الفصل الأول
خالجه نفس الشعور الذي يخالجه كلما ركب القطار في طريقه إلى القاهرة. كان يتحرى دائما أن يتخذ مكانه بجوار النافذة، لا يرفع نظره عن الحقول المنبسطة المترامية الأطراف لا يحد الحقل إلا حقل مثله، وإن تباينت أنواع المزروعات واختلفت.
وكان يشعر دائما أن هذه الأرض جميعها ملكه وأنه نبتة منها، ولكن نبتة خالدة باقية لا تحصد ولا يعاد زرعها، وإنما هي نبتت منذ ملايين السنين ثم بقيت. كان يخيل إليه أنه يعرف أغوار هذه الأرض، وأنه كان في يوم ما في داخلها تحنو عليه أعماقها وتدفئه حناياها ويمده بالسقيا ماؤها حتى إذا انفجر إلى السطح كان هواء هذه التربة هو الذي يمده بالحياة، لم يكن هذا الشعور يخالجه وهو في قريته؛ فهي أضيق من أن تتسع لهذه الفكرة، وإنما كان يحس بها دائما إذا ما انفسح أمامه الوادي وانطلقت عينه إلى ما لا نهاية من الأرض حينئذ كانت هذه المشاعر تثب إلى نفسه خفيفة في أنحاء شتى من كيانه فلا يدري مأتاها.
وكان يخيل إليه أنه فلاح من هؤلاء الفلاحين الذين يعملون في الأرض ثم ما تلبث هذه الفكرة أن تنداح في وعيه، فإذا هو يحس أنه هو جميع هؤلاء الفلاحين؛ فهو الذي يدرس القمح وهو الذي يحصده، وهو هو نفسه الذي يذروه، أو هو الذي يجمع القطن وهو الذي يسير خلف الأنفار، وهم يجمعونه، وهو هو نفسه الذي يفرز القطن وينقيه من شوائبه. وما تلبث أفكاره ومشاعره أن تضرب به في أغوار الزمن فيحس أنه هو نفسه الذي زرع هذه الأرض منذ بدأت هذه الأرض تعرف نفسها كمنتجة للزرع، وحين لم تكن هذه الأرض شيئا إلا أن تحمل الإنسان كان يخيل إليه أنه هو أول إنسان حملته لم تحمل قبله أحدا، كان يخيل إليه أنه هو أول من قدم إلى هذه الأرض من البشر فهي لم تعرف قبله أحدا، ولا عرف هو قبلها أرضا.
فهو يرى نفسه حينا واقفا في أرضه هذه، أرضه جميعا لا يقصد قطعة معينة منها، ويرى رمسيس يشيد أمجاده هنا على هذه الأرض، ويخيل إليه أنه كان فيما مضى من أزمان جنديا من جنود رمسيس، أو هو جندي من جنود سيزستريس، أو هو ملقى في الحديد والقيود حول يديه وقدميه في أزمان قمبيز، ثم هو يحس الحديد يحطم واسم الإسكندر يذيبه عن أقدامه وسواعده. ثم يمضي مع نفسه هذه الهائمة في ملكوت التاريخ، فيرى كليوباترا وقيصر ثم يرى أنطونيو. وحين يفرغ التاريخ من القوى الباطشة تتهدى إليه الرسالات من السماء فيرى نفسه ساعيا وراء موسى على هذه الأرض نفسها، ثم يرى نفسه معذبا بالمسيحية سعيدا بها في وقت معا. ثم ينتهي به الأمر مع عمرو بن العاص مسلما مؤمنا سعيدا بروحه وعقله وجسمه جميعا، ثم يطوح به التاريخ في جذبة قوية رائعة إلى هذا المستقبل القريب القريب حين هو تلميذ في كتاب القرية يجري بين دهاليز الكتاب الضيقة الصغيرة حافيا ينتعل التراب في الفناء الضيق مع زملاء وزميلات، أما الزملاء فهم أصدقاء اليوم، وأما الزميلات فإنهن زوجته وزوجات أصدقائه.
عجيبة هي الأيام في تنقلها وئيدة الخطو سريعة العدو، تمشي كما تدور الأرض فلا يحس بها، ولكنها تقلب الحياة تقليبا فتومض الشيب في الرءوس، وتذرو الغضون على الجباه وتنفث التجارب في العقول فتحيل السذاجة الناعمة الشفافة حرصا معتما كئيبا، فإذا النفس التي كانت مشرقة واضحة المعالم تغدو ملتوية المسالك خبيثة، ولا جناح عليها ولا تثريب فإنها تواجه زمانا كثير المسالك الملتوية خبيثا يصيب من حيث يأمن صاحبه، أين الأيام الخوالي؟ أين أيام كنت فيها طفلا لاهيا؟ ما الذي جعلني أذهب إلى الكتاب؟ لا ليس أبي، إنه أنا، لماذا؟ لست أدري، كنت ألعب في الساحة التي تنفسح أمام الجامع، تلك التي ما زالت على حالها في الدهاشنة لم يغيرها الزمن، لماذا لا يغير الزمان الأرض؟ كنت ألعب هناك بالكرة، أي أنا كنت إذ ذاك؟ أتراني كنت ذلك الأنا الذي صاحب رمسيس أم كليوباترا أم قمبيز أم موسى أم عيسى أم محمدا؟ أي أنا في هؤلاء كنت؟ كنت ذلك الأخير، كنت بجسمي هذا الباقي الذي لم يتغير، وهل تغيرت الأجسام بين كل هذه الأزمان؟ لا أدري، كل الذي أدريه أنني كنت أنا بذراعي هذه ورجلي هذه وكانت صغيرة إذ ذاك وكنت ألعب مع فايز بك، نعم كان بك منذ ذلك الحين البعيد، أنا لم أعرفه طوال حياتي إلا فايز بك يبدو أن البكوية ولدت معه يوم مولده بل لحظة مولده، ولعل القابلة أخرجتها من بطن أمه قبل أن تخرجه هو، إنه بك منذ ذلك الحين، منذ نحن أطفال نلهو لم نمثل للتعليم بعد، كنت أنا وهو فقط وكنا في انتظار أن يأتي عبد الصادق ولكنه تأخر عنا ولم نكن نعلم فيم تأخره، وكنا نريد أن نلعب الكرة وما كان لنا أن نلعبها دونه، ورأينا الناس يقبلون على الجامع فرادى وجماعات وكنا نعرف أنهم يدخلون إلى الجامع ليصلوا، ولكن كيف كانوا يصلون؟ لم نكن ندري لا أنا ولا فايز بك ونظرنا إلى الناس وهم يتقاطرون على الجامع ويخلعون نعالهم، وقليل هم الذين كانوا يخلعون أحذيتهم، ونظرت إلى فايز بك ونظر إلي ولم نتكلم وإنما قصدنا إلى باب الجامع فخلع هو حذاءه ولم أخلع أنا شيئا وخطونا العتبة، فإذا نحن في الجامع، ووجدنا قوما يميلون إلى اليمين ليدلفوا من باب فملنا معهم ورأيناهم يغسلون وجوههم وأيديهم وأرجلهم ورءوسهم من بئر هناك فرحنا نفعل مثلما يفعلون، ثم غادروا إلى حرم الجامع مرة أخرى فتبعناهم، وما هي إلا دقائق حتى تقدم الشيخ جابر عبد التواب - رحمه الله - لقد خلفه اليوم ابنه الشيخ عبد التواب جابر أصبح اليوم مأذون القرية وخطيب المسجد في آن واحد، لا أستطيع أن أنسى النكتة التي أطلقها عليه الولد عتريس بن عبد الصادق، خيبة الله عليه أصبح شريرا، ويلي أخاف أن يسمعني، يا لي من أحمق! إنني لا أتكلم، إني أفكر، أأخاف منه حتى وأنا أفكر؟ لم أثار الرعب في القرية عتريس عبد الصادق؟ ولكنه كان مع ذلك طفلا وكان يقول النكت في بعض الأحيان وكان يضحك، أتراه يضحك الآن؟ أتراه حين يقتل يضحك؟ كان وهو طفل كثير الضحك، كان يشاهد الشيخ عبد التواب جالسا دائما في دكان عبد الملاك البقال، يا له من خبيث ذهب إلى عبد الملاك وقال: أعطني بقرش زيتونا، وبقرش جبنة بيضاء، وبقرش حلاوة، وقام الشيخ عبد التواب وراءه: امش يا قبيح، والله لسوف أقول لأبيك وأجعله يضربك بالمركوب، وجرى عتريس يضحك هالعا، واليوم أرى الشيخ عبد التواب يصيبه الهلع كلما ذكر أمامه عتريس، أيام تتقلب، لم يكن الشيخ عبد التواب هو الإمام يوم دخلنا أنا وفايز بك، وإنما كان أبوه الشيخ جابر، وأم الصلاة ورتل القرآن في صوت جميل آخاذ:
والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى * وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى * ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضالا فهدى * ووجدك عائلا فأغنى * فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهر * وأما بنعمة ربك فحدث
الله أكبر.
وفي الصباح التالي كنت أنا لم أنم بل ظللت أترقب الفجر حتى بزغ، وإذا أنا أجد نفسي في كتاب الشيخ عبد الكريم التهامي، وإذا فايز بك يرسل إلى الشيخ عبد الكريم في اليوم نفسه أن يذهب إليه في السراي ليحفظ القرآن على يديه.
مرت بي في الكتاب أعوام قلائل، فإذا أنا العريف ويوم توليت منصبي هذا قدمت فاطمة إلى الكتاب، ما كان أجملها يوم ذاك! طفلة وضيئة الطلعة مشرقة العينين بهيجة النفس، أنا لا أراها حتى اليوم إلا كما كانت حينذاك، جلباب أخضر زاه ووجه أبيض ناصع فيه ضياء ينبعث منه عينان فيهما صفاء كصفاء العسل الأبيض وفي لونه أيضا، وضفيرتان من الشعر الأسود اللامع من غير زيت.
Shafi da ba'a sani ba