة ربي، غير أن العذاب المريع الذي قضيتم به علي في طريقي قد يدفع روحي البائسة إلى اليأس ... إلى اليأس أيها السادة وهو أخطر الذنوب، وهو أقصر الطرق إلى اللعنة الأبدية. إنكم بحكمتكم لم تقصدوا قطعا إلى قتل روحي؛ ولذا فهل لي أن أرجوكم، برحمتكم، أن تخففوا عني العقاب ولو قليلا؟ (جراندير يتفرس الوجوه. صمت.)
حسنا جدا، عندما كنت طفلا رويت لي قصص الشهداء، وقد أحببت الرجال والنساء الذين ماتوا في سبيل كرامة يسوع المسيح، وفي أوقات العزلة كثيرا ما تمنيت أن أكون من زمرتهم، والآن، وأنا قسيس غافل مغمور، لا أستطيع أن أزعم وضع نفسي بين هؤلاء الرجال العظام المقدسين، ولكن هل أستطيع أن أقول إني آمل من كل قلبي أن الله سبحانه وتعالى، أبانا في السماء، يعفو عني بانتهاء هذا اليوم، ويجعل آلامي تكفر عن حياتي الفوضوية الباطلة؟ اللهم آمين. (صمت. ثم ينبعث صوت رجل من جهة ما وسط الجماهير يردد في وضوح قول جراندير آمين، ثم آخر، ثم صمت، ولا يسمع إلا صوت امرأة تبكي بكاء مرا.)
دي لوباردمنت (إلى رئيس الحراس) :
أخرجهم جميعا من هنا. (يشرع الحراس فورا في إخلاء المكان، ينصرف الجمهور من الردهات، ويهبط السلم، بعضهم يشكو، وبعضهم يحتج.) (يبقى جراندير مع لوباردمنت والكاتب وباري ورانجير ومنيون.) (لم يتحرك جراندير من مكانه وقد لبث مواجها للقضاة.) (يرى دي سيريزاي ودارمنياك، وهما منفصلان، يشاهدان المنظر.) (دي لوباردمنت يواجه جراندير، ويوجه إليه الخطاب.)
لوباردمنت :
اعترف بجريمتك واذكر لنا أسماء رفيقاتك، بعدئذ ربما ينظر سادتي القضاة في رجائك.
جراندير :
لا أستطيع أن أذكر أسماء رفيقات لم يكن لي، ولا أن أعترف بجرائم لم أرتكبها.
لوباردمنت :
إن هذا الموقف لا يجديك نفعا، بل سوف تعاني منه.
جراندير :
أعلم ذلك، وأنا فخور .
لوباردمنت :
فخور يا سيدي؟ إن هذا اللفظ لا يلائم موقفك. استمع إلي يا عزيزي - فكوا وثاق يديه - إن هذه الوثيقة اعتراف بسيط، خذ هذا القلم، ووقع باسمك على هذه الورقة، وبذلك نستطيع أن نتغاضى عن المرحلة التالية من الإجراءات.
جراندير :
اعفني من هذا يا سيدي، كلا.
لوباردمنت :
لا أريد غير توقيعك، هيا، هذا كل ما في الأمر.
جراندير :
إن ضميري يمنعني من التوقيع على شيء يخالف الواقع.
لوباردمنت :
إذا وقعت وفرت علينا جميعا كثيرا من المتاعب، الوثيقة صادقة ولا شك (يصيح)
إنها صادقة وقد ثبت ذنبك.
جراندير :
أنا آسف.
لوباردمنت :
أنا أخشى عليك يا جراندير، أخشى عليك كثيرا، ولقد رأيت قبلك من الرجال من وقف هذا الموقف الجريء في ظل «السؤال» وكانت تلك حماقة يا جراندير، فكر مرة أخرى.
جراندير :
كلا.
لوباردمنت :
سوف تساق قبل موتك إلى الظلام. دعني أحدثك لحظة عن الألم: يشق علينا جدا نحن الواقفين هنا، وكلنا من الأصحاء، أن نتصور أثر الألم المميت. إن الشمس ترسل أشعتها الآن على وجهك دافئة، أليس كذلك؟ وتستطيع أن تحرك أصابع قدميك إن أردت داخل حذائك المكشوف. أنت رجل حي، وأنت تعلم ذلك، ولكن عندما يطرحونك أرضا في تلك الغرفة الصغيرة والألم يصرخ فيك كأنه صياح، عندما يحدث ذلك يكون تفكيرك أولا هو هذا: كيف يصنع الإنسان ذلك بالإنسان؟ ثم كيف يسمح به الله؟ ثم لا يمكن أن يكون هناك إله، ثم ليس هناك إله، وبعد ذلك يقوى صوت الألم، وتضعف إرادتك، ويكون اليأس يا جراندير، وقد استعملت أنت نفسك هذه الكلمة، وقلت عن اليأس إنه أخطر الذنوب. لا تنبذ الله في هذه اللحظة، عد إلى نفسك؛ لأنك أسأت إلى الله إساءة كبرى. اعترف.
جراندير :
كلا.
دارمنياك :
هل يجري الدمع من عيني دي لوباردمنت؟
دي سيريزاي :
أخشى ذلك.
دارمنياك :
هل هو يعتقد فيما يقول؟
دي سيريزاي :
نعم، منظر مؤثر، أليس كذلك؟
لوباردمنت (إلى جراندير) :
حسنا جدا، أرجوك مرة أخرى، مرة أخرى، هل توقع؟ (جراندير يهز رأسه.)
لوباردمنت (إلى جراندير) :
حسنا جدا، أرجوك مرة أخرى، مرة أخرى، هل توقع؟ (جراندير يهز رأسه.)
لوباردمنت :
أبعدوه. (الحرس يحيط بجراندير.)
جراندير :
عندي مطلب واحد.
لوباردمنت :
ما هو؟
جراندير :
هل ممكن أن يرافقني الأب أمبروز؟
لوباردمنت :
كلا.
جراندير :
إنه رجل عجوز لا ضرر منه، ولن يقف في سبيلك.
لوباردمنت :
لقد غادر المدينة، وأرسلناه بعيدا عنها. إن كنت تريد روحانيا وجه خطابك إلى أحد هؤلاء السادة. (جراندير يحدق في باري ورانجير ومنيون لحظة قبل أن ينصرف مع الحرس. يتبعه دي لوباردمنت والكاتب.)
منيون :
لقد كان الرجاء الأخير لمندوب الملك مؤثرا.
رانجير :
جدا.
باري :
أعتقد أنكم تفهمون من رفض جراندير للتوقيع أنه دليل نهائي على جريمته.
منيون :
أجل، أجل، أظن ذلك.
باري :
لقد كمم الشيطان فمه، وأدخل على نفسه العناد ضد الندم.
منيون :
طبعا، هذا هو السبب.
باري :
هل ننصرف؟ (باري ورانجير ومنيون ينصرفون.)
دارمنياك :
تعال معي إلى بيتي يا دي سيريزاي.
دي سيريزاي :
ليكن ذلك يا سيدي.
دارمنياك :
سنجلس معا ونفكر في حوادث النهار، ونحن - فيما أعتقد - رجلان عاقلان، نجلس ... ونشرب، نعم، سوف نشرب حتى نسكر، ويبلغ بنا السكر أن نتصور الرؤى، هيا بنا. (دارمنياك ودي سيريزاي ينصرفان.) *** (حديقة. تدخل جان، عارية الرأس، ولا ترتدي سوى قميص داخلي بسيط أبيض، وتبدو كالطفلة بجسمها الصغير المشوه. حول رقبتها حبل وفي يدها شمعة. تقف ساكنة بغير حراك، كلير وجبرائيل ولويز يتجمعن على بعد من جان، ويراقبنها في ذعر شديد، ثم تتقدم نحوها كلير.)
كلير :
تعالي يا أمي.
جان :
كلا يا بنيتي.
كلير :
إن الشمس حامية جدا بعد المطر، ولن تفيدك.
جان :
ابحثي لي عن مكان - لا يكون مرتفعا جدا - حيث أستطيع أن أربط هذا الحبل، فأنا في سبيل البحث عن مثل هذا المكان.
كلير :
كلا، يا أماه، هذا أفظع ذنب.
جان :
ذنب؟
كلير :
نعم. (كلير تحل عقدة الحبل وتبعده، وتتقدم لويز بعباءة تلف بها جان.)
لويز :
لا تفزعينا يا أمي.
جان :
لقد تيقظت ليالي متوالية على صوت بكاء، وقد جست خلال المكان علي أعثر على الباكي؛ فإن بين جنبي قلبا كغيري من الناس، ويمكن أن أنهار من مثل هذا البكاء.
لويز :
ليس البكاء لأحد هنا.
جان :
لم يطرأ لي قط ان بالإمكان للمرء أن يعاني مثل هذا اليأس وهذه الكآبة.
لويز :
ولكن ليس هناك أحد.
جان :
لا أحد؟
كلير :
إنه الشيطان، فهو يستطيع أن يشهق إذا طلب إليه ذلك، نعم يا أمي، فكري في الأمر، إن الأب جراندير يتمنى أن ترافقيه إلى الجحيم؛ ولذا فهو يوعز إلى الشيطان أن يصيح بالليل ويحطم قلبك ويدفعك إلى أن تضعي الحبل حول رقبتك لتشنقي نفسك. لا تجعلي للخديعة إليك سبيلا.
جان :
أليس هناك مفر؟ وهل هي كلير التي تتحدث؟ كلير التي تعودت أن تحدثني عن براءة المسيح؟ كم الساعة؟
لويز :
جاوزت الثانية عشرة ظهرا بوقت قصير.
جان :
اتركوني جالسة هنا، وأعدكن ألا أؤذي نفسي، اتركوني. (كلير ولويز وجبرائيل ينصرفن، ويتركن جان وحيدة.) (ويشق الصمت صوت ممقوت لمطرقة تدق. صياح.) *** (في الغرفة العليا، جراندير ممتد فوق الأرض، موثوقا بالحبال، وساقاه من الركبتين إلى القدمين محفوظتان فيما يشبه الصندوق. داخل الصندوق ألواح متحركة، تدفعها إلى الداخل أوتاد ضخمة، تسحق ساقيه.) (بنتان يطرق الأوتاد إلى الداخل.) (مانوري وآدم ومنيون يجثمون في الغرفة السفلى، وينحني إلى الأمام باري وهو يجلس عند رأس جراندير.)
باري :
هل تعترف؟ (يهز جراندير رأسه على مهل، ثم يتجه باري ببصره نحو لوباردمنت الذي يستند إلى الحائط.)
لوباردمنت (لبونتان) :
غيره.
1 (يلتقط بونتان وتدا آخر ولكن سرعان ما ينتزعه رانجير من يده.)
رانجير :
لحظة. (يرش على الوتد ماء مقدسا، ويرسم فوقه علامات.)
ضروري جدا؛ لأن الشيطان عنده من القوة ما يجعل الألم أخف مما ينبغي.
بنتان :
هل انتهيت؟
رانجير :
نعم. (يسلم الوتد لبونتان، الذي يدقه.)
باري :
اضرب، اضرب. (يدق بنتان بالمطرقة، صيحة في الغرفة السفلى.)
مانوري :
ما مقدار ما يستطيع أن يلفظ الإنسان في نفس واحد؟
آدم :
لست أدري؟
مانوري :
إني أتعجب.
آدم :
لا يطرأ على بالك عندما تشرع في أمر أن ... هو ...م.
مانوري :
ماذا تقول؟
آدم :
لا شيء، إنما أنا أفكر بصوت مسموع . (ضربة بالمطرقة، باري ينحني إلى الأمام.)
باري :
اعترف.
جراندير :
أنا على أتم استعداد لأن أعترف بذنوبي الحقيقية، كنت رجلا، وأحببت النساء وكنت فخورا بنفسي، وكنت أتطلع إلى السلطة.
باري :
ليس هذا ما نريد، كنت ساحرا، وكانت لك مع الشيطان تجارة.
جراندير :
كلا، كلا.
باري :
غيره، أوه، سلمني الوتد والمطرقة. (باري ينتزع الوتد والمطرقة من بنتان، وبضربتين قويتين يدق الوتد دون أن يطهر من الشياطين، يرن صدى صياح جراندير في الحديقة حيث تجلس جان وحيدة.)
جان :
إن المرء لا يجد الله إلا في الأعماق السحيقة، انظروا إلي، أردت أولا أن ألقاه في البراءة، فلم يكف هذا، ثم كان الكذب والتمثيل، وكان الإثم وكانت الذلة؛ فلم يكف هذا، ثم كانت الحركات البهلوانية التي قمنا بها لأعين القسس الشهوانية، يا للقذارة، إن ذلك لا يكفي، لا بد من التعمق، والتعمق السحيق. (رنين المطرقة، صوت جراندير.)
جراندير :
إلهي، إلهي، إلهي، لا تتخل عني، لا تجعل هذا الألم ينسيني إياك.
جان :
في الأعماق، في الأعماق، في غفلة البلهاء، حيث لا فكر، ولا شعور، حيث لا شيء، هل يوجد الله هنا؟ (الغرفة العليا. يتقدم دي لوباردمنت.)
لوباردمنت :
أبعدوه، لا فائدة. (باري ورانجير وبنتان يحملون جراندير من الصندوق، ويجلسونه فوق مقعد بغير ظهر. يغطي بنتان ساقي جراندير المحطمة بسجادة صغيرة، جراندير يحدق في نصفه الأسفل.)
جراندير :
Attendite et videte si est dolor
sicut dolor meus .
2 (جان تنهض.)
جان :
أين أنت؟ أين أنت؟ (جان تخرج من الحديقة.) (باري ورانجير يهبطان إلى الغرفة السفلى.)
آدم :
هل من فائدة؟
باري :
كلا.
مانوري :
لا اعتراف؟
باري :
كلا؟
آدم :
عجبا.
باري :
السبب معقول جدا.
مانوري :
ما هو؟
باري :
دعا ربه أن يهبه القوة، وربه هو الشيطان، وقد فعل.
جعله لا يحس الألم ولن نصل إلى نتيجة بهذا الشكل.
آدم :
لا يحس الألم؟ وماذا كانت كل تلك الصيحات؟
باري :
سخرية. (باري ومنيون ورانجير يهبطون إلى الشارع.) *** (الغرفة العليا.)
جراندير :
لا تأبهوا بهذه الدموع، ليست سوى دليل على الضعف.
لوباردمنت :
هل هذا هو تأنيب الضمير؟
جراندير :
كلا.
لوباردمنت :
اعترف.
جراندير :
كلا، هناك أمران لا ينبغي أن يطلب إلى الرجل أداؤهما أمام الآخرين: مضاجعة المرأة، ومكابدة الألم. وأنتم أيها الناس تعرفون كيف تنزلون على الأرض الجحيم لرجل مثلي؛ ذلك أنكم تجعلون كل شيء علنيا.
لوباردمنت :
هذا غرور منك يا أبي.
جراندير :
هل هو كذلك؟ لست أظن ذلك، إنما الرجل شيء خاص بنفسه، فهو ملك ذاته، وهاتان التجربتان الشخصيتان الحب والألم ليس لهما بالعامة شأن، كيف تهمانها؟ لأن العامة لا تحسهما.
لوباردمنت :
إن عامة الناس تتألف من أرواح مسيحية، وهناك ستة آلاف منهم ينتظرونك في ساحة السوق. خبرني، هل تحب الكنيسة؟
جراندير :
من كل قلبي.
لوباردمنت :
هل تريد أن تراها أقوى نفوذا وأكثر إحسانا، حتى تشمل كل روح بشري فوق الأرض؟
جراندير :
لكم أتمنى ذلك.
لوباردمنت :
إذن عاونا على أن نحقق هذا الهدف العظيم، اذهب إلى ساحة السوق رجلا نادما، واعترف، وباعترافك أعلن لهذه الآلاف أنك عدت إلى أحضان الكنيسة. أما إذا ذهبت إلى الألواح الخشبية تحرق فوقها وأنت غير نادم فأنت تسيء إلى الله. إنك تدخل الأمل في قلوب المتشككين والملحدين، إنك تدخل السرور إلى نفوسهم. إن مثل هذا العمل يهد الكنيسة من أساسها. فكر في الأمر، لم تعد رجلا هاما، هل لك أهمية بعد هذا؟
جراندير :
كلا.
لوباردمنت :
وإذن فلتصدر عنك إشارة عظيمة أخيرة من أجل العقيدة الكاثوليكية. (صمت. دي لوباردمنت ينحني إلى الأمام مشغوفا، ثم يرفع جراندير بصره إلى أعلى، وترتسم على وجهه ابتسامة الألم.)
جراندير :
هذه سفسطة يا لوباردمنت، وأنت أذكى من أن تجهل ذلك.
أثن علي كما أثنيت عليك.
لوباردمنت :
هل تستطيع أن تضحك؟ الآن؟
جراندير :
نعم لأنني أعلم بالأمر منك.
لوباردمنت :
حينما أقول لك يا جراندير ...
جراندير :
لا تصر، إنني أستطيع أن أهدمك، على الأقل في الجدل. احتفظ بأوهامك يا سيدي المندوب، إنك في حاجة إليها كلها لتتعامل مع الرجال الذين سوف يأتون من بعدي.
لوباردمنت :
اعترف.
جراندير :
كلا.
لوباردمنت :
اعترف.
جراندير :
كلا.
لوباردمنت :
وقع.
جراندير :
كلا. (دي لوباردمنت يتجه نحو الباب، ينادي لمن بأسفل السلم .)
لوباردمنت :
أرسلوا إلي الحراس هنا. *** (الشارع.) (الجمهور يحملق على بعد، والناس صامتون يتنقلون، قلقون، أنفاسهم معلقة. يقبل عليهم باري ورانجير ومنيون. رانجير ومنيون يرشان الماء المقدس ويرتلان أناشيد إخراج الشياطين. باري يتحرك وسط الجمهور، ويمسك الرجال والنساء من أذرعتهم، ويتحدث إلى كل منهم على انفراد.)
باري :
أبنائي الأعزاء، إنكم توشكون أن تشهدوا ذهاب رجل شرير غير تائب إلى جهنم، أرجوك - أنت يا سيدي - أن تدخل المشهد في قلبك، وليكن درسا لك يلازمك - أيتها المرأة الطيبة - طوال حياتك. اشهدوا هذا الساحر صاحب السمعة السيئة، الذي اتفق مع الشياطين، واسأل نفسك - يا بني - هل هذا هو مصير المرء إذا استهان بالله؟ (طبول. جراندير يصبح على مرأى، يجلس على مقعد مهشم، حتى ليكاد أن يكون حطاما، ويحمله أربعة من الجند. يلبس قميصا مشحونا بالكبريت، أصفر فاقعا، وحول رقبته حبل، وساقاه المحطمتان تتدليان؛ إنه كالدمية المضحكة المهشمة، بغير شعر، ويسير إلى جواره الكاتب، يتبعه دي لوباردمنت والجند.) *** (دير القديسة أرسولا.) (الموكب يصل إلى باب البيت، ثم يتوقف عن المسير، يضع الكاتب رطلين من الشمع بين يدي جراندير.)
لوباردمنت :
يجب أن تنزل هنا.
جراندير :
أي مكان هذا؟
لوباردمنت :
إنه دير القديسة أرسولا، مكان دنسته. (يرفع أحد الجند جراندير من فوق المقعد المحطم وكأنه طفل، ويضعه على الأرض.)
لوباردمنت :
أد ما يجب أن يؤدى.
جراندير :
في هذا المكان الغريب المجهول أسأل العفو من الله، ومن الملك، ومن العدالة أرجو أن ... (يقع منكفئا على وجهه، ويصيح):
Deus meus, miserere mei Deus!
3 (ينفتح باب الدير ومن مدخله المظلم تظهر جان وجبرائيل وكلير ولويز.)
لوباردمنت :
اطلب العفو من رئيسة الكاهنات، ومن هؤلاء الأخوات الطيبات.
جراندير :
من هؤلاء النسوة؟
لوباردمنت :
هم القوم الذين أسأت إليهم، اطلب العفو منهن.
جراندير :
إنني لم أقدم إليهن إساءة، وليس بوسعي إلا أن أسأل الله أن يعفو عنهن. (صمت مطلق عندما يحدق جراندير وجان، كل منهما في الآخر.)
جان :
كانوا دائما يتحدثون عن جمالك، والآن أشهده بعيني، وأومن بأنه حق.
جراندير :
انظري إلى هذا الذي صرت إليه، وتعلمي معنى الحب . (طبول. يرفع جراندير مرة أخرى فوق المقعد، ويتحرك الموكب مبتعدا. جرس ضخم يدق، أصوات ترتفع):
Dies irae, dies illa,
Solver saeclum
In favilla, teste David cum Sybilla .
Quantus termor est futurus, quando
Judex est venturus, cuncta stricte discussurus .
4 (جان وحيدة تتقدم. ظلام.) (طرقات لودان، بالليل وكأن المدينة تحترق. المباني البعيدة ترى كالظلال وسط سماء شديدة الحمرة، وباب الكنيسة مفتوح وكأنه ثغرة كبريتية. ويرى رجال مسلحون يحملون الأعلام ويعبرون قنطرة، ورجل يتسلق سلما خشبيا، يلوح عن بعد في حزن لا رجاء فيه. والجمهور الذي كان يراقب جراندير على بعد قد تشتت، وأخذ يندفع، في حالة هستيرية، يصيح، ويضحك، في الطرقات.) (جان تتجول وحدها.) *** (مانوري - آدم)
مانوري :
عجيب جدا.
آدم :
أي شيء؟
مانوري :
شحم الإنسان الذي تصيره الحرارة شيئا يشبه الشمع، ثم يشتعل لهيبا له لون يخطف البصر.
آدم :
كل شيء غريب جدا.
مانوري :
ولكنه مشوق، أعتقد يا آدم أنه لو كان في عملك كصيدلي شيء جميل، فهو في هذه الناحية، ألست ترى معي ذلك؟
آدم :
ربما. (ينصرفان.) *** (باري - منيون - رانجير)
باري :
ثقوا أنه في الجحيم.
منيون :
إنه يشوى هذه الليلة.
باري :
يا له من رجل مخيف، لا يعرف التوبة!
رانجير :
هل تعلمون أنني رأيت نساءه قابعات هناك يراقبن؟ صحيح أن إحداهن كانت تبكي، ولكنها كانت ترقب، ولم تغض النظر قط.
باري :
شياطين، كلهن شياطين. ما بك؟
منيون :
لا أشعر بتمام الصحة.
باري (يضربه على ظهره) :
ربما ابتلعت شيئا من الدخان.
منيون :
سأذهب إلى فراشي الآن إن سمحتم.
باري :
كلنا سنأوي إلى الفراش يا منيون، أما كم نلبث في الفراش فأمر يتوقف على الشيطان الصديق. نعم، لقد قهرناه وبسطنا السلام في هذا المكان اليوم، ولكن ثق أنه حتى في هذه اللحظة يعود متسللا. آه يا أصدقائي الأعزاء، إن أمثالنا من الرجال لن يتبطل عن العمل قط. (ينصرفون.) (فيليب ترنسانت في حمل بشع، وتتحرك متثاقلة وهي تقود «الرجل العجوز» من يده.)
فيليب :
هيا بنا إلى البيت يا زوجي العزيز، يجب أن تسارع الخطى. ماذا؟ (الرجل العجوز يهمس في أذنها)
هل أثارك كل هذا الذي شهدت اليوم؟ (يهمس مرة أخرى)
نعم، سوف تفعل ما بدا لك، وسأقوم لك بكل ما أستطيع. امسح فمك. إن أمامنا سنوات كثيرة سعيدة. ماذا، نعم، بالتأكيد هناك طريق، وسوف أدور وأدور من حولك، وحق يسوع سوف أفعل، سوف أريك ألاعيب؛ لذلك هيا بنا إلى البيت يا عزيزي. (فيليب والرجل العجوز ينصرفان.) (دارمنياك وسيريزاي مخموران.)
دارمنياك :
لا ينبغي لنا أن نفعل هذا يا دي سيريزاي، نحن العقلاء التقدميين في عصرنا، يجب أن نكون حازمين.
دي سيريزاي :
صدقت.
دارمنياك :
حازمين في هذا الاتجاه أو في غيره، لست أدري أيهما. لماذا يمتلئ الجو بالحشرات هذا المساء؟ ماذا كنت أقول؟
دي سيريزاي :
يجب أن نكون حازمين.
دارمنياك :
ونثبت إرادتنا.
دي سيريزاي :
فيم؟
دارمنياك :
فيما نعتقد.
دي سيريزاي :
وماذا نعتقد؟
دارمنياك :
اسألني غدا، هل أنا مجنون؟ هل كانا يرتكبان الفاحشة في عرض الطريق هناك؟ وماذا كانت تلك المرأة العجوز تحمل في سلتها؟ هل هي بقايا إنسان؟ ولماذا كان ذلك الحيوان يقود إنسانا بحبل؟ ما هذه الرائحة الغريبة الحلوة التي تفوح في المكان؟ ومن هذا الموسيقي المنكب مصلوبا فوق القيثارة؟ ما معنى هذا كله يا دي سيريزاي؟ يجب أن نفسر الأمر باعتبارنا من العقلاء.
دي سيريزاي :
لا أستطيع ذلك.
دارمنياك :
ولا أنا؛ ولذا أرجو أن تأخذني إلى بيتي. (ينصرفان.) (جان يؤدي بها تجوالها في الطرقات إلى عامل المجاري.)
العامل :
بعدما انتهى الأمر بددوه بالجاروف شمالا وجنوبا وشرقا وغربا.
جان :
هل تعلم من أنا؟
العامل :
نعم سيدتي، إني أعرفك. (بعض أفراد الجمهور يمرون، يقتتلون فيما بينهم من أجل أشياء تنتقل من يد إلى أخرى.)
جان :
ماذا يفعلون؟
العامل :
إنهم يلتمسون أجزاء من الجسم.
جان :
لتكون عندهم آثارا؟
العامل :
لا تحاولي أن تواسي نفسك. كلا، إنهم يريدونها تعاويذ، وفرق بين التعويذة والأثر كما تعلمين. (ينتزع عظمة مخترقة من يد أحد الرجال)
إنهم لا يريدون أن يعبدوا هذه، إنما يريدونها ليعالجوا بها الإمساك أو الصداع، أو لتسترد لهم رجولتهم أو زوجاتهم، يريدونها للحب أو للكراهية (يقدم إليها العظمة)
هل تريدينها لأمر ما؟ (جان تهز رأسها، يتشتت الجمهور، وينصرف العامل. جان وحيدة ، تصيح بصوتها الشخصي .)
جان :
جراندير! جراندير! (صمت.) (ستار)
Shafi da ba'a sani ba